الشیخ جلال الدین الصغیر
کیف تتعاطى المدرسة المهدویة مع طموحات الشباب ؟
لاشک أن أیة عملیة تغییر حضاریة لا یمکنها إلّا أن تعطی الشباب الدور الأکبر فی عملیة الحراک الحضاری، ولا یمکن تصور وجود حضارة من دون أن یکون ثمة منهج تعبوی خاص بهذا الشریحة التی تمثل عماد المستقبل، وفیها الکثیر من الحیویة والحماس الذی تحتاجه أی حضارة إن فی مرحلة التأسیس أو فی مرحلة الحراک، بل إن الحضارة التی تغفل هذا الدور لا یمکنها أن تبقى فالمشاریع المعادیة ستجد فیهم أرضیة خصبة للتحرک المضاد، مما یعنی أن الشباب هم حجر الرحى الذی یمکنه أن یوجّه مسار الأحداث فی نتائجها العملیة، وهو سلاح ذو حدین فإن لم تجر العنایة به فإن ذلک سیعنی إنقلابه على هذه العملیة، الأمر الذی جعل أهل البیت علیهم السلام یولون الشباب أهمیة قوى، فهم بعنوانهم طاقة اجتماعیة وثابة من جهة، وباعتبار أن مرحلة عدم نضوج التجربة لدیهم بسبب قصر العمر من جهة أخرى، وبسبب طهارة قلوبهم وصدق نفسیاتهم التی لم تلوثها الدنیا بعد من جهة ثالثة، جعلتهم مطمح النظر، وهذا ما یتبین فی الکثیر من سیرتهم صلوات الله علیهم، وکیف لا؟ وهم من رعوا أهم نماذج الشباب فی تأریخ الأمة، ومن یتأمل فی سیرة نماذج کعلی الأکبر أو القاسم بن الحسن علیهما السلام یجد أی نتاج لهذا المنهج، بل من یتأمل فی ظاهرة الإمامة الشابة والمتمثلة بغالبیة إمامة الإمامین الجواد والهادی صلوات الله علیهما، ومقدار من مرحلة إمامة الإمام المنتظر فی زمن الغیبة الصغرى، یجد فیما یجد أن الشارع المقدّس فی إیحاء هذا الأمر إنما أعطى الشباب زخم هائل کی یسیروا بهمة نحو المقامات المتقدمة فی قیادة الأمة، فهم یستطیعون إن أرادوا أن یقطعوا الأشواط فی هذا المجال أسرع من غیرهم، نتیجة لمزایاهم المعنویة والوجدانیة، ولو ضممت بمعیة ذلک أمثلة النبی إسماعیل ویوسف ویحیى وعیسى علیهم السلام أجمعین لوجدت مرکزیة خاصة للشباب فی الفکر التربوی الإسلامی.
وفیما طرح منهج أهل البیت علیهم السلام القیم العلیا والنظم التربویة ووضعها کمنهج لتربیة الشباب وإثراء عقولهم العملیة والعلمیة وتوجیههم باتجاه عدم الخضوع والإستسلام لإغراءات الدنیا ومخاوفها، وهی أحد أهم الوسائل التی تستخدمها الدیکتاتوریات المعلنة کنظام المجرم صدام أو غیر المعلنة المغلفة بأقنعة العلمانیة الغربیة وسائر أنظمة السوء، فإنه فی نفس الوقت لم یطرح منهجه بصورة معقّدة أو على شکل نظم تربویة لا یستفاد منها إلّا فی إطار النخبة الفکریة أو العلمیة بل جعله مبسّطاً جداً وفی متناول کل ید، بصورة لا یشعر قلیل الثقافة بأنه غریب علیه أو عصی على فهمه، وفی نفس الوقت یجد العالم الکبیر فیه زاده الذی لا غنى لعلمه عنه، فعلى سبیل المثال طرحت قضیة الإنتماء إلى المجتمع الصالح والإبتعاد عن مجتمع السوء بطرق مختلفة منها یتجلى بقوله علیه السلام فی زیارة الحسین علیه السلام: إنی سلم لمن سالمکم، وعدو لمن عاداکم، أو قوله: معکم معکم لا مع عدوکم، وهذا النص على صغره إلّا أنه ینطوی على بعد اجتماعی عمیق جداً، ولکنه حینما طرح بین یدی الناس طرح بشکل غیر معلن ضمن أبسط أسالیب التثقیف الشعبیة التی یمارسها عامة الناس بسلاسة، وترک الإسلام للزمن أن یتعمق الإنسان فی معانی ذلک وفی طرق تجسیده فی الواقع، وذلک بمعیة أسالیب کثیرة تعطی للإنسان دفقاً صغیراً ولکنه مستمر، وهذا المثال فی الوقت الذی نراه بسیطاً جداً إلّا أنه یخفی مئات الضوابط والالتزامات الاجتماعیة، ومع هذه الطریقة التی نجد فیها الإسلام یتواضع للشباب ویراعی نشاة عقولهم، إلّا أنه یترک الباب کبیراً جداً لهم لکی یتقدّموا باتجاه هذه الضوابط والمنظومات التی تتخفى فی عمق هذه الکلمات، ومن الواضح أن لدینا المئات من الأمثلة حول ذلک.
