الوحدة على العموم مطلب عام لكل أفراد، وأسر، وقبائل، وجماعات، وشعوب، وأمم، الجنس البشري، فكأن الوحدة عنصر من عناصر الحياة ذاتها، وأصل من أصول الخليقة، ولازمة من لوازم الفطرة الإنسانية، ومن هنا فإنك لن تجد إنسانا سويا على الإطلاق يجاهر بالقول بأنه ضد وحدة الأفراد، أو وحدة أسرته، أو قبيلته، أو شعبه، أو أمته، أو أنه حتى ضد وحدة الجنس البشري، دون أن يعلل هذه المجاهرة بعذر يستريح إليه ويطمئن به، وما ذلك إلا لأن الوحدة أنس جميع البشر وأمنية الجميع أو أنها ضاربة الجذور بالفطرة الإنسانية، وأنها عا
الوحدة على العموم مطلب عام لكل أفراد، وأسر، وقبائل، وجماعات، وشعوب، وأمم، الجنس البشري، فكأن الوحدة عنصر من عناصر الحياة ذاتها، وأصل من أصول الخليقة، ولازمة من لوازم الفطرة الإنسانية، ومن هنا فإنك لن تجد إنسانا سويا على الإطلاق يجاهر بالقول بأنه ضد وحدة الأفراد، أو وحدة أسرته، أو قبيلته، أو شعبه، أو أمته، أو أنه حتى ضد وحدة الجنس البشري، دون أن يعلل هذه المجاهرة بعذر يستريح إليه ويطمئن به، وما ذلك إلا لأن الوحدة أنس جميع البشر وأمنية الجميع أو أنها ضاربة الجذور بالفطرة الإنسانية، وأنها عاكسة لوحدة الخليقة، ووحدة الجنس البشري أصلا وابتداءا، ولعل هذا هو السر في كونها مطلبا عاما للبشر.
وبالرغم من أن الوحدة على كل الأصعدة مطلب عام، إلا أن البشر اختلفوا في وسائل تحقيقها، شأنها شأن أي مطلب عام إنساني. فكانوا طرائق قددا، واختلافهم في وسائل تحقيق هذه الوحدة دليل قاطع على سعيهم المستمر لتحقيقها، وبرهان ساطع على عميق إدراكهم لأهمية هذه الوحدة وجزيل نفعها.
وإذا تحققت وحدة الأمة الإسلامية على أساس سليم يغدو ميسورا أن تتحقق وحدة الجنس البشري، لأنها مؤهلة - إذا اتحدت - لتأخذ بيد الجنس البشري، وترشد الحركة الإنسانية نحو الأفضل والأقوم، وذلك لما عند هذه الأمة من ثروة فكرية وعقائدية وحقوقية شاملة وقائمة على الجزم واليقين.
مضافا إلى أن الأمة الإسلامية هي أكبر تجمع بشري تجمع حول فكرة التوحيد والوحدة طوال التاريخ البشري.
وفي عصرنا نرى أن الأمة الإسلامية قادتها ظروف معينة إلى مفترق طريقين فإما أن تحقق وحدتها، وإما أن تفقد ذاتها مع ما يستتبع هذا الفقدان من ضياع ودمار شامل.
عبر مئات المحاورات والمناقشات التي دارت بيني وبين الكثير من الإسلاميين والقوميين العرب حول أنجح الوسائل لتحقيق الوحدة، تبين لي أنهم يؤمنون تماما أن الوحدة قرار حكومي صادر عن رؤساء الدول، وكذلك نوعية النظام.
فيكفي برأي الإسلاميين العرب أن يصدر زعيم أي بلد قرارا بتبني النظام السياسي الإسلامي حتى يسود ذاك النظام فعلا، ويكفي برأي القوميين العرب أن يتفق الزعماء العرب على الوحدة وأن يعلنوا هذا الاتفاق، عندئذ تتحقق الوحدة! ذلك مبلغ الفريقين من العلم، فكأنهم لا يعرفون الواقع، وكأنهم يجهلون أن في قواميس اللغة كلمة ومفهوما اسمه القناعة العامة، وأن القيادة السياسية ما هي في حقيقتها وجوهرها إلا مرآة تعكس كل ما في هذه القاعدة من مؤتلف ومختلف معا وبذات الوقت، فإن لم تفعل ذلك فقد خالفت الغاية من وجودها.
