اشك أن القرآن أصبح معروفاً ومتداولاً بشكل واسع، ومدوناً بشكل مضبوط بعد عهد الخليفة عثمان، حيث تمت كتابة مجموعة من نسخ المصحف الشريف، وأرسل إلى الآفاق الإسلامية بشكل رسمي من أجل العمل بها وتداولها، حيث اُصدرت الأوامر الواضحة والمشددة بالمنع من تداول أي نسخة اُخرى غير هذه النسخ.
ولابد لنا من أجل إيضاح سلامة النص القرآني من التحريف، أن نذكر الحالات والأزمنة التي يمكن أن نفترض وقوع التحريف فيها، مع مناقشة كل واحدة منها. وهي كما يلي:
1 ـ أن يقع التحريف في عهد الشيخين، بصورة عفوية دون قصد حذف شيء من القرآن، وذلك بسبب الغفلة عن بعض الآيات، أو عدم وصولها إلى أيديهم، كما تفرضه قصة جمع القرآن الكريم، التي رواها البخاري.
2 ـ أن يقع التحريف في عهد الشيخين، مع فرض الإصرار منهما عليه بشكل مسبق ومدروس.
3 ـ أن يقع التحريف في عهد الخليفة عثمان.
4 ـ أن يقع التحريف في عهد الاُمويين ، كما نسب ذلك إلى الحجاج بن يوسف الثقفي.
وهناك حالة خامسة لا مجال أن نتصور وقوع التحريف فيها، وهي أن نفرض وقوعه من قبل بعض أفراد الرعية من الناس، لأن هؤلاء لا قدرة لهم على مثل هذا العمل، مع وجود السلطة الدينية التي تعرف القرآن الكريم وتحميه من التلاعب ، والتي هي المرجع الرسمي لتعيين آياته وكلماته لدى الناس.
الحالة الاُولى :
وهي وقوع التحريف في عهد الشيخين، بصورة عفوية
فيمكن أن تُناقش من ناحيتين:
أ ـ إنّ أصل عملية الجمع والتدوين تمّت في زمن النبي(صلى الله عليه وآله)، وحينئذ فإنّ القرآن الذي تمّ جمعه في عهد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، لا يمكن أن يكون إلاّ دقيقاً ومتقناً ، لرعاية الرسول (صلى الله عليه وآله)لجمعه، ومع وجود هذا القرآن، لا مجال لأن نتصور وقوع الغفلة أو الاشتباه من الشيخين، أو من غيرهما، كما لا يمكن أن نحتمل عدم وصول بعض الآيات إليهم.
ب ـ إنّ توفر عوامل عديدة لوجود القرآن الكريم بأكمله لدى جماعة كبيرة من المسلمين، يشكّل ضمانة حقيقية لوصول القرآن الكريم بكامله إلى الدولة في عهد الشيخين دون نقيصة; وهذه العوامل يمكن أن نلخّصها بالأسباب الآتية:
1 ـ إنّ القرآن الكريم يعتبر من أروع النصوص الأدبية وأبلغها تعبيراً ومضموناً ، وقد كان العرب ذوي اهتمام بالغ بهذه النصوص، لأنها تكوّن ثقافتهم الخاصة سواء من الناحية التعبيرية أو من الناحية الفكرية والاجتماعية; ونجد آثار هذا الاهتمام ينعكس على حياتهم الخاصة والعامة، فيحفظون الشعر العربي والنصوص الأدبية الاُخرى ويستظهرونها، ويعقدون الندوات والأسواق للمباراة والتنافس في هذه المجالات ، وقد يصل بهم الاهتمام إلى درجة الاحتفاظ ببعض النصوص في أماكن مقدسة تعبيراً عن التقدير والإعجاب بهذا النص، كما يذكر ذلك بالنسبة إلى المعلقات السبع أو العشر في الكعبة الشريفة.
وقد دفعت هذه العادة الشائعة بين العرب المسلمين ـ حينذاك ـ كثيراً منهم الى حفظ القرآن الكريم واستظهاره.
2 ـ إنّ القرآن الكريم كان يشكّل بالنسبة إلى المسلمين حجر الزاوية الرئيسة في ثقافتهم وأفكارهم وعقيدتهم. من هنا نعرف السرّ في اهتمام المسلمين بالقرآن اهتماماً متميّزاً عن سائر النصوص .
وكما أنّ هذا الأمر دفع النبي (صلى الله عليه وآله) لتدوين القرآن الكريم لحفظه من الضياع، كذلك دفع المسلمين إلى استظهار القرآن الكريم وحفظه بدافع الاحتفاظ بأفكاره وثقافته ومفاهيمه والتعرف على السنن والتشريعات الإسلامية التي تضمنها.
3 ـ إنّ القرآن الكريم ـ على أساس ما يحتويه من ثقافة ـ كان يعطي الجامع له تقديراً اجتماعياً بين الناس، يشبه التقدير الذي يحصل عليه العلماء من الناس في عصرنا الحاضر.
وتعتبر هذه الميزة الاجتماعية إحدى العوامل المهمة لتدارس العلوم وتحصيلها في جميع العصور الإنسانية; فمن الطبيعي أن تكون إحدى العناصر المؤثرة في استظهار القرآن الكريم وحفظه.
وقد حدّثنا التأريخ عن الدور الذي كان يتمتع به القرّاء في المجتمع الاسلامي بشكل عام، وعن القداسة التي خَلَعها المسلمون عليهم.
