قال الله سبحانه وتعالى « یَا أَیُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّکَ کَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّکَ کَدْحًا فَمُلَاقِیهِ » (1) هذه الآیة الکریمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفا أعلى للانسان والانسان هنا بمعنى الانسانیة ککل ، فالانسانیة بمجموعها تکدح نحو الله سبحانه وتعالى والکدح هنا کدح الانسانیة ککل ، نحو الله سبحانه وتعالى ، یعنی السیر المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة ، لان هذا السیر لیس سیرا اعتیادیا ، بل هو سیر ارتقائی ، هو تصاعد وتکامل ، هو سیر تسلق ، فهؤلاء الذین یتسلقون الجبال لیصلوا الى القمم یکدحون نحو هذه القمم ، یسیرون سیر معاناة وجهد . کذلک الانسانیة حینما تکدح نحو الله فانما هی تتسلق الى قمم کمالها وتکاملها وتطورها الى الافضل باستمرار . وهذا السیر الذی یحتوی على المعاناة باستمرار یفترض طریقا لا محالة فان السیر نحو هدف یفترض حتما طریقا ممتدا بین السائر وبین ذلک الهدف . وهذا الطریق هو الذی تحدثت عنه الآیات الکریمة فی المواضع المتفرقة تحت اسم سبیل الله واسم الصراط واسم صراط الله هذه الصیغ القرآنیة المتعددة کلها تتحدث عن الطریق الذی یفترضه ذلک السیر وکما أن السیر یفترض الطریق ، کذلک الطریق یفترض السیر أیضا وهذه الآیة الکریمة « یا أیها الانسان انک کادح الى ربک کدحا فملاقیه » تتحدث عن حقیقة قائمة ، عن واقع موضوعی ثابت . فهی لیست بصدد دعوة الناس الى أن یسیروا فی طریق الله سبحانه وتعالى ، لیست بصدد الطلب والتحریک ، فما هو الحال فی آیات أخرى فی مقامات وسیاقات قرآنیة أخرى .
الآیة القرآنیة الکریمة لا تقول یا أیها الناس تعالوا الى سبیل الله ، توبوا الى الله ، بل تقول « یا أیها الانسان انک کادح الى ربک کدحا فملاقیه » ، لغة الآیة لغة التحدث عن واقع ثابت وحقیقة قائمة وهی أن کل سیر وکل تقدم للانسان فی مسیرته التاریخیة الطویلة الامد ، فهو تقدم نحو الله سبحانه وتعالى وسیر نحو الله سبحانه وتعالى حتى تلک الجماعات التی تمسکت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت ان تحقق لها سیرا ضمن خطوة على هذا الطریق الطویل ، حتى هذه الجماعات التی یسمیها القرآن بالمشرکین هم یسیرون هذه الخطوة نحو الله ، هذا التقدم بقدر فاعلیته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى ، لکن هناک فرق بین تقدم مسؤول وتقدم غیر مسؤول ( على ما یأتی شرحه ان شاء الله ) ، حینما تتقدم الانسانیة فی هذا المفاض واعیة على المثل الاعلى وعیا موضوعیا یکون التقدم تقدما مسؤولا ، یکون عبادة بحسب لغة الفقه ، لونا من العبادة یکون له امتداد على الخط الطویل وانسجام مع الوضع العریض للکون ، وأما حینما یکون التقدم منفصلا عن الوعی على ذلک المثل فهو تقدم على أی حال ، سیر نحو الله على أی حال ، ولکنه تقدم غیر مسؤول على ما یأتی تفصیله .
اذن کان تقدم هو تقدم نحو الله ، حتى اولئک الذین رکضوا وراء سراب کما تحدثت الآیة الکریمة فان هؤلاء الذین یرکضون وراء السراب الاجتماعی ، وراء المثل المنخفضة ، حینما یصلوا الى هذا السراب لا یجدون شیئا ، ویجدون الله سبحانه وتعالى فیوفیهم حسابهم کما تتحدث الآیة الکریمة التی قرأناها فیما سبق ، والله سبحانه وتعالى هو نهایة هذا الطریق ولکنه لیس نهایة جغرافیة لیس نهایة على نمط النهایات الجغرافیة للطرق الممتدة مکانیا . کربلاء مثلا نهایة طریق ممتد بین النجف وکربلاء ، کربلاء بمعناها المکانی نهایة جغرافیة ، ومعنى انها نهایة جغرافیة انها موجودة على آخر الطریق ، لیست موجدة على طول الطریق ، لو أن انسانا سار نحو کربلاء ووقف فی نصف الطریق لا یحصل على شیء من کربلاء ، لا یحصل على حفنة من تراب کربلاء اطلاقا ، لان کربلاء نهایة جغرافیة موجودة فی آخر الطریق ، ولکن الله سبحانه وتعالى لیس نهایة على نمط النهایات الجغرافیة ، الله سبحانه وتعالى هو المطلق ، هو المثل الاعلى ، أی المطلق الحقیقی العینی ، وبحکم کونه هو المطلق ، اذن هو موجود على طول الطریق أیضا ، لیس هناک فراغ منه ، لیس هناک انحسار عنه ، لیس هناک حد له ، الله سبحانه وتعالى هو نهایة الطریق ولکنه موجود أیضا على طول الطریق ، من وصل الى نصف الطریق ، من وصل الى سرابه ، فتوقف واکتشف انه سراب ، ماذا یجد ؟ ماذا وجد فی الآیة ؟.. وجد الله فوفاه الله حسابه لان المطلق موجود على طول الطریق وبقدر زخم الطریق وبقدر التقدم فی الطریق یجد الانسان مثله الاعلى ، یلقى الله سبحانه وتعالى اینما توقف بحجم سیره ، وبحجم تقدمه على هذا الطریق . وبحکم أن الله سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطریق ایضا لا ینتهی هذا الطریق طریق الانسان نحو الله هو اقتراب مستمر یقدر التقدم الحقیقی نحو الله ، ولکن هذا الاقتراب یبقى اقترابا نسبیا ، یبقى مجرد خطوات على الطریق من دون ان یجتاز هذا الطریق ، لان المحدود لا یصل الى المطلق ، الکائن المتناهی لا یمکن ان یصل الى اللامتناهی ، فالفسحة الممتدة بین الانسان وبین المثل الاعلى هنا فسحة لا متناهیة ، أی انه ترک له مجال الابداع الى اللانهایة ، مجال التطور التکاملی الى اللانهایة ، بأعتبار أن الطریق الممتد طریق لا نهائی . وهذا المثل الاعلى الحقیقی حینما تتبناه المسیرة الانسانیة وتوفق بین وعیها البشری والواقع الکونی الذی یفترض هذا المثل الاعلى حقیقة قائمة کما افترضته الآیة ، المسیرة الانسانیة حینما توفق بین وعیها على المسیرة وبین الواقع الکونی لهذه المسیرة ، بوصفها سائرة ومتجهة نحو الله سوف یحدث تغییر کیفی وکمی على هذه المسیرة ، هذه الحرکة سوف یحدث فیها تغییر کیفی وکمی ، أما التغیر الکمی على هذه الحرکة فهو باعتبار ما أشرنا الیه من أن الطریق حینما یکون طریقا الى المثل الاعلى الحق یکون طریقا غیر متناهی ، أی أن مجال التطور والابداع ، والنمو قائم ابدا ودائما ، مفتوح للانسان بأستمرار من دون توقف هذا المثل الاعلى حینما یتبنى سوف نمسح من الطریق کل الآلهة المزورة ، کل الاصنام وکل الاقزام المتصنمة على طریق الانسان التی تقف عقبة بین الانسان وبین وصوله الى الله سبحانه وتعالى ، ومن هنا کان دین التوحید صراعا مستمرا مع مختلف اشکال الالهة والمثل المنخفضة والتکراریة التی حاولت ان تتحد من کمیة الحرکة الى نقطة ثم تقول قف أیها الانسان . هذه الالهة التی ارادت أن توقف الانسان فی وسط الطریق ، وفی نقطة معینة کان دین التوحید على مر التاریخ هو حامل لواء المعرکة ضدها ، هذا المثل الاعلى اذن سوف یحدث تغییرا کمیا على الحرکة لانه یطلقها من عقالها ، یطلقها من هذه الحدود المصطنعة لکی تسیر بأستمرار وأما التغییر الکیفی الذی یحدثه المثل الاعلى على هذه المسیرة فهذا التغییر الکیفی هو اعطاء الحل الموضوعی الوحید للجدل الانسانی ، للتناقض الانسانی ، اعطاء الشعور بالمسؤولیة الموضوعیة لدى الانسان ، الانسان من خلال ایمانه بهذا المثل الاعلى ووعیه على طریق بحدوده الکونیة الواقعیة من خلال هذا الوعی ینشأ بصورة موضوعیة ، شعور معمق لدیه بالمسؤولیة تجاه هذا المثل الاعلى لاول مرة فی تاریخ المثل البشریة التی حرکت البشر على مر التاریخ ، لماذا ؟
لان هذا المثل الاعلى حقیقة وواقع عینی منفصل عن الانسان وبهذا یعطی للمسؤولیة شرطها المنطقی فان المسؤولیة الحقیقیة لا تقوم الا بین جهتین بین مسؤول ومسؤول لدیه . اذا لم تکن هناک جهة أعلى من هذا الکائن المسؤول واذا لم یکن هذا الکائن المسؤول مؤمنا بأنه بین یدیه جهة أعلى لا یمکن ان یکون شعوره بالمسؤولیة شعورا موضوعیا ، شعورا حقیقیا ، مثلا تلک المثل المنخفضة ، تلک الالهة ، تلک الاقزام المتعملقة على مر التاریخ ، على مر المسیرة البشریة هی فی الحقیقة لم تکن کما رأینا وکما حللنا الا افرازا بشریا ، الا انتاجا انسانیا ، یعنی انها جزء من الانسان جزء من کیان الانسان ، والانسان یمکن ان یستشعر بصورة موضوعیة حقیقة المسؤولیة تجاه ما یفرزه ، هو اتجاه ما یصنعه هو « ان هی الا أسماء سمیتموها » تلک المثل لا تصنع الشعور الموضوعی بالمسؤولیة ، نعم قد تصنع قوانین ، قد تصنع عادات ، قد تصنع اخلاق ، ولکنها کلها عطاء ظاهری ، وکلما وجد هذا الانسان مجالا للتحلل من هذه العادات ، ومن هذه الاخلاق ، ومن هذه القوانین فسوف یتحلل .