وما یمکننا أن نلخّصه فی هذا المجال أن أهل البیت علیهم السلام یستهدفون إثارة النوازع الإنسانیة الخیرة والراقیة فی داخل الإنسان، بغیة الحفاظ علیها أو إبرازها بشکل أکبر ضمن المنطق الذی یعبّر عنه الإمام أبو عبد الله الصادق علیه السلام بقوله: من استوى یوماه فهو مغبون، ومن کان آخر یومیه خیرهما فهو مغبوط، ومن کان آخر یومیه شرهما فهو ملعون، ومن لم یر الزیادة فی نفسه فهو إلى النقصان، ومن کان إلى النقصان فالموت خیر له من الحیاة.(معانی الأخبار: 342).
ویقابل هذا المنطق المنهج التربوی الذی تعتمده العلمانیة الغربیة والذی تغلفه بشعارات الحریة، ولا شک أن الحریة قیمة فضلى، ولکن الدعوة لها وفق المنطق الغربی یجعلها سلاح ذو حدین بل هی أقرب إلى تخریب النفس الإنسانیة منها إلى إثراء نوازع الکمال فیها، لأن الحریة حینما تکون متحللة من أی ضابطة اخلاقیة تحوّل الإنسان إلى آلة همها أن تأکل وتمارس البقاء دونما هدف حقیقی، فضلاً عن أن ترقى به إلى الأعلى، ولو نظرنا إلى حصاد الحضارة الغربیة المعاصرة لبرز جوهرها التخریبی للذات الإنسانیة، وخصوصاً للشباب الذین قد تستهویهم شعاراتها ومظاهرها، إذ أن توجیه الإنسان إلى ذاته بمعزل عن ربطه بالوجود الکونی وفلسفة وجوده فی هذه الحیاة یجعله فی همّ دائم لإرواء الذات حتى ولو على حساب غیره، مما یجعل هذا الشاب أسیراً لظروف مراهقته وما تملیه هذه الظروف من استحقاقات هی الأخطر على تکوینه التربوی لأنها هی التی یفتتح بها ممارسته الحیاتیة والاجتماعیة، مما یجعله یتجه إلى الجانب السفلی فی هذه الذات لأن الغریزة الجنسیة تلح علیه والإثارة العملیة متوافرة بشکل کبیر، وسجیة الثراء تضغط علیه فی بیئة اقتصادیة غایة فی القسوة والجفاء، ودوافعه نحو القیم الفاضلة تخمد لدیه فی مقابل نزوع سریع باتجاه القیم الدنیئة، وإقباله نحو الذات تقتل فیه روح المسؤولیة تجاه المجتمع وتدفعه إلى التحلل من أی شیء، وغیر ذلک کثیر، فهو حر والآخر حر، والثقافة العامة تثری الصراع بینهما، فأی نتیجة سنخرج بها؟ لعل التعرف على معدلات الجریمة الجنائیة وحدها کاف لرسم صورة المشهد، والمشلکة أنه لا یوجد أی ضبط تربوی باتجاه الفعل الاجتماعی اللهم إلا بمقدار ما یحتاجونه فی العمل، مما یجعل الرأسمالی هو المستفید دوماً من هذا الإنسان، ولکنه بلا أدنى مسؤولیة تجاهه لو انه لم یجد وسیلة عیشه الکریمة، ومسیرة 3 قرون أظهرت قدرة هذا المنهج على احتقار الذات الإنسانیة بل وامتهانها وتأمل بسیط فی غارة الأوربیین على بلدان العالم واستباحتهم بأبشع صور الإستباحة وتحویلهم إلى عبید کما حصل فی أفریقیا أو إلى عمّال سخرة یلهثون وراء فتات الثروة المنهوبة منهم، وما آل إلیه الحال من تکالب على الثروة مما حدا بهم إلى خوض واحدة من أقذر الجرائم قباحة فی التاریخ الإنسانی والمتمثلة بحربین عالمیتین ضروس اجتاحت الملایین فی النصف الأول من القرن الماضی.