4 ـ لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) رائداً للاُمة الإسلامية وموجهاً لها، يحرّض المسلمين ويحثّهم على حفظ القرآن واستظهاره.
ونحن نعرف ما كان يتمتع به النبي (صلى الله عليه وآله) من حب عظيم في نفوس كثير من المسلمين، وما كان يملكه من قدرة على التأثير في حياتهم وسلوكهم، الأمر الذي كان يدفع المسلمين إلى الاستجابة له في كثير من التوجيهات ، دون الإلتفات إلى مدى لزومها الشرعي.
5 ـ الثواب الجزيل الذي وضعه الله سبحانه لقرّاء القرآن وحفظته، ورغبة كثير من المسلمين حينذاك في الاستزادة من هذا الثواب، خصوصاً أنّهم كانوا جديدي عهد بالإسلام ، فهم يحاولون أن ينعكس الإسلام على جميع تصرفاتهم.
وقد كان لبعض هذه العوامل أو جميعها تأثير بالغ الأهمية في حياة المسلمين، حيث حدثنا التأريخ الإسلامي عن وجود جماعات كثيرة من المسلمين، عرفوا بالقرّاء من ذوي العقيدة الصلدة، كان لهم دورهم في الحياة الاجتماعية، وميزتهم في ترجيح جانب آخر عند الخلافات السياسية التي عاشها المسلمون.
6 ـ إضافة إلى ذلك تفرض طبيعة الأشياء أن يكون قد دَوَّن القرآن الكريم وكتبه كل مسلم عنده القدرة على التدوين والكتابة، لأن أيّ جماعة أو اُمة تهتم بشيء وترى فيه معبّراً عن جانب كبير من جوانب حياتها، فهي تعمل على حفظه بوسائل شتى، ولاشك أن الكتابة ـ عند من يتقنها ـ من الممكن التوفّر عليها.
ولذلك نجد بعض النصوص تُشير إلى وجود عدد من المصاحف، أو قطعات مختلفة منه عند كثير من الصحابة.
ولابد لنا أن ننتهي إلى أنّ القرآن الكريم بسبب هذه العوامل، كان موجوداً في متناول الصحابة، ولم يكن من المعقول فرض التحريف نتيجة الغفلة أو الاشتباه، أو عدم وصول بعض الآيات القرآنية.
الحالة الثّانية :
وهي وقوع التحريف في عهد الشّيخين بشكل مدروس
فإنّها فرضية غير صادقة إطلاقاً; لأن دراسة عهد الشيخين والظروف المحيطة بهما تجعلنا ننتهي إلى هذا الحكم وتكذيب هذه الفرضية، ذلك لأن التحريف المتعمد يمكن أن يكون لأحد السببين الآتيين:
أولاً : أن يكون بسبب رغبة شخصية في التحريف.
ثانياً: أن يكون بدافع تحقيق أهداف سياسية; كأن يفرض وجود آيات قرآنية تنص على موضوعات ومفهومات خاصة، تتنافى مع وجودهما أو متبنياتهما السياسية، مثل النص على علي(عليه السلام) ،أو الطعن بهما.
أمّا بالنسبة إلى السبب الأوّل ، فنلاحظ عدة اُمور:
1 ـ إنّ قيام الشيخين بذلك يعني في الحقيقة نسف القاعدة التي يقوم عليها الحكم حينذاك ، حيث إنّه يقوم على أساس الخلافة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، والقيمومة على الاُمة الإسلامية، وليس من المعقول أن يقدما على تحريف القرآن، ويعملا على معاداة الإسلام، دون تحقيق أيّ مكسب دينيّ أو دنيوي، وهل يعني ذلك إلا فتح الطريق أمام المعارضة التي كانت موجودة، لتشنّ هجوماً مركّزاً يملك أقوى الأسلحة التي يمكن استخدامها حينذاك ؟!
2 ـ إنّ الاُمة الإسلامية كانت تشكّل حينذاك ضمانة اجتماعية وسياسية قوية، تمنع قيام أحد من الناس مهما يمتلك من قدرة وقوة بمثل هذا العمل المضاد للإسلام، دون أن يكون لهذا العمل رد فعل قوي في صفوفها، لأن المسلمين كانوا ينظرون إلى القرآن الكريم على أنّه شيء مقدس غاية التقديس، وأنّه كلام الله سبحانه الذي لا يقبل أيّ تغيير أو تبديل، حتّى من قبل الرسول(صلى الله عليه وآله)نفسه، كما أكّد ذلك القرآن الكريم (1). كما أنّهم ناضلوا وجاهدوا في سبيل مفاهيم القرآن وآياته وأحكامه، التي كانت تعايش حركتهم لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، وضحوا بأنفسهم من أجل هذا الدين الجديد، الذي كان يشكّل التصرّف في القرآن ـ في نظرهم ـ خروجاً عنه وارتداداً عن الإلتزام به.
3 ـ إنّ الحكم في عهد الشيخين، لم يسلم من وجود المعارضة التي كانت ترفع أصواتها أحياناً من أجل خطأ يقع فيه الخليفة في تطبيق بعض الأحكام، ومع هذا لا نجد في التأريخ أيّة إشارة إلى الاحتجاج أو ما يشبه الاحتجاج، على ما يشير إلى وقوع هذه الفرضية، فكيف يمكن أن تسكت المعارضة في كلامها وأقوالها زمن الشيخين أو بعدهم عن كل ذلك لو انّه كان قد حصل؟!
