في دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام زين العابدين عليه السلام
"إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت لي وسولت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرني سترك المرخى علي..."
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال:
"أشد الذنوب (عند الله) ذنب استهان به راكبه"(1) وقال عليه السلام: أشد الذنوب ما استخف به صاحبه"(2) .
لقد شدد الله في القرآن الكريم على مسألة الطاعة والمعصية، فأولاهما اهتماماً كبيراً في العديد من الآيات القرآنية، تارة من جهة الترغيب بفعل الطاعات واكتساب الحسنات، وأخرى من جهة الترهيب والتحذير عن فعل المعاصي والموبقات واكتساب السيئات. هذا وقد حدد القرآن أيضاً نوعية العلاقة مع الله الخالق الموجد لهذا الإنسان.
كيف ينظر الإنسان إلى هذه العلاقة؟
هل هي علاقة العبد مع سيده وخالقه؟ أم أنها علاقة العبد الآبق مع مولاه؟ وهل هي علاقة العبودية لله أم العبودية للهوى والشهوات والشيطان؟ وهل هي علاقة المعترف بحق سيده ووجوب شكر نِعمه، أم المستخف به وبالنعم التي أنعمها الله عليه؟
فالله عز وجل الذي هو أرحم الراحمين هو أيضاً شديد العقاب. قد حذر من قهاريته وسطوته وغضبه، والجرأة على معاصيه والاستخفاف بحقه، وارتكاب نواهيه مهما كبرت ومهما صغرت، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى مَن اجترأتم"(3).
ولذا ينبغي على العبد المؤمن التقي المعترف بحق العبودية والطاعة، أن لا يستخف بأي ذنبٍ مهما صغر في عينه، لأن ذلك سيكون مدعاة أيضاً للمداومة عليه، وارتكاب ما هو أكبر منه.
ولقد شددت الروايات الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارةعليهم السلام على خطورة هذا المرض، وحذرت منه وذكرت آثاره الخطيرة، التي تزيد الإنسان غرقاً في أوحال الغفلة وسكرة الابتعاد عن الله.
روي عن أبي أسامة زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام
"اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر.
قلت: ما المحقرات؟
قال: الرجل يذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك"(4).
وقد يصاب الإنسان بمرض الاستخفاف ويعتاد على ذلك إما غفلة وجهلاً، وإما عناداً وتعنتاً، وهذا ما يؤدي إلى الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة.
وبناءً على الروايات الشريفة، فإن مفهوم الاستخفاف مفهوم عام له العديد من المصاديق سواء من حيث حال المستخف، أم من حيث مراتب الاستخفاف. وسوف نشير بنحو إجمالي لا على سبيل الحصر إلى بعض هذه المراتب:
فالمستخف تارة يكون مستخفاً بنفسه ظالماً لها لا يؤدي حقها، وتارة أخرى يستخف بعمله أو بنوع الذنب الذي يرتكبه سواء من حيث ترك بعض الطاعات، أم فعل بعض المعاصي. والأعظم من كل ذلك هو استخفاف الإنسان بربه وخالقه، فيتخذ آيات الله وما أنذر به هزواً.
وقد أشار القرآن إلى هذه الطائفة في قوله تعالى:
"ثم كَانَ عَاقِبَةَ الذِينَ أَسَاؤوا السوأَى أَن كَذبوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانوا بِهَا يَسْتَهْزِؤون"(5).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إياكم والتهاون بأمر الله عز وجل، فإنه من تهاون بأمر الله أهانه الله يوم القيامة"(6).
أنواع الاستخفاف
الاستخفاف بأمر الله وآياته
يقول الله تعالى: "وَيجَادِل الذِينَ كَفَروا بِالْبَاطِلِ لِيدْحِضوا بِهِ الْحَق وَاتخَذوا آيَاتِي وَمَا أنذِروا هزوًا"(7).
