سيرةٌ ، وبحثٌ ، وتحليلٌ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا أبا الحسن ، عليّ بن محمد ، الزكي الرّاشد ، النّور الثّاقب .
السلام عليك يا نور الأنوار ، السّلام عليك يا زين الأبرار ، السّلام عليك يا سليل الأخيار .
السّلام عليك يا حجّة الرحمان ، السّلام عليك يا ركن الإيمان ، السّلام عليك يا مولى المؤمنين ، السّلام عليك يا وليّ الصّالحين .
السّلام عليك يا عَلمَ الهدى ، السّلام عليك يا حليف التّقى ، السّلام عليك يا عمود الدّين ، السّلام عليك يا بن خاتم النبيّين ، السّلام عليك يا بن سيّد الوصيّين ، السّلام عليك يا بن فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين ،.. السّلام عليك أيّها الحجّة على الخلق أجمعين ، ورحمة الله وبركاته (1) .
من زيارته ( عليه السلام ) المنصوصة .
الإهداء
إلى الأخ المنصف الّذي يحب أن يستمع القول فيتّبع أحسنه ، ويفتح قلبه للوعي ، قبل أن يفتح عينيه للقراءة .
ويوطِّن نفسه على الدّخول إلى هيكل قدس ، بقلب نقيّ لا رواسب فيه ، ونفس صافية لا تشوبها شائبة .
ليقرأ سيرة عظيم من أولياء الله تعالى ، وحُماة دينه ، وحَمَلة كلمته ، وعيبة عِلمه ، الّذين خُلقوا من غير طينتنا ، واصطنعوا على عينه سبحانه .
وليدخل محراب حضرة علويّة ، فيطالع آيات واحدٍ من أوصياء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، حَملَ أعباء الولاية قرابة ثُلُث قرن على هذه الأرض ، فكان في عصره سيّد العصر ، فتىً ،.. فشابّاً ،.. فكهلاً ،.. وإلى آخر لحظةٍ من عمره الشّريف .
أجل ، إلى مَن يريد أن يقرأ ، ويتفكّر ، ويتدبّر .
أهدي بعض آيات هذا الإمام العظيم .
في هذا الكتاب المتواضع الّذي هو نفحة من نفحات سادة الخلق ( عليهم السلام ) .
البيّاض : قضاء صُور ـ لبنان الجنوبي
سنة 1419 هجريّة ، 1999 ميلاديّة
المؤلّف:كامل سليمان
مفتتحُ هذا الكتاب
مفتتحُ هذا الكتاب
سِيَر أهل بيت النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ، سِيَر حافلة بكرائم الأقوال وجلائل الأعمال ، طافحة بشذى الرّسالة وروح النبوّة ، لا ترى فيها إلاّ نماذج أئمّة الحقّ والعدل ، ولا تقع عند استقرائها إلاّ على صور مشرقة لخلفاء الله تبارك وتعالى الذين جعلهم في أرضه تراجمة وحيه ، النّاطقين عن أمره ، الممثّلين ظلّه بين عباده ،.. تَحسبُ الصامت منهم متجلبباً بهيبة الرّسول ، وتجد المتكلّم يصدر عن ربّه فيما يقول ،.. تعلوه ـ أبداً ـ هالة وقار وجلال تجعله مهاباً قد ضربَ على المجرّة قبابه ، ووصلَ بحبل الله أسبابه ،.. فلا تُذكر فضيلة إلاّ وله محضها وخلاصتها ، ولا تُستعصى حجّة إلاّ وعلى لسانه حججها وأدلّتها..
فهو أحرى النّاس بكلّ مكرمة ؛ لِما منحه الله تعالى من خصائص تفرّدَ بها : كسماحة النّفس ، والخلُق العظيم ، والرّسوخ في العلم والفضل والحِلم ، والتمرّس بالقرآن والسنّة ، وكالصّدق في القول والوعد والعهد ، وغير ذلك من مزايا الكمال التي لا تجتمع في غيره من البشر ،.. وكالإيمان العميق الّذي يبلغ به مرتبة الأنبياء ،.. ولا شيء كالإيمان لا يحتاج إلى برهان بعد أن تؤكّده أقوال حامله وأفعاله..