ومن هنا يتضح موقفنا من السبب الثاني:
فأوّلاً : إنّ وعي الاُمة ونظرتها المقدسة للكتاب ـ وصلته بالله بشكل لا يقبل التغيير ـ لا يسمح بوقوع مثل هذا العمل مطلقاً.
ثانياً: إنّ المعارضة لا يمكن أن تترك هذه الفرصة تمر دون أن تستغلها في صراعها مع الخليفة، مع انّنا لا نجد إشارة إلى ذلك في كلامهم.
ثالثاً: إنّ هناك نصوصاً سياسية واسعة تضمّنت ملاحظات حول تصرفات الخليفة أبي بكر وعمر ـ مثل المناقشة السياسية التي شنّتها الزهراء(عليها السلام)، ومن بعدها أمير المؤمنين (عليه السلام)وجماعته المؤمنون بإمامته ـ لم تتناول أيّ نص قرآني غير مدوّن في القرآن الكريم الموجود بين أيدينا ، ولو كان مثل هذا النص موجوداً في القرآن، لكان من الطبيعي أن يستعملوه أداة لكسب المعركة إلى جانبهم، وإظهار الحق الذي ناضلوا من أجله.
الحالة الثالثة :
وهي وقوع التحريف في عهد عثمان
فهي تبدو أكثر استحالة وبعداً عن الحقيقة التأريخية من سابقتيها، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: إنّ الإسلام ـ وإلى جنبه القرآن الكريم ـ كان قد أصبح منتشراً بشكل كبير بين الناس وفي آفاق مختلفة، وقد مرَّ على المسلمين زمن كبير يتداولونه أو يتدارسونه، فلم يكن في ميسور عثمان ـ لو أراد أن يفعل ذلك ـ أن ينقص منه شيئاً، بل ولم يكن ذلك في ميسور من هو أعظم شأناً من عثمان، وقد اعترض المسلمون بالفعل على عثمان وقتلوه لأسباب مختلفة.
ثانياً: إنّ النقص إمّا أن يكون في آيات لا مساس فيها بخلافة عثمان، وحينئذ فلا يوجد أيّ داع لعثمان أن يفتح ثغرة كبيرة في كيانه السياسي، وإمّا أن يكون في آيات تمسّ خلافة عثمان وإمامته السياسية، فقد كان من المفروض أن تؤثّر مثل هذه الآيات في خلافة عثمان نفسه، فتقطع الطريق عليه في الوصول إلى الخلافة.
ثالثاً: إنّ الخليفة عثمان لو كان قد حرّف القرآن الكريم، لاتّخذ المسلمون ذلك أفضل وسيلة لتسويغ الثورة عليه وإقصائه عن الحكم أو قتله، مع أنّنا لا نجد في مسوغات الثورة على عثمان شيئاً من هذا القبيل ، ولِما كانوا في حاجة للتذرع في سبيل ذلك بوسائل وحجج اُخرى ليست من الوضوح بهذا القدر.
رابعاً: إنّ الخليفة عثمان لو كان قد ارتكب مثل هذا العمل لكان موقف الإمام علي (عليه السلام)تجاهه واضحاً، ولأصرّ على إرجاع الحق إلى نصابه في هذا الشأن; فنحن حين نجد الإمام علياً (عليه السلام) يأبى إلاّ أن تُرجع الأموال التي أعطاها عثمان إلى بعض أقربائه وخاصته ويقول بشأن ذلك : «والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته ، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(2) . وكذلك نجد منه نفس الموقف الحازم مع ولاة عثمان المنحرفين ، فلابد أن نجزم باستحالة سكوته عن مثل هذا الأمر العظيم على فرض وقوعه.
الحالة الرّابعة:
وهي وقوع التّحريف في عهد الاُمويين
ومن المناقشة التفصيلية للحالات الثلاث السابقة، يتضح موقفنا من الحالة الرابعة; فإن الحجّاج بن يوسف الثقفي، أو غيره من الولاة لا يمكن أن نتصوّر فيهم القدرة على تحريف القرآن الكريم، بعد أن عمَّ شرق الأرض وغربها.
كما لا نجد المسوّغ الذي يدعو الحجّاج أو الاُمويين إلى مثل هذا العمل، الذي يحمل في طيّاته الخطر العظيم على مصالحهم ويقضي على آمالهم(3).
النتيجـة:
وهكذا يتّضح لدينا عدم إمكان تسرّب التحريف إلى النص القرآني، في أيّ واحد من الأزمنة الغابرة منذ صدور النصّ القرآني، وحتى العصر الحاضر، فلا حاجة إلى لزوم إثبات عدم التحريف، بعد إتّضاح عدم إمكان تحقّق التحريف في الواقع التاريخي والاجتماعي بين المسلمين.
ومنه يتّضح أن الروايات الموجودة التي يتشبّث بها البعض لإثارة الشبهة هي روايات ليست ذات قدرة علمية على الإثبات ما دمنا قد عرفنا عدم إمكان تحقّقه.
ومن هنا أعرض علماء الفريقين عن هذه الروايات وصرّحوا بآرائهم القاطعة بسلامة القرآن من أيّ نقصان وزيادة.
وإليك جملة من هذه التصريحات التي صدرت من أكابر علماء الإمامية على مدى القرون حتى عصرنا هذا في البحث التالي.
