عربي
Wednesday 1st of May 2024
0
نفر 0

النفاق في سياق قانون السببية

النفاق في سياق قانون السببية

النفاق في سياق قانون السببية
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً قد يتساءل المرء عن هذه الزيادة التي ينسبها اللَّه إلى نفسه، فهل أراد اللَّه لهذا المرض أن يزيد بشكل مباشر؟ و كيف تتعلق إرادة اللَّه بتعاظم النفاق في داخل هؤلاء المنافقين، في الوقت الذي يلعن فيه اللَّه النفاق و المنافقين؟
و قد يكون الجواب في هذا المجال، أن هذا التعبير ينسجم مع التعابير القرآنية الكثيرة التي ينسب فيها الفعل إلى اللَّه، باعتبار أن القوانين الطبيعية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، في ما أودعه فيها من علاقة السببية، تستتبع هذا الفعل، و تقتضيه، مما يبرز نسبته إلى اللَّه باعتباره مسبّب الأسباب، و مكوّن                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 143
 القوانين التي تحكم الأشياء، من دون أن ينافي ذلك نسبته إلى الإنسان، باعتباره الأداة المحركة للفعل بشكل مباشر، من خلال الإرادة المنطلقة من حركة العقل و الفكر.
و على ضوء هذا نفهم الآيات فإن هذه العقدة انطلقت في حياة المنافقين على أساس لا يبتعد عن حالة الإرادة و الاختيار، و استمرت معهم بدون علاج، بل كان الأمر بالعكس زيادة في ممارسة النفاق، و إمعانا في تأكيد طبيعته في الداخل و الخارج، مما أوجب تعقيدا في المرض، و اتساعا لدوائره، تماما كالمريض الذي يهمل مرضه، فلا يعالجه، بل يبقى- زيادة على ذلك- في تعامل مستمر مع أسبابه، مما يوجب تطوّره إلى الأسوأ، من خلال السنن الطبيعية التي أودعها اللَّه في الكون، في مسائل الصحة و المرض، سواء أ كانت جسدية أم روحية.
وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ فهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن هذا الوضع الذي يعيشونه و يمارسون فيه الكذب كلمة، و موقفا و عملا، عن عمد و سبق إصرار. و مهما كانت الظاهرة مرضية، فإنها لا تبرر ما يؤدّونه من أعمال، لأن المرض اختياري في بداياته، و قد كانوا قادرين على أن لا يقعوا في نهاياته، لأنهم يستطيعون أن يتخلصوا منه إذا شاءوا.
المنافقون و الإفساد عن طريق التظاهر بالإصلاح‌
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ قد توحي هذه الآية الكريمة بأن المنافقين كانوا يقومون ببعض الأعمال، أو يطرحون بعض الشعارات، في داخل الحياة الإسلامية، ممّا كان يسي‌ء إلى خط                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 144
 الإيمان، و يفسح في المجال لحركة فساد في العقيدة و السلوك و العلاقات، و قد يتمثّل ذلك بعمل المعاصي، و صدّ الناس عن الإيمان بالأساليب الملتوية- على ما روي عن ابن عباس- أو بممالأة الكفار، فإن فيه توهين الإسلام، على ما قاله أبو علي، أو بتغيير الملة و تحريف الكتاب على ما قاله الضحاك «1». و قد يتمثل في غير ذلك مما ذكره المفسرون. و الظاهر أن مثل هذه التفسيرات لم تنطلق من نص ديني مأثور عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و لكنها ارتكزت على ملاحقة بعض الآيات التي تتحدث عن المنافقين في سلوكهم العملي تجاه النبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، مما لا يبّرر لنا حصره في نطاق خاص، لأنه لا يحاول حصر هذه الحالات به، بل يحاول عرض بعض ملامحها المتعلقة بالأفكار الإسلامية العامة.
و على ضوء ذلك، يمكن لهذه الآية أن تتحرك في كل مجال من مجالات حركة النفاق في داخل المجتمع، مما قد يوحي ظاهره بالصلاح، و لكنه يحمل الفساد في أهدافه و وسائله و دوافعه .. و لعلنا نواجه مثل هذه الحالات في سلوك الكثيرين من حملة الأفكار التي تتحرك في اتجاه إثارة الفوضى و الدمار في المجتمع باسم الإصلاح الذي يستهدف تغيير الواقع من خلال نسف جذوره، كما نواجه ذلك في كلمات البعض ممّن يفسحون المجال في المجتمع للدعوات و الأعمال التي يطلقها أصحاب الهوى و الفجور و الانحلال حيث يحاولون تبرير ذلك بأنه ثورة على الجمود، و تحرير للإرادة الإنسانية من عوامل الكبت الداخلي، و تحطيم للعقد النفسية المرضية التي تؤدي إلى ما يشبه الشلل في حركة الفرد و المجتمع، كما نلاحظ ذلك في الدعوات التي تبرر الأزياء الفاضحة أو العري المنحلّ، بأنه يمنح الإنسان صحة نفسية يتعافى بها من كل العقد الداخلية.
__________________________________________________
 (1) مجمع البيان، ج: 1، ص: 61.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 145