بینما المثل الاعلى لدین التوحید ، للانبیاء على مر التاریخ باعتباره واقعا عینیا منفصلا عن الانسان ، باعتباره جهة اعلى من الانسان لیست افرازا بشریا ، لیست انتاجا انسانیا ، اذن سوف یتوصل للشعور بالمسؤولیة ، شرطه الموضوعی فی المقام ، لماذا کان الانبیاء على مر التاریخ أصلاب الثوار على الساحة التاریخیة ، أنظف الثوار على الساحة التاریخیة ، لماذا کانوا على الساحة التاریخیة فوق کل مساومة ، فوق کل مهادنة ، فوق کل تململ یمنة او یسرة ، لماذا کانوا هکذا ، لماذا انهار کثیر من الثوار على مر التاریخ ولم یسمع أن نبیا من أنبیاء التوحید انهار أو تململ او أنحرف یمنة او یسرة عن الرسالة التی بیده وعن الکتاب الذی یحمله من السماء ، لان المثل الاعلى المنفصل عنه الذی فوقه هو الذی اعطاه نفحة موضوعیة من الشعور بالمسؤولیة وهذا الشعور بالمسؤولیة تجسد فی کل کیانه فی کل مشاعره وافکاره وعواطفه ، ومن هنا کان النبی معصوما على مر التاریخ ، اذن هذا المثل الاعلى بحسب الحقیقة یحدث تغییرا کیفیا على المسیرة لانه یعطی الشعور بالمسؤولیة ، وهذا الشعور بالمسؤولیة لیس أمرا عرضیا ، لیس امرا ثانویا فی مسیرة الانسان ، بل هو شرط أساسی فی امکان انجاح هذه المسیرة وتقدیم الحل الموضوعی للتناقض الانسانی للجدل الانسانی ، لان الانسان یعیش تناقضا بحسب ترکیبه وخلقته ، لانه هو ترکیب من حفنة من تراب ونفخة من روح الله سبحانه وتعالى کما وصفت ذلک الآیات الکریمة .
الآیات الکریمة قالت بان الانسان خلق من تراب ، وقالت بانه نفخ فیه من روحه سبحانه وتعالى ، اذا فهو مجموع نقیضین اجتمعا والتحما فی الانسان ، حفنة التراب تجره الى الارض ، تجره الى الشهوات الى المیول ، تجره الى کل ما ترمز الیه الارض من انحدار وانحطاط وروح الله سبحانه وتعالى التی نفخها فیها تجره الى أعلى تتسامى بانسانیته الى حیث صفات الله ، الى حیث اخلاق الله ، تتخلق باخلاق الله ، الى حیث العلم الذی لا حد له والقدرة التی لا حد لها ، الى حیث العدل الذی لا حد له ، الى حیث الجود والرحمة والانتقام ، الى حیث هذه الاخلاق الالهیة ، هذا الانسان واقع فی تیار هذا التناقض ، فی تیار هذا الجدل بحسب محتواه النفسی ، بحسب ترکیبه الداخلی ، هذا الجدل وهذا التناقض الذی احتوته طبیعة الانسان وشرحته قصة آدم على ما یأتی انشاء الله تعالى ، هذا الجدل الانسانی له حل واحد فقط ، هذا الحل الواحد الذی یمکن ان یفرض لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولیة لا الشعور المنبثق عن هذا الجدل فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا یحل هذا الجدل بل هو یساهم فی افراز هذا التناقض وهذا الشعور الموضوعی بالمسؤولیة لا یکفله الا المثل الاعلى الذی یکون جهة علیا ، یحس الانسان من خلالها بانه بین یدی رب قادر سمیع بصیر محاسب مجاز على الظلم ، مجاز على العدل . اذن هذا الشعور الموضوعی بالمسؤولیة الذی هو التغیر الکیفی على المسیرة هو فی الحقیقة الحل الوحید للتناقض وللجدل الذی تستبطنه طبیعة الانسان وترکیب الانسان . دور دین التوحید اذن هو عبارة عن تعبید هذا الطریق الطویل الطویل ، تعبیده وازالة العوائق من خلال تنمیة الحرکة کمیا وکیفیا ومحاربة تلک المثل المصطنعة والمنخفضة والتکراریة التی ترید ان تجمد الحرکة من ناحیة وأن تعریها من الشعور بالمسؤولیة من ناحیة اخرى ، ومن هنا کان حرب الانبیاء کما أشرنا کان حرب الانبیاء مع الالهة المصطنعة على مر التاریخ ، ولما کان کل مثل من هذه المثل العلیا التی تتحول الى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشکل الذی شرحناه فیما سبق ، حینما تتحول الى تمثال نجد فی مجموعة من الناس ، تجد فیهم مدافعین طبیعیین عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم وترفهم وکیانهم المادی والدنیوی ببقاء هذا المثال الذی تحول الى تمثال ولهذا یقف دائما هؤلاء الذین یرتبطون مصلحیا بهذا التمثال ، یقفون دائما فی وجهه الانبیاء لیدافعوا عن مصالحهم ، عن دنیاهم ، عن ترفهم ، ومن هنا ابرز القرآن الکریم سنة من سنن التاریخ وهی ان الانبیاء دائما کانوا یواجهون المترفین من مجتمعاتهم کقطب آخر من المعارضة مع هذا النبی لان هذا المترف المستفید من هذا المثال بعد ان تحول الى ذلک التمثال هذا المثال تحول الى تمثال فمن هو المستفید منه ؟ المستفید منه المترفون فی ذلک المجتمع ، المنعمون على حساب الناس الذین یجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم ، من هنا یکون من الطبیعی ان هؤلاء المترفین وهؤلاء المستفیدین تجدهم دائما فی الخط المعارض للانبیاء ، « وکذلک ما ارسلنا من قبلک فی قریة من نذیر الا قال مترفوها انا وجدنا اباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون » (2) ( وما ارسلنا فی قریة من نذیر الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به کافرون) (3)
( وقال الملأ من قومه الذین کفروا وکذبوا بلقاء الاخرة واترفناهم فی الحیاة الدنیا ما هذا الا بشر مثلکم یأکل مما تأکلون منه ویشرب مما تشربون ) (4) . اذن دین التوحید هو الذی یستأصل مصالح هؤلاء المترفین بالقضاء على الهتهم وعلى مثلهم التی تحولت الى تماثیل ، یقطع صلة البشریة بهذه المثل العلیا المنخفضة ولکنه لا یقطع صلتها بهذه المثل العلیا المنخفضة لکی یطأ برأسها فی التراب ، لکی یحولها الى کومة مادیة لیس لها اشواق لیس لها طموحات لیس لها تطلعات الى اعلى کما هو شأن الثوار المادیین الذین یستلهمون من المادیة التأریخیة ومن الفهم المادی للتاریخ ، اولئک ایضا یحاربون هذه الالهة المصطنعة ویسمونها أفیون الشعوب ونحن ایضا نحارب هذه الالهة المصطنعة ولکننا نحن نحاربها لا لکی نحول الانسان الى حیوان ، لا لکی نقطع صلة الانسان بأشواقه العلیا ، لا لکی نحول مسار الانسان من اعلى الى أسفل وانما نقطع صلة الانسان بهذه المثل المنخفضة لکی نشده الى المثل الاعلى لکی نشده الى الله سبحانه وتعالى وتبنی المسیرة البشریة لهذا المثل الاعلى الحق الذی یحدث هذه التغیرات الکیفیة والکمیة على اتجاه المسیرة وحجمها ، تبنی المسیرة البشریة لهذا المثل یتوقف على عدة أمور :
1 ـ على رؤیة واضحة فکریا وایدیولوجیا لهذا المثل الاعلى وهذه الرؤیة الواضحة لهذا المثل الاعلى هو الذی تقدمه عقیدة التوحید على مر التاریخ ، عقیدة التوحید التی تنطوی على الایمان بالله سبحانه وتعالى ، التی توحد بین کل المثل ، بین کل الغایات وکل الطموحات وکل التطلعات البشریة وتوحد بینها فی هذا المثل الاعلى الذی هو علم کله وقدرة کله وعدل کله وروحمة ، کله انتقام من الجبارین . هذا المثل الاعلى الذی تتوحد فیه کل الطموحات وکل الغایات ، هذا المثل الاعلى تعطینا عقیدة التوحید رؤیة واضحة له ، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات الله واخلاق الله بوصفها حقائق عینیة منفصلة عنا کما یتعامل فلاسفة الاغریق وانما نتعامل مع هذه الصفات والاخلاق بوصفها رائدا عملیا ، بوصفها هدفا لمسیرتنا العملیة ، بوصفها مؤشرات على الطریق الطویل للانسان نحو الله سبحانه وتعالى . عقیدة التوحید هی التی توفر هذا الشرط الاول وهو الرؤیة الواضحة فکریا وایدیولوجیا للمثل اعلى .
2 ـ لابدّ من طاقة روحیة مستمدة من هذا المثل الاعلى لکی تکون هذه الطاقة الروحیة رصیدا ووقودا مستمرا للارادة البشریة على مر التاریخ ، هذه الطاقة الروحیة ، هذا الوقود الذی یستمد من الله سبحانه وتعالى یتمثل فی عقیدة یوم القیامة ، فی عقیدة الحشر والامتداد ، عقیدة یوم القیامة تعلم الانسان ان هذه الساحة التاریخیة الصغیرة التی یلعب علیها الانسان مرتبطة ارتباطا وثیقا بساحات برزخیة وبساحات حشریة فی عالم البرزخ والحشر . وان مصیر الانسان على تلک الساحات العظیمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاریخیة . هذه العقیدة تعطی تلک الطاقة الروحیة وذلک الوقود الربانی الذی ینعش ارادة الانسان ویحقق له دائما قدرته على التمدید والاستمرار .
3 ـ ان هذا المثل الاعلى الذی تحدثنا عنه یختلف عن المثل العلیا الاخرى التکراریة والمنخفضة التی تحدثنا عنها سابقا على اساس ان هذا المثل منفصل عن الانسان ، لیس جزءا من الانسان ، لیس من افراز الانسان ، بل هو منفصل عنه ، هو واقع عینی قائم هناک ، قائم فی کل مکان ولیس جزءا من الانسان ، هذا الانفصال یفرض وجود صلة موضوعیة بین الانسان وهذا المثل الاعلى . بینما المثل الاخرى السابقة کانت انسانیة ، کانت افرازا بشریا لاحاجة الى افتراض صلة موضوعیة ، نعم هناک طواغیت وفراعنة على مر التاریخ نصبوا من انفسهم صلات موضوعیة بین البشریة وبین آلهة الشمس ، آلهة الکواکب ولکنها صلة موضوعیة مزیفة لان هذا الاله هناک کان وهما ، کان وجودا ذهنیا ، کان افرازا انسانیا ، اما هنا المثل الاعلى منفصل عن الانسان ولهذا کان لابدّ من صلة موضوعیة تربط هذا الانسان بذلک المثل الاعلى . وهذه الصلة الموضوعیة تتجسد فی النبی فی دور النبوة ، فالنبی هو ذلک الانسان الذی یرکب بین الشرط الاول والشرط الثانی بأمر الله سبحانه وتعالى ، بین رؤیة ایدیولوجیة واضحة للمثل الاعلى وطاقة روحیة مستمدة من الایمان بیوم القیامة ، یرکب بین هذین العنصرین ثم یجسد بدور النبوة . الصلة بین المثل الاعلى والبشریة هذا المرکب الى البشریة بشیرا ونذیرا .