فسيَر حياتهم ( عليهم السلام ) مأدبة غنيّة تحيى بها القلوب ، وتتقوّى العقيدة ، ويترسّخ الإيمان ، ويكمل العمل ويُتقبّل ، وتُرتضى الحياة ـ على ما فيها من أثقال الخطوات الشاقّة ـ نحو النّعيم المقيم الّذي لا يُنال بيوم الدّين إلاّ بتولّيهم..
***
ولم يكن الأئمة ( عليهم السلام ) طالبي حكم دنيويّ ،.. ولا هم موعودون به فضعفوا عن طلبه وقعدوا عنه ، ولا كانوا في مركز ضعف حينما كان سلاطين الزمان يشخصونهم إلى عواصم مُلكهم ، ويضعونهم تحت الرقابة ؛ لإبعادهم عن قواعد أعمالهم ومفاتح تحرّكاتهم ، وللوقوف بوجه دعوتهم التي تزلزل عروش الظّلم ، وتُظهر زيف الحُكم ، وتفضح باطل ما كان عليه الحاكمون ، بل كانوا أقوياء مرهوبين ، يُحسب لقوّتهم ألف حساب !.
فلم يولد واحد منهم ( عليهم السلام ) ، إلاّ انتشرَ خبر ولادته كلمح البصر ، وذاعَ صيته بين البدو والحضر ، وارتاعت لدى سماع اسمه قلوب السّلطان وأعوانه ، وهابت ذكره أركان الدولة وسائر لحَسَة قصاعها من الكذَبة وسرقة المال ؛.. لأنّهم ـ جميعاً ـ على موعد مع ذلك الاسم الكريم المرعب الّذي لا ينطق عن الهوى ، وبشّرَ به آباؤه واحداً بعد واحدٍ ، فصار على كلّ شَفة ولسان .
نعم ، كانوا يرضون بالشّخوص إلى عواصم خلفاء الزمان ( مستضعفين ) ؛ ليُعلنوا وليبشّروا وينذروا هناك ،.. حيث تتزاحم الأقدام ويزدحم الجبابرة ممّن يأكلون التّراث أكلاً لمّاً ، ويحبّون المال وشهوات النفوس حبّاً جمّاً ! ولذا كانوا مهاجَمين من جميع الدائرين في فلَك طواغيت الحُكم ، مراقَبين ومحاسَبين على مفتريات خصومهم ،.. صابرين على ذلك برضا واطمئنان ؛ لأنّهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مركز ثقل الدّهماء ، وبصفتهم شهداء الله تعالى على الخلق..
فمِن خداع الحواسّ أن نظنّ في الأئمة ( عليهم السلام ) ضعفاً ، لمجرّد النظرة الطائشة لإذعانهم ( لأوامر ) الحاكم الظالم الذي كان يعتقلهم بجانبه مرةً ، ويسجنهم مرةً ، ويطلق سراحهم مرةً أخرى ،.. فهم مأمورون بالصبر على هذه الأمور ؛ ليتسنّى لهم القيام بعملهم الذي هو امتداد للرّسالة السماويّة ، وتتيسّر إذاعة كلمة العدل عند الحاكم الظالم ، والوقوف في وجه ضلال الأمير ، والمشير ، والوزير ، وفقيه السّوء ،.. وليكونوا على اتصال مع كافّة مَن يدورون حول عرش السلطان من ذباب موظّفيه وعملائه ، ولو ذاقوا الشذى من الحكم تارةً والأذى طوراً ؛.. لأنّهم حُجج الله على عباده ، وأُمناؤه على دعوته ، وسفراؤه في أرضه ،.. ولولا ذلك لكانوا كالصقور ، ولرأيتَ كلّ واحد منهم كالأسد الهصور ، تحميهم حصانة الحاكم السماويّ الذي لا يرهب الحاكم الأرضيّ !
فأهل بيت النبيّ ( صلّى الله عليه وعليهم ) كانوا كذلك ،.. والناس يعلمون أنّ أمرهم من أمر ربّهم سبحانه وتعالى .. ؛ ولذا كانوا محسودين ، ومجفوّين..
***
أمّا إمامُنا أبو الحسن عليّ الهادي ( عليه السلام ) ، الذي نحن بصدد عرض شيء من سيرته الكريمة ، فإنّ كتابنا هذا سيكشف للقارئ عن جوانب من عَظمة الله تعالى في عظمة مخلوقه هذا ، وسيريه آيات صُنع الله سبحانه في آيات وليّه ، الذي حَفلت حياته بأسمى معاني الإمامة التي هي خزينة النبوّة ، فكان لدى التقويم في الميزان ، يرجح بجميع أهل ذلك الزمان ،.. قد تقلّد الإمامة وهو في أوائل السنة التاسعة من عمره ، فتصدّر يومها مجالس الفتوى بين أجلاّء العصر ومشايخ الفقهاء ، وبهرَ العقول بعلمه وفضله..
