دراسة علم الكلام حاجة ملحّة
الحمد للّه الأوّل فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه.والصلاة والسلام على ذي المقام الأجلّ، الحائز لقصبات السبق في مضمار كلّ فضل، سيدنا ونبينا محمّد مصباح الهدى وملاذ أهل التقى، وآله الطاهرين الذين مستقرهم خير مستقر ومنبتهم أشرف منبت، سلاماً لا بداية له ولا نهاية.
أمّا بعد:
فإنّ التفكير هو العامل المميّز للإنسان عن سائر الحيوانات، فهو يشاركهم في الغرائز والميول، ولكن يفارقهم بأنّه موجود مفكّر، وفي ظل التفكير بسط نفوذه، وبلغ حدّاً حيّر فيها العقول، وأدهش فيه الألباب، ولم يزل دؤوباً في تسخير ما خُلِق له.
وقد حاز الفكر على عناية كبيرة في القرآن الكريم حتى نوّه عليه ثماني عشرة مرة بصور مختلفة، إلى أن عاد وجعله من سمات أولي الألباب، وقال: ( إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآيات لأَولي الأَلْباب * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ ) ( [745]) .
كما أنّه سبحانه قد أمر بالتعقّل في غير واحد من الآيات الكونية وقال: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِوَالْفُلْكِ الَّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَما أَنْزَل اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءفَأَحْيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَمَوتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ ) ( [746]).
والدعوة إلى التفكير والتعقّل في آياته سبحانه ليست لهدف الوقوف على النظام السائد في الكون الذي تتكفّل ببيانه العلوم الطبيعية والفلكية، بل ثمّة غاية قصوى هي أشرف من الأُولى وهي الوقوف على باطن الكون الذي يعبّر عنه سبحانه بملكوت السماوات والأرض، وهو عبارة عن جهة تعلقه بخالقه، وقيامه به قيام المعلول بالعلّة، والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، وهذا النمط من التفكير يصنع من الإنسان عارفاً موحداً لا يرى شيئاً إلاّ ويرى اللّه معه و قبله وبعده، قال سبحانه: ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنينَ ) ( [747]) . وقال سبحانه: ( أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْء ) ( [748]) .
إنّه سبحانه جهز الإنسان بالتفكير والتعقّل، وأعطى له الأدوات المطلوبة، ومن أفضلها السمع والبصر، كما أشار إليه في قوله سبحانه: ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) ( [749]) .
والمراد من الشكر في ذيل الآية هو صرف النعمة في مواضعها، فشكر السمع والبصر هو إدراك المسموعات والمبصرات بهما، وشكر الفؤاد هو إدراك المعقولات وغير المشهودات به، فالآية كما تحرّض على إعمال السمع والبصر في درك ظواهر الكون، تحرّض أيضاً على استعمال الفؤاد والقلب والعقل فيما هو خارج عن إطار الحس وغير واقع تحت متناول أدواته، فمَن أراد قصر التعليم والتفكير على ظواهر الكون وحرمان الإنسان عن التفكّر خارج نطاق الحس فقد خالف القرآن الكريم.
كما وانّ من اقتصر على المعرفة الحسية هو أشبه بالطفل الذي لا يتمكن من التحليق في سماء المعرفة، بل يقتصر بما حوله من الأشباه والصور، كما أنّ من اقتصر على المعرفة العقلية فقد أفرط، وربّما حُرِم من بعض المعارف التي يكون الحس وسيلة إليها فالإنسان يستخدم الحس والعقل ويُحلِّق بكلا جناحيه في سماء العلم والعرفان، فالقرآن الكريم يُعطي للحس منزلة ومكانة ، كما ينمّي القابليات الفكرية في الإنسان عن طريق طرح قضايا حسّية ملموسة وعقلية.
قال سبحانه: ( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَولا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* ءَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ*...أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * ءَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ* لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الماءَ الّذِي تَشْرَبُونَ* ءَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَولا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ النّارَ الّتي تُورُونَ* ءَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ) ( [750]).
