قصّة إبراهیم علیه السلام صورة من صور التدخّل الإلهی، حیث أضحت النار برداً وسلاماً على إبراهیم. وقصّة موسى علیه السلام هی صورة أخرى لهذا التدخّل، حیث انفلق له البحر، بینما غرقت فیه جنود فرعون.
فی تأریخ الأدیان على العموم، نجد ظاهرة ترتسم على أکثر من صفحة، وتتکرّر أکثر من مرّة، هذه الظاهرة هی ما نطلق علیه " ظاهرة التدخّل الإلهی".فرغم أنّ طبیعة هذا الدین بشریّة ، الا انه لا تزال هناک صوراً عدیدة للتدخّل الإلهی فی تقریر مصیر هذا الدین..
ومن تلک الصور، قصة النبی محمّد صلى الله علیه وآله وهو مختف فی الغار حین هاجر إلى المدینة، فالعنکبوت التی نسجت بیتها، والحمامة التی وضعت بیضها لتغطیة وجود محمّد صلى الله علیه وآله ما هی إلاّ تعبیر عن التدخّل الإلهی فی تقریر مصیر هذا الدین.
وعلى طول التأریخ نلتقی بنماذج من هذا التدخّل.
وقضیة الإمام المنتظر نفسها واحدة من هذه الصور والنماذج، کما سنرى فی ختام هذا الحدیث.
الحدیث الآن عن طبیعة هذا التدخّل وحدوده.
هل یخضع لضوابط معیّنة؟
وإذا کان فما هی تلک الضوابط؟
دعنا نرجع فی فهم الموضوع أکثر إلى استعراض بعض صور التدخّل الإلهی، التی نلتقی بها فی تأریخ الأدیان.
واحدة من تلک التدخّلات قصّة إبراهیم علیه السلام. لقد وجدنا کیف امتدّت ید الغیب لتنقذ إبراهیم علیه السلام من موت محتم.
فالنار التی أعدّت له ها هو یسقط فی أعماقها، وها هی ألسنة النار المرتفعة تجرّ إلیها إبراهیم. إنّه لا یملک شیئاً فی الحال. ولو اجتمع الإنس والجن على أن ینقذوه وهو یرتمی فی أحضان تلک النار لما وجدوا لذلک سبیلاً. هنا تدخّلت السماء وتدخّل الغیب لیحمی هذا النبی من لهب النار، فکانت علیه برداً وکانت علیه سلاماً.
ولکن کیف حدث ذلک، وضمن أیة ظروف؟
لقد دعا إبراهیم قومه. أوضح لهم سبیل الحق، وکشف لهم زیف الباطل. تحمّل فی ذلک کل عناء، وتجرّع کل مأساة. ولکن إصراره على الدعوة کان یواجه إصراراً على الباطل، وعناداً عن الحق.
ماذا یصنع إبراهیم؟
لقد استخدم کل وسیلة، وهاهم یبتعدون عنه إلى غیر رجعة. خابت آمال إبراهیم، فأشاح عنهم بوجهه, وإنّه لیقول: (أُفٍّ لَکُمْ وَلما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَفَلا تَعْقِلُون).(1)
فهنا جهاد غیر یسیر، وعناء غیر قلیل، وعمل دائب متّصل لم ینقطع عنه إبراهیم.
ولقد ظلّ إبراهیم وحده، لم یستجب له من قومه حتى الأقربون:
لا یملک جنداً، ولا یملک أتباعاً. هو وحده فی المسیر الصعب، لا أحد یخلفه فی المسیر إذا هو انتهى.
وها هو الآن وشیک أن تأکله النار. لقد کان یعنی موت إبراهیم موت الدعوة کلّها. ولقد کان ارتحاله یعنی ارتحال شریعة الله من الأرض.
هنا جاء النداء: (یا نارُ کُونی بَرْداً وَسَلاماً على إِبْراهیِمَ)(2)، وتدخّل الغیب فسجّل کلمته فی أفق الکون.
(وأَرادُوا بِهِ کَیْداً فَجَعَلْناهُمُ الأخْسَرین).(3)
إنّ هذا العرض یکشف لنا عن ضابطین فی التدخّل الإلهی:
الأوّل: أن تبذل قوى الحق آخر إمکانیاتها، وتدفع إلى الصراع کل طاقاتها، لا تکسل، ولا تقعد، ولا تعترف للجبن، ولا تخلد إلى راحة.
