أهل البيت الكرام وشيعتهم ينزهون النبي الأعظم عن ترك الأمة دون راع، كما أنهم ينزهونه عن ترك القرآن الكريم دون جمع، وكيف لا يجمعه وهو معجزته، وقانون دولته، والدليل على صحة نبوته، وكيف يصح الركون عقلا لنظرية السلطة وشيعتها في موضوع جمع القرآن؟!
في كتاب الفريد البيان في تفسير القرآن عالج الإمام الخوئي موضوع جمع القرآن الكريم، فنقل روايات أهل السنة ووضع تحت تصرف عاشقي الحقيقة النص الحرفي لهذه الروايات، ثم أثبت أنها متناقضة تماما من حيث الوجوه التالية:
متى جمع القرآن؟ ظاهر الرواية الأولى أن الجمع كان في زمن عثمان، وصريح الروايات الأولى والثالثة والرابعة، وظاهر البعض الآخر أنه كان في زمن أبي بكر، وصريح الروايتين السابعة والثانية عشر أنه كان في زمن عمر.
من الذي تصدى لجمع القرآن حسب هذه الروايات؟ تقول الروايات الأولى والثانية والعشرون أن المتصدي زيد بن ثابت، وتقول الرواية الرابعة أنه أبو بكر نفسه، وإنما طلب من زيد أن ينظر، وتقول الرواية الخامسة أن المتصدي هما زيد وعمر.
من الذي فوض بجمع القرآن حسب هذه الروايات؟ تفيد الرواية الأولى أن أبا بكر فوض ذلك إلى زيد، وتقول الرواية الخامسة وغيرها أن الكتابة إنما كانت بشهادة شاهدين، حتى أن عمر جاء بآية الرجم فلم تقبل منه.
هل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمن عثمان؟ ظاهر كثير من الروايات بل صريحها أن عثمان لم ينقص مما كان مدونا قبله، وصريح الرواية الرابعة عشر أنه محا مما دون قبله، فأمر المسلمين بمحو ما محاه.
من الذي طلب جمع القرآن؟ تقول الرواية الأولى أن الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن هو عمر، وأن أبا بكر أجابه بعد الامتناع، فأرسل إلى زيد وطلب منه ذلك، فأجابه بعد الامتناع.
وتقول الرواية العاشرة أن زيدا وعمر طلبا ذلك من أبي بكر، فأجابهما بعد مشاورة المسلمين.
من الذي جمع المصحف الإمام وأرسل منه نسخا إلى الأمصار؟ تقول الرواية الثانية إنه كان عثمان، وصريح الرواية الثانية عشرة أنه كان عمر!
متى ألحقت الآيتان بآخر سورة براءة؟ صريح الروايات الأولى والحادي عشر والثانية والعشرين أن إلحاقهما كان في زمن أبي بكر، وصريح الرواية الثامنة وغيرها أنه كان في عهد عمر.
من أتى بهاتين الآيتين؟ صريح الروايتين الأولى، والثانية والعشرين أنه كان أبو خزيمة، وصريح الروايتين الثامنة والحادية عشرة أنه القرطبي.
بما ثبت أنهما من القرآن؟ بشهادة الواحد على ما هو ظاهر الرواية الأولى وصريح الروايتين التاسعة والثانية والعشرين، وبشهادة عثمان معه على ما هو صريح الرواية الثامنة، وبشهادة عمر على ما هو صريح الرواية الحادية عشر.
من عينه عثمان لكتابة القرآن وإملائه؟ صريح الرواية الثانية أن عثمان عين للكتابة زيدا وابن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن.
وصريح الرواية الخامسة عشرة أنه عين ثقيفا للكتابة، وهذيلا للإملاء، وصريح الرواية الثامنة عشرة أن الكاتب لم يكن من ثقيف، وأن المملي لم يكن من هذيل، وصريح الرواية التاسعة عشرة أن المملي كان أبي بن كعب، وأن سعيدا كان يعرب ما كتبه زيد، وهذا أيضا صريح الرواية العشرين بزياده عبد الرحمن بن الحرث للإعراب.
تعارض روايات الجمع فيما بينها: أن هذه الروايات معارضة بما دل على أن القرآن كان قد جمع وكتب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روى جماعة منهم ابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والضياء المقدسي، عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟
فقال عثمان: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد، وكان إذا نزل عليه الشئ يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك فرقت بينهما ولم أكتب سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال.(1)
وقد نقل الخوئي هذه الرواية عن منتخب الكنز العمال مجلد 2 صفحة 48.
وروى الطبراني، وابن عساكر عن الشعبي قال (جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ستة من الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد، وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة - منتخب الكنز مجلد 2 صفحة 52
وروى قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي؟ قال:
أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت وأبو زيد - صحيح البخاري باب القراء من أصحاب النبي صلی الله عليه وآله وسلم(2)
وروى مسروق (ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب - المرجع السابق.
وأخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال (جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إقرأه في شهر - الإتقان، النوع 20 مجلد 1 صفحة 124.
ويضيف الإمام الخوئي قائلا: ولعل قائلا يقول: أن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين، ولا يخفى أن هذا القول دعوى لا شاهد عليها، أضف إلى ذلك أنك ستعرف أن حفاظ القرآن الكريم على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من أن تحصى أسماؤهم، فكيف يمكن حصرهم في أربعة أو ستة؟ وأن المتصفح لأحوال الصحابة وأحوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحصل له اليقين بأن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله، وأن عدد الجامعين له لا يستهان به.
وأما ما روى البخاري بإسناده عن أنس قال: مات النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، فمطروح لأنه معارض للروايات المتقدمة، حتى لما رواه البخاري بنفسه، ويضاف إلى ذلك أنه غير قابل للتصديق، وكيف يمكن أن يحيط الراوي بجميع أفراد المسلمين حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، على كثرتهم، وتفرقهم في البلاد، ويستعلم أحوالهم ليمكنه أن يحصر الجامعين للقرآن في أربعة؟ وهذه الدعوى تخرص بغير علم.
وصفوة القول: أنه مع هذه الروايات كيف يمكن أن يصدق أن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بعد خلافته؟ وإذا سلمنا بذلك فلماذا أمر زيدا وعمر بجمعه من اللخاف، والعسب، وصدور الرجال، ولم يأخذه من عبد الله ومعاذ وابن أبي، وقد كانوا عند الجمع أحياء، وقد أمروا بأخذ القرآن منهم ومن سالم؟ نعم إن سالما قد قتل في حرب اليمامة فلم يمكن الأخذ منه، على أن زيدا نفسه كان أحد الجامعين للقرآن على ما يظهر من هذه الرواية، فلا حاجة إلى التفحص والسؤال من غيره، بعد أن كان شابا عاقلا غير متهم، كما يقول أبو بكر.
أضف إلى ذلك أن أخبار الثقلين المتضافرة تدلنا على أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما سنشير إليه.
تعارض روايات الجمع مع الكتاب: إن هذه الروايات معارضة بالكتاب، فإن كثيرا من آيات الكتاب الكريمة دالة على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وأن السور كانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين وأهل الكتاب، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تحدى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القرآن، وبعشر سور من مثله مفتريات، وبسورة من مثله، ومعنى هذا أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم.
وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من الآيات، وفي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) وفي هذا دلالة صريحة على أنه كان مكتوبا مجموعا لأنه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللخاف والعسب، والأكتاف، إلا على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإن لفظ الكتاب ظاهر في ما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزءا غير مجتمع، فضلا عما إذا لم يكتب وإنما كان محفوظا في الصدور فقط.
مخالفة أحاديث الجمع مع حكم العقل: إن هذه الروايات مخالفة لحكم العقل، فإن عظمة القرآن في نفسه، واهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحفظه وقراءته، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي (صلى الله عليه وآله)، وما يستوجب ذلك من الثواب، كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور في تلك الروايات، فإن في القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لأن يكون القرآن موضعا لعناية المسلمين وسببا لاشتهاره حتى بين الأطفال والنساء منهم، فضلا عن الرجال، وهذه الجهات هي:
1 - بلاغة القرآن: فقد كانت العرب تهتم بحفظ الكلام البليغ، ولذلك فهم يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف بالقرآن الذي تحدى ببلاغته كل بليغ، وأخرس بفصاحته كل خطيب لسن، وقد كانت العرب بأجمعهم متوجهين إليه سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن يحفظه لإيمانه، والكافر يتحفظ به لأنه يتمنى معارضته وإبطال حجته.
2 - إظهار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رغبته بحفظ القرآن، والاحتفاظ به، وكانت السيطرة والسلطة له خاصة، والعادة تقضي بأن الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته، فإن ذلك الكتاب يكون رائجا بين جميع الرعية الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا.
3 - إن حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس وتعظيمه عندهم، فقد علم كل مطلع على التاريخ ما للقراء والحفاظ من المنزلة الكبيرة، والمقام الرفيع بين الناس، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة، أو بحفظ القدر الميسور منه.
4 - الأجر والثواب الذي يستحقه القارئ والحافظ بقراءة القرآن وحفظه.
هذه أهم العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به، وقد كان المسلمون يهتمون بشأن القرآن، ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم وبما يهمهم من مال وأولاد.