انظر إلى هذا البيان الرفيع والكلام الرصين كيف يطرح أُسلوب التفكير الصحيح؟ وفي نفس الدعوة إلى ظواهر الكون والنظام السائد فيه، دعوة أُخرى للارتقاء إلى معرفة عقلية بحتة، وهو أنّ للنظام صلة بخالق عالم قادر في وضع الكون على أحسن نظام.
يذكر فيها أمر الخلق، والزرع، والماء، والنار، ويذكر دور الإنسان فيها، فأمره في الأوّل لا يزيد على أن يُودع الرجل ما يمني في رحم امرأته، ثمّ ينقطع عمله وعملها، فالعقل يحكم بأنّ هناك قدرة غيبية تأخذ بزمام الأُمور، تعمل في هذا الماء المهين، في تنميته وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه.
وأمره في الثاني لا يزيد على الحرث وإلقاء الحب والبذر، الذي هو صنعه سبحانه، ثمّ ينتهي دوره، فلا محيص عن وجود قدرة تنميه تحت التراب، وتجعله سنبلاً أو سنابل فيها حبٌّ كثير.
وأمّا الماء فليس للإنسان فيه أيّ دور، لكنّه أصل الحياة وعنصرها، لا تقوم إلاّ به، فمَنْ الذي خلقه وأنزله من المزن، وأسكنه في الأرض؟ ومثله النار فليس له فيها شأن سوى أنّه يوقدها، ولكن مَن الذي خلق وقودها، وأنشأ شجرتها التي توقد؟
إنّ الذكر الحكيم عرض هذه الأُمور لغاية الاهتداء بها إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق، والتي تمسك بزمام هذه الظواهر الكونية، ولأجل ذلك ختم الآيات بقوله : ( فَسَبِّح بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظيم ) .
القرآن هو المنطلق لتنمية الفكر الإنساني
ما مرّ من الآيات يُعرب عن أنّ القرآن هو المنطلق الأوّل لتنمية الفكر الإنساني، وحثِّ الإنسان إلى التعقل والتفكير، فمن أراد أن يخلص للّه في العبودية بلا تحليق العقل في سماء المعرفة فقد تغافل عن هذه الآيات ونظائرها التي تأخذ بيد العقل من حضيضه وتقوده إلى أوج المعرفة، قال سبحانه: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الخالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّماوات وَالأَرض بَل لا يُوقِنُون ) ( [751]). فلو فسرنا (الشيء) في الآية بالسبب والعلّة فالجزء الأوّل من الآية يشير إلى برهان الإمكان الذي يقوم على لزوم سبب موجب لخروج الشيء من العدم إلى الوجود، والجزء الثاني منها يشير إلى بطلان كونهم خالقي أنفسهم، الذي يستقل العقل ببطلانه قبل أن يستقل ببطلان الدور اللازم عليه.
ومَن سبر هذه الآيات وتدبّر فيها يقف على عظمة قوله سبحانه: ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ ) ( [752]).
أئمّة أهل البيت روّاد الفكر
إنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ـ تبعاً للذكر الحكيم ـ فتحوا أمام الأُمّة باب التفكير الصحيح في المعارف الإلهية والمسائل العقلية، وأوّل من ولج ذلك النهج هو الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) رائد الفكر، فانّه صلوات اللّه عليه يذكر في خطبه ورسائله وكلماته القصار كثيراً ممّا يرجع إلى أسمائه وصفاته، والعوالم الغيبية مقروناً بالبرهان والدليل، وكفاك في هذا الباب ما ذكره في كيفيّة وصفه سبحانه التي شغلت بال التابعين والمتكلّمين على مر العصور، يقول سلام اللّه عليه: «أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلِّ صفة انّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمَن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومَن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال: فِيمَ، فقد ضمنه، ومن قال: عَلام، فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه،متوحِّد إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده...». ( [753])
فهو(عليه السلام) في كلامه هذا يبيّن لنا كيفيّة وصفه سبحانه وتعالى بالعلم والقدرة أوّلاً، كما يبيّن لنا مكانة الممكنات بالنسبة إليه سبحانه ثانياً، ثمّ يبيّن معنى كونه فاعلاً وخالقاً إلى غير ذلك من النكات البديعة في كلامه.
