قال تبارک و تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ اجْتَرَحُوا السَّیِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ کَالَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْیَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا یَحْکُمُونَ) (1) ، قال فی الجمع : الاجتراح الاکتساب ، یقال : جرح واجترح وکسب واکتسب ، والسیئة الفعلة القبیحة التی یسوء صاحبها باستحقاق الذم علیها . والجعل بمعنى التصییر ، . والایة مسوقة سوق الانکار و ( أم ) منقطعة ، والمعنى : بل أحسب وظن الذین یکتسبون السیئات أن نصیرهم مثل الذین آمنوا وعملوا الصالحات مستویا محیاهم ومماتهم أی تکون حیاة هؤلاء کحیاة أولئک وموتهم کموتهم فیکون الایمان والتشرع بالدین لغوا لا أثر له فی حیاة ولاموت ویستوى وجوده وعدمه . فالفریقان لا یتساویان فی الحیاة ولا فی الممات . أما أنهما لا یتساویان فی الحیاة فلان الذین آمنوا وعملوا الصالحات فی سلوکهم مسلک الحیاة على بصیرة من أمرهم وهدى ورحمة من ربهم کما ذکره سبحانه فی الایة السابقة والمسئ صفر الکف ، من ذلک وقال تعالى فی موضع آخر : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَةً ضَنکًا وَنَحْشُرُهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ أَعْمَىٰ ) (2)، وقال فی موضع آخر : (أَوَمَن کَانَ مَیْتًا فَأَحْیَیْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا یَمْشِی بِهِ فِی النَّاسِ کَمَن مَّثَلُهُ فِی الظُّلُمَاتِ لَیْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا کَذَٰلِکَ زُیِّنَ لِلْکَافِرِینَ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ ) (3). وأما أنهما لا یتساویان فی الممات فلان الموت کما ینطق به البراهین الساطعة لیس انعداما للشئ وبطلانا للنفس الانسانیة کما یحسبه المبطلون بل هو رجوع الى الله سبحانه وانتقال من نشأة الدنیا إلى نشأة الاخرة التی هی دار البقاء وعالم الخلود یعیش فیها المؤمن الصالح فی سعادة ونعمة وغیره فی شقاء وعذاب . وقد أشار سبحانه إلیه فیما تقدم من کلامه بقوله : ( کذلک یحیی الله الموتى ) وقوله : ( ثم إلى ربکم ترجعون ) وغیر ذلک. وبهذا البیان یظهر إن الایة تتضمن حجتین على المعاد إحداهما ما أشیر إلیه بقوله : ( وخلق الله السماوات والارض بالحق ) ویسلک من طریق الحق ، والثانیة ما أشیر إلیه بقوله : ( ولتجزى ) الخ ، ویسلک من طریق العدل . فتؤل الحجتان إلى ما یشتمل علیه قوله : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَیْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِکَ ظَنُّ الَّذِینَ کَفَرُوا فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ کَفَرُوا مِنَ النَّارِ / أَمْ نَجْعَلُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ کَالْمُفْسِدِینَ فِی الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِینَ کَالْفُجَّارِ) (4). والایة بما فیها من الحجة تبطل حسبانهم أن المسئ کالمحسن فی الممات فإن حدیث المجازاة بالثواب والعقاب على الطاعة والمعصیة یوم القیامة ینفی تساوی المطیع والعاصی فی الممات ، ولازم ذلک إبطال حسبانهم أن المسئ کالمحسن فی الحیاة فإن ثبوت المجازاة یومئذ یقتضی وجوب الطاعة فی الدنیا والمحسن على بصیرة من الامر فی حیاته یأتی بواجب العمل ویتزود من یومه لغده بخلاف المسئ العائش فی عمى وضلال فلیسا بمتساویین .
قوله تعالى : (أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن یَهْدِیهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَکَّرُونَ) (5) ظاهر السیاق أن قوله : ( أفرایت ) مسوق للتعجیب أی ألا تعجب ممن حاله هذا الحال ؟ ویجعل هواه مکان الله سبحانه علم منه ، ولذلک عقبه بقوله : ( وأضله الله على علم ) أی إنه ضال عن السبیل وهو یعلم ، فقوله : ( أفرأیت من اتخذ إلهه هواه ) أی ألا تعجب ممن یعبد هواه بإطاعته واتباعه وهو یعلم أن له إلها غیره یجب أن یعبده ویطیعه لکنه یجعل معبوده ومطاعه هو هواه . وأما قول بعضهم : إن المراد بالعلم هو علمه تعالى والمعنى : وأضله الله على علم منه تعالى بحاله فبعید عن السیاق . وقوله : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) کالعطف التفسیری لقوله : ( وأضله الله على علم ) والختم على السمع والقلب هو أن لا یسمع الحق ولا یعقله ، وجعل الغشاوة على البصر هو أن لا یبصر الحق من آیات الله ومحصل الجمیع : أن لا یترتب على السمع والقلب والبصر أثرها وهو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحق إذا أدرکه لاستکبار من نفسه وإتباع للهوى ، وقد عرفت أن الضلال عن السبیل لا ینافی العلم به إذا لم یکن هناک التزام بمقتضاه .