ليتهم يعرفون أن إكراه ألف عاقل على سلوك درب واحدة ليس معقولا ولا مقبولا، فقد تنام أعين رجال الدرك الذين أكرهوا الألف، عندئذ يفر العاقلون ويتفرقون، ولا يدري أحد ما الذي يجري نتيجة تفرقهم وفرارهم هذا.
ليتهم يعلمون أن هنالك ظروفا موضوعية وأركانا ولوازم أساسية لا بد من توفرها وتواجدها وتحققها أولا، وأن استعجال الشئ قبل أوانه يؤدي لحرمانه.
وحدة الأمة الإسلامية نعمة إلهية
وحدة الأمة الإسلامية من أكبر النعم الإلهية، وهي ثمرة طبيعية للاعتصام بحبل الله، حيث تألفت القلوب وأصبح الأعداء إخوانا ونجوا من السقوط، وكانوا على شفا حفرة من النار.وتلك نعمة إلهية ما كان لها أن تتحقق بغير الوسائل الإلهية وبغير الانقياد التام لله حتى لو أنفق رائد الوحدة (صلى الله عليه وآله وسلم) ما في الأرض جميعا وهذا فوق طاقته (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)(1)
فالوحدة مكافأة إلهية على انقياد المؤمنين لله، وقوة الوحدة وضعفها بحجم هذا الانقياد، فإذا توقف الانقياد تتبعثر الوحدة وينفرط عقدها بصورة آلية.
وإعمالا لفرض الوحدة الإلهي، وإقامة له، وبالوسائل الإلهية وتحت الإشراف الإلهي المباشر، ومن خلال دعوة قادها النبي بنفسه تمخضت عن دولة ترأسها النبي بنفسه، تحققت الوحدة المثلى لكل العرب بكلفة بشرية لا تتجاوز 389 قتيلا من الطرفين - دعاة الوحدة
ومعارضيها - وبمدة زمنية لا تتجاوز عمليا عشر سنين وهي مدة رئاسته المباركة للدولة الإسلامية.
وقبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مجرد التفكير بتوحيد القبائل العربية ضربا من الأوهام، أو أشد الأحلام جنونا.
ولا بد من التذكير بأن القبائل العربية لم تتوحد مع بعضها على أساس أنها كلها عرب، ولا توحدت تلك القبائل مع مواليها ومن ساكنها في الجزيرة على أساس الإنسانية، أو على أي أساس آخر، إنما توحدوا بنعمة الله، وعلى أساس الإسلام الداعي لإقامة الدولة العالمية التي تحكم العائلة البشرية كلها، وفق المنظومة الحقوقية الإلهية.
وبتحقيق وحدة العرب ومن ساكنهم ووالاهم، وباكتمال نزول القرآن الكريم وتمام البيان المحمدي له، كمل الدين وتمت النعمة وانتهى عمليا دور النبي كنبي، فالأمة متحدة ولها قانون نافذ وهو المنظومة الحقوقية بشقيها: القرآن الكريم والبيان المحمدي لهذا القرآن.
ومن نافلة القول أن نذكر بأن هذه المنظومة بينت كل شئ على الإطلاق في الماضي والحاضر والمستقبل، بالحال والمآل، وبينت القيادة السياسية والمرجعية من بعد النبي على اعتبار أنها أهم الأشياء، وأعلن المسلمون تمسكهم، وإصرارهم وحرصهم عليه.
في هذا الوقت بالذات أعلن النبي أنه خير فاختار ما عند الله، وأنه قد دعي للموت فأجاب.
أسس وحدة الأمة الإسلامية
1 - التلازم بين المنظومة الحقوقية وبين المرجعية والقيادة
أن الأساس الأول لتحقيق وحدة الإسلامية هو وجود مرجعية وقيادة سياسية تبلغ الرسالة الإلهية، وتبينها بيانا يفهمه العامة والخاصة، بيانا قائما على الجزم واليقين، لا على الفرض والتخمين بحيث، يكون بيان هذه المرجعية هو عين المقصود الإلهي، المحدد بالمنظومة الحقوقية الإلهية، بدون زيادة ولا نقصان، وهي تقوم بدور المرجعية والقيادة السياسية معا، بحيث تكون هي المرجع لجميع أفراد الأمة الإسلامية، وهيئاتها وجماعاتها في كل ما يتعلق ببيان أحكام العقيدة، أو المنظومة الحقوقية الإلهية، وهي بنفس الوقت مرجع الراغبين بدخول الدين والانضمام إلى الأمة الإسلامية.وفوق ذلك، هي التي تسوس الأمة وفق قواعد وأحكام المنظومة الحقوقية الإلهية، وتقود مسيرة الأمة، وترشد حركتها السياسية بحيث تبقى دائما ضمن إطار الشرعية والمشروعية الإلهية.