و من الطريف أن نجد في بعض التحليلات النفسية لحركة التحرر في الأزياء التي تعمل على تقصير الثياب إلى أبعد مدى، أن القضية قضية تحطيم للحواجز النفسية الداخلية للمرأة إزاء حركة الحياة في تفكيرها و سلوكها، و ليست مجرد تقصير للثياب، فكلما استطعنا تمزيق أي نوع من الحجاب، أو أي مقدار من الثياب، استطعنا أن نمزق حاجزا نفسيا، و حاجبا روحيا للمرأة، مما يجعل من قضية الانحلال الداخلي قضية ترتبط بقضايا الحرية في العالم، من دون مراعاة للأسس الروحية و الأخلاقية و الاجتماعية التي ترتكز عليها، هذه القيم التي يدعو إليها الدين و يرعاها في مفاهيمه و شريعته. و على هذا الأساس، نقف مع الآية وقفة استيحاء، فقوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، أي إذا نهوا عن الفساد البيّن، فهم يحاولون فلسفته و إعطاءه الصفات التي تجعله واجهة من واجهات الإصلاح، و يمنحون أنفسهم، من خلال ذلك، صفة المصلحين الذين يريدون أن يغيّروا القيم التقليدية في العالم.
و تحاول الآية الكريمة أن تعطينا- من خلال أسلوبها- انطباعا، بأنهم غير مقتنعين بما يطرحونه، و لكنهم يريدون تنفيذ مآربهم، و بهذا لا تمثل القضية موقفا حقيقيا لهم، لأنهم لا يتعاملون مع المواقف الحقيقة الحاسمة في الحياة، بل تمثل محاولة للفّ و الدوران في سبيل تحطيم الركائز الأساسية للمجتمع، كسبيل من سبل تحطيم الرسالة الشاملة التي تنطلق من هذه الركائز.
و يأتي القرآن لحسم الموقف على أساس كشف الواقع الفكري لهؤلاء، و قيمته في حساب الإصلاح، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ في ما تفرزه أعمالهم و شعاراتهم من آثار سلبية في حياة الأفراد و المجتمعات، وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ لأنهم لا يعيشون الأجواء النظيفة التي ترتبط بالقيم، و لذلك، لا يشعرون بالنتائج السيئة المرتبطة بأعمالهم، على أساس المقاييس الواقعية                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 146
 للأشياء، بل يظلّون في ارتباط مجنون بالأطماع و الشهوات، مما يجعل الموازين تتحرك في اتجاه القيم الشريرة في تقييم الواقع و تحليله.
المنافقون و الشعور بالاستعلاء
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ هذه إحدى الملامح البارزة للمنافقين، و هي مواجهة الرأي العام بمشاعر الكبرياء و العظمة التي تدفعهم إلى احتقار الناس في مستوى تفكيرهم و طبيعة إيمانهم و طريقة حياتهم، لأنهم يجدون في أنفسهم المستوى الفكري و العقلي الذي يرفعهم عن مستوى الآخرين، و لا سيما إذا كانوا مزوّدين بالثقافة التي تتيح لهم أن يجادلوا و يناقشوا، و يحركوا ألسنتهم بتحليل الأمور و تفسيرها و محاكمتها، على أساس المصطلحات العلمية التي تعطي لكلماتهم مدلولا علميا، كما نرى ذلك في بعض المتعلّمين الذين لا يناقشون القضايا العامة التي يتبناها الناس من خلال طبيعتها الأساسية، بل من خلال طبيعة المستوى الذي يمثله هؤلاء الناس المرتبطون بالفكرة أو بالعقيدة. فإذا حاولت أن تربطهم بالحقائق الدينية أو الكونية التي تربطهم باللَّه و تقودهم إلى الإيمان، قالوا لك: إن هذا كلام غير علمي، و إن هذه الأفكار التي تطرحها علينا هي أفكار العامة من الناس الذين يعيشون سذاجة الفكر و العقيدة، و ليست أفكار المتعلّمين الذين يحملون شهادات العلم و الفلسفة.
و لعل هذا هو الذي كان يسيطر على أجواء المنافقين الذين كانوا يدعون إلى الإيمان الخالص الذي ينطلق من الفطرة بعفوية و بساطة، باعتبار أن طبيعة الأسس التي يرتكز عليها لا تستند إلى فكر معقّد، بل إلى الوجدان الذي يتحرك في إطار الفكرة بهدوء و صفاء. فكانوا يجيبون: إننا لا نؤمن بمثل هذا                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 147
 الإيمان البسيط، لأنه إيمان السفهاء الذين لا يعرفون طبيعة الأسس التي يستندون إليها في حركة الحياة. و قد توحي الآية الكريمة بأنهم كانوا يركزون على نوعية الإيمان لا على أصله، لأن المفروض- في أجواء هذه الآيات- قبولهم بمبدإ الإيمان ظاهرا، و لكن اللَّه، سبحانه، يكشف طبيعة هذا التعاظم الأجوف و الكبرياء الكاذب، و يؤكد، من خلال أوضاعهم و منطلقاتهم و حركاتهم، أنهم يرمون الناس بصفة هي أقرب إلى واقعهم الفكري و العملي من واقع الناس الآخرين.

 

  تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 147


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

النارفي کلام أمير المؤمنين
كربلاء نهاية الظالمين
أرض عرفات
الاسلام في مسيرة التنمية
المجازر في عصر الأمويين .
ولادة الإمام الحسين (عليه السلام)
ما هو الدليل على أحقية الامام علي(علیه السلام) ...
في الإخلاص‏
فلسفة الحجّ
زيارة وزوار الامام الحسين (عليه السلام) في ...

 
user comment