الثورة الحسينية
أسبابها ومخطَّطاتها *
ـ القسم الثاني : المخططات ـ
باقر شريف القرشي
تخطيط الثورة :
ودرس الإمام الحسين (ع) أبعاد الثورة بعمقٍ وشمول ، وخطَّط أساليبها بوعي وإيمان . فرأى أن يزُجَّ بجميع ثقله في المعركة ، ويُضحِّي بكل شيء لإنقاذ الأُمَّة من محنتها ، في ظلِّ ذلك الحكم الأسود الذي تنكَّر لجميع متطلَّبات الأُمَّة ... .
وقد أدرك المستشرق الألماني ماريين تخطيط الإمام الحسين لثورته ، فاعتبر أنَّ الحسين قد توخّى النصر منذ اللحظة الأُولى ، وعلم النصر فيه . فحركة الحسين في خروجه على يزيد ـ كما يقول ـ إنَّما كانت عزمة قلب كبير عزَّ عليه الإذعان ، وعزَّ عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ، ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويُحيي به قضية مخذولة ليس لها ـ بغير ذلك ـ حياة .
لقد أيقن أبو الشهداء (ع) أنَّ القضية الإسلامية لا يمكن أن تنتصر إلاَّ بفخامة ما يُقدِّمه من التضحيات ، فصمَّم بعزمٍ وإيمان على تقديم أروع التضحيات ، وهذه بعضها :
1 ـ التضحية بنفسه :
وأعلن الإمام (ع) عن عزمه على التضحية بنفسه ، فأذاع ذلك في مكَّة ، فأخبر المسلمين أنَّ أوصاله سوف تتقطَّع بين النواويس وكربلاء . وكان في أثناء مسيرته إلى العراق يتحدَّث عن مصرعه ، ويشابه بينه وبين أخيه يحيى بن زكريا ، وأنَّ رأسه الشريف سوف يُرفع إلى بغيّ من بغايا بني أمية ، كما رفع رأس يحيى إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل .
لقد صمَّم على الموت ، واستهان بالحياة ؛ من أجل أن ترتفع راية الحق ، وتعلو كلمة الله في الأرض ، وبقي صامداً على عزمه الجبار ، فلم يرتهب حينما أحاطت به الجيوش الهائلة وهي تبيد أهل بيته وأصحابه في مجزرة رهيبة اهتزَّ من هولها الضمير الإنساني . وقد كان في تلك المحنة الحازبة من أربط الناس جاشاً ، وأمضاهم جناناً . فلم يرَ قبله ولا بعده شبيهاً له في شدة بأسه وقوة عزيمته . كما لا يعرف التاريخ في جميع مراحله ، تضحية أبلغ أثراً في حياة الناس من تضحيته ( عليه السلام ) ، فقد بقيت صرخة مدوِّية في وجوه الظالمين والمستبدِّين .
2 ـ التضحية بأهل بيته :
وأقدم أبو الشهداء (ع) على أعظم تضحية لم يقدمها أيُّ مصلح اجتماعي في الأرض ؛ فقد قَدَّم أبنائه وأهل بيته وأصحابه فداءاً لِمَا يرتأيه ضميره من تعميم العدل وإشاعة الحق والخير بين الناس .
وقد خطَّط هذه التضحية ، وآمن بأنَّها جزء من رسالته الكبرى ، وقد أذاع ذلك وهو في يثرب ، حينما خَفَّتْ إليه السيدة أم سلمة زوج النبيّ تعذله عن الخروج ، فأخبرها عن قتله وقتل أطفاله.. .
وقد مضى إلى ساحات الجهاد وهو متسلِّح بهذا الإيمان ، فكان يشاهد الصفوة من أصحابه ، الذين هم من أنبل مَن عرفتهم الإنسانية في ولائهم للحق ، وهم يتسابقون إلى المنية بين يديه ، ويرى الكواكب من أهل بيته وأبنائه ، وهم في غضارة العمر وريعان الشباب ، وقد تناهبت أشلاءهم السيوف والرماح ، فكان يأمرهم بالثبات والخلود إلى الصبر ، قائلاً : ( صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً !! ) .