4 ـ البشریة بعد ان تدخل مرحلة یسمیها القرآن مرحلة الاختلاف على ما یأتی ان شاء الله شرحه فی الدروس القادمة سوف لن یکفی مجیء البشیر النذیر
لان مرحلة الاختلاف تعنی مرحلة انتصاب تلک المثل المنخفضة او التکراریة ، تعنی وجود تلک الالهة المزورة على الطریق ، وجود تلک الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى ، اذن لابدّ للبشریة من ان تخوض معرکة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلک الطواغیت والمثل المنخفضة التی تنصب من نفسها قیما على البشریة وحاجب وقاطع طریق بالنسبة للمسیرة التاریخیة ، لابدّ من معرکة ضد هذه الآلهة ، لابدّ من قیادة تتبنى هذه المعرکة وهذه القیادة هی الامامة ، هی دور الامام ، الامام هو القائد الذی یتولى هذه المعرکة . ودور الامامة یندمج مع دور النبوة فی مرحلة من مراحل النبوة یتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها انشاء الله تعالى ونقول بانها بدأت فی أکبر الظن مع نوح علیه الصلاة والسلام . ودور الامام یندمج مع دور النبوة ولکنه یمتد حتى بعد النبی اذا ترک النبی الساحة وبعد لاتزال المعرکة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة الى مواصلة هذه المعرکة من اجل القضاء على تلک الآلهة حینئذ یمتد دور الامامة بعد انتهاء النبی . هذا هو الشرط الرابع فی تبنی المسیرة التاریخیة لهذا المثل الاعلى ، على هذا الضوء سوف نکون رؤیة واضحة لما نسمیه الاصول الخمسة ، سوف تقع اصول الدین الخمسة فی موقعها الطبیعی الصحیح السلیم من مسار الانسان ، اصول الدین الخمسة . التوحید : هو الذی یعطی الرؤیة الواضحة فکریا وایدیولوجیا ، هو الذی یجمع ویعبئ کل الطموحات وکل الغایات فی مثل اعلى واحد وهو الله سبحانه وتعالى .
العدل : هو جانب من التوحید ولکن انما فصل العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى حال العدل ، حال العلیم ، حال القدرة ، لا یوجد میزة عقائدیة فی العدل فی مقابل العلم ، فی مقابل القدرة ولکن المیزة هنا میزة اجتماعیة ، میزة القدوة . لأن العدل هو الصفة التی تعطی للمسیرة الاجتماعیة وتغنیها والتی تکون المسیرة الاجتماعیة بحاجة الیها اکثر من أی صفة أخرى ، ابرز العدل هنا کأصل ثانی من اصول الدین باعتبار المدلول التوجهی ، باعتبار المدلول التربوی لهذه الصفة ، قلنا بان صفات الله واخلاق الله علمنا الاسلام بان لا نتعامل معها کحقائق عینیة میتافیزقیة فوقنا لا صلة لنا بها وإنما نتعامل معها کمؤشرات وکمنارات على الطریق اذن من هنا کان العدل له مدلوله الاکبر بالنسبة الى توجیه المسیرة البشریة ولاجل ذلک أفرز . وان العدل فی الحقیقة هو داخل فی اطار التوحید العام ، فی اطار المثل الاعلى .
الاصل الثالث النبوة : النبوة هی التی توفر الصلة الموضوعیة بین الانسان وبین المثل الاعلى . المسیرة البشریة کما قلنا حینما تبنت المثل الاعلى الحق المنفصل عنها الذی لیس من افرازها ومن انتاجها المنخفض کانت بحاجة الى صلة موضوعیة . هذه الصلة الموضوعیة یجسدها النبی (صلی الله علیه وآلهن وسلم)، النبی على مر التاریخ ، الانبیاء علیهم الصلاة والسلام هم الذین یجسدون هذه الصلة الموضوعیة .
الامامة : الامامة هی فی الحقیقة تلک القیادة التی تندمج مع دور النبوة ، النبی هو امام ایضا ، النبی نبی والنبی امام ولکن الامامة لا تنتهی بانتهاء النبی اذا کانت المعرکة قائمة واذا ما کانت الرسالة لا تزال بحاجة الى قائد یواصل المعرکة . اذن سوف یستمر هذا الجانب من دور النبی خلال الامامة . فالامامة هو الاصل الرابع من اصول الدین .
والاصل الخامس هو ایمان بیوم القیامة : هو الذی یوفر الشرط الثانی من الشروط الاربعة التی تقدمت ، هو الذین یعطی تلک الطاقة الروحیة ، ذلک الوقود الربانی الذی یجدد دائما ارادة الانسان وقدرة الانسان ویوفر الشعور بالمسؤولیة والضمانات الموضوعیة . اذن اصول الدین فی الحقیقة
وبالتعبیر التحلیلی على ضوء ما ذکرناه هی کلها عناصر تساهم فی ترکیب هذا المثل الاعلى وفی اعطاء تلک العلاقة الاجتماعیة بصفتها التاریخیة ، بصفتها القرآنیة الرباعیة التی تحدثنا عنها فی الدروس الماضیة ، تحدثنا بان القرآن الکریم طرح العلاقة الاجتماعیة ذات اربعة ابعاد لا ذات ثلاثة ابعاد ، طرحها بصیغة الاستخلاف وشرحنا فی ما سبق صیغة الاستخلاف وقلنا بان الاستخلاف یفترض اربعة ابعاد ، یفترض انسانا وطبیعة والله سبحانه وتعالى وهو المستخلف . هذه الصیغة الرباعیة للعلاقة الاجتماعیة هی التعبیر الاخر عن صیغة تدمج اصول الدین الخمسة فی مرکب واحد من اجل ان یسیر الانسان ویکدح نحو الله سبحانه وتعالى فی طریقه الطویل ، بما ذکرناه نوضح دور الانسان فی المسرة التاریخیة ، نوضح ان الانسان هو مرکز الثقل فی المسیرة التاریخیة . هو مرکز الثقل لا بجسمه الفیزیائی وانما بمحتواه الداخلی وهذا المحتوى الداخلی توضح ایضا من خلال ما شرحناه . ان الاساس فی بناء هذا المحتوى الداخلی هو المثل الاعلى الذی یتبناه الانسان ، لان المثل الاعلى هو الذی تنبثق منه کل الغایات التفصیلیة .
والغایات التفصیلیة هی المحرکات التاریخیة للنشاطات على الساحة التاریخیة . اذن المثل الاعلى وتبنی المثل الاعلى هو فی الحقیقة الاساس فی بناء المحتوى الداخلی للانسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع .
مقدمة فی تحلیل عناصر المجتمع ، ان المجتمع یتکون من ثلاثة عناصر وهی : الانسان والطبیعة والعلاقة فی الحلقة التاریخیة ، وقد تحدثنا عن الانسان ودوره الاساسی فی الحلقة التاریخیة وتحدثنا عن الطبیعة وشأنها على الساحة التاریخیة وبقی علینا ان نأخذ العنصر الثالث وهو : العلاقة الاجتماعیة لنحدد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعیة على ضوء ما انتهینا الیه من مواقف قرآنیة تجاه دور الانسان والطبیعة على الساحة التاریخیة ، العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعیة وقد تقدم ان العلاقة الاجتماعیة تتضمن علاقتین مزدوجتین احداهما علاقة الانسان مع الطبیعة والاخرى علاقة الانسان مع اخیه الانسان ، هذان خطّان من العلاقة الاجتماعیة ، وهذان الخطان نؤمن بان کل واحد منهما مختلف عن الاخر ومستقل استقلالا نسبیا عن الاخر مع شیء من التفاعل والتأثیر المتبادل المحدود الذی سوف نشرحه بعد ذلک ان شاء الله تعالى من حیث الاساس ، هذان الخطان احدهما مختلف عن الاخر ومستقل استقلالا نسبیا عنه تبعا للاختلاف النوعی فی طبیعة المشکلة التی یواجهها کل واحد من هذین الخطین ونوع الحل الذی ینسجم مع طبیعة تلک المشکلة . فالخط الاول الذی یمثل علاقات الانسان مع الطبیعة من خلال استثمارها ومحاولة تطویعها وانتاج حاجاته الحیاتیة منها . هذا الخط یواجه مشکلة وهی مشکلة التناقض بین الانسان والطبیعة ، ویعنی تمرد الطبیعة وتعصیها عن الاستجابة للطلب الانسانی وللحاجة الانسانیة من خلال التفاعل ما بینهما ، هذا التناقض بین الانسان والطبیعة هو المشکلة الرئیسیة على هذا الخط وهذا التناقض له حل من قانون موضوعی یمثل سنة من سنن التاریخ الثابتة ، وهذا القانون هو قانون التأثیر المتبادل بین الخبرة والممارسة ، ذلک لان الانسان کلما تضاءل جهله بالطبیعة وکلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانینها ازدادت سیطرة علیها وتمکنا من تطویعها وتذلیلها لحاجاته وحیث ان کل خبرة هی تتولد فی هذا الحقل عادة من الممارسة ، وکل ممارسة تولد بدورها خبرة ولهذا کان قانون التأثیر المتبادل بین الخبرة والممارسة قانونا موضوعیا یکفل حل هذا التناقض ، یقدم الحل المستمر والمتنامی لهذا التناقض بین الانسان والطبیعة . اذ یتضاءل جهل الانسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسته للطبیعة یکتسب خبرة جدیدة ، هذه الخبرة الجدیدة تعطیه سیطرة على میدان جدید من میادین الطبیعة فیمارس على المیدان الجدید وهذه الممارسة بدورها ایضا تتحول الى خبرة وهکذا تنمو الخبرة الانسانیة باستمرار ما لم تقع کارثة کبرى طبیعیة او بشریة ، وهذا القانون ینموه وبتطابیقاته التاریخیة یعطی الحلول التدریجیة لهذه المشکلة ، فهی مشکلة محلولة تاریخیا ومحلولة موضوعیا ولعل فی الآیة الکریمة «وآتاکم من کل ما سألتموه ، ان تعدوا نعمة الله لا تحصوها » (5) لعل فی الآیة الکریمة اشارة الى هذا الحل الموضوعی المستمد من قانون التأثیر المتبادل بین الخبرة والممارسة لان السؤال فی الآیة الکریمة « وآتاکم من کل ما سألتمون » لا یراد منه الدعاء طبعا السؤال اللفظی الذی هو الدعاء ، لان الآیة تتکلم عن الانسانیة ککل عمن یؤمن بالله ومن لا یؤمن بالله ، من یدعو الله ومن لا یدعو الله ، کما ان الدعاء لا یتضمن حتما تحصیل الشیء المدعو به ، نعم کل دعاء له استجابة ، لکن لیس لکل دعاء تحقیق لما تعلق به