من الواضح أن المنهج العلمانی المعاصر یتصارع منذ أکثر من قرن ونصف على شباب الامة کی یجتذب أنفسهم إلى مظاهر الحیاة الغربیة (کالجنس والرقص والغناء وتعاطی المواد الروحیة والتحلل من الضوابط الأخلاقیة والجنس ورفض القیم العلیا فی مقابل الإهتمام بالقیم الصغیرة) ویبعدهم عن دینهم وأمتهم، لأنهم هم من سیکون فی الغد قادة هذه الشعوب، فإن کانوا متحللین أمکن الغرب العلمانی من أن یبقی هذه الشعوب تحت رحمته، لأن التحلل الأخلاقی لن یجعلهم یصمدون أمام الإغراءات الکبرى التی تقدم أثناء بیع الشعوب، کما ولا یمکنهم من الثبات أمام المخاطر التی تعترض حریة هذه الشعوب واستقلالها عن ربقة الغرب العلمانی.
إلّا أن منهج الإسلام وأهل البیت علیهم السلام فی تربیة الشباب، بمقدار ما تحقق منه، وبما جادت ظروف الضغط العلمانی من أن تفسح المجال لبعض تطبیقات هذا المنهج، یبثّ فی الشباب روح الممانعة والمقاومة لکل المحاولات التی ترمی لمسخ هویتهم الثقافیة والحضاریة، ویمنعهم من الإنهیار الأخلاقی أمام زخارف الغرب، ویبصّرهم بواقع النهضة الذی یجب أن یکونوا علیه، ومن نعم الله أن شبابنا بدأ یستجیب بعد أن انفضحت أسالیب الإستکبار وبدأ الوعی یتخذ أشکالاً متقدمة تارة عبر الصحوة الإسلامیة وأخرى عبر ما یسمى الآن بالربیع العربی.
وتمثل القضیة المهدویة أحد المحاور الأساسیة فی هذا المنهج، لأنها من جهة تثیر الأمل العظیم بالمستقبل، ومن أولى بالشباب من المستقبل، خاصة وأن هذه القضیة رهنت رکناً أساسیاً من أرکانها معلّق بحرکة التغییر فی داخل الأمة من أجل إیجاد الناصر، وإلا فإن الإمام صلوات الله علیه ما غاب لأنه محب للغیبة ولکن قلة الناصر هی التی حالت دون النهوض بمشروعه الحضاری کل هذا الوقت، ولک أن تتأمل حینما یعی الشباب أن غیبة إمامهم بأبی وأمی مرهونة بطبیعة تغییرهم لأنفسهم ومجتمعهم، عند ذلک لن تجد هؤلاء مکتوفی الأیدی أو یرهنون أنفسهم إلى الهموم الصغیرة التی تلقیها أمامهم الحضارة العلمانیة، بل سیتطلعون لما هو أکبر وأعظم، ولئن رأیت کیف أن شباب الأمة فی زمن الأنظمة القمعیة قاومت هذه الأنظمة وتحملت کل حالات القمع، ومن ثم قنعت بالشهادة بل أقبلت علیها، لأنها لم ترهن أنفسها لهذه الهموم بعد ان تطلعت إلى مهمتها الکبرى المتمثلة بالتمهید للظهور المهدوی الشریف، ولعل نماذج کنماذج المقاومة الإسلامیة فی عهد الطاغیة المجرم صدام وفی مواجهة الإرهاب التکفیری والبعثی، أو المقاومة الإسلامیة فی لبنان ضد الصهاینة او المقاومة الإسلامیة فی إیران ضد الإستکبار بکل شروره کافیة لتبیّن لنا أی دور عظیم لعبه الشباب حینما یتسلح بسلاح هذه العقیدة المبارکة.