تصريحات علماء المسلمين بسلامة القرآن من التّحريف
صرّح علماء المسلمين بشكل عام وعلماء الشيعة بشكل خاص عبر القرون كلّها بسلامة النصّ القرآني من التحريف، لكن مَن يتّهم الشيعة بالقول بالتحريف يهمل هذه التصريحات المهمّة التي تكشف عن الموقف الموضوعي للمذهب الإمامي بشكل واضح.
وإليك نماذج من هذه التصريحات عبر القرون التالية حتى عصرنا هذا:
1 ـ شيخ المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين الصدوق ـ المتوفّى سنة 381 هـ ـ
قال في رسالته التي وضعها لبيان معتقدات الشيعة الإمامية:
«اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه(صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك وعدد سوره على المعروف (114) سورة.
ثمّ قال: ومن نسب إلينا أنّا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كذّاب»(4).
2 ـ الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الملقّب بالمفيد ـ المتوفّى سنة 413 هـ ـ
قال: «وقد قال جماعة من أهل الإمامة، إنه لم ينقص من كلمة، ولا من آية، ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام) من تأويله، وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز.
وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل والله اسأل توفيقه للصواب»(5).
3 ـ الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي، الملقّب بعلم الهدى ـ المتوفّى سنة 436 هـ ـ
قال:«إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدٍّ لم يبلغه في ما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيِّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟!».
وقال: «إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورةً من الكتب المصنّفة ككتابي سيبويه والمزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها، حتّى لو أنّ مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعُرِف ومُيّز، وعلم أنّه ملحق وليس في أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء».
وقال: «إنّ القرآن كان على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن...».
«واستدلّ على ذلك بأن القرآن كان يُدرّس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبي(صلى الله عليه وآله) ويُتلا عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود واُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي(صلى الله عليه وآله) وسلّم عدّة ختمات».
«كل ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث».
«وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا بصحّتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته»(6).
ولقد عرف واشتهر هذا الرأي عن الشريف المرتضى حتّى ذكر ذلك عنه كبار علماء أهل السُنّة، وأضافوا أنّه كان يُكفّر من قال بتحريف القرآن، فقد نقل ابن حجر العسقلاني عن ابن حزم قوله فيه: «كان من كبار المعتزلة الدعاة، وكان إمامياً، لكنّه يكفّر من عزم أنّ القرآن بُدلّ أو زيد فيه، أو نقص منه، وكذا كان صاحباه أبو القاسم الرازي وأبو يعلى الطوسي»(7).
4 ـ الشيخ محمد بن الحسن أبو جعفر الطوسي، الملقّب بشيخ الطائفة ـ المتوفّى سنة 460 هـ ـ قال في مقدمة تفسيره:
«والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه وفنون أغراضه، وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى ـ رحمه الله تعالى ـ وهو الظاهر من الروايات.
غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها لأنّه يمكن تأويلها، ولو صحّت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفّتين، فإنّ ذلك معلوم صحّته لا يعترضه أحد من الاُمّة ولا يدفعه»(8).
5 ـ الشيخ الفضل بن الحسن أبو علي الطبرسي، الملقّب بأمين الإسلام ـ المتوفّى سنة 548 هـ ـ قال ما نصّه:
«... ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنّه لا يليق بالتفسير، فأمّا الزيادة فجمع على بطلانها، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة: إنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً...
والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات»(9).
6 ـ السيد أبو القاسم على بن طاووس الحلّي ـ المتوفى سنة 664 هـ ـ فقد نصّ على أن القرآن مصون من الزيادة والنقصان، كما يقتضيه العقل والشرع(10).
واستنكر ما روى العامة عن عثمان وعائشة، من أن في القرآن لحناً وخطأً، قائلاً: «ألا تعجب من قوم يتركون مثل علي بن أبي طالب، أفصح العرب بعد صاحب النبوّة وأعلمهم بالقرآن والسنّة ويسألون عائشة؟ أما يفهم أهل البصائر أنّ هذا لمجرد الحسد، أو لغرض يبعد من صواب الموارد والمصادر... ولو ظفر اليهود والزنادقة بمسلم يعتقد في القرآن لحناً جعلوه حجة»(11).
7 ـ العلاّمة الحلّي ـ المتوفى سنة 726 هـ ـ
وممّا قاله في بعض أجوبته حيث سئل: «ما يقول سيدنا في الكتاب العزيز هل يصح عند أصحابنا أنّه نقص منه شيء أو زيد فيه أو غيّر ترتيبه أم لم يصح عندهم شيء من ذلك؟
«الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنّه لم يزد ولم ينقص، ونعوذ بالله تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنّه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول عليه وآله السلام المنقولة بالتواتر»(12).
8 ـ الشيخ زين الدين البياضي العاملي ـ المتوفى سنة 877 هـ ـ
قال: «علم بالضرورة تواتر القرآن بجملته وتفاصيله، وكان التشديد في حفظه أتمّ، حتّى نازعوا في أسماء السور والتفسيرات. وانّما اشتغل الأكثر عن حفظه بالتفكّر في معانيه وأحكامه، ولو زيد فيه أو نقص لعلمه كلّ عاقل وإن لم يحفظه، لمخالفة فصاحته واُسلوبه»(13).
9 ـ وألّف الشيخ علي بن عبدالعالي الكركي العاملي، الملقّب بالمحقق الثاني ـ المتوفى سنة 940 هـ ـ رسالة في نفي النقيصة في القرآن الكريم.
وأجاب عن الأخبار التي تتضمن وجود النقص قائلاً: «بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل والسُنّة المتواترة أو الإجماع، ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه»(14).
