الإمامَة بَين شَيْخ الشِّيعَة وَشَيْخ المُعتَزلة
ألف القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة كتاباً أسماه «المغني» بذل فيه نشاطاً بالغاً لتفنيد أقوال الإمامية في الإمامة، وأورد فيه من الشبهات ما أسعفه الفكر والخيال، وقد انطوى الكتاب على أخطاء، وتمويهات تخدع البسطاء والمغفلين، فتصدى لنقضه الشريف المرتضى في كتاب ضخم أسماه «الشافي»، وقد جاء فريداً في بابه، وصورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه - على الأصح -. عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها، كمبدأ ديني، واجتماعي وسياسي.
وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية، واجتماعية، وأن علياً هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول، وأن من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت، أو يمكن أن تقال حول الإمامة، وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة، كما أشار إلى فضائل الإمام، ومثالب غيره.
ولا أغالي إذا قلت : إن كتاب الشريف هو أول كتاب شافٍ كافٍ في الدراسات الإسلامية الإمامية، بحيث لا يستغني عنه من يريد الكلام في هذا الموضوع، وبحثه بحثاً موضوعياً. وليس من شك أن العلامة الحلي قد عنى كتاب «الشافي» حين قال مقرظاً الشريف : «بكتبه استفاد الإمامية منذ زمنه رحمه اللّه إلى زماننا - بل وإلى آخر زمان - وهو أي الشريف ركنهم ومعلمهم قدس اللّه روحه، وجزاه عن أجداده خيراً».
والشيء الذي يؤسف له هذا الداء الساري في جميع كتبنا نحن الإمامية من رداءة الطباعة، وسوء الإخراج، وعدم الترتيب والتبويب. بخاصة كتاب «الشافي» فإنه على ضخامته - يبلغ ألف صفحة أو أكثر بقطع هذا الكتاب - لا يعرف له أول من آخر لولا الابتداء بالبسملة، والانتهاء بسؤال التوفيق. فقد دمج قول القاضي والشريف، حتى كأنهما حرفان متماثلان قد أدغم أحدهما بالآخر، أو خيوط من نسيج قد حيك منها ثوب واحد.
واليوم نشاهد نشاطاً ملحوظاً لإحياء التراث القديم، ونشره بحلة جديدة(1) وليس من شك أن حركة النشر ستشمل كتاب «الشافي» الكافي، وتخرجه إخراجاً جميلاً، ولو عرف الناشرون والقراء قيمة هذا الكتاب، وما فيه من كنوز وحقائق لاستبقوا إليه، ولم يفضلوا عليه كتاباً أي كتاب.
ومن المفيد أن نذكر أمثلة من فوائده الجمة بعبارة أوضح وأصرح، مع ما يناسب المقام من التنبيه والتعليق.
النبي والإمام :
قال القاضي في كتاب «المغني» : إن العصمة والأفضلية على الناس أجمعين من صفات النبي، فلو أعطيت للإمام لكان نبياً.
قال الشريف المرتضى في كتاب «الشافي» : لم يكن النبي نبياً، لأنه أفضل ومعصوم، وكفى، بل لأنه يؤدي عن اللّه بلا واسطة، أو بواسطة الروح الأمين، والإمام، وان كان معصوماً وأفضل فإنه يؤدي عن النبي، لا عن اللّه فالفرق موجود وظاهر.
الإمام والكون :
قال القاضي : إن من الإمامية من يقول : لولا الإمام لما قامت السماوات والأرضون، ولما قبل من عبدٍ عملاً.
قال الشريف : إن هذا القول لا نعرفه لأحد من الإمامية قديماً وحديثاً.
_______________
(1) لا أرى رجلاجاً مفيداً لهذه النشرات والهجمات المتوالية على الشيعة والتشيع في أيامنا هذه إلا بنشر تراث المفيد والشريف والحلي والطوسي بحلة جديدة مع شرحها أو التعليق عليها، وأن يتفرغ أيضاً للكتابة في الموضوعات الشيعية عشرون عالماً على الأقل، لهم الكفاءات والمؤهلات للتأليف بلغة العصر وتفكيره، على أن يقفل باب الكتابة والتأليف في وجه المتطفلين والمشوهين.