وقد تبعه الأئمّة المعصومون فسلكوا سبيله في تبيين المعارف والعقائد، وإقامة البراهين الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة أو العقل السليم، وكفى في ذلك ما ألّفه شيخنا الصدوق في كتابه «التوحيد» فإنّه نسخة عقليّة، أو رشح من فيض، جمعه ذلك المحدّث في القرن الرابع.
ويكفيك في الوقوف على بُعد المنهجين (منهج الإمام علي(عليه السلام) والأئمّة المعصومين، ومنهج أهل الحديث) مقارنة هذا الكتاب بكتاب التوحيد لابن خزيمة (المتوفّـى 311هـ) ( [754]) الذي ألّفه قريباً من عصر الصدوق في توحيد الصحابة والتابعين، وأسماه «التوحيد و الصفات» فتجد أنّ الكاتبين سلكا مسلكين مختلفين أحدهما يعتمد على الكتاب والسنّة الصحيحة، والعقل الصريح، وتحليل العقائد والمعارف تحليلاً عقلياً رائعاً، معتمداً على الفكر، وأمّا الآخر فهو يعجّ بروايات أكثرها ترجع إلى مستسلمة أهل الكتاب في العصور الأُولى ككعب الأحبار، ووهب بن منبه اليماني، وتميم بن أوس الداري، إلى غير هؤلاء ممّن تلقوا القصص والحكايات الخرافية من أساتذتهم وبثوها بين المسلمين.
وأنت إذا تفحّصت ما انطوى عليه تفسير الطبري، و الدر المنثور للشيخ السيوطي، تراها عاجّة بروايات منتهية إلى الصحابة و التابعين، وليس فيها شيء يرجع إلى تحليل العقائد والمعارف، وعلى ذلك درج الخلف، فصار التعطيل شعاراً لأهل الحديث ومن تبعهم.
تدوين علم الكلام حاجة ملحّة
فتح المسلمون البلاد المعمورة بإيمانهم وعزيمتهم الراسخة، فاعتنق الإسلام أُمم كثيرة كانت لهم حضارات عريقة وديانات مختلفة، فأدّى ذلك إلى احتكاك المسلمين بهم، وكانت نتيجته انتقال الفلسفة اليونانية والفارسية إلى العواصم الإسلامية، ونشطت من خلالها حركة الترجمة والتعريب، فتُرجمت كتب فلسفية كثيرة تحمل طابع الفلسفة اليونانية والرومانيةوالفارسية في طياتها، وهذه الحركة قد تركت خيراً كثيراً، حيث اطّلع المسلمون من خلالها على العلوم الطبيعية والرياضية، والفلكية، وماوراء الطبيعة، وشكّل ماورثوه عن طريق الترجمة فيما بعد النواة الأُولى لإرساء قواعد هذه العلوم و إكمالها، حتى تألق نجم العلم في المشرق الإسلامي، وصار مركزاً ومحطاً يقصده روّاد العلم والمعرفة من كلّ حدب وصوب.
إلاّ أنّ تلك الحركة قد تركت آثاراً سلبية حيث بذرت شبهاً كثيرة في حقل العقائد والأحكام بين المسلمين، خصوصاً غير المتدرّعين منهم بسلاح العلم والبرهان، فاشتدّ حمى الجدال بين المسلمين وروّاد الأفكار الدخيلة.
كما أنّه كان لوجود الأسرى أثرٌ فعالٌ في طلي الشبه وسوقها في بوتقة البرهان ردّاً على العقائد الإسلامية، نظراء ابن أبي العوجاء وحماد بن عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن أياس، وعبد اللّه بن المقفع، الذين كان لهم نشاطٌ ملموس في زعزعة عقائد العامة.