10 ـ وبه صرّح الشيخ فتح الله الكاشاني ـ المتوفّى سنة 988 هـ ـ في مقدمة تفسيره منهج الصادقين، وفي تفسير الآية المباركة (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون).
11 ـ وهو صريح السيد نور الله التستري، المعروف بالقاضي الشهيد ـ المستشهد سنة 1019 هـ ـ في كتابه مصائب النواصب في الإمامة والكلام، حيث قال:
«ما نسب إلى الشيعة الإمامية من القول بوقوع التغيير في القرآن ليس ممّا قال به جمهور الإمامية، إنّما قال به شرذمة قليلة منهم، لا اعتداد بهم فيما بينهم».(15)
12 ـ الشيخ محمد بن الحسين، الشهير ببهاء الدين العاملي ـ المتوفّى سنة 1030 هـ ـ
قال: «الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك، زيادة كان أو نقصاناً، ويدلّ عليه قوله تعالى: (وإنّا له لحافظون). وما اشتهر بين الناس من اسقاط اسم أمير المؤمنين(عليه السلام) منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى: (يا أيها الرّسول بلّغ ما اُنزل إليك ـ في علي ) ، وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء»(16).
13 ـ الشيخ محمد محسن الشهير بالفيض الكاشاني ـ المتوفى سنة 1019 هـ ـ
قال: «فلو تطرّق التحريف والتغيير في ألفاظ القرآن لم يبق لنا اعتماد على شيء منه، إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن تكون محرّفة ومغيّرة، وتكون على خلاف ما أنزله الله، فلا يكون القرآن حجّة لنا، وتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتّباعه والوصية به، وعرض الأخبار المتعارضة عليه.
ثم استشهد ـ رحمه الله تعالى ـ بكلام الشيخ الصدوق المتقدّم، وبعض الأخبار(17).
وقال في تفسير قوله تعالى: (وإنا له لحافظون) : «من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان»(18).
14 ـ الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي ـ المتوفى سنة 1104 ـ
قال: «إنّ من تتبّع الأخبار وتفحّص التواريخ والآثار علم ـ علماً قطعياً ـ بأنّ القرآن قد بلغ أعلى درجات التواتر، وأنّ آلاف الصحابة كانوا يحفظونه ويتلونه، وأنّه كان على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)مجموعاً مؤلفاً»(19).
15 ـ العلاّمة محمد باقر المجلسي ـ المتوفّى سنة 1111 هـ ـ
قال: «غير أن الخبر قد صحّ عن أئمتنا (عليهم السلام) أنّهم أمروا بقراءة ما بين الدفّتين وأن لا نتعدّاه بلا زيادة فيه ولا نقصان منه.. وإنّما نهونا(عليهم السلام)عن قراءة ما وردت به الأخبار من أحرف يزيد على الثابت في المصحف، لأنّه لم يأت على التواتر وإنّما جاء بالآحاد،
وقد يغلط الواحد فيما ينقله»(20).
16 ـ السيد محمد مهدي الطباطبائي، الملقّب ببحر العلوم ـ المتوفّى سنة 1212 هـ ـ
قال ما نصّه: «الكتاب هو القرآن الكريم والفرقان العظيم والضياء والنور والمعجز الباقي على مرّ الدهور، وهو الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من لدن حكيم حميد، أنزله بلسان عربيّ مبين هدى للمتقين وبياناً للعالمين... ثم ذكر روايتي: القرآن أربعة أرباع، و: القرآن ثلاث أثلاث، ثم قال : والوجه حمل الأثلاث والأرباع على مطلق الأقسام والأنواع وإن اختلف في المقدار...»(21).
17 ـ الشيخ الأكبر الشيخ جعفر، المعروف بكاشف الغطاء ـ المتوفّى سنة 1228 هـ ـ
قال ما نصّه: «لا ريب في أنّ القرآن محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان، كما دلّ عليه صريح الفرقان وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر ، ما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها، ولا سيّـما ما فيه نقص ثلث القرآن أو كثير منه، فإنّه لو كان كذلك لتواتر نقله، لتوفر الدواعي عليه، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله، ثم كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه؟!... فلابد من تأويله بأحد وجوه»(22).
18 ـ السيد محسن الأعرجي الكاظمي ـ المتوفّى سنة 1228 هـ ـ
قال ما ملخّصه: أنّ القوم إنّما ردّوا مصحف علي(عليه السلام) لما اشتمل عليه من التأويل والتفسير، وقد كان عادة منهم أن يكتبوا التأويل مع التنزيل، والذي يدلّ على ذلك قوله(عليه السلام) في جواب الثاني: «ولقد جئت بالكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ». فإنّه صريح في أنّ الذي جاءهم به ليس تنزيلاً كلّه(23).
19 ـ السيد محمد الطباطبائي ـ المتوفّى سنة 1242 هـ ـ
قال ما ملخّصه: «لا خلاف أنّ كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً في أصله وأجزائه، وأمّا في محلّه ووضعه وترتيبه، فكذلك عند محقّقي أهل السُنّة، للقطع بأنّ العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله، لأنّ هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم مـمّا توفّرت الدواعي على نقل جمله وتفاصيله، فما نقل آحاداً ولم يتواتر يُقطع بأنّه ليس من القرآن قطعاً»(24).