التشيع والإلحاد :
قال القاضي : إن كثيرين ممن أظهروا التشيع وناصروه كانوا ملحدين، ومن أعدى أعداء الإسلام، غير أنهم تستروا وتسلقوا بالإسلام لغاية الكيد والطعن، إذ لو أظهروا الإلحاد لم يقبل منهم.
نطق القاضي عبد الجبار بهذه الفرية في القرن الرابع الهجري، وهو أعدى أعداء الشيعة والتشيع، قالها بقصد الكيد والتنكيل. وبعد ألف سنة أو أكثر اعتمدها أحمد أمين، وقال في فجره وضحاه : كل من أراد الكيد للإسلام كان يتستر باسم التشيع. استقى أحمد أمين وغيره آراءهم في الشيعة من أعداء الشيعة، دون أن يرجعوا إلى مصادر الشيعة، ودون أن يمحصوا ويحققوا أقوال خصومهم فوقعوا في الأخطاء الفاحشة عن قصد أو غير قصد. وإذا كانت هذي حال مؤلفات أحمد أمين ومن إليه تستقي رأيها في عقيدة الشيعة من خصوم الشيعة، وتقبل الادعاء بلا بينة فهل يجوز أن يعتمدها من يطلب الحقيقة، ويتوخى الصواب ؟
والذي ظهر لي بالتتبع، واعتقدته بالدليل أن الذي حمل عبد الجبار وغيره على هذه الفرية أنهم حين عجزوا عن رد، وإبطال ما قاله الشيعة في الإمامية لجأوا إلى هذا الكذب والاختلاق، شأنهم في ذلك شأن كل مبطل ضعيف يتذرع بالحيل، وسبل التضليل.
ومما رد به الشريف على القاضي بأنه لا يجوز بحال أن نضيف الإلحاد إلى من لم يتظاهر به، ولو جازت نسبة الإلحاد إلى أحد من رجال الشيعة لجازت نسبته إلى القاضي عبد الجبار، وإلى أبي الهذيل والجاحظ الذي اختلطت أقواله، وتضاربت مؤلفاته تضارباً يدل على شك عظيم، وإلحاد شديد، وقلة تفكير واكثراث بالدين.
وأضيف إلى قول الشريف بأن كتب الجاحظ لو كانت لعالم من الشيعة لاتخذ الخصوم منها دليلاً وذريعة إلى ضلال التشيع، وكفر الشيعة إطلاقاً، وجعلوها أعظم وأشهر من قميص عثمان.
النص على أمير المؤمنين :
قسم الشريف النص على أمير المؤمنين علي إلى قسمين : نص بالفعل والقول، ونص بالقول فقط، ثم النص الثاني قسمه إلى قسمين : نص جلي، وآخر خفي، قال :
«ورد النص بالإمامة على أمير المؤمنين بعد النبي، ودل على وجوب طاعته، ولزومها لكل مكلف، وينقسم النص عندنا في الأصل إلى قسمين : أحدهما يرجع إلى الفعل، ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.
فأما النص بالقول والفعل فهو ما دلت عليه أفعاله (ص) وأقواله المبينة لأمير المؤمنين من بين الأمة الدالة على استحقاقه من التعظيم والإجلال، والاختصاص بما لم يكن حاصلاً لغيره، كمؤاخاته، وإنكاحه سيدة النساء ابنته، وإنه لم يولِّ عليه أحداً من الصحابة، ولا ندبه لأمر، أو بعثه في جيش إلا كان هو الوالي عليه، والمقدم فيه، وإنه لم ينقم عليه مع طول الصحبة، وتراخي المدة شيئاً، ولا أنكر منه فعلاً، ولا استبطأه في صغير ولا كبير من الأمور، مع كثرة ما توجه منه (ص) إلى جماعة من الأصحاب من العتب تصريحاً، أو تلويحاً، وقوله فيه علي مني وأنا من علي، وعلي مع الحق، والحق مع علي، واللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، إلى غير ذلك من الأقوال والأفعال الظاهرة التي لا يخالف فيها ولي ولا عدو، وذكر جميعها يطول، وكل هذه الأفعال والأقوال تشهد باستحقاقه الإمامة، ونبهت على أنه أولى بمقام الرسول، لأنها كما دلت على التعظيم والاختصاص فقد دلت أيضاً على قوة الأسباب إلى أشرف الولايات، لأن من كان أعظم فضلاً، وأعلى في الدين مكاناً فهو أولى بالتقديم، وأقرب وسيلة إلى التعظيم، ولأن العادة فيمن يرشح لشريف الولايات، ويؤهل لعظيمها أن يصنع به، وينبه عليه ببعض ما ذكرناه.
