سأل بعض المخالفین فقال : ما السبب الموجب لا ستتار امام الزمان علیه السلام وغیبته التی قد طالت مدتها وامتدت بها الایام ، ثم قال : فان قلتم : ان سبب ذلک صعوبة الزمان علیه بکثرة اعدائه وخوفه منهم على نفسه ، قیل لکم : فقد کان الزمان الاول على ابائه علیهم السلام اصعب ، واعداؤهم فیما مضى اکثر ، وخوفهم على نفسهم اشد واکثر ، ولم یستتروا مع ذلک ولاغابوا عن اشیاعهم ، بل کانوا ظاهرین حتى أتاهم الیقین ، وهذا یبطل اعتلالکم فی غیبة صاحب الزمان عنکم واستتاره فیما ذکرتموه ، وسألتک ادام الله عزک .
الجواب عن ذلک :
الجواب وبالله التوفیق : ان اختلاف حالتی صاحب الزمان وابائه علیه وعلیهم السلام فیما یقتضیه استتاره الیوم وظهوره ، إذ ذاک یقضی بطلان ما توهمه الخصم وادعاه من سهولة هذا الزمان على صاحب الامر علیه السلام وصعوبته على ابائه علیهم السلام فیما سلف ، وقلة خوفه الیوم وکثرة خوف ابائه فیما سلف ، وذلک انه لم یکن احد من ابائه علیهم السلام کلف القیام بالسیف مع ظهوره ،
ولا الزم بترک التقیة ، ولا الزم الدعاء إلى نفسه حسبما کلفه امام زماننا ، هذا بشرط ظهوره علیه السلام ، وکان من مضى من أبائه صلوات الله علیهم قد ابیحوا التقیة من اعدائهم ، والمخالطة لهم ، والحضور فی مجالسهم واذاعوا تحریم اشهار السیوف على انفسهم ، وخطر الدعوة إلیها .
واشاروا إلى منتظر یکون فی اخر الزمان منهم یکشف الله به الغمة ، ویحیی ویهدی به الامة ، لاتسعه التقیة ، عند ظهوره ینادی باسمه فی السماء الملائکة الکرام ، ویدعوا إلى بیعته جبرئیل ومیکائیل فی الانام ، وتظهر قبله امارات القیامة فی الارض والسماء ، ویحیا عند ظهوره اموات ، وتروع ایات قیامه ونهوضه بالامر الابصار .
فلما ظهر ذلک عن السلف الصالح من ابائه علیهم السلام ، وتحقق ذلک عند سلطان کل زمان وملک کل اوان ، وعلموا انهم لا یتدینون بالقیام بالسیف ، ولا یرون الدعاء إلى مثله على احد من اهل الخلاف ، وان دینهم الذى یتقربون به إلى الله عزوجل التقیة ، وکف الید ، وحفظ اللسان ، والتوفر على العبادات ، والانقطاع إلى الله عزوجل بالاعمال الصالحات ، امنوهم على انفسهم مطمئنین بذلک إلى ما یدبرونه من شأنهم ، ویحققونه من دیاناتهم ، وکفوا بذلک عن الظهورو الا نتشار ، واستغنو ا به عن التغیب والاستتار .
ولما کان امام هذا الزمان علیه السلام هو المشار إلیه بسل السیف من اول الدهر فی تقادم الایام المذکورة ، والجهاد لاعداء الله عند ظهوره ، ورفع التقیة عن اولیائه ، والزامه لهم بالجهاد ، وانه المهدی الذی یظهر الله به الحق ، ویبید بسیفه الضلال ، وکان المعلوم انه لا یقوم الا مع وجود الا نصار واجتماع الحفدة والاعوان ، ولم یکن انصاره علیه السلام عند وجوده متهیئین إلى هذا الوقت موجودین ، ولا على نصرته مجمعین ، ولاکان فی الارض من شیعته من یصلح للجهاد وان کانوا یصلحون لنقل الاثار وحفظ الاحکام والدعاء له بحصول التمکن من ذلک إلى الله عزوجل ، لزمته التقیة ، ووجب فرضها علیه کما فرضت على ابائه علیهم السلام ، لانه لو ظهر بغیر اعوان لالقى بیده إلى التهلکة ، ولو ابدى شخصه للاعداء لم یألوا جهدا فی ایقاع الضرر به ، واستئصال شیعته ، واراقة دمائهم على الاستحلال ، فیکون فی ذلک اعظم الفساد فی الدین والدنیا ، ویخرج به علیه السلام عن احکام الدین وتدبیر الحکماء .
ولما ثبت عصمته ، وجب استتاره حتى یعلم یقینا - لاشک فیه - حضور الاعوان له ، واجتماع الانصار ، وتکون المصلحة العامة فی ظهوره ، ویعلم تمکنه من اقامة الحدود ، وتنفیذ الاحکام ، وإذا کان الامر على ما بیناه سقط ما ظنه المخالف من مناقضة اصحابنا الامامیة فیما یعتقدونه من علة ظهور السلف من ائمة الهدى علیهم السلام وغیبة صاحب زماننا هذا علیه التحیة والرضوان وافضل الرحمة والسلام والصلاة .
وبان مما ذکرناه فرق ما بین حاله واحوالهم فیما جوز لهم الظهور ، واوجب حلیه الاستتار .
