عاش الإمام جعفر بن محمد بن علی بن الحسین علیهم السّلام فی مرحلة تعتبر من أدق المراحل التاریخیة الإسلامیة فی نواحیها السیاسیة والفکریة والاجتماعیة.. فقد عاش من الناحیة السیاسیة والاجتماعیة مرحلةً مخضرمة تختصر فی طیاتها کل الظروف والأسالیب فی تشابهها واختلافها لدولتین لعبتا دوراً حسّاساً وخطیراً فی التاریخ الإسلامی، هما دولة بنی أمیة ثم دولة بنی العباس.
ورغم الاختلاف فی سنة ولادته بین سنة ثمانین أو ثلاث وثمانین للهجرة فقد عاصر الإمام الصادق علیه السّلام الدولتین فی هذه المدة الطویلة: « مع جده وأبیه اثنتی عشرة سنة، ومع أبیه بعد جده تسع عشرة سنة وبعد أبیه أیام إمامته أربعاً وثلاثین سنة، وکان فی أیام إمامته بقیة ملک هشام بن عبدالملک، وملک الولید بن یزید بن عبدالملک، وملک یزید بن الولید الناقص، وملک إبراهیم بن الولید وملک مروان بن محمد الحمار، ثم صارت المسوّدة ( لاتّخاذهم شعار السواد ) مع أبی مسلم سنة اثنتین وثلاثین ومئة فملک أبو العباس الملقب بالسفاح، ثم ملک أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، وتوفی الصادق بعد عشر سنین من ملکه » (1)...
ومهما یکن من أمر فلابد من التوقف عند الحالة السیاسیة والاجتماعیة لتلک المرحلة التی عایشها صادق أهل البیت علیهم السّلام قبل الانتقال لمعرفة الحالة الفکریة ودور الصادق علیه السّلام.
الحالة السیاسیة العامة:
لقد آلت الخلافة الأمویة إلى مُلْک عضوض بعید عن الإسلام وأحکامه منذ العهد المبکر لمعاویة بن أبی سفیان. ولقد بلغ ـ وکما هو معروف ـ من أمر حکام تلک الدولة أن حوّلوا « الخلافة » من موقع یقود الأمة الإسلامة إلى الله، حوّلوه إلى موقع یقود الأمة إلى خدمة أهوائهم ومصالحهم وسلطانهم بشتى الوسائل غیر الشرعیة، من قتل ونهب وسبی وظلم وترف واستبداد، وذلک تحت ظلال الشعارات الإسلامیة الکبیرة! حتّى أضحى القتل سُنّة، وأضحى التلاعب بالرؤوس بدعة مستساغة، ولم یقف الأمر عند رؤوس الناس الأبریاء ورؤوس الثائرین على النظام الأموی الحاکم حتّى تعدّاه لیتلاعب الحکّام الأمویون برؤوس أهلهم وإخوتهم وبنی عمومتهم من الأمویین أیضاً طمعاً بسلطان أو خوفاً من ضیاعه.. ولقد تفاقم الأمر کثیراً فی السنوات الأخیرة للحکم الأموی وبالتحدید بعد وفاة هشام بن عبدالملک واستیلاء الولید على الخلافة ثم مقتله، وما حدث من فتن واضطرابات واهتزاز لأرکان الحکم الأموی وبالتحدید بعد موت هشام بن عبدالملک واستیلاء الولید على الخلافة واهتزاز أرکان الحکم الأموی وحبل بنی مروان حتّى حُکْم آخر ملوکهم « مروان الحمار » وانتصار الحرکة العباسیة علیهم فی خراسان والعراق (2).
فآخر عهد بنی أمیة وبنی مروان إذاً کان عهد فتن واضطرابات وثورات تضاف إلى حالة تهتک سیاسی وخُلُقی بلغ حداً من الاستهتار والسقوط تخجل منه صفحات التاریخ الإسلامی نفسها، حتى بلغ الأمر بالطبری فی تاریخه إلى أن یقول: « ترکتُ الأخبار الواردة عنه ( الولید ) بذلک کراهة إطالة الکتاب بذکرها » وعبّر أخوه عنه بعد قتله: « بعداً له! أشهد أنه کان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً... » (3).