الدعاء ، بینما هنا یقول « وآتاکم من کل ما سألتموه » هنا ایتاء ، استجابة فعلیة بعطاء ما سؤل عنه ، فأکبر الظن ان هذا السؤال من الانسانیة ککل وعلى مر التاریخ وعبر الماضی والحاضر والمستقبل یتمثل فی السؤال الفعلی والطلب التکوینی الذی یحقق باستمرار التطبیقات التاریخیة لقانون التأثیر المتبادل بین الخبرة والممارسة ، هذه هی المشکلة التی یواجهها الخط الاول من العلاقات ، وهذا هو الحل الذی یوضع لهذه المشکلة . واما الخط الثانی من العلاقات علاقات الانسان مع اخیه الانسان فی مجال توزیع الثورة أو فی سائر الحقول الاجتماعیة أو فی أوجه التفاعل الحضاری بین الانسان واخیه الانسان ، فهذا الخط یواجه مشکلة أخرى ، لیست المشکلة هنا هی التناقض بین الانسان والطبیعة بل هی التناقض الاجتماعی بین الانسان واخیه الانسان . وهذا التناقض الاجتماعی بین الانسان واخیه الانسان یتخذ على الساحة الاجتماعیة صیغا متعددة والوانا مختلفة ولکنه یظل فی حقیقته وجوهره یظل شیئا ثابتا وحقیقة واحدة وروحا عامة وهی التناقض ما بین القوی والضعیف ، بین کائن فی مرکز القوة وکائن فی مرکز الضعف ، هذا الکائن الذی هو فی مرکز القوة اذا لم یکن قد حل تناقضه الخاص ، جدله الانسانی من الداخل فسوف یفرز لا محالة صیغة من صیغ التناقض الاجتماعی ومهما اختلفت الصیغة فی مضمونها القانونی وفی شکلها التشریعی وفی لونها الحضاری فهی بلا شک صیغة من صیغ التناقض بین القوی والضعیف . قد یکون هذا القوی فردا فرعونا ، قد یکون طبقة ، قد یکون شعبا ، قد یکون امة ، کل هذه الوان من التناقض کلها تحتوی روحا واحدا وهی روح الصراع ، روح الاستغلال من القوی الذی لم یحل تناقضه الداخلی وجدله الانسانی ، الصراع بینه وبین الضعیف ومحاولة استغلال هذا الضعیف . هذه اشکال متعددة من التناقض الاجتماعی الذی یواجهه خط العلاقات بین الانسان واخیه الانسان وهذه الاشکال المتعددة ذات الروح الواحدة کلها تنبع من معین واحد ، من تناقض رئیسی واحد ، وهو ذلک الجدل الانسانی الذی شرحناه القائم بین حفنة التراب وبین اشواق الله سبحانه وتعالى ، ما لم ینتصر أفضل النقیضین فی ذلک الجدل الانسانی فسوف یظل هذا الانسان یفرز التناقض تلو التناقض والصیغة بعد الصیغة حسب الظروف والملابسات ، حسب الشروط الموضوعیة ومستوى الفکر والثقافة ، اذن النظرة الاسلامیة من زاویة المشکلة التی یواجهها خط العلاقات بین الانسان واخیه الانسان . نظرة واسعة ، منفتحة ، معمقة ، لا تقتصر على لون من التناقض ، ولا تهمل ألوان أخرى من التناقض ، بل هی تستوعب کل أشکال التناقض على مر التاریخ وتنفذ الى عمقها وتکشف حقیقتها الواحدة ، وروحها المشترکة ثم تربط کل هذه التناقضات تربطها بالتناقض الاعمق ، بالجدل الانسانی ، ومن هنا یؤمن الاسلام بأن الرسالة الوحیدة القادرة على حل هذه المشکلة التی یواجهها خط علاقات الانسان مع الانسان هو تلک الرسالة التی تعمل على مستویین فی وقت واحد ، تعمل من أجل تصفیة التناقضات الاجتماعیة على الساحة لکن فی نفس الوقت وقبل ذلک وبعد ذلک تعمل من أجل تصفیة ذلک الجدل فی المحتوى الداخلی للانسان من أجل تجفیف منبع تلک التناقضات الاجتماعیة ، ویؤمن الاسلام بأن ترک ذلک المعین من الجدل والتناقض على حالة والاشتغال بتصفیة التناقضات على الساحة الاجتماعیة بصیغتها التشریعیة فقط هذا نصف العملیة ، النصف المبتور من العملیة اذ سرعان ما یفرز ذلک المعین صیغا أخرى وفق هذه العملیة التی سوف نستأصل بها الصیغ السابقة . فلا بد للرسالة التی ترید أن تضع الحل الموضوعی للمشکلة ان تعمل على کلا المستویین ، أن تؤمن بجاهدین ، جهاد اکبر سماه الاسلام « بالجهاد الاکبر » وهو الجهاد لتصفیة ذلک التناقض الرئیسی ، لحل ذلک الجدل الداخلی . وجهاد آخر ، جهاد فی وجه کل صیغ التناقض الاجتماعی وفی وجه کل الوان استئثار القوی للضعیف من دون ان نحصر أنفسنا فی نطاق صیغة معینة من صیغ هذا الاستئثار لان الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت صیغة . هذه هی النظرة المنفتحة الواقعیة التی اثبتت التجربة البشریة باستمرار انطباقها على واقع الحیاة خلافا للنظرة الضیقة التی فسرت بها المادیة والثوار المادیون التی فسروا بها التناقض . فان مارکس على الرغم من ذکائه الفائق الا انه لم یستطع ان یتجاوز حدود النظرة التقلیدیة للانسان الاوروبی ، کان بحکم کونه فردا أوروبیا ، کان رهین هذه النظرة التقلیدیة . الانسان الاوروبی دائما یرى العالم ینتهی حیث تنتهی الساحة الاوروبیة أو الساحة الغربیة بتعبیر أعم کما یعتقد الیهود بأن الانسانیة هی کلها فی اطارهم « لیس علینا فی الامیین من سبیل » أولئک لیسو بشرا ، لیسو أناسا ، أولئک أمیین ، همج ، کذلک الانسان الاوروبی اعتاد أن یضع الدنیا کلها فی اطار ساحته الاوروبیة والغربیة ، لم یتخلص هذا الرجل (6) من تقالید هذه النظرة الاوروبیة ، کما انه لم یتخلص من هیمنة العامل الطبقی الذی لعب دورا فی افکار المادیة التاریخیة ، ومن هنا جاء لنا بتفسیر محدود ضیق للتناقض الذی تواجهه الانسانیة على هذا الخط اعتقد بأن مرد کل التناقضات على الساحة البشریة الى تناقض واحد هو التناقض الطبقی ، التناقض بین طبقة تملک کل وسائل الانتاج أو معظم وسائل الانتاج وطبقة لا تملک شیئا من وسائل الانتاج وانما تعمل من أجل مصالح الطبقة الاولى تستثمر فی تشغیل وسائل الانتاج التی تملکها الطبقة الاولى ثم هذه الثروة المنتجة التی جسدت عرق جبین هذا العامل المستغل هذه الثورة المنتجة یستولی علیها الطبقة الاولى المالکة ولا یعطی للطبقة الثانیة منها الا الحد الادنى ، حد الکفاف الذی یضمن استمرار حیاة هذه الطبقة لکی تواصل خدمتها وممارستها ضمن اطار الطبقة الاولى ، هذا هو التناقض الطبقی الذی اتخذه قاعدة واساسا لکل ألوان التناقض الاخرى ، وهذا التناقض یتخذ مدلوله الاجتماعی من خلال صراع مریر بین الطبقة المالکة وما بین الطبقة العاملة ، وهذا الصراع المریر بین هاتین الطبقتین ینمو ویشتد کلما تطورت الآلة وکلما نمت الآلة الصناعیة وتعقدت وذلک لان الآلة کلما تطورت أدت الى تخفیض فی مستوى المعیشة وهذا التخفیض فی مستوى المعیشة یعطی فرصة للطبقة الرأسمالیة المالکة فی ان تخفض أجر العامل لانها لا ترید ان تعطی العامل أکثر مما یدیم به حیاته ونفسه . اذن باستمرار تتطور الآلة ، باستمرار تنخفض کلفة المعیشة وبأستمرار یخفض الرأسمالی أجرة العامل هذا من ناحیة ، من ناحیة ثانیة ان تطور الآلة وتعقدها یقتضی امکانیة التعویض عن العدد الکبیر من العمال بالعدد القلیل من العمال لان دقة الآلة وعملقة الآلة سوف یعوض عن الجزء الآخر من العمال وهذا یجعل الطبقة الرأسمالیة تطرد الفائض من العمال باستمرار وهکذا یشتد الصراع بین الطبقتین ویحتدم التناقض حتى ینفجر فی ثورة ، هذه الثورة تجسدها الطبقة العاملة تقضی بها على التناقض الطبقی فی المجتمع وتوحد المجتمع فی طبقة واحده وهذه الطبقة الواحدة تمثل حینئذ کل أفراد المجتمع وفی حالة من هذا القبیل سوف تستأصل کل ألوان التناقض لان أساس التناقض هو التناقض الطبقی ، فاذا أزیل التناقض الطبقی زالت کل التناقضات الاخرى الفرعیة والثانویة . هذا تلخیص سریع جدا لوجهة نظر هؤلاء الثوار تجاه التناقض الذی عالجناه . الا ان هذه النظرة الضیقة لا تنجسم فی الحقیقة مع الواقع ولا تنطبق على تیار الاحداث فی التاریخ لیس التناقض الطبقی ولیس تطور الآلة بل هو ولید الانسان ، هو من صنع الانسان الاوروبی ، لیست الآلة هی التی صنعت استغلال الرأسمالی للعامل ، لیست الآلة هی التی خلقت النظام الرأسمالی ، وانما الانسان الاوروبی الذی وقعت هذه الآلة بیده افرز نظاما رأسمالیا یجسد قیمه فی الحیاة وتصوراته للحیاة ، ولیس التناقض الطبقی هو الشکل الوحید من اشکال التناقض ، هناک صیغ کثیرة للتناقض على الساحة الاجتماعیة ، ولیس التناقض الطبقی هو التناقض الرئیسی بالنسبة الى تلک الاشکال وانما کل هذه الاشکال من التناقض على الساحة الاجتماعیة هی ولید تناقض رئیس وهو جدل الانسان ، هو الجدل المخبوء فی داخل محتوى الانسان ذاک هو التناقض الرئیس الذی یفرز دائما وأبدا صیغا متعددة من التناقض . تعالوا نلاحظ ونقارن بین هذه النظرة الضیقة وبین واقع التجربة البشریة المعاصرة لنرى أی النظریتین أکثر انطباقا على العالم الذی نعیشه ، ونرى ماذا کنا نتوقع ، ماذا کنا ننتظر لو کانت هذه النظرة وکان هذا التفسیر للتناقض ، لو کان صحیحا وواقعیا ، ماذا کنا ننتظر وماذا کنا نتوقع کنا ننتظر ونتوقع أن یزداد یوما بعد یوم التناقض الطبقی والصراع بین الطبقة الرأسمالیة والطبقة العاملة فی المجتمعات الاوروبیة الصناعیة التی تطورت فیها الآلة تطورا کبیرا . کان من المفروض أن هذه المجتمعات کانکلترا والولایات الامریکیة المتحدة وفرنسا وألمانیا أن یشتد فیها التناقض الطبقی والصراع یوما بعد یوم ویتزلزل النظام الرأسمالی المستغل ویتداعى یوما بعد یوم ، ویزداد الثراء على حساب هؤلاء العاملین فی طبقة الرأسمالیین المستغلین من الامریکان والانجلیز والفرنسیین وغیرهم ، کما نترقب حالة من هذا القبیل ، کنا نترقب أن تتضاعف النقمة ، أن یشتد ایمان العامل الاوروبی والعامل الامریکی بالثورة وبضورة الثورة وبأنها هی الطریق الوحید لتصفیة هذا التناقض الطبقی ، هذا ما کنا ننتظره لو صحت هذه الافکار عن تفسیر التناقض ، لکن ما وقع خارجا هو عکس ذلک تمام ، نرى وبکل أسف أن النظام الرأسمالی فی الدول الرأسمالیة المستغلة یزداد ترسخا یوما بعد یوم لا تبدو علیه بوادر الانهیار السریع ، تلک التمنیات الطیبة التی تمناها ثوارنا المادیون لانکلترا وللدول الاوروبیة المتقدمة صناعیا ، تمنوا لها الثورة فی أقرب وقت بحکم التطور الآلی والصناعی فیها ، تلک التمنیات الطیبة تحولت الى سراب ، بینما تحققت هذه النبوءات بالنسبة الى بلاد لم تعش تطورا آلیا بل لم تعیش تناقضا طبقیا بالمعنى المارکسی لانها لم تکن قد دخلت الباب العریض الواسع للتطور الصناعی من قبیل روسیا القیصریة والصین . من ناحیة اخرى هل ازداد العمال بؤسا وفقرا ، هل أزدادوا أستغلالا ؟ لا بالعکس العمال أزدادوا رخاءا ، ازدادوا سعة ، اصبحوا مدللین من قبل الطبقة الرأسمالیة المستغلة . العامل الامریکی یحصل على ما لا یطع به انسان آخر یعمل بکد بیمینة ویقطف ثمار عمله فی المجتمعات الاشتراکیة الاخرى ، هل ازدادت النقمة لدى الطبقة العاملة ؟ العکس هو الصحیح ، العمال والهیئات التی تمثل العمال فی الدول الرأسمالیة المستغلة تحولت بالتدریج أکثر هذه الهیئات تحولت الى هیئات ذات طابع شبه دیمقراطی ، تحولت الى اشخاص لهم حالة الاسترخاء السیاسی ، ترکوا هموم الثورة ، ترکوا منطق الثورة ، أصبحوا یتصافحون یدا بید مع تلک الایدی المستغلة ، مع أیدی الطبقة الرأسمالیة ، اصبحوا یرفعون شعار تحقیق حقوق العمال عن طریق النقابات وعن طریق البرلمانات وعن طریق الانتخابات ، هذه الحالة هی حالة الاسترخاء السیاسی ، کل هذا وقع فی هذه الفترة القصیرة من الزمن التی نحسها ، کیف وقع هذا کله ؟ هل کان مارکس سیء الظن الى هذه الدرجة بهؤلاء الرأسمالیین ، بهؤلاء المجرمین ، والمستغلین بحیث تنبأ بهذه النبوءات ثم ضاعت هذه النبوءات کلها فلم یتحقق شیء منها ؟ هل کان هذا سوء ظن من مارکس لهؤلاء المستغلین ؟ هل ان هؤلاء الرأسمالیین المستغلین دخل فی نفوسهم الرعب من مارکس ومن المارکسیة ومن الثورات التحرریة فی العالم ؟ هل دخل فی أنفسهم الرعب فحاولوا أن یتنازلوا عن جزء من مکاسبهم خوفا من أن یثور العامل علیهم ؟ هل هذا صحیح ، هل ان الملیونیر الامریکی یخالج ذهنه فعلا أی شبح من خوف من هذه الناحیة ، اشد الناس تفاؤلا بمصائر الثورة فی العالم لا یمکنه ان یفکر فی ان ثورة حقیقیة على الظلم فی امریکا یمکن ان تحدث قبل مئة سنة من هذا التاریخ . فکیف یمکن ان نفترض ان الملیونیر الامریکی أصبح أمامه شبح الخوف والرعب على اساس هذا الشبح تنازل عن جزء من مکاسبه . هل انه دخلت الى قلوبهم التقوى فجأة ؟ استنارت قلوبهم بنور الاسلام الذی أنار قلوب المسلمین الاوائل الذین کانوا لا یعرفون حدا للمشارکة والمواساة والذین کانوا یشاطرون اخوانهم غنائمهم وسرائهم وضرائهم ، هل تحول هؤلاء بین عشیة وضحاها الى مسلمین ، الى قلوب مسلمة ؟ لا .. لم یتحقق شیء من ذلک ، لا کارل مارکس کان سیء الظن بهؤلاء ، کان ظنه منطبقا على هؤلاء انطباقا تاما . ولا أن هؤلاء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من أجل اسکاته ولا ان قلوبهم خفقت بالتقوى لم تعرف التقوى ولن تعرف التقوى لانها انغمست فی لذات المال وفی الشهوات ، لم یتحقق شیء من ذلک ، اذن ماذا وقع وکیف نفسر هذا الذی وقع ، هذا الذی وقع فی الحقیقة کان نتیجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقی منذ البدایة ولکن مارکس والثوار الذین ساروا على هذا الطریق ، لم یستطیعوا أن یکتشفوا ذلک التناقض ولهذا حصروا أنفسهم فی التناقض الطبقی فی التناقض بین الملیونیر الامریکی والعامل الامریکی ، بین الغنی الانجلیزی ولم یدخلوا فی الحساب التناقض الاخر الاکبر الذی أفرزه جدل الانسان الاوروبی ، افرزه تناقض الانسان الاوروبی فغطى على هذا التناقض الطبقی ، بل جنده ، بل أوقفه الى فترة طویلة من الزمن ، ما هو ذلک التناقض ؟ نحن بنظرتنا المنفتحة یمکننا أن نبصر ذلک التناقض ، أن نضع أصبعنا على ذلک التناقض لاننا لم نحصر انفسنا فی اطار التناقض الطبقی ، بل قلنا أن جدل الانسان دائما یفرز أی شکل من أشکال التناقض الاجتماعی ، ذلک التناقض الآخر وجد فیه الرأسمالی المستغل الاوروبی والامریکی وجد فیه أن من طبیعة هذا التناقض ان یتحالف مع العامل ، مع من یستغله لکی یشکل هو والعامل قطبا فی هذا التناقض ! لم یعد التناقض تناقضا بین الغنی الاوروبی والعامل الاوروبی بل ان هذین الوجودین الطبقیین تحالفا معا وکونا قطبا فی تناقض اکبر بدأ تاریخیا منذ بدأ ذلک التناقض الذی تحدث عنه مارکس ، لکن ما هو القطب الاخر فی هذا التناقض . القطب الاخر فی هذا التناقض هو أنا وأنت وأنت هم الشعوب الفقیرة فی العالم هو شعوب ما یسمى بـ « العالم الثالث » ، هم شعوب آسیا وأفریقیا وامریکا اللاتینیة ، هذه الشعوب هی التی تمثل القطب الثانی فی هذا التناقض ، ان الانسان الاوروبی بکلا وجودیه الطبقیین تحالف وتمحور من أجل أن یمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقیرة ، وقد انعکس هذا التناقض الاکبر ، انعکس أجتماعیا من خلال صیغ الاستعمار المختلفة التی زخرت بها الساحة التاریخیة منذ خرج الانسان الاوروبی والامریکی من دیاره لیفتش عن کنوز الارض فی مختلف أرجاء العالم ولینهب الاموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقیرة ، هذا التناقض غطى على التناقض الطبقی ، بل جعل التناقض الطبقی لان جدل الانسان من وراء هذا التناقض کان أقوى من جدل الانسان من وراء ذلک التناقض . والثراء الهائل الذی تکدس فی أیدی الطبقة الرأسمالیة فی الدول الرأسمالیة لم یکن کله ، بل ولا معظمه نتاج عرق جبین العامل الاوروبی والامریکی ، وانما کان نتاج غنائم حرب ، کان نتائج غنائم غارات ، غارات على هذه البلاد الفقیرة على بلاد أخرى استطاع الانسان الابیض ان یغزوها وان ینهبها ، هذا النعیم الذی تغرق فیه تلک الدول لیس من عرق جبین العامل الاوروبی ، لیس من نتاج التناقض الطبقی بین الرأسمالی والعامل وانما هذا النعیم هو من نفط آسیا وامریکا اللاتینیة ، هو من ألماس تنزانیا ، هو من الحدید والرصاص والنحاس والیوارنیوم فی مختلف بلاد أفریقیا ، هو من قطن مصر ، هو من تنباک لبنان ، هو من خمر الجزائر ! نم من خمر الجزائر لان الکافر المستعمر الذی استعمر الجزائر حول أرضها کلها الى بستان عنب لکی یقطف هذا العنب ویحوله الى خمر لیسکر به العمال ، ولیشعر اولئک العمال بالنشوة والخیلاء ، لانهم یشربون خمر الجزائر ، یقطفون عنب الجزائر فیحولونه الى خمر ! نعم ذلک النعیم ، لکن من هذه المصادر ، من هذه الینابیع ! سکروا على خمر الجزائر ولم یسکروا على عرق جبین العامل الفرنسی أو الاوروبی أو الامریکی . اذن التناقض الذی جمد ذلک التناقض والذی وقف ذلک التناقض هو هذا التناقض الاکبر التناقض بین المحور الراسمالی ککل بکلتا طبقتیه وما بین الشعوب الفقیرة فی العالم . من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالی الاوروبی والامریکی أن من مصلحته أن یقاسم العامل شیئا من هذه الغنائم التی نهبها منی ومنک التی نهبها من فقراء الارض والمستضعفین فی الارض وان من مصلحته أن یعطی نعمة منها ، ان یسکر هو ویسکر العمال ایضا بخمر الجزائر ، ان یتزین بماس تنزانیا ویتزین العامل أو زوجته بماسة من ماسات تنزانیا ولهذا نرى أن العامل بدأت حیاته تختلف عن نبوءات مارکس . لیس ذلک لاجل کرم طبیعی فی الراسمالی الاوروبی والامریکی ولیس لتقوى ، وانما هی غنیمة کبیرة کان من المفروض أن یعطی جزءا منها لهذا العامل والجزء وحده یکفی لاجل تحقیق هذا الرفاه بالنسبة الى هذا العامل الاوروبی والامریکی . اذن الحقیقة التی یثبتها التاریخ دائما هو ان التناقض لا یمکن حصره فی صیغة واحده ، التناقض له صیغ متعددة وذلک لان کل هذه الصیغ تنبع من منبع واحد وهو التناقض الرئیسی ، الجدل الانسانی والجدل الانسانی لا تعوزه صیغة . اذا حلت صیغة وضع صیغة أخرى مکانها لیس من الصحیح ان نطوق کل التناقضات فی التنااقض الطبقی ، فی التناقض بین من یملک ومن لا یملک ، فاذا حللنا هذا التناقض قلنا بأن التناقضات کلها قد حلت ، التناقض لا یمکن حصره فی هذه الصیغة . التناقض هو استغلال القوی للضعیف .