20 ـ الإمام روح الله الموسوي الخميني ـ المتوفّى سنة 1409 هـ ـ
قال: «إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه، قراءةً وكتابةً، يقف على بطلان تلك الروايات المزعومة. وما ورد فيها من أخبار ـ حسبما تمسّكوا به ـ إمّا ضعيف لا يصلح للاستدلال به، أو موضوع تلوح عليه إمارات الوضع، أو غريب يقضي بالعجب، أمّا الصحيح منها فيرمى الى مسألة التأويل والتفسير، وأن التحريف إنّما حصل في ذلك، لا في لفظه وعباراته.
وتفصيل ذلك يحتاج إلى تأليف كتاب حافل ببيان تاريخ القرآن والمراحل التي قضاها طيلة قرون، ويتلخص في أن الكتاب العزيز هو عين ما بين الدفّتين، لا زيادة ولا نقصان، وأن الاختلاف في القراءات أمر حادث، ناشئ عن اختلاف الاجتهادات، من غير أن يمسّ جانب الوحي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين»(25).
21 ـ السيد أبو القاسم الخوئي ـ المتوفّى 1413 هـ ـ
قال: «إن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلاّ من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه حبُّ القول به. والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته»(26).
22 ـ الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني دام ظلّه .
قال: «فالقرآن الموجود بين الدّفتين هو كتاب دين الفريقين وهو أصلهم الأوّل الّذي تأتي بعده السنّة المشروط صحة الاعتماد عليها بأن لا تكون مخالفة للقرآن، وهذا الأمر يحتج به الجميع في الاُصول والفروع وفي خلافاتهم ويعتمدون عليه وعلى السنّة.
فكلّ الاُمة ـ شيعة وسنّة ـ يتمسّكون بجميع محكماته، وفي متشابهاته أيضاً يقولون: آمنّا به كل من عند ربّنا»(27).
المبحث الخامس
أسباب نشوء شبهة التّحريف وإشاعتها
من الواضح أن إثارة هذه الشبهة من قبل أعداء الإسلام القدامى منهم والمحدثين تستهدف ما يلي:
1 ـ إدانة أهم دليل على حقّانية الإسلام وخلوده.
2 ـ إسقاط أهم مصدر للتشريع من الحجّية وسلب الثقة به.
3 ـ زعزعة ثقة المسلمين بكتابهم ورمز وحدتهم وأصالتهم، إن لم يستطيعوا كسبهم نحو دينهم الذي أثبت القرآن تحريفهم للكتب السماوية السابقة.
4 ـ إيجاد الفرقة بين المسلمين، حيث يتّهم بعضهم البعض الآخر بأنه يعتقد بتحريف القرآن.
5 ـ تربية ذهنية الإنسان المسلم وترويضها على أن تتقبّل المنهج العلماني الذي يتناول النصوص القطعية المقدّسة عندنا بذهنية مشكّكة.
6 ـ كما لا يبعد أن تكون هذه الإثارة ردّة فعل من قبل اليهود والنصارى الذين أدان القرآن سلوكهم تجاه كتبهم (التوراة والإنجيل) حيث حرّفوهما، وحين يشكك في سلامة النص القرآني لم يتميّز الإسلام وكتاب الإسلام عن الديانتين اليهودية والمسيحية من هذه الجهة.. قال تعالى: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم)(28).
المبحث السّادس
الموقف الموضوعي من روايات التّحريف
أوّلاً: الموقف من روايات التحريف في مصادر أهل السنّة
نذكر هنا نماذج من الروايات الموجودة في كتب أهل السُنّة، ونبيّن ما ورد في تأويلها، وما قيل في بطلانها وإنكارها، وعلى هذه النماذج يقاس ما سواها ، وهي على أقسام:
القسم الأ وّل: الروايات التي ذكرت سوراً أو آيات زُعِم أنّها كانت من القرآن وحُذِفت منه، أو زعم البعض نسخ تلاوتها، أو أكلها الداجن، نذكر منها:
الاُولى: أنّ سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة:
1 ـ رُوي عن عائشة: «أنّ سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمان النبي(صلى الله عليه وآله) في مائتي آية، فلم نقدر منها إلاّ على ما هو الآن»(29). وفي لفظ الراغب : «مائة آية»(30).
2 ـ ورُوي عن عمر واُبي بن كعب وعكرمة مولى ابن عباس: «أنّ سورة الأحزاب كانت تقارب سورة البقرة، أو هي أطول منها، وفيها كانت آية الرجم»(31).
وقد حمل ابن الصلاح المدّعى زيادته على التفسير، وحمله السيوطي وابن حزم على نسخ التلاوة، والمتأمّل لهذه الروايات يلاحظ وجود اختلاف فاحش بينها في مقدار ما كانت عليه سورة الأحزاب، الأمر الذي يشير إلى عدم صحّة هذه النصوص وبطلانها، أمّا آية الرجم الواردة في الحديث الثاني فستأتي في القسم الرابع من هذه الطائفة.
الثانية: لو كان لابن آدم واديان...
رُوي عن أبي موسى الأشعري، أنّه قال لقُـرّاء البصرة: «كنّا نقرأ سورة نُشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب»(32).