وكان لظاهرة الترجمة، وانتشار الشُبه بين المسلمين، تأثيرٌ مهم في شحذ همم المفكرين من المسلمين بغية الوقوف أمامها، وبذلك نشأ علم الكلام ودونت رسائل في الذّب عن العقيدة والتدرّع بنفس السلاح الذي تدرّع به المخالف، فلم يمض القرن الأوّل إلاّ وتجد حلقات شكلت لهذا العلم طرحت فيها المسائل الكلامية على طاولة البحث لتفنيد حجج المخالفين وإبطالها.
نعم قام بعض السذّج من أهل الحديث بتحريم علم الكلام، والوقوف أمامه، ودعوا إلى نبذه، بزعم أنّهم بذلك يقدمون أفضل خدمة للإسلام وعقيدته، غافلين عن أنّ سلب هذا السلاح من يد المفكرين من المسلمين يوجب استيلاء الإلحاد على الربوع الإسلامية.
كلّ هذا وذاك دعا المفكرين إلى تأسيس علم الكلام، وقد استلهموا في ذلك من الكتاب العزيز، وخطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدرسة الأئمّة من بعده التي تركت بصمات واضحة على زعزعة الحركة الإلحادية، وجعل الشبه والردود في مدحرة البطلان، ولذلك كان تدوين علم الكلام حاجة ملحّة لا ترفيهية، وقد أخذ علم الكلام على عاتقه الذب عن حياض العقيدة الإسلامية، باستعراض البراهين العقلية تارة، وبإعمال أساليب الجدل والمناظرة تارة أُخرى ، وقد بلغ هذا العلم ذروته وظهرت مناهج كلامية مختلفة تنتهي جذورها إلى ما ورثوه من الكتاب، وخطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .
دعاة التفكير في المعارف
كان لأهل الحديث صيت واسعٌ في أرجاء العالم الإسلامي، وكانت الأكثرية تبعاً لهم، وقد وُجِد في صفوف المسلمين من نادى بالتفكير وإقامة البرهنة على المعارف و تحليلها على ضوء الدليل العقلي، كلّ ذلك استلهاماً من الذكر الحكيم وخطب الإمام أمير المؤمنين وما آثر من أهل بيته المعصومين.
قال ابن أبي الحديد ( [755]): إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف المعلومات، ومن كلامه (عليه السلام) اقتُبِس وعنه نُقِل، وإليه انتهى. ( [756])
وما ذكره ابن أبي الحديد هو الذي يدعمه تاريخ علم الكلام، فإنّ المناهج المعروفة في علم الكلام لا تتجاوز عن أربعة وهي:
الأوّل: الإمامية.
الثاني: المعتزلة.
الثالث: الأشاعرة.
الرابع: الماتريدية.
وهذه المدارس الكلامية على الاختلاف السائد بينها تنتهي جذورها إلى الإمام علي (عليه السلام) .
أمّا الإمامية فهم شيعة علي (عليه السلام) في عامّة المجالات، وأمّا المعتزلة فمؤسّسها واصل بن عطاء (80 ـ 131هـ) وعمرو بن عبيد (80 ـ143هـ) وقد أخذ واصل وعمرو عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأخذ أبو هاشم عن أبيه محمد بن الحنفية، وأخذ محمد عن أبيه علي بن أبي طالب.( [757])
وأمّا المنهج الأشعري فمؤسسه هو الإمام أبو الحسن الأشعري (260ـ330هـ) فقد اتّفقت كلمتهم على أنّه خريج مدرسة أبي علي الجبّائي(235ـ330هـ) وإمام المعتزلة، و إن عدل عن ذلك المنهج وأسّس منهجاً معتدلاً بين أهل الحديث والإعتزال، ولكنّه تبحّر في إقامة البرهان والاستدلال على المعارف في منهج الاعتزال، فهو عيال على المعتزلة.
وأمّا الماتريدية فمشيّد أركانها هو الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (260ـ333هـ) وقد عاصر الماتريدي الإمام الأشعري و كانا يعملان على صعيد واحد، وكلٌّ يكافح الاعتزال، ويدعو إلى منهج متوسط بين المنهجين، ولكن المنهج الماتريدي أقرب إلى الاعتزال من المنهج الأشعري، والمنهج الذي اختاره الماتريدي وأوضح براهينه، هو المنهج الموروث عن أبي حنيفة (80ـ150هـ) في العقائد والكلام والفقه ومبادئه، والتاريخ يحدثنا أنّ أبا حنيفة كان صاحب حلقة في الكلام قبل تفرغه لعلم الفقه، وقبل اتصاله بحمّاد بن أبي سليمان، الذي أخذ عنه الفقه.