واهتزَّت الدنيا من هول هذه التضحية ، التي تُمثِّل شرف العقيدة ، وسمو القصد ، وعظمة المبادئ التي ناضل من أجلها . وهي ـ من دون شك ـ ستبقى قائمة على مَرِّ القرون والأجيال ، تُضئ للناس الطريق ، وتمدُّهم بأروع الدروس عن التضحية في سبيل الحق والواجب .
3 ـ التضحية بأمواله :
وضحَّى أبو الضيم بجميع ما يملك فداءاً للقران ، ووقاية لدين الله . وقد هجمت ـ بعد مقتله ـ الوحوش الكاسرة من جيوش الأمويين على مخيَّمه ، فتناهبوا ثقله ومتاعه ، حتى لم يتركوا ملحفة أو إزاراً على مخدَّرات الرسالة إلاَّ نهبوه ، ومثَّلوا بذلك خسة الإنسان حينما يفقد ذاتيَّاته ، ويُمسَخ ضميره .
4 ـ حمل عقائل النبوة :
وكان من أروع ما خطَّطه الإمام العظيم (ع) في ثورته الكبرى ، حمله لعقائل النبوة ومخدَّرات الرسالة إلى كربلاء ، وهو يعلم ما سيجري عليهنَّ من النكبات والخُطوب ، وقد أعلن ذلك حينما عذله ابن عبَّاس عن حملهنَّ معه إلى العراق ، فقال له : ( قد شاء الله أن يراهنَّ سبايا.. ) .
لقد أراد (ع) بذلك أن يستكمل أداء رسالته الخالدة في تحرير الأُمَّة وإنقاذها من الاستبعاد الأموي .
وقد قُمْنَ تلك السيدات بدور مشرق في إكمال نهضة أبي الشهداء (ع) ، فأيقظن المجتمع بعد سُباته ، وأسقطن هيبة الحكم الأموي ، وفتحن باب الثورة عليه . ولولاهنَّ لم يتمكَّن أحد أن يفوه بكلمة واحدة أمام ذلك الطغيان الفاجر ، وقد أدرك ذلك كل مّن تأمَّل في نهضة الإمام ودرس أبعادها . وقد ألمع إليها بعض العلماء والكتَّاب ، وفيما يلي بعضهم :
1 ـ الإمام كاشف الغطاء .
وأكَّد الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (رحمه الله) في كثير من مؤلَّفاته أنَّ الغاية من خروج الإمام بعائلته إلى كربلاء إكمالاً لنهضته وبلوغاً إلى هدفه في تحطيم دولة الأمويين . يقول :
( وهل تشكُّ وترتاب في أنَّ الحسين (ع) لو قُتل هو وولْده ، ولم يتعقبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدِّيات ، لذهب قتله جُبَاراً ، ولم يطلب به أحد ثاراً ، ولَضاع دمه هَدَرَاً . فكان الحسين يعلم أن هذا علمٌ لابدَّ منه ، وأنَّه لا تقوم به إلاَّ تلك العقائل . فوجب عليه حتماً أن يحملهنَّ معه ، لا لأجل المظلومية بسببهنَّ فقط ، بل لنظرٍ سياسي وفكرٍ عميق ، وهو : تكميل الغرض ، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام ، وتعود الناس إلى جاهليتها الأُولى.. ) (1) .
2 ـ السيد أحمد فهمي .
يقول الأُستاذ السيد أحمد فهمي : ( وقد أدرك الحسين أنَّه مقتول ؛ إذ هو يعلم علم اليقين قبح طوية يزيد ، وإسفاف نحيزته ، وسوء سريرته . فيزيد بعد قتل الحسين ستمتد يده إلى أن يُؤذي النبي (ص) في سلالته ، من قتل الأطفال الأبرياء ، وانتهاك حرمة النساء ، وحملهنَّ ـ ومَن بقي من الأطفال ـ من قفرةٍ إلى قفرةٍ ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ ، فيُثير مرأى أولئك حفيظة المسلمين . فليس ثمة أشنع ، ولا أفظع ، من التشفِّي والانتقام من النساء والأطفال ، بعد قتل الشباب والرجال .