ثم یقال لهذا الخصم : الیس النبی صلى الله علیه والله قد اقام بمکة ثلاثة عشر سنة یدعو الناس إلى الله تعالى ولایرى سل السیف ولا الجهاد ، ویصبر على التکذیب له والشتم والضرب وصنوف الاذى ، حتى انتهى امره الی ان القوا على ظهره صلى الله علیه والله وهو راکع السلى وکانوا یرضخون قدمیه بالاحجار ، ویلقاه السفیه من اهل مکه فیشتمه فی وجهه ویحثو فیه التراب ، ویضیق
علیه احیانا ، ویبلغ اعداؤه فی الاذى بضروب النکال ، وعذبوا اصحابه ا نواع العذاب ، وفتنوا کثیر ا منهم حتى رجعوا عن الاسلام ، وکان المسلمون یسألونه الاذن لهم فی سل السیف ومباینة الاعداء فیمنعهم عن ذلک ، ویکفهم ، ویأمرهم بالصبر على الاذى .
وروی : ان عمر بن الخطاب لما اظهر الاسلام سل سیفه بمکة وقال : لا یعبد الله سرا ، فزجره رسول الله صلى الله علیه وآله عن ذلک . وقال له عبد الرحمن بن عوف الزهری : لو ترکنا رسول الله صلى الله علیه وآله لاخذ کل رجل بیده رجلین إلى جنب رجل منهم فقتله . فنهاه النبی صلى الله علیه وآله عما قال ( 1) .
ولم یزل ذلک حاله الی ان طلب من النجاشی - وهو ملک الحبشة - ان یخفر اصحابه من قریش ثم اخرجهم إلیه واستتر علیه وآله السلام خائفا على دمه فی الشعب ثلاث سنین ، ثم هرب من مکة بعد موت عمه ابی طالب مستخفیا بهربه ، واقام فی الغار ثلاثة ایام ثم هاجر علیه وآله والسلام إلى المدینة ورأى النهی منه للقیام واستنفر اصحابه وهم یومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر ، ولقى بهم الف رجل من اهل بدر ، ورفع التقیة عن نفسه إذ ذاک .
ثم حضر المدینة متوجها إلى العمرة ، فبایع تحت الشجرة بیعة الرضوان على ، الموت ، ثم بدا له علیه وآله السلام فصالح قریشا و رجع عن العمرة ونحر هدیه فی مکانه ، وبدا له من القتال ، وکتب بینه وبین قریش کتابا سألوه فیه محو ( بسم الله الرحمن الرحیم ) فأجابهم إلى ذلک ، و دعوا إلى محو اسمه من النبوة فی الکتاب لاطلاعهم إلى ذلک ، فاقترحوا علیه ان یرد رجلا مسلما إلیهم حتى یرجع إلى الکفر أو یترکوه فأجابهم إلى ذلک هذا وقد ظهر علیهم فی الحرب (2 )
فإذا قال الخصم : بلى ولابد من ذلک ان کان من اهل العلم والمعرفة بالاخبار .
قیل له : فلم لم یقاتل بمکة وما باله صبر على الاذى ، ولم منع اصحابه عن الجهاد وقد بذلوا انفسهم فی نصرة الاسلام ، وما الذی اضطره إلى الاستجارة بالنجاشی واخراج اصحابه من مکة إلى بلاد الحبشة . خوفا على دمائهم من الاعداء ، وما الذی دعاه إلى القتال حین خذله اصحابه وتثاقلوا علیه فقاتل بهم مع قلة عددهم ، وکیف لم یقاتل بالحدیبیة مع کثرة انصاره وبیعتهم له على الموت ، وما وجه اختلاف افعاله فی هذه الاحوال ؟ فما کان فی ذلک جوابکم فهو جوابنا فی ظهور السلف من أباء صاحب الزمان واستتار . وغیبته فلا تجدون من ذلک مهربا . (3)
المصدر
رسائل فی الغیبة - الشیخ المفید ج 4
1- تروی کتب التأریخ ان عمر بن الخطاب عندما اعلن عن اسلامه شهر سیفه وقاتل قریشا رغم تأکید النبی صلى الله علیه والله له ولاصحابه بضرورة التکتم فی اسلامهم وعلم الاصطدام مع قریش ، والغریب فی الامر ان عمر اعرض عن ذلک الامر صفحا وکانه یرید ان یظهر للناس وللمسلمین بانه اجرأ المسلمین ، واعزهم شأنا ، والاغرب من ذلک انه امتنع عن مراجعة قریش بعد ذلک عند توجه رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم نحو مکة عام الحدیبیة زائرا لا یرید قتالا واراد ان یبعث من یبلغ اشراف قریش ذلک ، حیث قال ( وکما ذکرته المصادر المتعددة ) : یا رسول الله اننی اخاف قریشا على نفسی . . . انظر : السیرة النبویة ( لابن کثیر ) 2 : 32 و 3 : 318 ، السیرة النبویة ( لابن هشام ) 1 : 374 ،
الکامل فی التاریخ ( لابن الاثیر ) 2 : 86 ، تفسیر القرأن العظیم ( لابن کثیر ) 4 : 200 ، التفسیر الکبیر ( للرازی ) 26 : 54
2- خرج رسول الله صلى الله علیه وآله فی ذی القعدة من عام ست هجریة معتمرا لا یرید حربا ، وقد استنفر العرب ومن حوله من اهل البوادی من الاعراب لیخرجوا معه وساق معه الهدی واحرم بالعمرة لیعلم الجمیع انه انما خرج زائرا لهذا البیت .وعندما بلغ عسفان لقیه بسر ( أو بشر ) بن سفیان الکعبی واخبره بخروج قریش
3- السیرة النبویة ( لابن هشام ) 3 : 321 ، التفسیر العظیم ( لابن کثیر )
source : rasekhoon