الثانی: أن تصل قوى الحق إلى الطریق المسدود، ویتعذّر علیها أن تحمی وجودها، وتدفع عنها شبح الموت الساحق.
حینذاک یکون الظرف قد حان لتدخّل غیبـی مباشر، فحین تعجز جنود الأرض، تشترک جنود السماء.
ومهما مشینا فی دراستنا لنماذج التدخّل الإلهی فإنّنا سنعثر على هذین الضابطین.
خذوا قصّة موسى...
کم دعا موسى قومه؟ وکم هی الأتعاب التی تحمّلها فی هذا السبیل؟
إنّ شیئاً من طاقته لم یبق جامداً، لقد استنفذ کل ما عنده فی سبیل الحق، ولم یؤمن له من قومه إلاّ القلیل.
لقد طاردهم فرعون إلى عرض البحر، حتى لقد استراب أصحاب موسى، وملکهم القلق:
(فَلَمّا تَرائَى الجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسَى إنّا لمَُدْرَکُونَ، قال کلاّ إنّ مَعی رَبِّی سَیهْدین).(4)
انظروا إلى الثقة التی یتحدث بها موسى، فهو عارف بأنّ جماعته لا یمکن أن تسحق، فضوابط التدخّل الإلهی متوفّرة.
إنّه دعا قومه، ولم یأل فی ذلک جهداً. وإنّ جبهته الیوم على خطر، ولئن سحقت لا یخلفها أحد فی الطریق. فالقضاء علیها کان یعنی القضاء على الحق کاملاً. ولقد استبان للغیب أنّ موسى صائر إلى الموت، لو لا أن تدرکه رحمة من ربّه، فجنود فرعون على الأثر، وما موسى ومن معه إلاّ قلیل.
وهنا قیل لموسى:
(اضْرِبْ بِعَصاکَ البَحْرَ فانْفَلَقَ فَکانَ کُلّ فِرْقٍ کالطَّودِ العَظِیم. وَأزْلَفْنا ثَمّ الآخرین وأنْجَیْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أجْمَعِینْ، ثُمّ أغْرَقْنا الآخَرین).(5)
ومن تأریخ الإسلام، وتأریخ الرسول الأکرم محمّد صلى الله علیه وآله نقتطع أکثر من قضیة برز فیها التدخّل الإلهی واضحاً.
ففی معرکة بدر کان وعداً إلهیاً قاطعاً قد تجسّد.
(بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا، ویأتُوُکُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا یمُدِدْکُمْ رَبّکُمْ بِخَمْسَة آلافٍ مِنَ الملائِکَةِ مُسَوّمین).(6)
ونزلت جنود السماء لتقطع طرفاً من الذین کفروا، أو تکبتهم فینقلبوا خائبین.
لقد کانت الثقة تملأ قلب رسول الله صلى الله علیه وآله، وهو یعرف ضوابط التدخّل الإلهی.
فالمسلمون جهّزوا بسخاء کل قواهم لمواجهة المعرکة، والدخول فیها.
ولقد کانوا من قبل قد أبلوا بلاءً حسناً فی تحمّل مسؤولیة الدعوة وتثبیت دعائم هذه الرسالة الجدیدة.
وهم الیوم فی أخطر مواجهة. عددهم لا یتجاوز الثلاثمائة إلاّ قلیلاً. وعدّتهم تقلّ فیها السیوف، ویکثر فیها سعف النخیل.
وعرف الله منهم الإخلاص، فهم یحملون فی صدورهم إیماناً لا یثنیه شیء. وعزماً لا یزعزع منه خوف. والمواجهة خطرة، خطرة.
والقوى غیر متکافئة. ولئن خسر المسلمون الیوم، لن یبقى لهم على الأرض وجود. فهی معرکة حیاة وموت. لقد رفع رسول الله صلى الله علیه وآله صوته داعیاً ربّه: (إن تهلک هذه العصابة لا تعبد).(7)
إنّ محمّداً صلى الله علیه وآله فی هذا الدعاء یعلن عن توفّر ضوابط التدخّل الإلهی.
فلقد وصلت قوى الحق إلى نقطة الحسم، وها هی عاجزة عن المواجهة لولا أن تسعفها السماء بالعون.