قلنا أن خط علاقات الانسان مع الطبیعة مختلف مشکلة وقانونا عن خط علاقات الانسان مع أخیه الانسان ، وذکرنا ان هذین الخطین کل واحد منهما مستقل استقلالا نسبیا عن الخط الاخر لکن هذا الاستقلال النسبی لا ینفی التفاعل والتأثیر المتبادل الى حد ما بین هذین الخطین ، فلکل منهما لون من التاثیر الطردی أو العکسی على الخط الاخر وهذا التأثیر المتبادل بین الخطین یمکن ابرازه ضمن علاقتین قرآنیتین بین هذین الخطین ، العلاقة الاولى تبرز مدى تأثیر خط علاقات الانسان مع الطبیعة على خط علاقات الانسان مع أخیه الانسان والعلاقة القرآنیة الثانیة تبرز من الجانب الاخر مدى تأثیر علاقات الانسان مع أخیه الانسان على علاقات الانسان مع الطبیعة ، أما العلاقة الاولى التی تبرز تأثیر علاقات الانسان مع الطبیعة على الخط الاخر فمؤدى هذه العلاقة هو أنه کما نمت قدرة الانسان على الطبیعة واتسعت سیطرته علیها وازداد اغتناءا بکنوزها ووسائل انتاجها ، تحققت بذلک امکانیة اکبر فاکبر للاستغلال على خط علاقات الانسان مع أخیه الانسان «کلا ان الانسان لیطغى ، ان رآه استغنى » (7) هذه الآیة الکریمة تشیر الى هذه العلاقة الى ان الانسانیة بقدر ما تتمکن وتستقطب الطبیعة وتتوصل الى وسائل انتاج أقوى وأدوات تولید أوسع تکون انعکاسات ذلک على حقل علاقات الانسان مع أخیه الانسان ، انعکاساته على شکل امکانیات واغراءات وفتح الشهیة للاقویاء لکی یستثمروا أداة الانتاج فی سبیل استغلال الضعفاء ، تصوروا مجتمعا یعیش على الصید بالید والحجارة والهراوة ، مثل هذا المجتمع لا یتمکن من أن یمارس بذور الاقویاء ، بذور الوحوش فیه لا یتمکنون على الاغلب من أن یمارسوا أدوارا خطیرة من الاستغلال الاجتماعی لان مستوى الانتاج محدود والقدرة محدودة وکل انسان لا یکسب عادة بعرق جبینه الا قوت یومه فلا توجد امکانیة الاستغلال بشکله الاجتماعی الواسع وان کان توجد ألوان اخرى من الاستغلال الفردی ولکن لاحظوا من الجانب الاخر مجتمعا متطورا استطاع الانسان فیه أن یصنع الآلة البخاریة والآلة الکهربائیة استطاع فیه أن یخضع الطبیعة لارادته فی مثل هذا المجتمع سوف تکون الالة البخاریة والآلة الکهربائیة المعقدة المتطورة الصنع تکون أداة ، امکانیة على ساحة علاقات الانسان مع اخیه الانسان تشکل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ویبقى ان یخرج ما بالقوة الى ما بالفعل وذلک على عهدة الانسان ودوره التاریخی على الساحة الاجتماعیة ، فالانسان هو الذی یصنع الاستغلال ، هو الذی یفرز النظام الرأسمالی المستغل حینما یجد الآلة البخاریة والکهربائیة ، ولکن الآلة البخاریة والکهربائیة هی التی تعطیه امکانیة هذا الاستغلال ، هی التی تهیىء له فرصة تفتح شهیته ، توقظ مشاعره ، تحرک جدله الداخلی وتناقضه الداخلی من اجل أن یبرز صیغة تتناسب مع ما یوجد على الساحة من قوى الانتاج ووسائل التورید ، وهذا هو الفرق بیننا وبین المادیة التاریخیة ، المادیة التاریخیة اعتقدت بأن الآلة هی التی تصنع الاستغلال ، هی التی تصنع النظام المتناسب لها ولکننا نحن لا نرى ان دور الآلة هو دور الصانع ، وانما دور الآلة هو دور الامکانیة ، دور توفیر الفرصة والقابلیة وأما الصانع الذی یتصرف ایجابا وسلبا ، أمانة وخیانة ، صمودا وانهیارا ، انما هو الانسان وفقا لمحتواه الداخلی . لمثله الاعلى لمدى التحامة مع هذا المثل الاعلى . هذه هی العلاقة الاولى وأما العلاقة القرآنیة الثانیة التی تمثل وتجسد تأثیر علاقات الانسان مع الطبیعة ، فمؤدى هذه العلاقة القرآنیة هو أنه کلما جسدت علاقات الانسان مع اخیه الانسان العدالة وکلما استطاعت ان تستوعب قیم هذه العدالة وان تبتعد عن أی لون من ألوان الظلم والاستغلال من الانسان لاخیه الانسان ، کلما وقع ذلک ازدهرت علاقات الانسان مع الطبیعة وتفتحت الطبیعة عن کنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البرکات من السماء وتفجرت الارض بالنعمة والرخاء ، هذه العلاقة القرآنیة هی العلاقة التی شرحها القرآن الکریم فی نصوص عدیدة قال سبحانه وتعالى « وألوا استقاموا على الطریقة لاسقیناهم ماءا غدقا » (8) « ولو انهم أقاموا التوراة والانجیل وما أنزل الیهم من ربهم لأکلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم » (9)
، هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الانسان مع الطبیعة تتناسب عکسیا مع ازدهار العدالة فی علاقات الانسان مع اخیه الانسان فکلما ازدهرت العدالة فی علاقات الانسان مع اخیه الانسان اکثر فأکثر ازدهرت علاقات الانسان مع الطبیعة ، وکلما أنحسرت العدالة عن الخط الاول انحسر الازدهار عن الخط الثانی ، أی ان مجتمع العدل هو الذی یصنع الازدهار فی علاقات الانسان مع الطبیعة ومجتمع الظلم هو الذی یؤدی الى انحسار تلک العلاقات ، علاقات الانسان مع الطبیعة ، وهذه العلاقة لیست ذات محتوى غیبی فقط ، نعم نحن نؤمن أیضا بمحتواها الغیبی ولکن اضافة الى محتواها الغیبی الربانی هی تشکل سنة من سنن التاریخ بحسب مفهوم القرآن الکریم وذلک لان مجتمع الظلم ، مجتمع الفراعنة على مر التاریخ مجتمع ممزق ، مشتت ، الفرعونیة على مر التاریخ حینما تتحکم فی علاقات الانسان مع اخیه الانسان تستهدف تمزیق طاقات المجتمع ، وتشتیت فئاته ، وبعثرة امکانیاته ، ومن الواضح أنه تشتیت وبعثرة وتفتیت وتجزئة من هذا القبیل لا یمکن لافراد المجتمع ان یحشدوا قواهم الحقیقیة والسیطرة على الطبیعة وهذا هو الفرق بین المثل العلیا المنخفضة الفرعونیة وبین المثل الاعلى الحق مثل التوحید سبحانه وتعالى ، فان المثل الاعلى یوحد الجامعة البشریة ویلغی کل الفوارق والحدود باعتبار شمولیة هذا المثل الاعلى باعتبار شمولیته فهو یستوعب کل الحدود وکل الفوارق ، یهضم کل الاختلافات ، یصهر البشریة کلها فی وحدة متکافئة ، لا یوجد ما یمیز بعضها عن بعض ، لا من دم ولا من جنس ولا من قومیة ولا من حدود جغرافیة أو طبقیة . المثل الاعلى بشمولیته یوحد البشریة ولکن المثل العلیا المنخفضة تجزیء البشریة وتشتت البشریة انظروا الى المثل الاعلى کیف یقول « وان هذه امتکم امة واحدة وأنا ربکم فأعبدون » (10) ، «ان هذه امتکم امة واحدة وأنا ربکم فاتقون » (11) ، هذا هو منطق شمولیة المثل الاعلى التی لا تعترف بحد وبحاجز فی داخل هذه الاسرة البشریة انظروا ، استمعوا الى المثل المنخفض ، الى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم کیف یقولون ، أو کیف یتحدث عنهم القرآن الکریم « ان فرعون علا فی الارض وجعل أهلها شیعا » (12) ، فرعون المثل الاعلى المنخفض ، الفرعونیة على مر التاریخ التی تبنی العلاقات بین الانسان وأخیه الانسان علىاساس الظلم والاستغلال ، الفرعونیة تجزیء المجتمع ، تبعثر امکانیات المجتمع ، وطاقات المجتمع ومن هنا تهدر ما فی الانسان من قدرة على الابداع والنمو الطبیعی على ساحة علاقات الانسان مع الطبیعة ، وعملیة التجزئة الفرعونیة للمجتمع تقسم المجتمع الى فصائل وجماعات الجماعة الاولى ظالمون مستضعفون ، هذه الجماعة الاولى فی التقسیم الفرعونی هم الظالمون المستضعفون فی نفس الوقت الظالمون الثانویون أو بحسب تعبیر أئمتنا علیهم الصلاة والسلام « اعوان الظلمة » هؤلاء الظالمون المستضعفون یشکلون حمایة لفرعون وللفرعونیة وسندا فی المجتمع لبقاء الفرعونیة واستمرار وجودها واطارها . قال الله سبحانه وتعالى « اذ الظالمون موقوفون عند ربهم یرجع بعضهم الى بعض القول ، یقول الذین استضعفوا للذین استکبروا لولا انتم لکنا مؤمنین » (13) . هنا القرآن یتحدث عن الظالمین یقول « اذ الظالمون موقوفون » لکن الظالمین صنفهم الى قسمین : الى من استضعفت منهم ومن استکبر منهم . اذن فالظالمون فیهم مستکبرون وهم الذین یمثلون الفرعونیة فی المجتمع وفیهم مستضعفون ، فالطائفة الاولى اذن فی التجزئة الفرعونیة لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون هؤلاء الذین یحشرون یوم القیامة فی زمرة الظالمین ثم یقولون للمستکبرین من الظالمین لولا انتم لکنا مؤمنین ، هذه هی الطائفة الاولى التی تشکل الحمایة والسند للفرعونیة . الطائفة الثانیة فی عملیة التمزقة الفرعونیة لمجتمع الظلم ظالمون یشکلون حاشیة ومتملقین ، اولئک الذین قد لا یمارسون ظلما بأیدیهم بالفعل ولکنهم دائما وابدا على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون یسبقونه بالقول من أجل ان یصححوا مسلکه ومسیرته . قال الله سبحانه وتعالى « وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه لیفسدوا فی الارض ویذرک وآلهتک ، قال سنقتل أبناءهم ونستحیی نساءهم وانا فوقهم قاهرون » (14) ، شکلوا دور الاثارة لفرعون ، هؤلاء کانوا یعرفون انهم بهذا الکلام یضربون على الوتر الحساس فی قلب فرعون ، وان فرعون کان بحاجة الى کلام من هذا القبیل ، فتسابقوا الى هذا الکلام لکی یجعلوا فرعون یعبر عما فی نفسه ویتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونیته . الطائفة الثالثة فی عملیة