والمرجعية والقيادة السياسية متلازمة بالضرورة مع المنظومة، ومترابطة معها ترابطا عضويا، فالمرجعية والقيادة السياسية تنهل من المنظومة الحقوقية الإلهية، والمهمة الأساسية للمرجعية والقيادة السياسية هي بيان أحكام المنظومة الحقوقية الإلهية بيانا قائما على الجزم واليقين، فالنبي كمرجع وكقائد يبين أحكام هذه المنظومة عين البيان الذي أراده الله، فهو المسؤول عن ترجمة نصوص وقواعد وغايات هذه المنظومة من النظرية إلى التطبيق، ومن الكلمة إلى الحركة على صعيدي الدعوة والدولة معا، وهو بنفس الوقت المسؤول عن قيادة مسيرة الأمة وترشيد حركتها السياسية، فبيان النبي جزء من المنظومة الإلهية، ويحسب من جملة مضامينها لأنه نبي.
ويمكنك القول بكل ارتياح: أن المنظومة الحقوقية الإلهية - وهي القانون النافذ - بمثابة السفينة، وأن المرجع والقائد السياسي بمثابة القبطان، وأن هذه المنظومة هي المخططات العامة والتفصيلية اللازمة لمشروع الإنقاذ الإلهي، والمرجع والقائد السياسي هو بمثابة المهندس الذي يتولى عملية توضيح وشرح هذه المخططات، وبيانها، وترجمتها عمليا إلى واقع مادي محسوس وملموس.
وإن شئت فقل: إن المرجع والقائد السياسي هو بمثابة معلم البناء، والمنظومة هي بمثابة المواد الأولية، إنه من الجنون حقا تحضير المواد الأولية اللازمة للبناء والشروع بالبناء دون مشورة المهندس ومعلم البناء، ولقد عالجت موضوع القيادة السياسية بمؤلف خاص، بعنوان (نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام)، وهو كتاب لا غنى عنه لمن أراد أن يقف على الحقائق المجردة في هذا المجال.
2 - المرجعية والقيادة السياسية اختصاص وعمل فني بحت
بمعنى أن بيان المنظومة الحقوقية الإلهية وقيادة الأمة عملية فنية واختصاص تماما كالطب، والهندسة، وعلم الذرة، والفلك إلخ.فالمرجع والقائد السياسي معا هو الأعلم والأفهم بالمنظومة الحقوقية الإلهية، وهو الأفضل من بين أتباعها، وهو الأنسب لقيادة هؤلاء الأتباع، هذا هو وجه الاختصاص والفن بالمرجع والقائد السياسي، فهو أعلم أهل زمانه بالمنظومة الإلهية، وأكثر أهل زمانه إخلاصا لها، وأكثرهم اعتصاما بالله، وأفضلهم للقيادة والمرجعية معا، لأن المرجعية والقيادة هي الحكم (بفتح الحاء) وهي الناطقة بالحكم الإلهي، وهي التي تقود مسيرة الأمة وترشد حركتها في كل مجال، ويفترض أن ما تتبناه هذه المرجعية هو عين المقصود الإلهي بدون زيادة ولا نقصان.
وكل هذه الصفات خفية لا يعلمها على وجه الجزم واليقين إلا الله تبارك وتعالى العالم بالسر وما يخفى، وأي ادعاء بالعلم بهذه الصفات هو ادعاء قائم على الفرض والتخمين بينما العلم الإلهي قائم على الجزم واليقين.
فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعرف من تتوفر فيه صفات المرجعية والقيادة السياسية معا، وهذه الصفات مفصلة تفصيلا على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى كل الأنبياء والرسل، ولا يجادل أحد من أهل الملة بذلك.
فكلهم يقرون بالعقل والشرع والضرورة أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الأعلم وهو الأفهم بالمنظومة الإلهية، وهو الأفضل من بين أتباعها، وهو الأنسب والأصلح لقيادة هؤلاء الأتباع.