ولم تکن بدایة دولة بنی العباس إلا مرحلة أخرى من الحروب والاضطرابات والثورات والعملیات العسکریة المتنقلة للقضاء على آخر ذیول الحکم البائد وتثبیت المواقع السیاسیة والعسکریة للعهد الجدید. ویلازم ذلک بالطبع ـ مع عدم قداسة الغایة ـ البطش بکل مکامن الخطر ورموزه المُحتمَلین على الدولة الفتیة فی المدَیَین القریب والبعید. وهو هنا الخطر الشیعی العلوی على الدولة التی قامت وانتصرت فی ظل شعار دغدغ مشاعر الناس خصوصاً الخراسانیین « الدعوة للرضا من أهل البیت » (4). ولذلک فقد کان یرى العباسیون أن المنافس الأساسی لهم بعد عدوهم المشترک « بنی أمیة » هم أبناء عمهم العلویون من أبناء الحسن والحسین وخصوصاً فی شخصیة جعفر بن محمّد الصادق علیه السّلام ومحمد بن عبدالله بن الحسن المثنّى الذی کان قد بایعه السفّاح والمنصور فی عهد بنی أمیة (5) و ( یُروى ذلک مرتین ).
ومما لا شک فیه أن الوضع السیاسی والعسکری المضطرب والمتردی یترک أثره الخطیر على الجوانب الاجتماعیة والاقتصادیة والفکریة والدینیة أیضاً، فعدم انسجام الناس الکلی مع حکامهم إلا بالترهیب والترغیب، وکثرة الفتوحات الإسلامیة فی هذا القرن الهجری الأول، أدّیا معاً إلى اضطراب وتداخل فکری خطیر تناول الجوانب الفقهیة والعقلیة والروائیة والتفسیریة والمفهومیة الإسلامیة وغیرها.
الحالة الفکریة والعلمیة:
لقد بقی الحکام غیر منسجمین ولا مهتمّین أصلاً بالقضایا الفکریة والعلمیة والأدبیة إلا بما یخدم سلطانهم ویثبّت زعامتهم، ولذا خلا العهد الأموی فی غالبه من نمو وتطور للفکر والعلم الدینی وغیره، إلا أن الفتوحات الإسلامیة التی أدخلت عناصر جدیدة غیر عربیة وغیر مسلمة إلى الإسلام أحوجت المسلمین الجدد والمترجمین إلى البدء بأعمال التدریس والتعلیم، وبدأت حرکة الترجمة عن الیونانیة والفارسیة وغیرهما.. فانصرف الناس عن الحکام وانشغل الحکام الأمویون بأنفسهم وبسلطانهم فی آخر عهدهم ـ کما أشرنا ـ فبرزت بوادر نهضة فکریة وعلمیة وحرکة فلسفیة خطیرة، ولذا فإن: « الحرکة العلمیة، والمذاهب الدینیة، والنظم الاجتماعیة فی آخر الدولة الأمویة أرقى من أولها... » (6) و « قد ساعد على التحرک الفکری السریع فی مطلع الدولة العباسیة قیام الفترة ما بین الدولتین التی حررت الفکر من رقابة الحکم وقیوده، بتأثیر انصراف الحکم لترمیم مواقعه، فی محاولة لاستعادة السیطرة الشاملة... » (7).
ولقد تلخصت خطوات الحرکة الفکریة عامة فی تلک الحقبة الزمنیة بالأمور التالیة:
1 ـ بدء حرکة الترجمات المختلفة وإدخالها مواضیع جدیدة وخطیرة على المجتمع الإسلامی.
2 ـ إقبال المسلمین الجدد إلى التعرف على الإسلام والقرآن وتعلمه ومعرفة أسراره ومعانیه وبالتالی استدعاء ذلک لوجود علماء وقرّاء.
3 ـ البدء بمرحلة تدوین الحدیث، بعدما داخله التشویه والدسّ خصوصاً فی العصر الأموی، ومن ثم بُعد الشقّة عن مرحلة الإسلام فی سنینه الأولى.
4 ـ کثرة المحدّثین والرواة حیث امتدت الحرکة العلمیة لتشمل سائر الحواضر الإسلامیة الکبرى فی انطلاقة فریدة (8).
5 ـ انتشار الفلسفة بمواضیعها وشخصیاتها ومفاهیمها ومصطلحاتها الجدیدة: « ولا مشاحّة أن انتشار العلم فی ذلک الحین، قد ساعد على فک الفکر من عقاله، فأصبحت المناقشات الفلسفیة عامة فی کل حاضرة من حواضر العالم الإسلامی... » (9).