التجزئة الفرعونیة لمجتمع الظلم أولئک الذین عبر عنهم الامام علی علیه الصلاة والسلام « بالهمج الرعاع » جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم ، لا تحس بالظلم لا تدرک انها مظلومة ولا تدرک ان فی المجتمع ظلما ، هی آلات تتحرک تحرکا آلیا ، تحرکا یشبه التحرک المیکانیکی للآلة ، تحرک التبعیة والطاعة دون تدبیر ، دون وعی ، سلب فرعون منها تدبرها ، عقلها ، وعیها ، ربط یدها به لا عقلها به ، ولهذا فهی تحرک یدها تحریکا آلیا وتستسلم للاوامر ، للاوامر الفرعونیة دون أن تناقشها حتى دون ان تتدبرها ، حتى بینها وبین نفسها لا بینها وبین الآخرین ، هذه الفئة طبعا تفقد کل قدرة على الابداع البشری فی مجال التعامل مع الطبیعة ، تفقد کل قابلیات النمو لانها تحولت الى آلات ، اذا وجد أن هناک ابداع فی هذه الفئة انما هو ابداع من یحرک هذه الآلات ، ابداع تلک الفرعونیة التی تحرک هذه الآلات ، وأما هذه الفئة فلم تعد أناسا وبشرا یفکرون ویتدبرون لکی یستطیعوا أن یحققوا لونا من الابداع على هذه الساحة . قال الله سبحانه وتعالى « وقالوا ربنا انا أطعنا سادتنا وکبراءنا فاضلونا السبیلا » (15) لا یوجد فی کلام هؤلاء ما یشعر بأنهم کانوا یحسون بالظلم أو کانوا یحسون بأنهم مظلومون ، وانما هو مجرد طاعة ، مجرد تبعیة ، هؤلاء هم القسم الثالث فی تقسیم مولانا أمیر المؤمنین علیه أفضل الصلاة والسلام حینما قال « الناس ثلاثة : عالم ربانی ومتعلم على سبیل نجاة وهمج رعاع ینعقون مع کل ناعق » وهذا القسم الثالث یشکل مشکلة بالنسبة الى أی مجتمع صالح وبقدر ما یمکن للمجتمع الصالح أن یستأصل هذا القسم الثالث بتحویله الى القسم الثانی ، بتحویله الى متعلم على سبیل النجاة على حد تعبیر الامام ، الى تابع باحسان على حد تعبیر القرآن ، الى مقلد بوعی وتبصر على حد تعبیر الفقه ، بقدر ما یمکن تحویل هذا القسم الثالث الى القسم الثانی یمکن للمجتمع الصالح أن یستمر وأن یمتد ولهذا کان من ضرورات المجتمع الصالح فی نظر الامام علیه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث ، هؤلاء همج ، رعاع ینعقون مع کل ناعق لیس لهم عقل مستقل ، وارادة مستقلة . کان الامام (علیه السلام) یرى ان هذا القسم الثالث یجب تصفیته من المجتمع الصالح ، ذلک لا بالقضاء علیه فردیا ، بل بتحویله الى القسم الثانی ضمن أحد الصیغ الثلاثة التی ذکرناها ، لکی یستطیع المجتمع الصالح أن یواصل ابداعه ، ولکی یستطیع کل أفراد المجتمع الصالح ، ان یشکلوا مشارکة حقیقیة فی مسیرة الابداع . وخلافا لذلک الفرعونیة ، الفرعونیة تحاول ان توسع من هذا القسم الثالث ، هؤلاء الهمج الرعاع الذین ینعقون مع کل ناعق تحاول الفرعونیة ان توسع منهم وکلما توسعت هذه الفئة اکثر فأکثر قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة لان هذه الفئة لا تستطیع بوجه من الوجوه ان تدافع عن المجتمع اذا حلت کارثة فی الداخل أو طرأت کارثة من الخارج ، فکلما توسعت هذه الفئة ، هذا القسم الثالث ، هؤلاء الذین ینعقون مع کل ناعق ، کلما توسعوا فی المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع وبهذا تموت المجتمعات موتا طبیعیا . مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللاقوام وللامم الموت الطبیعی للمجتمع لا الموت المخروم . المجتمع له موتان : موت طبیعی وموت مخروم . الموت الطبیعی للمجتمع یکون عن طریق توسع هذه الفئة الثالثة وازدیادها نوعیا وعددیا فی المجتمع الى ان تحل الکارثة فینهار المجتمع . هذه الطائفة الثالثة فی عملیة التجزئة الفرعونیة أما الطائفة الرابعة : هم اولئک الذین یستنکرون الظلم فی أنفسهم ، اولئک الذین لم یفقدوا لبهم أمام فرعون والفرعونیة فهم یستکنرون الظلم لکنهم یهادنونه ویسکتون عنه فیعیشون حالة التوتر والقلق فی أنفسهم وهذه الحالة ، حالة التوتر والقلق أبعد ما تکون عن حالة تسمح للانسان بالابداع والتجدید والنمو على ساحة علاقات الانسان مع الطبیعة . هؤلاء یسمیهم القرآن الکریم « ظالمی انفسهم » ، قال الله سبحانه وتعالى « الذین تتوفاهم الملائکة ظالمی أنفسهم ، قالوا فیم کنتم قالوا کنا مستضعفین فی الارض ، قالوا ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فیها » (16) هؤلاء لم یظلموا الاخرین ، لیسوا من الظالمین المستضعفین کالطائفة الاولى ، ولیسوا من الحاشیة المتملقین ، ولیسوا أیضا من الهمج الرعاع الذین فقدوا لبهم بل بالعکس هم یشعرون بأنهم مستضعفون . « قالوا کنا مستضعفین فی الارض » هؤلاء لم یفقدوا لبهم ، یدرکون واقعهم ولکنهم کانوا عملیا مهادنین ولهذا عبر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم هذه الطائفة هل یترقب منها أن تساعد بابداع حقیقی فی مجال علاقات الانسان مع الطبیعة ؟ طبعا کلا الطائفة الخامسة فی عملیة التجزئة الفرعونیة للمجتمع هی : الطائفة التی تتهرب من مسرح الحیاة ، تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وتترهب . وهذه الرهبانیة موجودة فی کل مجتمعات الظلم على مر التاریخ وهی تتخذ صیغتین الاولى صیغة جادة ، رهبانیة جادة ترید ان تفر بنفسها لکی لا تتلوث بأوحال المجتمع ، هذه الرهبانیة الجادة التی عبر عنها القرآن الکریم بقوله « ورهبانیة ابتدعوها » (17) هذه الرهبانیة یشجبها الاسلام لانها موقف سلبی تجاه مسؤولیة خلافة الانسان على الارض . وهناک صیغة مفتعلة للرهبانیة ، یترهب ویلبس مسوح الرهبان ولکنه لیس راهبا فی اعماق نفسه ، وانما یرید بذلک ان یخدر الناس ویشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ویسطو علیهم نفسیا وروحیا . وهذا هو الذی عبر عنه القرآن الکریم بقوله « ان کثیرا من الاحبار والرهبان لیأکلون اموال الناس بالباطل ویصدون عن سبیل الله » (18) الجماعة السادسة والاخیرة فی عملیة التجزئة الفرعونیة للمجتمع هم : المستضعفون . الفرعونیة حینما جزأت المجتمع الى طوائف ، فرعون حینما اتخذ من قومه شیعا استضعف طائفة معینة منهم خصها بالاستضعاف والاذلال وهدر الکرامة لانها کانت هی الطائفة التی یتوسم ان تشکل اطارا للتحرک ضده ولهذا استضعفها بالذات . « واذ نجیناکم من آل فرعون یسومونکم سوء العذاب ، یذبحون ابناءکم ویستحییون نساءکم وفی ذلکم بلاء من ربکم عظیم » (19) هذه هی الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن الکریم ضمن سنة من سنن التاریخ ایضا ان موقع ای طائفة فی الترکیب الفرعونی لمجتمع الظلم یتناسب عکسا مع موقعه بعد انحسار الظلم ، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى « ونرید ان نمن على الذین استضعفوا فی الارض فنجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثین » (20) . تلک الطائفة السادسة التی کانت هی منحدر الترکیب یرید الله سبحانه وتعالى ان یجعلهم ائمة ویجعلنم الوارثین وهذه علاقة اخرى وسنة تاریخیة اخرى یأتی الحدیث عنها انشاء الله تعالى ، اذن فالى هنا استخلصنا هذه الحقیقة وهی : ان المجتمع یتناسب مدى الظلم فیه تناسبا عکسیا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبیعة ، ویتناسب مدى العدل فیه تناسبا طردیا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبیعة . مجتمع الفرعونیة المجزأ المشتت مهدور القابلیات والطاقات والامکانیات ومن هنا تحبس السماء قطرها ، وتمنع الارض برکاتها . واما مجتمع العدل فهو على العکس تماما هو مجتمع تتوحد فیه کل القابلیات وتتساوى فیه کل الفرص والامکانیات هذا المجتمع الذی تحدثنا الروایات عنه ، تحدثنا عنه من خلال ظهور الامام المهدی علیه الصلاة والسلام ، تحدثنا عما تحتفل به الارض والسماء فی ظل الامام المهدی (علیه السلام) من برکات وخیرات ولیس ذلک الا لان العدالة دائما وأبدا تتناسب طردا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبیعة ، هذه العلاقة الثانیة بین الخطین .