وقد حمل ابن الصلاح هذا الحديث على السُنّة، قال: «إنّ هذا معروف في حديث النبي(صلى الله عليه وآله)على أنّه من كلام الرسول، لا يحكيه عن ربِّ العالمين في القرآن، ويؤيّده حديث روي عن العباس ابن سهل، قال: سمعت ابن الزبير على المنبر يقول: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لو أنّ ابن آدم اُعطي واديان...» وعدّه الزبيدي الحديث الرابع والأربعين من الأحاديث المتواترة وقال: «رواه من الصحابة خمسة عشر نفساً»(33). رواه أحمد في (المسند) عن أبي واقد الليثي على أنّه حديث قدسيّ(34).
أمّا إخبار أبي موسى بأنّه كان ثمّة سورة تشبه براءة في الشدّة والطول، فلو كانت لحصل العلم بها، ولما غفل عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله) والصحابة وكُـتّاب الوحي وحُـفّاظه وقُـرّاؤه.
الثالثة : سورتا الخلع والحفد
روي أنّ سورتي الخلع والحفد، كانتا في مصحف ابن عباس واُبي بن كعب وابن مسعود، وأنّ عمر بن الخطاب قنت بهما في الصلاة، وأنّ أبا موسى الأشعري كان يقرأهما... وهما:
1 ـ «اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك».
2 ـ «اللّهمّ إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك، إنّ عذابك بالكافرين ملحق»(35).
وقد حملهما الزرقاني والباقلاني والجزيري وغيرهم على الدعاء، وقال صاحب الانتصار: «إنّ كلام القنوت المروي: أنّ اُبي بن كعب أثبته في مصحفه، لم تقم الحجّة بأنّه قرآن منزّل، بل هو ضرب من الدعاء، ولو كان قرآناً لنقل إلينا وحصل العلم بصحتّه» إلى أن قال: «ولم يصحّ ذلك عنه، وإنّما روي عنه أنّه أثبته في مصحفه ، وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل... الخ»(36).
وقد روي هذا الدعاء في الدر المنثور والإتقان والسنن الكبرى والمصنّف وغيرها، من عديد من الروايات عن ابن الضرس والبيهقي ومحمد بن نصر، ولم يُصرّحوا بكونه قرآناً»(37).
الرابعة: آية الرجم
روي بطرق متعدّدة أنّ عمر بن الخطاب، قال: «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم.. والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم. فإنّا قد قرأناها»(38).
وأخرج ابن أشته: في المصاحف عن الليث بن سعد، قال: «إنّ عمر أتى إلى زيد بآية الرجم، فلم يكتبها زيد لأنّه كان وحده»(39).
وقد حمل ابن حزم آية الرجم في المحلّى على أنّها ممّا نسخ لفظه وبقي حكمه ، وهو حملٌ باطلٌ، لأنّها لو كانت منسوخة التلاوة لما جاء عمر ليكتبها في المصحف، وأنكر ابن ظفر في الينبوع عدّها ممّا نسخ تلاوة، وقال: «لأنّ خبر الواحد لا يُثبت القرآن»(40).
وحملها أبو جعفر النحاس على السُنّة، وقال: «إسناد الحديث صحيح، إلاّ أنّه ليس حكمه حكم القرآن، الذي نقله الجماعة عن الجماعة، ولكنها سُنّة ثابتة، وقد يقول الإنسان: كنت أقرأ كذا لغير القرآن، والدليل على هذا أنّه قال: لولا أنّي أكره أن يقال زاد عمر في القرآن لزدته»(41).
الخامسة: آية الجهاد
رُوي أنّ عمر قال لعبدالرحمن بن عوف: «ألم تجد فيما اُنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرة، فأنا لا أجدها؟ قال: اُسقطت فيما أسقط من القرآن»(42).
نقول: ألم يرووا في أحاديث جمع القرآن أنّ الآية تُكتب بشهادة شاهدين من الصحابة على أنّها ممّا أنزل الله في كتابه؟ فما منع عمر وعبدالرحمن بن عوف من الشهادة على أنّ الآية من القرآن وإثباتها فيه؟ فهذا دليل قاطع على وضع هذه الرواية، وإلاّ كيف سقطت هذه الآية المدّعاة عن كُتّاب القرآن وحُفّاظه في طول البلاد وعرضها، ولم تبق إلاّ مع عمر وعبدالرحمن بن عوف؟
السادسة: آية رضاع الكبير عشراً
رُوي عن عائشة أنّها قالت: «نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشراً، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلمّا مات رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها»(43).
وظاهرٌ من هذه الرواية أنه لم يحفظ القرآن ولم يكتبه غير عائشة، وهو أمرٌ في غاية البُعد والغرابة، فأين سائر الصحابة والحُفّاظ والكتبة منهم ؟! قال السرخسي: «حديث عائشة لا يكاد يصح، لأن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة اُخرى، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث»(44).
أما بالنسبة لآية الرجم المذكورة في الحديث فقد تقدّم أنّه لا يصحّ اعتبارها قرآناً لكونها من أخبار الآحاد، وحكم الرجم من السنن الثابتة عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله).
ثم إنّ هذا الحكم ـ في رضاع الكبير عشراً ـ قد انفردت به عائشة، وعارضها فيه سائر أزواج النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولم تأخذ واحدة منهنّ بقولها في ذلك، وأنكره أيضاً ابن مسعود على أبي موسى الأشعري، وقال: «إنّما الرضاعة ما أنبت اللحم والدم» فرجع أبو موسى عن القول به(45) عن سائر الصحابة وكُـتّاب الوحي منهم وحفّاظه وجمّاعه، واختصت به عائشة دونهم؟ ولو صحّ فهو رواية عن الرسول(صلى الله عليه وآله) ، فاعتقدت عائشة كونها من القرآن فكتبتها، حيث روي عن البراء ابن عازب أنّه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الاُول»(46)، وروي عن عائشة أنّها قالت: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن الله وملائكته يصلّون على الذين يَصِلون الصفوف»(47)، ولعلّه أيضاً ممّا يُكْتب في حاشية المصحف، حيث كانوا يسجّلون ما يرون له أهمية وشأناً في حاشية مصاحفهم الخاصّة.