ولا نغفل هنا عن أن الحکام العباسیین ـ بخلاف الحکام الأمویین ـ قد نشأوا فی بیت علمی عریق حیث یعود نسبهم إلى عبدالله بن عباس المشهور بأنه حبر هذه الأمة، ویعنی ذلک تشجیعهم لحرکة العلم والفکر الدینی بالأساس ولو کان ذلک لغایات فی نفوس العباسیین..
دور الإمام الصادق علیه السّلام:
أمام هاتین الحالتین الخطیرتین للأمة الإسلامیة فی المرحلة التی عاشها صادق أهل البیت علیهم السّلام کان لابد من موقف واضح وحاسم وحازم یتخذه الصادق علیه السّلام على الصعید الفکری والعملی..
أولاً: موقفه من السلطة: أدرک الإمام الصادق علیه السّلام أن الظروف السیاسیة والعسکریة والاجتماعیة المحیطة به لم تکن لتساعده للقیام بأی ثورة أو انتفاضة عسکریة أو سیاسیة، وهو قد رأى وعلم ما جرى لجده الحسین علیه السّلام وقبله لأخیه الحسن علیه السّلام ولأبیهما علی علیه السّلام، وما جرى بعد ذلک من تجدید للموقف العاطفی والانفعالی مع عمه زید بن علی علیه السّلام حیث أیّده المحبّون لأهل البیت ثم خذلوه کما خذلوا أجداده، وأدرک أیضاً أن أیّ ثورة تنتهی لا بفشل صاحبها فقط وإنما بضیاع الخط والرسالة والمذهب أیضاً، ولذا فقد کان یعلم، وهو وریث الأوصیاء، بفشل حرکة ابن عمه محمّد بن عبدالله المحض، وأدرک کذلک أنّ المرحلة تقتضی منه کما اقتضت من أبیه الباقر علیه السّلام شقّ طریق العلم وسبر أغواره وتبیان خفایاه ورسم معالمه. ومن أجل ذلک أی لعدم وجود بدیل آخر إن هو قُتل لیؤدی الدور العلمی الأساسی المطلوب فی تلک المرحلة، وحیث إن السلطان والثورة وسائل لخدمة الدین، فمع تعسرّهما هناک الوسائل الأُخرى المهیّأة لخدمة دین الله. وهذا ما وجده وقام به الإمام الصادق علیه السّلام خیر قیام.
ثانیاً: من مواقفه الشجاعة: قبل الحدیث عن الجهاد العلمی والفکری للإمام الصادق علیه السّلام لابد من الإشارة والتوقف عند شجاعة وجرأة الإمام الصادق علیه السّلام فی مواقف شهد له التاریخ بها.. نشیر لبعضها حتّى لا تذهبنّ المذاهب والأهواء بأفکار أحد، فمن ذلک:
أ) حکمة بسیطة واجه بها المنصور العباسی عندما تسلّط علیه الذباب بشکل متکرر فتضایق المنصور وسأل الصادق: لأی شیء خلق الله الذباب ؟ فکانت وبشکل غیر مباشر کلمة حق فی وجه سلطان جائر: « لیذلّ به الجبّارین » (10).
ب) موقفه من والی المنصور على المدینة شیبة بن غفال الذی مدح الحاکم العباسی وأهل بیته وشتم علیاً وأهل بیته علیهم السّلام من على منبر مسجد النبیّ صلّى الله علیه وآله، فکان مما قاله الصادق علیه السّلام: « أمّا ما قلت من خیر فنحن أهله، وما قلت من سوء فأنت وصاحبک ( المنصور ) به أَولى، فاختبرْ یا من رکب غیر راحلته وأکل غیر زاده، ارجع مأزوراً » (11).
ج ) کلامه للمنصور فی مجلسه بعد أن قصد إحراجه بکلمات، فکان الرد الحاسم من الإمام الصادق علیه السّلام: « أنا فرع من فُرُع الزیتونة، وقندیل من قنادیل بیت النبوّة، وأدیب السَّفَرة، وربیب الکرام البررة، ومصباح من مصابیح المشکاة التی فیها نور النور وصفوة الکلمة الباقیة فی عقب المصطفَین إلى یوم الحشر » وکان من جواب المنصور: «... هذا الشجى المعترض فی حلوق الخلفاء... » (12).