هؤلاء هم دعاة التفكير في المعارف على اختلاف وجهات نظرهم.
المعطّلة خصوم العقل
ارتحل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى دار البقاء، وترك شريعة بيضاء، وكتاباً هو خزانة المعارف، وأمر الأُمّة بالتدبّر والتفكّر فيه دون فرق بين ما يرجع إلى آيات الأحكام، أو قصص الأقوام، والأنبياء، أو المعارف والعقليات، فقال سبحانه: ( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْباب ) ( [758]).
ومع هذه الدعوة المؤكدة التي نادى بها القرآن ظهرت فرقة في العصور الأُولى صارت سمتهم وشعارهم إعدام العقل وتعطيله عن التفكّر فيما وراء الحس، ممّا يرجع إلى أسمائه سبحانه وصفاته وغير ذلك، وقالوا معتذرين في تعطيل العقل «إنّ ما أُعطينا من العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية، فمن شغل ما أُعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية ولم يدرك الربوبية». ( [759])
وكأنّ العبودية عند القائل هي القيام والقعود والإمساك، التي هي من واجبات الأعضاء، وغاب عنه أنّ العبودية تقوم على ركنين، ركن منه يرجع إلى الأعضاء والجوارح، وركن آخر إلى العقل واللّب، فتعطيل العقل عن معرفة المعبود بالمقدار الميسور تعطيل للعبودية.
فالاقتصار في معرفة الربّ بالعبودية الظاهرية من القيام والقعود من دون التعرّف على ما للمعبود من جمال وجلال، يؤدي إلى كون عبودية الإنسان أدون من عبودية الجماد، إذ الجماد ربّما يستشعر عظمة الخالق، حسب مقدرته، قال سبحانه: ( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه وَمَا اللّهُ بِغافِل عَمّا تَعْمَلُونَ ) ( [760]).
والعجب انّ هذا النمط من الجمود قد عاد إلى الساحة الفكرية باسم السلفية، وأخذ لنفسه طابعاً جديداً، وصار الجهل بالمعارف وإعدام العقل عن التفكير مفخرة نادى بها أصحابها، وبذلك انقادوا لما في الصحاح والمسانيد، من التشبيه، والتجسيم، وإثبات الجهة بلا اكتراث.
قال ابن تيمية ـ مثير الدعوة السلفية بعد اندراسها ـ : إنّ للّه يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجماله، وانّه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة، وإبليس، وانّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماء بيده اليمنى. ( [761])
وهذه العبارة ونظائرها التي طفحت بها كتب السلفية ترمي إلى أحد أمرين إمّا التجسيم والتشبيه، أو تعطيل العقول عن معرفة الكتاب العزيز.
فإنّ اليد والوجه والرجل موضوعات في اللّغة العربية للأعضاء خاصة، فلو أُريد المعنى الحقيقي يلزم منه التشبيه ، وإن أُريد المعنى الكنائي فهذا هو التأويل عندهم، وهم يفرّون منه فلم يبق هناك معنى ثالث حتى يتبعه السلفية.
وقد بلغ بهم التزمّت بمكان حدا بهم أن لا يقيموا للبحوث العقلية وزناً.
يقول ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة، عن طريق الأهوازي: قرأت عن علي القومسي، عن الحسن الأهوازي، قال: سمعت أبا عبداللّه الحمراني يقول: لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا، وأكثر الكلام، فلمّا سكت، قال البربهاري: وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل، فخرج من عنده وصنّف كتاب «الإبانة» فلم يقبله منه. ( [762])
علم الكلام في القرن الخامس
بلغ علم الكلام ذروته في الكمال، وظهر في المنهج الأشعري لفيف من الأعلام منهم:
1. القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفّـى 403هـ) مؤلّف كتاب «التمهيد» في الرّد على الملاحدة، وهو كتاب كلامي يعرف منه آراؤه الكلامية في مختلف الأبواب.