بل تكاد هذه الحقيقة أن تكون سنة فعلية يتعذر على الجنس البشري مجتمعا ومنفردا إنكارها، ومحاولات إنكار هذه الظاهرة، أو الالتفاف عليها لإبطال مضمونها أو تأويلها، محاولات مكشوفة دوما، بإذن الله.
3 - المرجعية والقيادة السياسية من بعد النبي
النبي بشر، ومعروف بالعقل والشرع أنه ميت لا محالة، ولا خلاف بأن النبي هو المرجع الديني والقائد السياسي للمسلمين حال حياته لأنه الأعلم، والأفهم بالمنظومة الإلهية، والأفضل من بين أتباعها، والأصلح لقيادة هؤلاء الأتباع، ولكن بعد وفاة النبي الأعظم وشغور منصب المرجعية والقيادة السياسية، فمن الذي يقوم مقامه فيكون هو مرجع الناس في دينهم وقائدهم السياسي في دنياهم؟ما هو حكم المنظومة الإلهية بذلك؟ وهل لا ينبغي أن يكون الأعلم والأفهم بالمنظومة الإلهية، والأفضل من بين أتباع الملة، والأصلح لقيادة المسلمين حتى يكون أهلا لخلافة النبي، والقيام مقامه بمرجعية الدين، وقيادة المسلمين معا؟
فإذا كان كذلك فكيف نهتدي إليه ونعرفه؟ وكيف تنتقل المرجعية والقيادة السياسية بيسر؟ وما هي القواعد الإلهية التي عالجت هذه الناحية؟ ما هو دور الأمة؟
وما هو دور القائد السياسي والمرجع القائم بكل ذلك... إلخ.؟
بعد وفاة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) شاعت مقولتان:
المقولة الأولى: مقولة الإنكار والتقول بالتخلية، ومفادها أن الله ورسوله لم يعينا مرجعية للدين، ولا قيادة للمسلمين بعد وفاة النبي، وقد تركا هذه الناحية وخليا على الناس أمرهم، لأن القيادة السياسية والمرجعية - حسب رأي منظري هذه المقولة - شأن خاص بالمسلمين، فهم وحدهم الذين يهتدون للقيادة السياسية المثلى، فإذا اهتدوا إليها تصبح القيادة السياسية هي بنفسها المرجعية.
ومنظروا هذه المقولة لا ينكرون أن المرجعية والقيادة السياسية هي خلافة للنبوة، وهي ضرورة من ضرورات الحياة، وقد أدركوا في ما بعد بالعقل والشرع أن الأسرة لها مرجعية وقيادة، وكذلك القبيلة، وكذلك الشعب، وكذلك الأمة، وكل عقيدة إلهية أو وضعية لها مرجعية وقيادة بالضرورة، لأن المرجعية والقيادة عنصر أساسي لكل دعوة ولكل دولة ولكل جماعة بشرية، ولا توجد منظومة حقوقية إلهية أو وضعية إلا وقد بينت قواعدها بيانا يرفع الخلاف وفصلت تفصيلا كيفية تنصيب القيادة السياسية وكيفية انتقالها.
ومع هذا فإن القائلين بالترك والتخلية يصرون على القول بأن الله ورسوله خليا على الناس أمرهم، وأن المنظومة الإلهية لم تعالج تنصيب وانتقال القيادة السياسية، ولما اكتشفوا أنه لا بد من سند شرعي صار فعل السابقين هو السند الشرعي لفعل اللاحقين، وزيادة باليقين قالوا بأن السند الشرعي هو الإجماع، والإجماع مصدر من مصادر التشريع، ولقد سادت هذه المقولة طوال التاريخ السياسي الإسلامي، ورسختها وسائل الإعلان الرسمية، حتى استقرت في الأذهان كسنة من سنن الأولين، وجاء الإصرار على ترسيخ هذه المقولة دعما لوقائع التاريخ السياسي الإسلامي، وإرغاما من الحكام لأنوف أهل البيت الكرام خاصة، وبني هاشم عامة الذين يقولون بنظرية شرعية تعاكس تماما مقولة الترك والتخلية.