د) کان مما یُعلّم به الصادق علیه السّلام أصحابه رفض الارتباط بالسلطان الظالم بأی نوع من أنواع الارتباط، ولم یَرِد عن الصادق علیه السّلام حضوره عند حاکم إلا عندما کان یستدعیه هؤلاء بالقوة إلى قصورهم، کما فعل به السفّاح والمنصور حین استقدماه مرات عدیدة من المدینة إلى العراق. وکان مما یقول لأصحابه: « إن أعوان الظَلَمة یوم القیامة فی سرادق من نار حتّى یحکم الله بین العباد.. » (13). وردّ على المنصور مرة بقوله: «... من أراد الدنیا لا ینصحک، ومن أراد الآخرة لا یصحبک.. » (14).
هـ) إن علاقة الصادق علیه السّلام بالحکام ـ العباسیین بالخصوص ـ کانت علاقة الندّ للندّ، فلم یُؤْثَر عنه مبایعته لأحد منهم، ولم یوجس منهم خیفة أبداً ولم یخضع لهم، بل ظلّت العلاقة سلبیة خصوصاً من جانبهم خوفاً من دوره وخطره علیهم ومعرفتهم بحقه وفضله ودوره بین الناس، ولذا لم یتجرأوا على قتله علناً بل دسّ له المنصور السمّ سراً حتّى استُشهد. ولقد همّ المنصور بقتله غیر مرة، فکان إذا بعث إلیه ودعاه لیقتله نظر إلیه وهابه ولم یقتله (15)، ولقی جعفر بن محمد أبا جعفر ( المنصور ): فقال: «... رُدّ علی قطیعتی عین أبی زیاد آکل من سعفها، قال: إیّای تکلم بهذا الکلام! والله لأزهقنَّ نفسک » (16). وقال مرة للمنصور: « إنه لم ینل أحد منا أهل البیت دماً إلا سلبه الله مُلکه، فغضب لذلک واستشاط... » (17).
وهناک مواقف أخرى کثیرة تدل على شجاعته وجرأته واستعداده للجهاد لو کانت هناک إمکانیة وظروف مهیأة.
ثالثاً: الدور العلمی الأساسی للصادق علیه السّلام: قبل التطرق إلى الجوانب الأساسیة فی دور الإمام الصادق علیه السّلام الفکری نقتطف بعض الأقوال والشواهد على أهمیة دوره وموقعه ونشاطه العلمی آنذاک.
لقد کان الإمام الصادق علیه السّلام « یمثل العقیدة الدینیة التی یقاس بفضائلها عمل الحکام فی الإسلام.. وهو بوجه خاص حجر الزاویة من صرح ( أهل البیت ).. وهو مقیم فی المدینة.. یتحلّق فیها المتفقهة، حول علماء الإسلام فی مسجد الرسول.. » (18) و « ینقل عن الصادق من العلوم ما لا یُنقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحدیث أسماء الرواة من الثقاة ( الذین حدّثوا عنه ) على اختلافهم فی الآراء والمقالات، وکانوا أربعة آلاف رجل » (19). و « لا یفوتنا أن نشیر إلى أن الذی تزعم تلک الحرکة هو المسمى بالإمام الصادق، وهو رجل رحب أفق الفکر، بعید أغوار العقل، ملمّ کل الإلمام بعلوم عصره، ویعتبر فی الواقع أول من أسّس المدارس الفقهیة المشهورة فی الإسلام، ولم یکن یحضر حلقته العلمیة أولئک الذین أصبحوا مؤسّسی المذاهب الفقهیة فحسب، بل کان یحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الأنحاء القاصیة » (20) حتّى قال قائلهم: « أدرکت فی هذا المسجد ـ یعنی الکوفة ـ تسعمائة شیخ کل یقول: حدثنی جعفر بن محمّد... » (21). ولقد نقل عن ابن خلدون قوله: « ولو صحّ السند إلى جعفر الصادق لکان نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الکرامات، وقد صحّ أنه کان یحذّر بعض قرابته بوقائع تکون لهم فتصبح کما یقول » (22). وعن تلامذة الصادق یُنقل: « کان تلامیذ الصادق مدوّنین کباراً.. ومن بعد وفاة الصادق فی عام 148 دوّن أربعة آلاف من التلامیذ فی کل علومه، ومن جملتها ما یسمّى بالأصول الأربعمائة.. وتلامیذ الصادق المشهورون من کبار أهل السنة أشیاخ للفقهاء فی جمیع المذاهب وشُرّفوا بالروایة عنه، ووقفت المذاهب الأربعة موقف الإجلال له.. » (23).