إن إطلالة سریعة على النتاج المهدوی فی المستقبل یعطینا صورة على طبیعة الدور الذی یجب أن یتهیأ شبابنا له، فالإمام صلوات الله علیه سیقیم دولة العدل الإلهیة وسیسیطر على کل العالم ویُنهی سلطان الجور والظلم الذی یسیطر على العالم، ولن یحصل ذلک بمعجزة، وإنما یحصل ضمن الظروف الطبیعیة لعملیات التغییر الاجتماعی الکبرى، وهذه العملیة حتى تتم لا بد وأن تکون هناک قاعدة صالحة تحتضن المشروع المهدوی وتلبی له مشاریعه الحضاریة وبرامجه القیادیة وتلتزم بطاعته، وقد قدّر للعراق فی نفس الوقت أن یکون عاصمة العالم باعتبار أن عاصمة الإمام أرواحنا له الفدا ستکون النجف الأشرف، مما یعنی أن الشباب العراقی على وجه الخصوص سیکون صاحب النصیب الکبیر فی التوفیق للنصرة، ولا أتحدث هنا عن حس وطنی، بل حدیثی عن استحقاقات الإقامة فی مکان کالعراق وأسباب إنتخابه الإمام صلوات الله علیه، وما کان ذلک لیکون لولا خصائص اعتنى بها الأئمة علیهم السلام والتزم بها شبابنا جیلاً من بعد جیل، وقد أرتنا المسیرة الأربعینیة التی تتمیز بأن غالبها الأعظم هم من هؤلاء الورود، کیف یمکن للشباب أن یصنعوا عز المذهب وفخر المعتقد ویقرّوا عین إمامهم روحی فداه.
وکما تعلمون فإن النصرة لا تتهیأ إلّا من خلال تعبئة شاملة لکل القدرات والإمکانات التی تستلزمها معارک شرسة واستحقاقات ضخمة، خصوصاً وأن فترة ما قبل الظهور الشریف ستشهد الهجوم السفیانی على العراق مما یضاعف مسؤولیة الشباب وغیرهم لمواجهة استحقاقات تلک المرحلة ولکی یرتقوا لمصاف الحاملین أعباء القضایا الکبرى والحاسمة للأمة، خصوصاً بعد أن أرتهم الدنیا کیف غدرت بهم السیاسة، وکیف سقطت بأعینهم أکاذیب الإستکبار، وما أحسوا لأئمتهم صلوات الله علیهم إلّا کل رحمة ومحبة لهم، ولو تأملت فی ظاهرة الکرامات التی یرزق بها الناس نتیجة للإرتباط بأهل العصمة والطهارة علیهم السلام، والتی نسمع بها ونشاهده آلاف النماذج منها عن کثب لوجدت أن الأئمة فی غیبتهم الحاضرة کلهم رحمة ومحبة، فما بالک لو حضر قائمهم صلوات الله علیه؟
أعتقد أن شبابنا ومن خلال ما تحقق طوال هذه الفترة قد تقدموا بشکل کبیر باتجاه حمل الأمانة، برغم ما نراه من انحرافات هنا وهناک، وبالرغم من شذوذ البعض غافلاً عن هذا الطریق إلا أننا یجب ان لا نغفل أن القطاع الأکبر منهم توّاق لتجسید ولائه لأهل البیت علیهم السلام ولإمامنا المنتظر روحی فداه، غایة ما هنالک أن سبل التوعیة لا زالت دون المستوى المطلوب الذی یتناسب وطبیعة الغزو الثقافی والفکری الذی تعمل علیه مئات الفضائیات ضد شبابنا وأمتنا، بالرغم أننا نمتلک الیوم الفضائیات، والمنبر بکل أصنافه یعیش حالة حریة فریدة فی التاریخ الشیعی إلّا أن من الواضح أن بعض المبلّغین لم یرتقوا إلى المستوى الذی یجب علیه أن یصل إلیه.
source : rasekhoon