الأحزاب الدينية العربية لا تجهل أن الرسالات الإلهية لبني البشر لم تتوقف طوال التاريخ البشري على الأرض، فهل تتفضل هذه الأحزاب - مشكورة ومأجورة إن شاء الله - فتبين للناس متى أرسل الله تعالى رسالة بدون رسول؟ ومتى خصهم بعقيدة دون مرجع؟ ومتى رحمهم بهداية دون هاد؟
وهل تتفضل هذه الأحزاب مشكورة، فتدلني على أي نظام إلهي أو وضعي عرف طوال التاريخ، يغفل كيفية تنصيب القيادة السياسية أو كيفية انتقالها؟
معكم الدنيا طولا وعرضا فوقا وتحتا من لدن آدم حتى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا بإذن الله، فقد آن الأوان لترك التقليد الأعمى، وآن أوان الدخول إلى أفق رحابة التكييف الإلهي للأحداث والأحكام.(2)
يكمن سبب المصائب التي حلت بهذه الأمة ومزقت وحدتها، وبعثرت صفوفها، وجعلتها شيعا وأحزابا وطرائق قددا - يكمن في الفصل بين المنظومة الإلهية وبين المرجعية والقيادة السياسية التي عينها الله تبارك وتعالى، واستبدالها بالمرجعية والقيادة السياسية التي فرضتها القوة والغلبة، واستكان لها الناس بحكم طاعة الغالب، ثم بحكم التكرار والتقليد الأعمى.
فما سالت الدماء إلا من أجل رئاسة الدولة، وما اختلف المسلمون إلا بسبب هذه الرئاسة، وما حدثت الحروب بينهم إلا طمعا بها، فهل يعقل أن يبين الشرع الحنيف للناس كيف يدخلون إلى الخلاء ثم يتنظفون ويتطهرون ويغفل ويترك بيان من يتولى رئاسة الدولة بعد النبي، وكيفية تنصيبه، وكيفية انتقال الرئاسة؟
فكل القواعد التي عالجت ظاهرة السلطة في الإسلام والتي نقدمها للعالم على أساس أنها النظام السياسي الإسلامي وضعت بعد وفاة النبي الكريم، وهي قواعد التاريخ السياسي الإسلامي، وشتان ما بين التاريخ وما بين النظام السياسي الإسلامي الذي أنزله الله على عبده، ولكن ضغط التكرار والتقليد هونا علينا أن نضحي بدين الله لنصحح تاريخ البشر!
المقولة الثانية: وهي مقولة تعاكس المقولة الأولى تماما، وترى بأن الله ورسوله لم يتركا الأمر سدى، إنما بينا للمسلمين الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب للقيادة والمرجعية من بعد النبي، وفي كل زمان حتى قيام الساعة، ومن المحال عقلا وشرعا أن يكل الله القيادة والمرجعية إلى أهواء الناس، ومن المحال أن تخلو المنظومة الحقوقية الإلهية من القواعد التي ترتب كيفية تنصيب المرجعية والقيادة، وكيفية انتقالهما بيسر وسهولة، وتلك أمور لم يغفل عنها الشارع الوضعي على قصوره.
وقد نادى بهذه المقولة الثانية أئمة أهل البيت الكرام خاصة، وبنو هاشم عامة، ومن شايعهم من العرب والعجم.
4 - المقولتان تحت أشعة البحث العلمي
فإذا قال المسلمون: أن الله ورسوله لم يعينا المرجعية والقيادة السياسية من بعد النبي، ولم يحددا من الذي سيقوم بوظائف النبي من بعده، ولا حددا من يبين للناس أحكام المنظومة الإلهية، ولا من يبقي الأمة داخل إطار الشرعية والمشروعية، ولا بينا من هو ولي الأمة بعد النبي، ولا من هو ركن مجدها القائم مقامه، ولا من هو ثقلها، ولا من هو مثلها الأعلى الحي المتحرك بعد النبي، ولا من الذي سيقود معركة تحرير البشرية وإنقاذها... إلخ.فإذا قال المسلمون ذلك، فإن قولهم هذا يناقض قاعدة كمال الدين وتمام النعمة الإلهية، لأن هذه الأمور من صلب الدين، ومن صميم النعمة الإلهية ومن المحال عقلا أن تغفلها المنظومة الحقوقية الإلهية التي بينت كل شئ على الإطلاق! أرجوكم كيف يكون الذهاب إلى الخلاء شيئا فتبينه المنظومة الإلهية للناس ولا تكون المرجعية والقيادة السياسية شيئا؟! ما لكم كيف تحكمون؟ بل وأين تفرون؟
فإنكم لو أصررتم على ذلك لوجدتم أن هذا الإصرار يتعارض مع العقل والمنطق، وأساسيات الحياة، فضلا عن تناقضه الصارخ مع المنظومة الحقوقية، ومجافاته التامة لقواعدها.