وعن زمان الإمام الصادق علیه السّلام یُنقل: « وقد ظهرت فجأة حرکة علمیة غیر عادیة، والأرض تهیّأت لأن یعرض کل إنسان ما یملک من أفکار »، و « برزت سوق لمعرکة عقائدیة حامیة €»، و « شُرع فی البحوث حول تفسیر القرآن وقراءة آیاته » و « ظهرت طبقات منتشرة باسم الفقهاء »، و « کل هؤلاء قد واجَهَهم الإمام علیه السّلام: « جعفر بن محمد الذی ملأ الدنیا علمه وفقهه » (24).
نکتفی بما نقلنا عن مصادر مختلفة لنکتشف أهمیة الدور الفکری والعلمی الریادی للصادق علیه السّلام.
ولا شک أن الخطوات التی سعى الصادق علیه السّلام بها لتأدیة دوره الأساسی لم تقتصر على أسلوب واحد فی تبلیغ رسالة جده صلّى الله علیه وآله، بل لم یترک الصادق فرصة سانحة ولا وسیلة ممکنة أو مناسبة إلا واتّبعها لتحقیق ذلک الغرض. ویکفینا دلیلاً على ذلک مناظراته مع العلماء ومع المبتدعین من الزنادقة والملحدین والمشککین بدین الله، وجلساته الوعظیة والتبلیغیة من على منبر جده صلّى الله علیه وآله لیُعلّم الناس علوم الإسلام والقرآن من فقه وروایة وحدیث وتفسیر وبیان وأخلاق وعرفان، وکل ما یحتاجه المسلم فی حیاته، إلى إرشاداته العلمیة المحضة کالطب والکیمیاء وغیرهما، فکان بعض تلامذته أن برع به واشتهر کهشام بن الحکم وجابر بن حیّان وغیرهما کثیر.
فیمکننا إذاً مما تقدّم من الأخبار وغیرها من الأحادیث التی تبدی الإعجاب، استنتاج النقاط التالیة عن الصادق علیه السّلام ودوره وعصره وشخصیته:
1 ـ شخصیة الصادق علیه السّلام مرموقة عند کل المسلمین وکان منهم حترامهم وتقدیرهم له.
2 ـ إن الصادق ما کان لیؤدی هذا الدور لکونه شخصیة عادیة ولا لکونه صاحب مذهب نسب إلیه، وإنما هو حلقة فی سلسلة الأئمّة الاثنی عشر المعصومین علیهم السّلام. ولو نُسب له المذهب الجعفری فإنّ النسبة مجازیة لأنه أکمل دور آبائه وأجداده.
3 ـ إن الصادق علیه السّلام بحر من العلوم بمختلف أنواعها، ولذا کانت الروایات المستفیضة عن تعلیمه ومناظراته ورسائله فی مختلف المجالات.
4 ـ لم یقتصر دور الصادق علیه السّلام العلمی على تلامذته من أتباع مذهبه، وإنما کان همه إیصال الفکر الرسالی إلى الأمّة جمعاء.
5 ـ إن فضله العلمی البارز لواضح من حاجة الکل إلیه واستغنائه عن الکل، فلم یتتلمذ الصادق عند أحد من علماء عصره سوى ما أخذه عن أبیه الباقر وجده زین العابدین علیه السّلام.
6 ـ إن روایته کانت عن رسول الله صلّى الله علیه وآله مباشرة دون أن یحتاج لأن یُسأل عن السند، لأن سنده فی الروایات ( إن احتاج إلى سند ) هم آباؤه المعصومون؛ أبوه محمد عن جده زین العابدین عن الحسین عن علی أو الزهراء عن رسول الله صلّى الله علیه وآله.
7 ـ إن الصادق علیه السّلام قد أمر بتدوین الحدیث، فکان بحق أوّل من أمر بالتدوین (25).
8 ـ لقد أعاد الصادق علیه السّلام بدوره العلمی والفکری ـ وإکمالاً لنهج أبیه الباقر ـ الاعتبار لموقعیة أئمّة أهل البیت علیهم السّلام ودورهم الطبیعی فی الحیاة الإسلامیة العامة، بعد فترة من الظلم والاضطهاد والإجحاف والإبعاد والإلغاء امتدت طیلة العهد الأموی ( کما تجددت محاولات أخرى قام بها العباسیون لإلغاء دورهم لاحقاً ).