1- التهاون في العبادة
سواء من حيث أصل القيام بها أم من حيث الاتيان ببعض العبادات وترك البعض الآخر: كالاتيان بالصلاة والصوم وترك الحج والخمس مثلاً. أو من حيث الاستخفاف في أداء حق بعض العبادات بذاتها: كالاستخفاف بالصلاة سواء أيضاً من حيث الأجزاء والشرائط أو حضور القلب والخشوع فيها... الخ وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بصلاته"(8).
2- التهاون في أكل المال الحرام والنجاسات
يروى أن رجلاً أتى إلى الإمام الباقر عليه السلام فقال له: "وقعت فأرة في خابية(9) فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟.
فقال له أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله.
فقال له الرجل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها.
فقال له أبو جعفر عليه السلام: إنك لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك..."(10).
ولذا لا بد للمؤمن من عدم الاستخفاف بطعامه ولا سيما اللحوم، من حيث الطهارة والنجاسة، لأن لها آثاراً تكوينية روحية على جسمه وقلبه، وأثاراً تكليفية تشريعية من حيث الحرمة والعقاب.
وكذلك لا بد من مراعاة المال الحرام والمشتبه؛ لأنه سيسأل عنه يوم القيامة، من أين جيء به؟ وفي أين تم صرفه؟
عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة من بين يدي الله حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين كسبته، وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت عليهم السلام"(11).
3- التهاون في عباد الله
عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي قال: "ومن استخف بفقير مسلمٍ فقد استخف بحق الله، والله يستخف به يوم القيامة إلا أن يتوب"(12).
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "لا تحقرن عبداً آتاه الله علماً فإن الله له يحقره حين آتاه إياه"(13).
4- احتقار صغائر الذنوب
وعن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا لا تحقرن شيئاً وإن صغر في أعينكم، فإنه لا صغيرة بصغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة بكبيرة مع الاستغفار، ألا وإن الله سائلكم عن أعمالكم..."(14).
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لا تحقرن صغائر الآثام فإنها الموبقات، ومن أحاطت به محقراته أهلكته"(15).
آثار الاستخفاف والتهاون
للاستخفاف والتهاون بأمر الله ودينه وآياته، وللذنوب والمعاصي آثارٌ خطيرة في الدنيا والآخرة، سوف نشير إلى أهمها
1 ـ تورث الغفلة عن ذكر الله .
2 ـ قساوة القلب وأسوداده .
3 ـ الخروج من ولاية الله والدخول في ولاية الشيطان .
4 ـ طريق إلى ارتكاب الكبائر .
5 ـ أهانه الله وافتضاحه يوم القيامة .
6 ـ نقصان العمر والرزق .
7 ـ بغض الله له .
8 ـ نسيان الله له في الآخرة .
قال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِن لَه مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشره يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَب لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كنت بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تنسَى"(16) .
9 ـ العذاب في الآخرة .
"وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتخَذَهَا هزوًا أوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ مهِينٌ"(17) .
10 ـ الحرمان من الشفاعة .
11ـ الخلود في النار .
"ذَلِكم بِأَنكم اتخَذْتمْ آيَاتِ اللهِ هزوًا وَغَرتْكم الْحَيَاة الدنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يخْرَجونَ مِنْهَا وَلَا همْ يسْتَعْتَبونَ"(18)
المصادر :
1- وسائل الشيعة، ج15، ص312
2- نهج البلاغة، ص 559، الرقم 477
3- بحار الأنوار، ج74، ص170
4- الكافي، ج2، ص287
5- سورة الروم، الآية: 10
6- بحار الأنوار، ج69، ص227
7- سورة الكهف، الآية: 56
8- بحار الأنوار، ج79، ص227
9- الخابية: هي الجرة الكبيرة لتخزين السمن وما شابه
10- التهذيب، ج1، ص420
11- بحار الأنوار، ج7، ص259
12- وسائل الشيعة، ج12، ص266
13- بحار الأنوار، ج2، ص44
14- وسائل الشيعة، ج5، ص111
15- غرر الحكم، ص186، الحديث 3569
16- سورة طه، الآيات 124 إلى 126
17- سورة الجاثية، الآية: 9
18- سورة الجاثية، الآية:
source : rasekhoon