إنّ أحداً لن یبقى لیواصل المسیر لو هلکت هذه العصابة. فهم کل ما یملک الإسلام من جند، ونبیّهم معهم. فمصیر الرسالة یتحدّد فی هذه السویعات المعدودات. ومن هنا کان واثقاً بالنصر، کل النصر. وهبط الملائکة آلافاً مردفین، وصدق الله وعده، وهزمت فلول الشرک.
إنّ الآیة نفسها تشرح لنا ضوابط التدخّل الإلهی لقد قالت: (إنْ تَصْبِرُوا، وَتَتّقُوا..).
وهذا هو الضابط الأوّل.
أن یصبر المؤمنون على البلاء. یعدّوا عدّة الجهاد. یسیروا أبطالاً متمرّسین، غیر عابئین بسوى الله والحق فی دروب التضحیة.
(مِنْ فَوْرِهِمْ هذا..).
تلمیح بالضابط الثانی.
أن یصیر الحق فی محنة، وأن یقع موقع الحرج. أن تنفذ من المسلمین آخر طاقة، ولا یعودوا قادرین على حفظ الرسالة.
فالمعرکة بالنسبة لهم مفاجئة، وورطة، وجیوش الشرک لا قبل لهم بها. حینذاک: (یُمْدِدْکُم رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مَنْ الملائِکَةِ مُسَوِّمین).
هناک آیة أخرى احتوت ضوابط التدخّل الإلهی وحدوده، ففی سورة الأنفال قال تعالى:
(الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْکُمْ، وَعَلِمَ أنّ فِیکُم ضَعْفاً فإنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مائةٌ صابِرَةٌَ یغْلِبُوا مائَتَیْنِ، وإنْ یَکُنْ مُنْکُم ألْفٌ یَغْلِبُوا أَلْفَیْنِ بِإذْنِ الله، واللهُ مَعَ الصّابِرین).(8)
متى جاء هذا القرار الإلهی؟
لقد جاء هذا القرار بعد أن علم الله صدق النیة، من خلال التضحیات والبطولات التی جسّدها المسلمون بکل صبر وبسالة.
وبعد أن علم الله أنّ طاقات المسلمین محدودة، والقوى التی تشترک فی المعرکة غیر متکافئة، فالمسلمون قلّة فی العدد، وضعاف فی العدّة. بینما المشرکون أضعافهم عدداً وعدّة. إذن فالمسلمون بحاجة إلى عون. لا یمکن أن یترکوا لوحدهم، وإلاّّ اصطلمهم العدو، وسحقهم، وبذلک تسقط رایة الحق إلى الأبد. حینذاک أعطی هذا القرار، وهبطت إلى مسامع وأفئدة المسلمین بشرى تزف إلیهم النصر.
إن یکن منکم مائة صابرة یغلبوا مائتین.
لأنّ الید الإلهیة تشترک معهم فی المعرکة، والعزیمة تنفثها السماء فی جنود الأرض، لیقلعوا أعمدة الشرک، ویزعزعوا حصونه وقواعده بإذن الله، والله مع الصابرین.
وفی آیة النصر یتّضح جداً الضابط الأوّل للتدخّل الإلهی. (إنْ تَنْصُرُوا اللهَ یَنْصُرْکُمْ وَیُثَبِّتْ أَقْدامَکُمْ).
فالنصر الإلهی لیس مطلقاً، وبلا ضابط.
النصر الإلهی رهین بأن یقدّم أنصار الحق أوّلاً کل طاقاتهم من أجل نصرة الحق، وضمان حیاته.
النصر الإلهی رهین بأن یتقدّم أنصار الحق خطوات، ویزجّوا أنفسهم فی قلب المعرکة، ومن ثمّ یثبّت الله الأقدام، وینصر جیوش الحق.
ومن الخطأ أنّ نفهم التدخّل الإلهی بوصفه عملاً ارتجالیاً لا یخضع لقانون.
وأکثر منه خطأ أن ننتظر فی معرکة الحق أن یهبط علینا الجند من السماء، ونحن قابعون فی البیوت، وأن ینصرنا الله قبل أن ننصر رسالته، وأن یثبّت أقدامنا قبل أن نتقدّم بها فی طریق النضال. ولنعد الآن إلى قضیة الإمام المهدی علیه السلام. کیف تمثّل هذه القضیة صورة من صور التدخّل الإلهی؟
وهل توفّرت فیها شروط قانون التدخّل؟
إنّ غیبة الإمام المهدی، وإفلاته من المطاردة الشدیدة، لم یکن أمراً طبیعیاً، وبالأخص لشخص لا یجاوز عمره خمس سنوات.