ثمّ حملَ أعباءها طيلة ثلاث وثلاثين سنة في عصر ظلم وغشم ونفاق ، أخَذَ منه ـ ومن العلويّين جميعاً ـ ومن شيعته ـ خصوصاً ـ بالخناق ! ولكنّه استمرّ على أدب الله عزّ وجلّ ، وسيرة رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) ونهج آبائه ( عليهم السلام ) ، لا يُمالئ حاكماً ، ولا يهادن ظالماً ، بل يقوم بما انتدبَ إليه في قصر السلطان ، ومجالس الحُكم ، وبين الأمراء ، وفي كلّ مكان .
يعيش صراحة الدّين ، ويجانب الباطل بجرأة لا يكون لها نظير إلاّ عند المنتجب من الله تعالى للولاية على الناس ،.. منسجماً مع أمر السماء التي استسفرته لكلمتها ، وقائماً بقسط الوظيفة التي خَلعت عليه سربال ولايتها ،.. مُثبتاً أنّه على مستوى ذلك الأمر ، في ذلك العصر ،.. تماماً كالسّفير الذي لا يخرج عن خطّ دولته ، ويدلّ صدقه مع وظيفته على حفظ كرامة الدولة التي سخت عليه بما وضعته بين يديه من إمكانيّات ؛ ليستطيع تمثيلها حقّاً وحقيقة .
وأنا ـ في كتابي هذا ـ أحبّ أن يعرف قرّائي الأعزاء شيئاً عَرَفتهُ من مزايا هذا الإمام العظيم ؛ ليكونوا على بيّنة من أمر الله سبحانه وتعالى في مَن يولّى عليهم ، فإنّهم يوم القيامة لموقوفون ،.. وإنّهم عن أئمّتهم في الدّين لمسؤولون..
وقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسّحاب الرّكام ، أو كالجبال الرّواسي ، فيقول : يا ربّ ، أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول : هذا علمك الّذي عَلّمته الناس ، يُعمل به من بعدك ) (2)..
فعلينا أن نتعلّم ،.. وأن يُعلّم بعضنا بعضاً ما فيه سعادتنا في الدارين ( ...مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ...) (3) ؛ فإنّ المعرفة باب النجاة ، والجهل يؤدي إلى البوار والخسران..
وقال معاوية بن عمّار : قلت لأبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : رجل راوية لحديثكم يبثّ ذلك إلى الناس ويُسدّده في قلوب شيعتكم ، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرّواية ، أيّهما أفضل ؟
قال : ( الراوية لحديثنا يبثّ في الناس ويُسدّده في قلوب شيعتنا ، أفضل من ألف عابد ) (4) .
لذا تصدّيتُ لهذا الأمر ، دون أن أنصِب نفسي معلّماً أو راوية يبثّ أخبار هذه العترة الطاهرة في الناس ، بل كنت جَمّاعاً ـ لهذه الأمور ـ غير وضّاع ، متوخّياً أن يجد المعلّم والرّاوية مادّة التعليم والرّواية بين أيديهما محضّرة مهيّأةً ، فيتيسّر لهما القيام بواجبهما حين يجدان وسائل العمل مرتّبةً جاهزةً لتثقيف الآخرين ، مبتغياً من وراء ذلك إنارة زاوية من زوايا حياتنا الدّنيا الزائلة ، وراجياً بلوغ الغاية المرجوّة في حياتنا الأخرى الدائمة .
وما كنتُ ـ بالحقيقة ـ لأختار هذا الموضوع وأبذل جهدي في الكتابة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لولا أنّهم شجرة النبوّة المقطوعة من أكثر المسلمين ، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض فلا ينجو إلاّ مَن تمسّك به ،.. ولم يتمسّك به إلاّ القليلون ! وكتابتي فيهم لا ـ ولن ـ تبلغ سوى جزءً من آلاف الأجزاء ممّا كانوا عليه من المنزلة السامية ، التي لا يبلغ شأوها قلم كاتب ، ولا فكر ثاقب .
source : sibtayn