وبالخلاصة: جعفر بن محمّد الصادق علیه السّلام عَلَم آخر من أعلام الهدى، قاد سفینة النجاة فی بحر الفتن رغم تلاطم أمواج الظلم والاستبداد والانحراف عند الحکام والضیاع عند الأمّة المسلمة.
وقف صادحاً بالحق من على منبر جده صلّى الله علیه وآله مجاهداً بالکلمة شاهداً على الأمّة والحکام، غیر بعید عن الجهاد، مُلقیاً الحجة لیکون شهیداً آخر مع قافلة الشهداء الأولیاء بسمّ دسّه إلیه المنصور ظنّاً منه أنه یخرس صوت الحق، ولکن المنصور رغم دهائه غفل عن أن الحق لا یقتله السمّ.. رحل الصادق علیه السّلام إلى ربه بعد أن أدّى الأمانة وقال بصدق: « الحمد لله الذی لم یُخرجنی من الدنیا حتّى بیّنتُ للناس جمیع ما تحتاج إلیه » (26).
المصادر :
1 ـ بحار الأنوار / العلامة المجلسی 6:47 طـ مؤسسة الوفاء / بیروت / 1983مـ / 1403هـ. راجع کذلک: الطبری / تاریخ الأمم والملوک / محمد بن جریر / طـ دار سویدان / بیروت / ج 7 / ص 23 ـ 24.
2 ـ تاریخ الطبری بخصوص زوال الحکم الأموی بدءاً بأحداث سنة 126هـ وما بعدها.
3 ـ المصدر نفسه ص 230 و 251.
4 ـ المصدر نفسه فی الخبر عن دعاة بنی العباس والتقائهم بـ « الشیعة » فی خراسان واستلام أموال الخمس والزکاة منهم، والدعوة للثأر للمظلومین من أهل البیت کالإمام الحسین وزید ویحیى وغیرهم... ص 30 ـ 49 ـ 88 ـ 107 ـ 109 ـ 141 ـ 198 ـ 329 ـ 344 ـ 353 ـ 360 ـ 366 وغیرها.
5 ـ سیرة الأئمّة الأطهار / مرتضى مطهری / ترجمة مالک وهبی / طـ دار الهادی / بیروت 1991م / ص 109.
6 ـ ضحى الإسلام / أحمد أمین / ج 1 ص 2 ـ 3.
7 ـ الإمام الصادق / خصائصه / ممیزاته / محمد جواد فضل الله / طـ 1، 1981م / دار الزهراء / بیروت / ص 118.
8 ـ المصدر نفسه / ص 126.
9 ـ مختصر تاریخ العرب / السیّد میر علی الهندی / ص 179.
10 ـ البحار / مصدر سابق / ص 166.
11 ـ المصدر نفسه / ص 165 / وکذلک: مجالس الشیخ الطوسی / المجلس الثانی.
12 ـ المصدر نفسه / ص 167.
13 ـ کتاب الکافی للکلینی ج 5 / ص 106 ـ 107.
14 ـ البحار / مصدر سابق / ص 184.
15 ـ المصدر نفسه / ص 180.
16 ـ الطبری / مصدر سابق / ص 603.
17 ـ الکافی للکلینی / کتاب الدعاء / باب الدعاء للکرب والهم والحزن.
18 ـ الإمام جعفر الصادق / المستشار عبدالحلیم الجندی / مطابع الأهرام التجاریة / القاهرة / طـ 1977م / ص 63.
19 ـ البحار / مصدر سابق / ص 28.
20 ـ مختصر تاریخ العرب / الهندی / ص 179.
21 ـ الإمام الصادق محمد جواد مصدر سابق / ص 129.
22 ـ الإمام جعفر الصادق / الجندی / مصدر سابق / ص 206.
23 ـ المصدر نفسه / ص 207 ـ 244 ـ 235.
24 ـ سیرة الأئمّة الأطهار / المطهری / ص 109 ـ 114 ـ 120 ـ 124 ـ 125 ـ 126.
25 ـ الإمام جعفر الصادق الجندی / ص 206 ـ 207.
26 ـ المصدر نفسه / ص 367.
source : rasekhoon