التضحية وصناعة التأريخ .. ثورة الإمام الحسين شاهداً
( اللَّهم تقبَّل منا هذا القربان )
د. وليد سعيد البيَّاتي
إشكالية المفاهيم :
تشكّل القرابين جزءً من التراث النفسي والروحي للأُمَّة ؛ في محاولة لتوثيق تواصلها مع السماء . وهي ليست ظاهرة تنطلق من فراغ نفسي أو خواء اجتماعي ، كما تحاول الفلسفة المادية تفسيره . وهي ليست نتاجاً للإحباط الروحي في تقويم العلاقة بين الإنسان والخالق ، ما يدفع الإنسان في حالة من الانفعال الإحباطي إلى تقديم نفسه أضحية أو قرباناً ، ليجد في موته الخلاص من إشكالية الحياة ، كما يتوهَّم بعض الفلاسفة المحدثين . كما أنَّه لا يمكن تفسير القرابين باعتبارها عوامل في فكرة التناقض بين المادي والإلهي ، أو استلاباً للعقل في بحثه المستمر عن مُثُل عُليا ، فتصبح القرابين أداة للتواصل بين الإنسان والخالق خارج حدود مشروع السنن الإلهية ، ما يمكن اعتباره توارثاً لا منطقياً ينتقل عبر الأجيال لترسيم ولترتيب علاقة الإنسان بالخالق ، ومن هنا لا يمكن فهم القيمة العُليا للقرابين خارج معايير السنن الإلهية ، بل إنّ القرابين هي من السنن الإلهية .
القربان و الإخلاص المطلق:
يقول الحق سبحانه: ( فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَا بُنَيّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ ) ( الصافات : 102 ) ، فيمكن اعتبار هذا النص مصداقاً لفهم القربان كسنّة إلهية ؛ تسعى إلى تحقيق مطلق الإخلاص لله تعالى عبر مطلق الخضوع للحكم الإلهي .
ولكنّ النص القرآني يُؤكِّد أنّه لن يتحقَّق هذا الإخلاص بدون الفعل ؛ ولهذا : ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ( الصافات : 103 ـ 107 ) لتتحقَّق بذلك قيمة الإخلاص عبر الفعل ، عندما يصبح مطلق القول مساوياً لمطلق الفعل ، كما في حالة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، لتتكشَّف لنا حكمة السنّة الإلهية (القربان) باعتبارها تقييماً لإخلاص العبد في مسيرته نحو تحقيق إرادة الله وفْق السنن السماوية ، مع التأكيد على أهمية العقل الإنساني في إدراك الغايات التي تهدف إليها السنّة السماوية من وراء القربان ؛ ولهذا قال إبراهيم (عليه السلام) : ( فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) ( الصافات : 102 ) تحقيقاً لاستعمال العقل باعتباره أحد مصادر التشريع .
وبنفس المفاهيم ندرك فعل عبد المطلب ، جدّ الرسول الأعظم مع أصغر وأحب أولاده إليه ، عبد الله والد نبينا الكريم (صلوات الله عليه وآله) .
فالسُّنَن تستمر بأزلية الوجود ، والقرابين تُطرح على مسار حركة التاريخ ، موثِّقة إخلاص المخلصين للعقيدة السماوية في تحرُّكهم العبادي ، تحقيقاً لمُثُل عُليا دعت إليها الرسالات السماوية ، لتتكرَّس بعد ذلك عِبَرُ ثورةٍ كونيةٍ هدفت ، منذ البداية ، إلى إعادة الموقف إلى مساره الرسالي ، بعد الكمّ الهائل من الانحرافات التي أضرّت بالعقيدة والأُمَّة على السواء . فلم يكن البحث المستمر عن الفداء والشهادة التي رافقتا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) إلاَّ منهجاً في تعليم الإنسانية معنى الإخلاص المطلق ، الذي لا يعني أبداً إلغاء حكم العقل ، ما دام ( كل ما يقبله العقل يقبله الشرع ) .
وهنا فقط يمكن إدراك تضحية الإمام الحسين(ع) وأهله وأصحابه (عليهم السلام) ليكونوا قرابينَ على طريق العقيدة . من هنا تصبح القرابين تجسيداً حيَّاً للعقيدة في طريق الحفاظ على الخط الرسالي . وعليه لم تكن التضحية مجرد انفعالٍ آليٍّ ، ولا هوس ورغبة في الفناء بلا معنى ، بل كانت ترابطاً بين الإنسان في مستويات الإخلاص المطلق ، وبين الله الخالق ؛ لتتجلَّى في حركة السيدة الجليلة ، سليلة النبوة والولاية ، العظيمة زينب بنت الإمام علي (عليهما السلام) ، وهي تندفع نحو جسد أخيها وإمامها الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهو المضرّج بدم الشهادة ، لتضع يديها الطاهرتين تحت جسده الشريف ، لترفعه بجهد الكبرياء والنبالة ، وهي تلقي بطرفها إلى السّماء مخاطبة الباري تعالى في قولها: (اللهم تقبّل منّا هذا القربان) . لتحقق تلك العلاقة العقائدية بين مطلق الإخلاص والولاء للعقيدة السماوية ، وبين تحقق مطلق الفعل بالاستشهاد .
تلك الصرخة استوعبت كل معاني الإيمان ومفردات العقيدة المتجسِّدة في شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ، والتي أراد منها أن تكون توثيقاً مستقبلياً لتحرُّك الأُمَّة في مسار العقيدة للانفلات من حالة التناقض ؛ عبْر التطلُّع لمستقبل تتحقَّق فيه الحضارة الكونية ، من خلال استلهام استمرارية السنن الإلهية .
تلك الصرخة الزينبية لم تكن مجرد انزعاجٍ عاطفي ، بل كانت تمثِّل إيمان الإنسان بقدرته على صنع التأريخ ، والتأثير الإيجابي فيه . في الوقت نفسه تمثِّل هذه الصّرخة الإنسانية ، إدراكاً واعياً بكون هذا القربان يشكّل علاقة تعبُّدية مبنية على تحرُّك مسؤول نحو الله . فالحسين(ع) لم يكن قرباناً لفداء البشرية ، وفْق المفاهيم الكنسية للمسيحية عبْر محاولة تفسيرها لعملية الصلب المفترضة ، والتي أنكرها النص القرآني .
ولم تكن شهادة الحسين(ع) فكرة طوباوية ، أو مثالية مغرقة في مثاليتها حد التطرُّف ، بل إنّ الحسين (عليه السلام) قد جسَّد عمق العلاقة بين الشريعة وحركة التاريخ ، من خلال تأكيد الترابط بين الإنسان الفاعل والمحرِّك للتاريخ وبين الله كمصدر للتشريع ؛ ليُؤكِّد ـ مرة أخرى ـ مفهوما