5 - الرجوع عن مقولة التخلية
بعد أن استتب الأمر للصديق بجهد خارق بذله بالتعاون مع الفاروق ، وبعد أن دنت منية الصديق اكتشفوا أن ترك أمة محمد بلا مرجعية وبلا قيادة سياسية أمر غير عملي، ويؤدي للفتنة والخلاف، ومن هنا تداعوا لتجنب ذلك فعهد الصديق الفاروق، وتعالت نداءات التأييد لفكرة العهد، ونبذ التخلية والترك.ومن هذه النداءات:
1 - نداء السيدة عائشة أم المؤمنين:
قالت لعبد الله بن عمر بن الخطاب يا بني: أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة.
فأتى عبد الله، فأعلمه وهو يقاسي سكرات الموت، فقال: ومن تأمرني أن أستخلف (3)
فقد أدركت أم المؤمنين وهي امرأة أن عدم الاستخلاف، وترك الأمة بدون راع يجعل المسلمين هملا، ويؤدي بهم إلى الفتنة، فهل يعقل أن تدرك هذه الأمور امرأة، وتغيب على الشارع الحكيم؟!
لست أدري كيف تحكمون؟!
2 - نداء عبد الله بن عمر بن الخطاب:
دخل عبد الله بن عمر بن الخطاب على أبيه عمر وهو يجود بنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين، استخلف على أمة محمد، فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها للمته، وقلت له:
تركت أمانتك ضائعة، فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد، فاستخلف عليهم.(4)
فهل يعقل أن عبد الله بن عمر يدرك مخاطر هذا الأمر، ولا يدركه الشارع الحكيم؟!
لست أدري ثانية كيف تحكمون؟ أن لكم لما تخيرون؟!
3 - نداء معاوية بن أبي سفيان:
فمعاوية هو صاحب عام الجماعة، وهو الذي هندس اصطلاح التسنن (أهل السنة) وهو الذي اخترع نظرية عدالة كل الصحابة بثوبها الفضفاض. راجع الباب الأول من كتابنا: نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام.
فقوله لا بد أن يكون حجة على أولئك الذين قدموا التاريخ على الشرع، وفصلوا الشرع على وقائع التاريخ، فما وافق التاريخ فهو شرع، وما خالفه فليس من الشرع.
قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة لابنه يزيد، فاجتمع مع عدة من الصحابة، إلى أن أرسل إلى ابن عمر فأتاه وخلا به، فكلمه بكلام وقال: لأكره أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها. (5)
4 - من أقوال أئمة أهل البيت الكرام:
قال الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة (... لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا وإما خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته)(6)
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) (إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام، كيما إذا زاد الناس شيئا ردهم، وإذا أنقصوا شيئا أتمه لهم).
6 - ما هي الغاية من تأييد نظرية التخلية والترك
غاية أولئك الذين يقولون بأن النبي قد ترك هذه الأمة هملا لا راعي لها بعده، ولا مرجعية ترجع إليها، وبمعنى أن الدين قد أغفل هذه الناحية، غايتهم واضحة ومحددة وهي: إضفاء طابع الشرعية على ما جرى في التاريخ السياسي الإسلامي بعد وفاة الرسول، وحتى سقوط آخر الخلفاء العثمانيين، فإذا سلموا بوجود النص فيثور السؤال:لماذا تجاهله الذين قادوا التاريخ السياسي؟ فإذا تجاهلوه حقيقة فهم الذين يتحملون مسؤولية دمار الأمة، وفرقتها بنسب مختلفة، وهذا أمر غير معقول ولا يصدقه العقل، فهل يعقل أن شخصا رأى الحبيب محمدا وآمن به، أن يخطأ مع سبق الإصرار؟ هذا أمر لا يصدق!
وأحرى بهم أن يؤولوا الدين تأويلا يضفي الصحة والشرعية على أعمال الذين قادوا التاريخ السياسي، بمعنى أنهم يضحون بالدين وكماله لينقذوا الرجال، لأنهم عرفوا الحق بالرجال، مع أن الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.