کما أنّ امتداد هذه الغیبة لمئات من السنین هو الآخر لیس طبیعیاً، ولا میسوراً ضمن الظروف الاعتیادیة.
ومن هنا فالقضیة فی فهمنا تعکس تدخّلاً إلهیاً. إنّها قضیة إعجاز، وتجاوز لقوانین الطبیعة المألوفة.
ولست هنا بصدد البرهنة على معقولیة هذا الإعجاز، فما دمنا نضع هذه القضیة فی قائمة قضایا التدخّل الإلهی، والإعجاز الغیـبی، إذن لم یعد غریباً أو معسوراً، أن تحقق القدرة الإلهیة هذا النمط من الإعجاز. فالقدرة الإلهیة لا تضیق ولا تعجز عن الامتداد بعمر شخص إلى آلاف السنین.ألیست القدرة الإلهیة هی التی أنطقت عیسى وهو فی المهد؟!
وحافظت على حیاة أهل الکهف أکثر من ثلاثمائة عام، دون أن ینالوا فیها طعاماً أو شراباً؟!.
ألیست القدرة الإلهیة هی التی عرجت بالنبی محمّد إلى السماء، ورفعت عیسى من عالم الشهادة إلى عالم الغیب واختفى على الناس؟
إذا کنّا لا نجد حرجاً فی التصدیق بکل ذلک، فإنّه لیس من حقّنا أن نتحرّج فی قبول قضیة القائد المنتظر، فهی صورة من صور الإعجاز، بل ومن أبسط تلک الصور. ومهما یکن فما أقصده الآن بالحدیث هو التعرّف إلى الظروف التی دعت إلى هذا التدخّل.
هل توفرّت ضوابط التدخّل الإلهی فی هذه القضیة؟
الحقیقة هی ذلک.
فمن جانب کانت القوى الشیعیة المناصرة للإمام عاجزة کل العجز عن حمایته، وتحصین وجوده.
ومن جانب آخر فإنّ خط التشیع الذی یمثل الإسلام الأصیل لم یعد قادراً على تحمّل نکبة جدیدة، بفقدان زعیمه الإمام المعصوم، فلا أحد یمکن أن یخلفه فی هذه الزعامة، ویکون بمستوى المرحلة الحرجة.
فلم یکن رجال الشیعة آنذاک مهیّئین فی کافّة المجالات للقیادة والزعامة.
والظروف الحرجة العصیبة التی کانت تحیط بالتشیّع تتطلب قیادة فی قمّة النضج، والاستیعاب، أو بالأحرى قیادة معصومة،وهذا ما لم یکن متوفراً لدى أحد من رجال الشیعة.
ومن هنا کان لا بد أن یبقى الإمام المهدی وراء الخطوط، وإلاّ فإنّ التشیع کان قریباً إلى التفتیت.
لکن فی ذات الوقت کان الوضع السیاسی، وحالة المطاردة العنیدة لا تسمح للإمام أن یبرز تحت الشمس، لا بدّ أن یعمل تحت الستار.
وهکذا کانت الضرورة تقضی على الإمام بما یلی:
إنّ علیه أن لا یترک الخط الشیعی، بل یبدأ بتجهیز وخلق القادة الأکفّاء لمواصلة العمل، وللقیام بمهام القیادة جمیعاً، وفی خلال هذا الوقت یکون الإمام قد مشى بالتشیّع شوطاً آخر، یسمح له بترک القیادة ظاهراً لهؤلاء.
ومن ناحیة ثانیة فإنّ علیه أن یمارس هذا العمل فی خفاء، وبعیداً عن عیون الرقابة المنتشرة. وهذا ما تحقّق تأریخیاً.
ففی عهد الغیبة الصغرى التی دامت أکثر من سبعین عاماً، توفّر الإمام خلالها على تهیئة القدرة لدى الخط على تحمل مسؤولیة القیادة تماماً.
فی الوقت الذی کان یمارس قیادته طوال هذه الفترة متستّراً، وعن طریق نوّابه الأربعة:
عثمان بن سعید.
محمّد بن عثمان الخلاّنی.
الحسین بن روح.
علی بن محمّد السمری.