خرجنا مما سبق بنظریة تحلیلیة قرآنیة کاملة لعناصر المجتمع ولادوار هذه العناصر وللعلاقة القائمة بین الخطین المزدوجین فی العلاقة الاجتماعیة ، خط علاقات الانسان مع اخیه الانسان ، وخط علاقات الانسان مع الطبیعة ، وانتهینا على ضوء هذه النظریة القرآنیة الشاملة الى ان هذین الخطین احدهما مستقل عن الآخر استقلالا نسبینا ولکن کل واحد منهما له نحو تأثیر فی الآخر على الرغم من ذلک الاستقلال النسبی وهذه النظریة القرآنیة فی تحلیل عناصر المجتمع وفهم المجتمع فهما موضوعیا تشکل اساسا للاتجاه العام فی التشریع الاسلامی فان التشریع الاسلامی فی اتجاهاته العامة وخطوطه یتأثر وینبثق ویتفاعل مع وجهة النظر القرآنیة والاسلامیة الى المجتمع وعناصره وادوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بین الخطین ، هذه النظریات التی قرأناها والتی انتهینا الیها على ضوء المجموعة المذکورة سابقا من أن النصوص القرآنیة هذه النظریات هی فی الحقیقة الاساس النظری للاتجاه العام للتشریع الاسلامی فان الاستقلال النسبی بین الخطین ، خط علاقات الانسان مع اخیه الانسان وخط علاقات النسان مع الطبیعة ، هذا الاستقلال النسبی یشکل القاعدة لعنصر الثبات فی الشریعة الاسلامیة والاساس لتلک المنطقة الثابتة من التشریع التی تحتوی على الاحکام العامة المنصوصة ذات الطابع الدائم المستمر فی التشریع الاسلامی بینما منطقة التفاعل بین الخطین ، بین خط علاقات الانسان مع الطبیعة وخط علاقات الانسان مع اخیه الانسان ، منطقة التفاعل والمرونة تشکل فی الحقیقة الاساس لما أسمیناه فی کتاب « اقتصادنا » بمنطقة الفراغ تشکل الاساس للعناصر المرنة والمتحرکة فی التشریع الاسلامی ، هذه العناصر المرنة والمتحرکة فی التشریع الاسلامی هی انعکاس تشریعی لواقع تلک المرونة وذلک التفاعل بین الخطین ، والعناصر الاولى الثابتة والصامدة فی التشریع الاسلامی هی انعکاس تشریعی لذلک الاستقلال النسبی الموجود بین الخطین ، بین خط علاقات الانسان مع اخیه الانسان وخط علاقات الانسان مع الطبیعة ، ومن هنا نؤمن بان الصورة التشریعیة الاسلامیة الکاملة لمجتمع هی فی الحقیقة تحتوی على جانبین ، تحتوی على عناصر ثابتة ، وتحتوی على عناصر متحرکة ومرنة وهذه العناصر المتحرکة والمرنة التی ترک للحاکم الشرعی ان یملأها فرضت امامه مؤشرات اسلامیة عامة ایضا لکی یملأ هذه العناصر المتحرکة وفقا لتلک المؤشرات الاسلامیة العامة ، وهذا بحث یحتاج الى کلام اکثر من هذا ، تفصیلا واطنابا ، من المفروض ان نستوعب هذا البحث انشاء الله تعالى لکی نربط الجانب التشریعی من الاسلام بالجانب النظری التحلیلی من القرآن الکریم لعناصر المجتمع وبعد ذلک یبقى علینا بحث آخر فی نظریة الاسلام عن ادوار التاریخ ، عن ادوار الانسان على الارض فان القرآن الکریم یقسم حیاة الانسان على الارض الى ثلاثة ادوار ، دور الحضانة ، ودور الوحدة ، ودور التشتت والاختلاف . وهذه ادوار ثلاثة تحدث عنها القرآن الکریم ، بین لکل دور الحالات والخصائص والممیزات التی یتمیز بها ذلک الدور ، هذا أیضا بحث سوف نخرج منه بنظریة شاملة کاملة لهذا الجانب من تاریخ الانسان ، کل ذلک لا یمکن ان یسعه یوم واحد وبحث واحد اذن فمن الافضل ان نؤجل ذلک ، وننصرف الان من منطقة الفکر الى منطقة القلب ، من منطقة العقل الى منطقة الوجدان ،
أرید ان نعیش معا لحظات بقلوبنا لا بعقولنا فقط ، بوجداننا ، بقلوبنا ، نرید ان نعرض هذه القلوب على القرآن الکریم بدلا عن ان نعرض افکارنا وعقولنا ، نعرض صدورنا ، لمن ولاؤها ؟ ما هو ذاک الحب الذی یسودها ویمحورها ویستقطبها ؟ ان الله سبحانه وتعالى لا یجمع فی قلب واحد ولاءین ، لا یجمع حبین مستقطبین . اما حب الله واما حب الدنیا ، اما حب الله وحب الدنیا معا فلا یجتمعان فی قلب واحد ، فلنمتحن قلوبنا ، فلنرجع الى قلوبنا لنمتحنها ، هل تعیش حب الله سبحانه وتعالى ، او تعیش حب الدنیا ، فان کانت تعیش حب الله زدنا ذلک تعمیقا وترسیخا ، وان کانت « نعوذ بالله » تعیش حب الدنیا ، حاولنا ان نتخلص من هذا الداء الوبیل ، من هذا المرض المهلک . ان کل حب یسقطب قلب الانسان یتخذ احدى صیغتین واحدى درجتین . الدرجة الاولى ان یشکل هذا الحی محورا وقاعدة لمشاعر وعوطف وآمال وطموحات هذا الانسان قد ینصرف عنه فی قضاء حاجة فی حدود خاصة ولکن یعود ، سرعان ما یعود الى القاعدة لانها هی المرکز ، وهی المحور ، قد ینشغل بحدیث ، قد ینشغل بکلام ، قد ینشغل بعمل ، بطعام ، بشراب ، بمواجهة ، بعلاقات ثانویة ، بصداقات ، لکن یبقى ذاک الحب هو المحور ، هذه هی الدرجة الاولى ،
والدرجة الثانیة من الحب المحور ان یستقطب هذا الحب کل وجدان الانسان ، بحیث لا یشغله شیء عنه على الاطلاق ومعنى انه لا یشغله شیء عنه انه سوف یرى محبوبه وقبلته وکعبته اینما توجه ، اینما توجه سوف یرى ذلک المحبوب ، هذه هی الدرجة الثانیة من الحب المحور ، هذا التقسیم الثنائی ینطبق على حب الله وینطبق على حب الدنیا ، حب الله سبحانه وتعالى ، الحب الشریف لله المحور یتخذ هاتین الدرجتین ، الدرجة الاولى یتخذها فی نفوس المؤمنین الصالحین الطاهرین الذین نظفوا نفوسهم من اوساخ هذه الدنیا الدنیة هؤلاء یجعلون من حب الله محورا لکل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم ، قد ینشغلون بوجبة طعام ، بمتعة من المتع المباحة ، بلقاء مع صدیق ، بتنزه فی شارع ، ولکن یبقى هذا هو المحور الذی یرجعون الیه بمجرد ان ینتهی هذا الانشغال الطارىء ، واما بالدرجة الثانیة فهی الدرجة التی یصل الیها اولیاء الله من الانبیاء والائمة علیهم أفضل الصلاة والسلام ، « علی بن أبی طالب » الذی نحظى بشرف مجاورة قبره ، هذا الرجل العظیم کلکم تعرفون ماذا قال ، هو الذی قال « بأنی ما رأیت شیئا الا ورأیت الله معه وقبله وبعده وفیه » لان حب الله فی هذا القلب العظیم استقطب وجدانه بالکامل .
المصادر :
1- سورة الانشقاق : الآیة 6
2- سورة الزخرف : الآیة 23
3- سورة سبأ : الآیة 34
4- سورة المؤمنون : الآیة 33
5- سورة ابراهیم الآیة 34
6- یقصد به کارل مارکس .
7- سورة الفلق : الآیة 6ـ7
8- سورة الجن : الآیة 16
9- سورة المائدة : الآیة 66
10- سورة الانبیاء : الآیة 92
11- سورة المؤمنون : الآیة 52
12- سورة القصص : الآیة 4
13- سورة سبأ : الآیة 31
14- سورة الاعراف : الآیة 127
15- سورة الاحزاب : الآیة 67
16- سورة النساء : الآیة 97
17- سورة الحدید : الآیة 27
18- سورة التوبة : الآیة 34
19- سورة البقرة : الآیة 49
20- سورة القصص : الآیة 5
source : rasekhoon