2. أبو منصور عبد القاهر البغدادي (المتوفّـى 429هـ) مؤلّف كتاب «الفرق بين الفرق» في الملل والنحل و«أُصول الدين» طبع غير مرّة.
3. إمام الحرمين الجويني (المتوفّـى 478هـ) مؤلّف كتاب «الإرشاد» في أُصول الدين، وقد طبع غير مرّة.
كما ظهر في المنهج المعتزلي روّاد فطاحل منهم:
1. قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي (المتوفّـى 415هـ)مؤلف كتاب «المغني» في عشرين جزءاً، وهو أبسط كتاب كلامي أُلّف في هذا المضمار.
2. أبو الحسين البصري (المتوفّـى 436هـ) مؤلّف كتـاب «شرح الأُصـول الخمسة» التي بني الإسلام عليها.
كما برع في المنهج الإمامي نوابغ الكلام، منهم:
1. شيخ الأُمّة شيخنا المفيد (336ـ413هـ) يعرّفه ابن النديم: أبو عبد اللّه، في عصرنا انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطرة، شاهدته فرأيته بارعاً. ( [763]) وله كتب كثيرة في علم الكلام مذكورة في فهرس كتبه. ( [764]) 2. علي بن الحسين الشريـف المرتضى (355 ـ 436هـ) تلميـذ الشيـخ المفيد.
عرّفه تلميذه النجاشي بقوله: حاز من العلوم مالم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، ومن كتبه الكلامية: «الشافي» في نقض المغني للقاضي عبد الجبار في قسم الإمامة، وكتاب «تنزيه الأنبياء والأئمّة» و«الذخيرة» في علم الكلام، وغيرها من الرسائل ( [765]) وشرح جمل العلم والعمل.
3. أبو الصلاح التقي بن الحلبي (374ـ447هـ)مؤلف «تقريب المعارف» في الكلام، مطبوع.
4. وأخيرهم لا آخرهم محمد بن الحسن الطوسي (385ـ460هـ).
يعرّفه زميله النجاشي بقوله: جليل من أصحابنا، ثقة، عين، من تلاميذ شيخنا أبي عبد اللّه.
ويعرّفه العلاّمة بقوله: شيخ الإمامية ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، عين، صدوق، عارف بالأخبار والرجال والفقه والأُصول والكلام والأدب، وجميع الفضائل تنتسب إليه، وله في الكلام كتب كثيرة منها: الجمل والعقود، تلخيص الشافي في الإمامة، ومقدّمة في المدخل إلى علم الكلام ( [766])، والاقتصاد، والرسائل العشر.
علم الكلام في القرن السادس
ما أن أطل القرن السادس إلاّوقد أفل نجم المعتزلة، حيث وضع فيهم السيف، من قبل الخلافة العباسية فلا نجد لهم أثراً وذكراً إلاّ أنّ الزمخشري مؤلّف الكشاف قد أورد آراءهم في تفسيره، وكان غياب المعتزلة عن المسرح الفكري خسارة جسيمة للمنهج العقلي، وقد بلغ التعصّب بمكان حتى أن أُحرقت كتبهم، وقتل أعلامهم وشرّدوا، والحديث ذو شجون. ( [767])
وأمّا المنهج الأشعري فقد نبغ فيه أعلام في الكلام، منهم:
1. حجّة الإسلام الغزالي(450ـ505هـ)و من كتبه «قواعد العقائد» فقد اقتفى أثر إمامه الأشعري، ويلتقي معه في كثير من الآراء والمباني، وقد أوضحنا حال الكتاب والمؤلّف في كتابنا «بحوث في الملل والنحل». ( [768])
2. أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (437ـ 548هـ) مؤلّف كتاب «الملل والنحل» و«نهاية الإقدام» في علم الكلام، إلى غير ذلك من الكتب.