وأخيراً فإنّ الملاحظ على كثير ممّا ادّعي أنّه من القرآن مخالفته لقواعد اللغة واُسلوب القرآن الكريم وبلاغته السامية، ممّا يدل على أنّه ليس بكلام الخالق تعالى، وليست له طلاوته، ولا به حلاوته وعذوبته، وليست عليه بهجته، بل يتبرّأ من ركاكته وانحطاطه وتهافته المخلوقون، فكيف برب العالمين، وسموّ كتابه المبين؟!
ومن أراد الاطلاع على ما ذكرناه، فليراجع مقدمة (تفسير آلاء الرحمن) للشيخ البلاغي ففيه مزيد بيان.
والملاحظ أيضاً أن قسماً منه هو من الأحاديث النبوية، أو من السُنّة والأحكام التي ظنّوها قرآناً، كما روي أنّ قوله(صلى الله عليه وآله): «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» هو آية، ولا يشكّ أحد في أنّه حديث، والملاحظ أيضاً أنّ أغلبه روي بألفاظ متعدّدة وتعابير مختلفة، فلو كان قرآناً لتوحّدت ألفاظه.
المصادر :
1- (...قل ما يكون لي أن اُبدّله من تلقاء نفسي إن اتّبع إلا ما يوحى إلي...) يونس : 15 .
2- شرح نهج البلاغة 1 / 269 فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان.
3- علوم القرآن: 99 ـ 114 للسيد محمد باقر الحكيم الطبعة الثالثة .
4- كتاب اعتقادات الإمامية المطبوع، مع شرح الباب الحادي عشر: 93 ـ 94.
5- أوائل المقالات في المذاهب المختارات: 55 ـ 56.
6- نقل هذا في مجمع البيان: 1/15، عن المسائل الطرابلسيات للسيد المرتضى.
7- لسان الميزان : 4/223، ولا يخفى ما فيه من الخلط والغلط.
8- التبيان في تفسير القرآن: 1/3.
9- مجمع البيان: 1/15.
10- سعد السعود: 192.
11- سعد السعود: 266.
12- أجوبة المسائل المهناوية: 121.
13- الصراط المستقيم : 1/45.
14- مباحث في علوم القرآن ـ مخطوط. راجع شرح الوافية في علم الاُصول ، نقل أكثر عباراته.
15- آلاء الرحمن، البلاغي: 1/25، قول الإمامية بعدم النقيصة في القرآن نقلاً عن كتاب مصائب النواصب، الشيعة في الميزان: 314 .
16- آلاء الرحمن: 26.
17- الوافي: 1 / 273 ـ 274.
18- الصافي في تفسير القرآن: 3 / 348.
19- جاءت الرسالة بالفارسية مع ترجمتها العربية في الفصول المهمة لشرف الدين: 168.
20- بحار الأنوار: 92/74.
21- الفوائد في علم الاُصول مبحث حجية ظواهر الكتاب ـ مخطوط.
22- كشف الغطاء في الفقه ، كتاب القرآن: 299.
23- شرح الوافية في علم الاُصول، مخطوط.
24- مفاتيح الاُصول ، مبحث حجّية ظواهر الكتاب.
25- تهذيب الاُصول: 2/165.
26- البيان في تفسير القرآن ، الخوئي: 259.
27- القرآن مصون عن التحريف: 5/ صيانة القرآن من التحريف للعلاّمة معرفة: 44 ـ 70 والتحقيق في نفي التحريف: 10 ـ 26.
28- البقرة: 109.
29- الإتقان: 3/82، تفسير القرطبي: 14/113، مناهل العرفان: 1/273، الدرّ المنثور: 6/560.
30- محاضرات الراغب 2: 4/434.
31- الإتقان: 3/82، مسند أحمد: 5/132، المستدرك : 4/359، السنن الكبرى: 8/211، تفسير القرطبي: 14/113، الكشاف: 3/518، مناهل العرفان: 2/111، الدر المنثور: 6/559.
32- صحيح مسلم 2: 726/1050.
33- مقدمتان في علوم القرآن: 85 ـ 88 .
34- مسند أحمد: 5/219.
35- مناهل العرفان: 1/257، روح المعاني: 1/25.
36- المصدر السابق : 1/264.
37- السنن الكبرى : 2/210، المصنف : 3/212.
38- المستدرك: 4/359 و 360، مسند أحمد: 1/23 و 29 و 36 و 40 و 50، طبقات ابن سعد: 3/334، سنن الدارمي: 2/179.
39- الإتقان: 3/206.
40- البرهان للزركشي : 2/43.
41- الناسخ والمنسوخ: 8.
42- الإتقان: 3/84، كنز العمال: 2 حديث 4741.
43- مسند أحمد: 6/269، المحلّى: 11/235، سنن ابن ماجة: 1/625، الجامع لأحكام القرآن: 14/113.
44- اُصول السرخسي: 2/79.
45- جامع بيان العلم: 2/105.
46- المصنّف: 2/484.
47- المستدرك: 1/214.
source : rasekhoon