أما النص بالقول دون الفعل فينقسم إلى قسمين : جلي، كقوله (ص) سلموا على علي بإمرة المؤمنين، وهذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا(1).
وأما النص الخفي فكقوله (ص) أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ومن كنت مولاه فعلي مولاه. والفرق بين النص الجلي والنص
_______________
(1) انظر تاريخ الطبري وتفسيره، والبغوي والثعلبي في تفسيره، والنسائي في خصائصه، وصاحب السيرة الحلبية (أعيان الشيعة ج 3 قسم أول ص 110).
الخفي أن الأول يعلم منه المعنى بالضرورة، وبدون حاجة إلى الاستدلال والمقدمات، كما لو قلت : هذا أخي. فإنه يدل على الأخوة ابتداء وبلا واسطة، والثاني يحتاج إلى الاستدلال وترتيب مقدمات، كما لو قلت : أنا وأنت كالحسنين. والحسنان أخوان فنحن أخوان.
وقال القاضي معترضاً على وجود النص : لو كان النص من النبي على علي موجوداً حقاً لعلم به جميع المسلمين بالضرورة تماماً كما علموا بنبوة محمد (ص) التي لم يختص العلم بها بفريق دون فريق من المسلمين، ولا يمكن بحال أن يخفى هذا النص، ولا يظهر للناس كالشمس، لأنه تماماً كالنص على وجوب الصلاة إلى الكعبة، وصوم شهر رمضان، وما إليه من النصوص التي وجدت وعلمت بالضرورة، ولم يقع فيها شك ولا ريب، وبكلمة إن عدم علم الجميع بالنص دليل على عدمه.
وتتجلى عظمة الشريف في الجواب عن هذه الشبهة التي تشدق بها الأولون، وورث الاجترار بها المتأخرون. ويتلخص جوابه رضوان اللّه عليه بما يلي :
1 - لا نسلم أن وجود النص على الإمام يستدعي علم المسلمين جميعاً بالضرورة، فلقد نص النبي على أشياء كثيرة خفيت علينا أحكامها، وكان (ص) يتوضأ في كل يوم بمرأى من المسلمين، حتى كرر الوضوء أمامهم ألوف المرات، ومع ذلك اختلف السنة والشيعة في كيفية الوضوء، ووجوب غسل الرجلين ومسحهما، فقال الأولون بالأول، والآخرون بالثاني. ولو كان خفاء النص محالاً لما وقع الخلاف. وإذا جاز أن يكون النص موجوداً على الغسل ومتواتراً مع خلاف الشيعة جاز أن يكون النص على الإمام موجوداً ومتواتراً مع خلاف السنة. وكل ما يقال في حق الشيعة من المكابرة، أو دخول الشبهة عليهم يقال ذلك في حق السنة بالنسبة إلى وجود النص على الإمام، والفرق اعتباط وتحكم.
2 - إن أبا حنيفة لم يثبت عنده إلى 17 حديثاً، وإن فرقة من الخوارج أبطلت كل حديث يخالف مذهبها، ولم تسلم بأي حديث إلا عن الوجه الذي تذهب إليه. فهل يدل هذا على أن النبي لم يحدث إلا 17 حديثاً، أو أنه لم يحدث إلا بما يتفق مع مذهب هؤلاء الخوارج ؟
3 - إنه لا غرض لأحد في إخفاء، أو تكذيب النص على الكعبة، وإيجاب الصوم، وما إليه لا في عهد الخلفاء الأولين، ولا في عهد الأمويين والعباسيين، لأن هذا النص لا يتصل بالسياسة والمسوس من قريب أو بعيد.