7 - قادة التاريخ السياسي الإسلامي حكم ترضونه
الصديق على فراش الموت عهد بالخلافة لعمر، وكان معروفا للخاصة والعامة أن الصديق سيعهد بالأمر من بعده للفاروق، لأن الفاروق موضع ثقة الصديق والفاروق هو الذي دعم خلافة الصديق، وهذا معنى قول الإمام علي (عليه السلام) لعمر: إحلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا.(7)والخلاصة أن الصديق لم يترك أمة محمد هملا، إنما استخلف عليها عمر.
وعمر على فراش الموت وقد افتقد أبا عبيدة، وافتقد سالم، وافتقد معاذ بن جبل، وحتى لا يدع أمة محمد هملا وبغير راع، استخلف عليهم عمليا عثمان بن عفان، وعثمان هذا موضع ثقة الصديق بدليل أنه عندما كتب العهد لعمر قال له الصديق:
لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها. (8)
وكان موضع ثقة الفاروق أيضا، فكان الناس إذا أرادوا أن يسألوا عمر بشئ رموه بعثمان، وكان عثمان يدعى في إمارة عمر بالرديف، والرديف بلسان العرب الرجل الذي يأتي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم. (9)
والخلاصة أن الفاروق لم يترك أمة محمد هملا وبغير راع من بعده.
فتلك أمور معروفة، فالثلاثة الذين حضروا اجتماع السقيفة قد خرجوا من السقيفة معا مثلما دخلوها معا، وترتبت حقيقة أن أبا بكر هو الخليفة الأول، وأن عمر هو الخليفة الثاني، وأن أبا عبيدة هو الخليفة الثالث، وبموت أبي عبيدة وقع اختيار الخليفتين على عثمان، ومن يدقق بالشروط التي وضعها عمر لأصحاب الشورى - الخمسة لأن طلحة كان غائبا - يكتشف أن عثمان بن عفان قد عهد إليه عمر بالنص، أو إن شئت فقل: سماه خليفة بالنص، (10)
وبعد أن تولى الأمويون رئاسة الدولة لم يتركوا الأمة هملا وبغير راع، بل أصبح العهد هو الطريقة المتبعة على الأغلب في تولية الخليفة، وهكذا الحال في عهد العباسيين، والعثمانيين، فإما يعهد الخليفة إلى ولده أو لأحد أفراد الأسرة الغالبة المالكة. (11)
ولم يصدف أن ترك أي خليفة على الإطلاق أمة محمد بغير راع، وقد جرت العادة في ما بعد أن يعين رئيس الدولة الحالي الخليفة من بعده، وقد صور هذا الأمر كأنه حق شرعي فقال ابن خلدون (إن الإمام ينظر للناس في حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمرهم. (12)
والسند الشرعي لهذا كله، لا يكمن في وجود نص في الشريعة، سواء القرآن أو السنة، فقد خلت الشريعة - برأيهم - تماما من أي نص في هذه الناحية.
والشئ الوحيد الذي جعل هذا التصرف شرعيا هو عهد أبي بكر لعمر، وعهد عمر لعثمان أو للستة.
المصادر :
1- سورة الأنفال آية 62.
2- مقال نشر في جريدة اللواء الأردنية العدد 955 تاريخ 17 صفر 1412
3- الإمامة والسياسة الطبعة الأخيرة 1969 م صفحة 123.
4- مروج الذهب مجلد 2 صفحة 249 للمسعودي / حلية الأولياء مجلد 1 صفحة 44 برواية مشابهة.
5- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري صفحة 168 مجلد 1
6- نهج البلاغة قصار الكلمات وصفحة 151
7- تاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 429، وسيرة عمر لابن الجوزي صفحة 27، وتاريخ ابن خلدون مجلد 2 صفحة 58، /الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري مجلد 1 صفحة 5 – 11
8- تاريخ الطبري صفحة 438 مجلد 2 ، وصفحة 37 من سيرة عمر لابن الجوزي، وصفحة 85 مجلد 2 من تاريخ ابن خلدون.
9- نظام الحكم للقاسمي صفحة 419
10- النظام السياسي في الإسلام صفحة 148 وصفحة 328
11- نظام الحكم للقاسمي صفحة 245
12- مقدمة ابن خلدون صفحة 177
source : rasekhoon