كما واحتفل المنهج الإمامي في القرن السادس في حقل الكلام بمتكلّمين بارعين، بلغوا القمّة في تحقيق الأُصول الكلامية، وقد عجنوا ما ورثوه عن مشايخهم وأسلافهم في القرون السالفة، وما جادت به قريحتهم العلمية، ونذكر المشاهير منهم:
1. قطب الدين المقري النيسابوري من مشايخ السيد ضياء الدين أبي الرضا فضل اللّه الراوندي (المتوفّـى حدود 547) مؤلف كتاب الحدود (المعجم الموضوعي للمصطلحات الكلامية وغيره) وقد طبع.
2. الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤلّف مجمع البيان (المتوفّـى 548هـ) وله في تفسيره بحوث كلاميّة مهمة. 3. الحسين بن علي بن محمد بن أحمد المعروف بـ«أبي الفتوح الرازي » (المتوفّـى 552هـ) وكتابه مشحون بالبحوث الكلامية.
4. محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني (المتوفّـى 558هـ)وقد ذكر فهرس كتبه المختلفة في معالم العلماء.
5. قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي (المتوفّـى 573هـ) مؤلف كتاب تهافت الفلاسفة، وجواهر الكلام في شرح مقدمة الكلام.
6. سديد الدين الشيخ محمود الحمصي المتوفّـى في أواخر القرن السادس، مؤلّف «المنقذ من التقليد» مطبوع.
7. أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي صاحب «الاحتجاج» توفي في أواسط القرن السادس.
8. مؤلّفنا الجليل السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي (511 ـ 585هـ).
ومن أشهر كتبه غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع.
يقع المؤلَّف في جزءين أحدهما في علم الكلام، والآخر في علم الأُصول، فكان مشتملاً على علوم ثلاثة، والناظر في الكتاب يلمس انّ المؤلف يتمتع بموهبة كبيرة في التفكير الكلامي، والأُصولي، فله هناك آراء وأفكار وعلى صعيد آخر فقد استفاد من كتب «شرح جمل العلم والعمل» للسيد المرتضى و«تقريب المعارف» لأبي الصلاح الحلبي و«الاقتصاد» و«الرسائل العشر» لشيخ الطائفة الطوسي، ومن كتب المعتزلة «شرح الأُصول الخمسة» للقاضي عبد الجبار، وأضاف إليها ما جادت به قريحته، وذهنه الوقّاد، فرحم اللّه مؤلّفنا الجليل حيث استوعب البحث في العلوم الثلاثة، وأتى بكتاب بديع قلّ نظيره.
جعفر السبحاني
قم المقدسة
[745] . آل عمران: 190 ـ 191.
[746] . البقرة: 164.
[747] . الأنعام: 75.
[748] . الأعراف: 185.
[749] . النحل: 78.
[750] . الواقعة: 57 ـ 72.
[751] . الطور : 35 ـ 36.
[752] . فصلت: 53.
[753] . نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.
[754] . هو محمد بن إسحاق بن خزيمة بن مغيرة بن صالح النيسابوري مؤلّف كتاب التوحيد والصفات وفقه الحديث، توفّي عام 311هـ عن عمر ناهز 88عاماً.
[755] . هو عز الدين أبوحامد بن هبة اللّه بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني، توفي عام 655هـ.
[756] . شرح نهج البلاغة:1/ 17.
[757] . طبقات المعتزلة: 164.
[758] . ص: 29.
[759] . علاقة الإثبات والتفويض: 33.
[760] . البقرة: 74.
[761] . مجموعة الفتاوى: 6/ 362.
[762] . ابن عساكر الدمشقي: تبيين كذب المفتري: 391، قسم التعليقة.
[763] . فهرست ابن النديم:266 .
[764] . النجاشي، الرجال: 2/104 برقم 706.
[765] . النجاشي: الرجال، برقم 706.
[766] . النجاشي: الرجال، برقم 1069، والخلاصة : 148.
[767] . لاحظ الجزء الثاني من كتابنا « بحوث في الملل والنحل » .
[768] . بحوث في الملل و النحل:2/ 325ـ 339.
source : موقع موسسة الامام الصادق