کیف لم یکن رجال التشیع قادرین على قیادة الخط لوحدهم؟ کما حدث ذلک فیما بعد، فی عهد الغیبة الکبرى، حیث بدأ فقهاء الشیعة یمارسون قیادة الخط بالاستقلال؟!
إنّ الإجابة التفصیلیة على هذا السؤال تفرض تناول الوضع التأریخی للتشیع، وطبیعیة المرحلة یومذاک.
إنّ حالة الإرباک السیاسی، واستخدام کل أسالیب القمع والتصفیة، ومطاردة الوجود الشیعی فی کل الأصقاع، وتحت کل ظل، لم یکن یسمح بنمو قیادات شیعیة بارزة، ومتمکّنة من تجاوز کل هذه الصعوبات، والتغلّب على کل هذه المحن، وعدم الانصدام نفسیاً والانهیار تحت هذه الضغوط.
ومن زاویة ثانیة فإنّ الکفاءة العلمیة بالمستوى القادر على مواجهة الأسئلة الکثیرة والمستجدة،وعلى کل الثغرات، أمر لم تتّخذ له تدابیر سابقة.
وفی مجموع هذه الملابسات کانت حیاة الإمام علیه السلام مهدّدة بالخطر.
ولو لم تقدّر له الغیبة، والخلاص من مخالب القوى المعادیة، لکانت ساعة الموت قد أزفت بالنسبة للمذهب کله، وبذلک تسقط آخر قلعة من قلاع الإسلام، التی ظلت محافظة على وجودها طوال هذه الفترة.
إذن فقد کان التدخّل الإلهی أمراً حتمیاً، من أجل صیانة خط التشیع.
وبالفعل فقد ضاع الإمام المهدی علیه السلام على الخصوم، بینما ما برحت اتصالاته برجال التشیع غیر منقطعة قرابة سبعین عاماً.
وقد کانت هذه الاتصالات بما تحمله من توجیه علمی، أو سیاسی، بمثابة الهواء الذی تتنفسه رئة التشیع، ومن دون ذلک فإنّ شجرة التشیع المهزوزة یومذاک لم تکن قادرة على الثبات فی الأرض أمام الهزات العنیفة.
والتدخّل الإلهی لا یتجسّد فقط فی غیبة الإمام المهدی عجل الله فرجه. إنّ نهضته المظفّرة فی الیوم الموعود مدعومة بید الغیب، مسدّدة بنصر السماء. لکن متى یکون هذا التدخّل؟ ومتى یکون ذلک النصر؟
إنّه یخضع لنفس القانون الذی شرحناه فی التدخّل الإلهی حینما تقذف جبهة الحق کل عدّتها. وحینما یتفاعل المؤمنون فی معرکة الحق، ویبذلون بسخاء کل الإمکانیات، ویرحّبون بکل التضحیات. غیر کاسلین، ولا جازعین.
یدافعون عن الحق بکل قوّة، وکل حرارة،وکل إخلاص. یتقدّمون بالرایة خطوات، یثبتون الأقدام فی المواقع. لا ترهبهم کثرة العدو، ولا توهن من عزمهم قلة الصدیق. هم أصدقاء الحق، والحق وحده. وحین تنتهی طاقتهم، ویحتاجون إلى عون السماء یتدخّل الغیب.
(حَتّى إذا اسْتَیْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوُا أنَّهُمْ قَدْ کُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنا).(9)
هذا هو قانون التدخّل الإلهی. وفی ضوء هذا القانون تَتحدّد النهضة الکبرى لقائدنا المنتظر. لقد بقی علینا سؤال واحد ما هو سرّ بقاء الإمام حیاً إلى الیوم؟ ما هو العطاء الذی تقدّمه هذه القضیة؟
وما أرجوه الآن هو السماح لی فی تأجیل الإجابة عن هذا السؤال إلى فصل لاحق، ریثما نواصل ـ فعلاً ـ الحدیث عن انعکاسات قضیة القائد المنتظر.
المصادر :
1- الأنبیاء : 23.
2- الأنبیاء:69.
3- الأنبیاء : 70.
4- الشعراء: 61و62.
5- آل عمران : 125.
6- الشعراء : 63ـ65.
7- تاریخ ابن خلدون:2/20, الخرائج والجرائح:1/156, مناقب أبی طالب :1/163.
8- الأنفال : 66.
9- یوسف: 110.