فهو بخروجه بتلك الحالة ، أراد أن يثأر من يزيد في خلافته ، ويقتله في كرامته . وحقَّاً لقد وقع ما توقعه ، فكان لِمَا فعله يزيد وعصبته من فظيع الأثر في نفوس المسلمين ، وزاد في أضعافهم ما عرضوا به سلالة النبوة من هتك خدر النساء ، وهنَّ اللاَّتي ما عُرفنَّ إلاَّ بالصيانة والطهر والعزِّ والمنْعَة ؛ ممَّا أطلق ألسِنَة الشعراء بالهجاء والذم ، ونفر أكثر المسلمين من خلافة الأمويين ، وأسخط عليهم قلوب المؤمنين . فقد قَتَله الحسين أشدَّ من قتْلِه إيَّاه ) (2) .
3 ـ أحمد محمود صبحي .
يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ( ثمَّ رفض ( يعني الحسين ) إلاَّ أن يصحب أهله ؛ ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه ، بما لا يبرِّره دين ، ولا وزاع من إنسانية ، فلا تضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء ، فيُفترى عليه أشدَّ الافتراء حين يُعدم الشاهد العادل على كل ما جرى بينه وبين
أعدائه .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : أفسدت زينت أخت الحسين على ابن زياد وبني أمية لذَّة النصر، وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين . وإنَّ كل الأحداث السياسية التي ترتَّبت بعد ذلك ، من خروج المختار ، وثورة ابن الزبير ، وسقوط الدولة الأموية ، وقيام الدولة العباسية ، ثمَّ تأصُّل مذهب الشيعة ؛ إنَّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته (3) .
أريد أن أقول : ماذا يكون الحال لو قُتِل الحسين ومن معه جميعاً من الرجال ، إلاَّ أن يُسجِّل التاريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه ، فيضيع كل أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء.. ) (4) .
هذه بعض الآراء التي تدعم ما ذكرناه ؛ من أنَّ خروج الحسين (ع) بعائلته ، لم يكن الغرض منه إلاَّ بلورة الرأي العام ، وإيضاح المقاصد الرفيعة التي ثار من أجلها ، ومن أهمِّها القضاء على دولة الأمويين ، التي كانت تُشكِّل خطراً مباشراً على العقيدة الإسلامية .
وهناك رأي آخر أدلى به العلاَّمة المغفور له الشيخ عبد الواحد المظفَّر ، وهو أنَّ الحسين إنَّما خرج بعائلته خوفاً عليها من اعتقال الأمويين ، وزجِّها في سجونهم . قال :
( الحسين لو أبقى النساء في المدينة ، لوضعت السلطة الأموية عليها الـحَجْر ، لا بل اعتقلتها علناً ، وزجَّتها في ظلمات السجون . ولابد له حينئذٍ من أحد أمرين خطيرين ، كل منهما يشلُّ أعضاء نهضته المقدَّسة ! :
إمَّا الاستسلام لأعدائه ، وإعطاء صفقته لهم طائعاً ، ليستنقذ العائلة المصونة ، وهذا خلاف الإصلاح الذي ينشده ، وفَرَضَ على نفسه القيام به مهما كلَّفه الأمر من الأخطار .
أو يمضي في سبيل إحياء دعوته ، ويترك المخدَّرات اللواتي ضرب عليهنَّ الوحي ستراً من العظمة والإجلال ، وهذا ما لا تطيق احتماله نفس الحسين الغيور ، ولا يرادع أُميَّة رادع من الحياء ، ولا يزجرها زاجر من الإسلام .
إنَّ أُميَّة لا يهمُّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها وإدراك غاياتها ، فتتوصَّل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية . ألم يطرق سمعك سجن الأمويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، وزوجة عبيد الله بن الحر الجعفيي ، وأخيراً زوجة الكميت الأسدي ) (5) .