أما النص على علي بالخلافة فإنه إبطال صريح لرياسة من تقدم وتأخر، والحكم بظلمه وعدوانه، لذا كان راويه معرضاً للتكذيب والتعذيب، كما حدث بالفعل لأبي ذر وعمار وميثم التمار وحجر بن عدي، وعمر بن الحمق وغيرهم. إذن قياس النص على الإمام بالنص على الكعبة ونحوه قياس مع وجود الفارق، لأن دواعي الظهور متوافرة في الثاني، دون الأول، بل قد توافرت فيه دواعي الخفاء بكاملها، كحسد الإمام على عظمته ومنزلته من اللّه والرسول، والحقد عليه لما فعل، ولمن قتل على الشرك من أقارب المنكرين وأرحامهم يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين.
ولاية علي :
قال القاضي : إن النصوص التي استدل بها الشيعة كلها خفية لا تدل صراحة على خلافة علي وإمامته، بل تحتمل التأويل والتفسير بخلاف قصدهم. من ذلك قوله تعالى : «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»، حيث نزلت بعلي حين تصدق بخاتمه، وهو راكع.
ومن السنة قول النبي يوم الغدير «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فمن الجائز أن يريد بالولي في الآية والحديث الحب والمودة دون الحكم والسلطان.
وقد ردد هذا القول شيوخ من بعد عبد الجبار تقليداً وتعصباً لأسلافهم، واتخذوا من أقوالهم حجة ودليلاً.
وقال الشريف : إن عدم ثبوت النص الجلي عند القاضي عبد الجبار وأمثاله من خصوم الشيعة لا يستدعي عدم صدوره عن النبي (ص)، ولا عدم ثبوته عند العلماء المنصفين، إذ المعول في ثبوت النص على نقل الثقات الذين تثبت السنة النبوية بنقلهم، وقد نقل لنا وللأجيال من لا يشك بصدقه النصوص الجلية الواضحة، كحديث أيكم يبايعني يكن أخي ووصيي وخليفتي عليكم، وقول علي أنا يا رسول اللّه، وجواب النبي له أنت أخي ووصيي وخليفتي. وذلك حين نزل قوله سبحانه وتعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين».
أما الولاية في الآية المتقدمة فيتعين حملها على الطاعة وتدبير الشؤون بدليل أنك إذا قلت : فلان ولي هذه المرأة يفهم من قولك هذا أنه يملك العقد عليها، وإذا قلت : هؤلاء أولياء المقتول فمعناه أنهم الذين يحق لهم المطالبة بدمه، وكذلك إذا قلت : هذا ولي الرعية، وولي عهد المسلمين يفهم أنه يدير أمورهم، ويدبر شؤونهم، وحمل اللفظ على غير هذا المعنى الظاهر يحتاج إلى دليل، وهو منفي في الآية الكريمة، فيتعين تفسير الولاية بالمعنى الظاهر، وهو الحكم والسلطان.
أما حديث الغدير فإن النبي (ص) قبل أن يقول : من كنت مولاه إلخ... استخرج من أمته الإقرار بفرض الطاعة له، وذلك حيث قال أولاً : ألست أولى بكم من أنفسكم، وهذا القول وإن كان مخرجه الاستفهام فإن المراد به التقرير، تماماً كقوله تعالى : «ألست بربكم» فلما أجابوه بالاعتراف رفع بيد أمير المؤمنين، وقال عطفاً على ما تقدم: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».
فوجب، والحال هذه، أن يريد المعنى المتقدم الذي قررهم به، كما يقتضيه سوق الكلام، واستعمال أهل اللغة وعرفهم في خطاباتهم وأساليبهم، وإذا ثبت أنه أراد ما ذكرناه من كون أمير المؤمنين أولى بالإمامة من أنفسهم، فقد وجبت له الإمامة من فرض طاعته عليهم، ونفوذ أمره ونهيه فيهم.