(وَقَالُوا مَا هِیَ إِلَّا حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِکُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِکَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا یَظُنُّونَ ) (6) ، قال الراغب : الدهر فی الاصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ، وعلى ذلک قوله تعالى : ( هل أتى على الانسان حین من الدهر ) ثم یعبر به عن کل مدة کثیرة ، وهو خلاف الزمان فإن الزمان یقع على المدة القلیلة والکثیرة . والایة على ما یعطیه السیاق - سیاق الاحتجاج على الوثنیین المثبتین للصانع المنکرین للمعاد - حکایة قول المشرکین فی إنکار المعاد لا کلام الدهریین الناسبین للحوادث وجودا وعدما الى الدهر المنکرین للمبدأ والمعاد جمیعا إذا لم یسبق لهم ذکر فی الایات السابقة . فقولهم : ( ما هی إلا حیاتنا الدنیا ) الضمیر للحیاة أی لا حیاة لنا إلا حیاتنا الدنیا لا حیاة وراءها فلا وجود لما یدعیه الدین الالهی من البعث والحیاة الاخرة ، وهذا هو القرینة المؤیدة لان یکون المراد بقوله : ( نموت ونحیا ) یموت بعضنا ویحیا بعضنا الاخر فیستمر بذلک بقاء النسل الانسانی بموت الاسلاف وحیاة الاخلاف ویؤید ذلک بعض التأیید قوله بعده : ( وما یهلکنا إلا الدهر ) المشعر بالاستمرار . فالمعنى : و قال المشرکون : لیست الحیاة إلا حیاتنا الدنیا التی نعیش بها فی الدنیا فلا یزال یموت بعضنا وهم الاسلاف ویحیى آخرون وهم الاخلاف وما یهلکنا إلا الزمان - الذی بمروره یبلى کل جدید ویفسد کل کائن ویمیت کل حی - فلیس الموت انتقالا من دار الى دار منتهیا الى البعث والرجوع الى الله . ولعل هذا کلام بعض الجهلة من الوثنیین وإلا فالعقیدة الدائرة بین الوثنیة هی التناسخ وهو أن نفوس غیر أهل الکمال إذا فارقت الابدان تعلقت بأبدان اخرى جدیدة فإن کانت النفس المفارقة اکتسبت السعادة فی بدنها السابق تعلقت ببدن جدید تتنعم فیه وتسعد ، وإن کانت اکتسبت الشقاء فی البدن السابق تعلقت ببدن لاحق تشقى فیه وتعذب جزاء لعملها السیئ وهکذا ، وهؤلاء لا ینکرون استناد أمر الموت کالحیاة إلى وساطة الملائکة ، ولهذا أعنی کون القول بالتناسخ دائرا بین الوثنیة ذکر بعض المفسرین أن المراد بالایة قولهم بالتناسخ ، والمعنى : ( إن هی إلا حیاتنا الدنیا ) فلسنا نخرج من الدنیا أبدا ( نموت ) عن حیاة دنیا ( ونحیا ) بعد الموت بالتعلق ببدن جدید وهکذا ( وما یهلکنا إلا الدهر ) . وهذا لا یخلو من وجه لکن لا یلائمه قولهم المنقول ذیلا : ( وما یهلکنا إلا الدهر ) إلا أن یوجه بأن مرادهم من نسبة الاهلاک إلى الدهر کون الدهر وسیلة یتوسل بها الملک الموکل على الموت إلى الاماتة ، وکذا لا تلائمه حجتهم المنقولة ذیلا : ( ائتوا بابائنا إن کنتم صادقین ) الظاهرة فی أنهم یرون آباءهم معدومین باطلی الذوات . وذکر فی معنى الایة وجوه أخر لا یعبأ بها کقول بعضهم : المعنى نکون أمواتا لا حیاة فیها وهو قبل ولوج الروح ثم نحیا بولوجها على حد قوله تعالى : (کَیْفَ تَکْفُرُونَ بِاللَّهِ وَکُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْیَاکُمْ ثُمَّ یُمِیتُکُمْ ثُمَّ یُحْیِیکُمْ ثُمَّ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ) (7). وقول بعضهم : المراد بالحیاة بقاء النسل مجازا ، والمعنى : نموت نحن ونحیا ببقاء نسلنا . إلى غیر ذلک مما قیل . وقوله : ( وما لهم بذلک من علم إن هم إلا یظنون ) أی إن قولهم ذلک المشعر بإنکار المعاد قول بغیر علم وإنما هو ظن یظنونه وذلک أنهم لا دلیل لهم یدل على نفی المعاد مع ما هناک من الادلة على ثبوته .
قوله تعالى : (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَیْهِمْ آیَاتُنَا بَیِّنَاتٍ مَّا کَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ ) (8) تأکید لکون قولهم بنفی المعاد وحصر الحیاة فی الحیاة الدنیا قولا بغیر علم . والمراد بالایات البینات الایات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد وکونها بینات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شک ، وتسمیة قولهم : ( ائتوا بابائنا إن کنتم صادقین ) مع کونه اقتراحا جزافیا بعد قیام الحجة إنما هو من باب التهکم فإنه من قبیل طلب الدلیل على المطلوب بعد قیام الدلیل علیه فکأنه قیل : ما کانت حجتهم إلا اللاحجة . والمعنى : وإذا تتلى على هؤلاء المنکرین للمعاد آیاتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد والحال أنها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلا بجزاف من القول وهو طلب الدلیل على إمکانه بإحیاء آبائهم الماضین . (وَیَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ یَوْمَئِذٍ یَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) (9) (قَالُوا تِلْکَ إِذًا کَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) (10)
المصادر :
1- الجاثیة /21
2- طه / 124
3- الانعام / 122
4- ص / 27 – 28
5- الجاثیة /23
6- الجاثیة /24
7- البقرة / 28
8- الجاثیة /25
9- الجاثیة /27
10- النازعات /12
source : rasekhoon