وعلى أيِّ حال ، فقد حطَّم الإمام ، بإخراجه لعائلته ؛ جميع مخطَّطات السياسة الأموية ، ونسف جميع ما أقامه معاوية من معالم الظلم . فقد قُمْنَ عقائل الوحي بدور فعَّال ببث الوعي الاجتماعي ، وتعريف المجتمع بواقع الأمويين ، وتجريدهم من الإطار الديني . ولولاهنَّ لاندرست معالم ثورة الحسين ، وذهبت أدراج الرياح .
إنَّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحسين (ع ) ، واستمرار فعاليَّاتها في بثِّ الإصلاح الاجتماعي على امتداد التاريخ ، هو حمل ودائع الرسالة وعقائل الوحي مع الإمام ؛ فقد قُمْنَ بدور مشرق ببلورة الرأي العام ، فحملن راية الإيمان التي حملها الإمام العظيم ، ونشرن مبادئه العُليا التي استشهد من أجلها . فقد انبرت حفيدة الرسول (ص) وشقيقة الحسين ، السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع) إلي ساحات الجهاد ، وهي تدُكُّ حصون الظالمين ، وتُدمِّر جميع ما أحرزوه من الانتصارات في قتل أخيها ، وتلحق بهم الهزيمة والعار ، وتملأ بيوتهم مأساةً وحزناً .
لقد أقبلت قائدةُ المسيرة الحسينية ، عقيلة الوحي ، زينب (ع) إلى ساحة المعركة ، وهي تشقُّ صفوف الجيش تفتش عن جثمان أخيها الإمام العظيم . فلمَّا وقفت عليه ، شخصت لها أبصار الجيش ، واستحال إلى سمع : فماذا تقول أمام هذه الخطوب المذهلة التي تَوَاكَبت عليها ؟ إنَّها وقفت عليها غير مدهوشة ، لم تُذهلها الرزايا التي تميد منها الجبال ، فشخصت يبصرها إلى السماء ، وهي تقول بحماسة الإيمان وحرارة العقيدة قائلة : ( اللَّهُمَّ تقبَّل منَّا هذا القربان ) .
وأطلقت بذلك أول شرارة للثورة على الحكم الأموي بعد أخيها ، وودَّ الجيش أن تسيخ به الأرض ؛ فقد استبان له عِظَم ما اقترفه من الإثم ، وأنَّه قد أباد عناصر الإسلام ، ومراكز الوعي والإيمان .
ولمَّا اقتربت سبايا أهل البيت (ع) إلى الكوفة ، خرجت الجماهير الحاشدة لاستقبال السبايا ، فخطبت فيهم عقيلة الوحي خطاباً مثيراً ومذهلاً ، وإذا بالناس حيارى ، لا يعون ولا يدرون ، قد استحالت بيوتهم إلى مأتم ، وهم يَنْدُبون حظَّهم التعيس ، ويبكون على ما اقترفوه من الجُرم .
وحينما انتهت إلى دار الإمارة ، استقبلها الطاغية متشفِّياً بأحطّ وأخسِّ ما يكون التشفِّي ، قائلاً :
ـ كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟
وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود ، فأجابته بكلمات النصر والظفر قائلة :
ـ ما رأيتُ إلاَّ جميلاً ؛ هؤلاء قومٌ كَتَبَ الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم . وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتُحاج وتخاصم ، فانظر لمَن الفلج يومئذٍ ، ثكلتك أمُّك يابن مرجانة .
وأخزت هذه الكلمات ابن مرجانة ، فكانت أشقَّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح .
ولمَّا انتهت إلى الشام ، هزَّت العرش الأموي بخطابها المثير الرائع ، وحقَّقت بذلك من النصر ما لم تُحقِّقه الجيوش...
لقد كان حمل الإمام الحسين لعائلته ، قائماً على أساسٍ من الوعي العميق الذي أحرز به الفتح والنصر .
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض أسباب الثورة الحسينية ومخطَّطاتها .
ــــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ، المصدر : " حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) " / ج2 / ص 294 / مطبعة الآداب / النجف الأشرف / ط1 / سنة 1975 .
(1) تحدَّث الإمام كاشف الغطاء عن هذه الجهة بالتفصيل في كتابه : " السياسة الحسينية " .
(2) ريحا
source : alhassanain