وقد ورد أن بعض النساء جمعت القرآن كله، أخرج بن سعد في الطبقات:
أنبأنا الفضل بن دكين، حدثنا الوليد بن عبد الله بن جميع قال: حدثني جدي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين غزا بدرا قالت له: أتأذن لي فأخرج معك، أداوي جرحاكم، وأمرض مرضاكم، لعل الله أن يهدي لي شهادة؟ قال:
إن الله مهد لك شهادة – (3)
وإذا كان هذا حال النساء فكيف يكون حال الرجال، وقد عد من حفاظ القرآن على عهد رسول الله جم غفير؟ قال القرطبي (قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بئر معونة مثل هذا العدد) الإتقان مجلد 20 صفحة 122، وراجع تفسير القرطبي مجلد 1 صفحة 50، وقد تقدم في الرواية العاشرة أنه قتل من القراء يوم اليمامة 400 رجلا، وقد كان للنبي كتاب عديدون، ولا سيما أن القرآن نزل نجوما في مدة 23 سنة.
كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي كان قد أمر بكتابة القرآن على عهده، روى زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع. (قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وفيه الدليل الواضح على أن القرآن إنما جمع على عهد رسول الله) المستدرك للحاكم مجلد 2 صفحة 611، أما حفظ بعض سور القرآن، أو بعض السورة، فقد كان منتشرا جدا، وشذ أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين.
روى عبادة بن الصامت قال (وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن) مسند أحمد مجلد 5 صفحة 324
وروى كليب قال (كنت مع علي (عليه السلام) فسمع ضجتهم في المسجد يقرأون القرآن فقال: طوبى لهؤلاء) كنز العمال مجلد 2 صفحة 185
وعن عبادة بن الصامت قال (كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع من مسجد رسول الله ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا) مناهل العرفان صفحة 324.
نعم إن حفظ القرآن ولو بعضه كان رائجا بين الرجال والنساء من المسلمين، حتى أن المسلمة قد تجعل مهرها تعلم سورة من القرآن أو أكثر رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي، التاج مجلد 2 صفحة 332
ومع هذا الاهتمام كله كيف يمكن أن يقال: إن جمع القرآن قد تأخر إلى زمن خلافة أبي بكر، وإن أبا بكر احتاج في جمع القرآن إلى شاهدين يشهدان أنهما سمعا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
2 - شجرة اجتثت ما لها من قرار
نكرر نحن أهل السنة بلا كلل ولا ملل، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انتقل إلى جوار ربه، ولم يبين من هو الخليفة من بعده، ولا بين كيفية محددة لاختيار خليفته، ولا كيف ينتقل منصب الخليفة، ونتيجة عدم البيان هذا، ضاع الناس سياسيا، وأوشكت أن تحدث فتنة لولا أن قيض الله لهذه الأمة أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وسنا سنة ولاية العهد، فاستقرت الأمور سياسيا، فأصحبت ولاية العهد هي الطريقة المتبعة لتنصيب الخليفة وإضفاء طابع المؤسسية على النظام السياسي الإسلامي.
كذلك نكرر نحن أهل السنة بلا كلل ولا ملل بأن رسول الله أيضا لم يجمع القرآن في كتاب واحد، بل تركه متفرقا مبعثرا في صدور الرجال، والأكتاف، والألواح المتفرقة بين المسلمين، وأدرك الصديق والفاروق رضي الله عنهما أنهما إن تركا القرآن الكريم دون جمع كما تركه رسول الله فإن الدين سيضيع تماما وسيندثر القرآن الكريم وهو معجزة النبي، وقانون الدولة الإسلامية، لذلك نهدا لهذه المهمة التاريخية، وقاما بجمع القرآن! وسموه المصحف!
هذه النظرية هي في حقيقتها كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهي لا تثبت لا بحكم العقل، ولا بحكم الشرع، وهي في ميزان الحق والحقيقة لا تقدم ولا تؤخر، وما هي إلا وسيلة من وسائل إبراز فضل الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم، وقد أغنى الله هؤلاء الخلفاء عن الفضل الذي سينسب إليهم على حساب القرآن الكريم، وعلى حساب النبي العظيم.
ومع أن هذه النظرية لا تستقيم بأي مقياس موضوعي، ولا تقدم ولا تؤخر إلا أنها وبسبب نسيجها الواهي فتحت على القرآن الكريم أبواب الشائعات، والشائعات لا تؤثر على الحقيقة، إلا أنها قد تبلبل أفكار العامة، وتفتح شبهة ظنون أعداء الإسلام، وتغذي ظنونهم المريضة عن الإسلام.
3 - شائعات بنقص سور من القرآن الكريم
جاء في صحيح مسلم مجلد 3 صفحة 100 باب لو كان لابن آدم واديين كتاب الزكاة - أن أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء البصرة وكانوا ثلاثمائة رجل فقال من جملة ما قال: وإن كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ودايا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب).
وكنا نقرأ سورة فأنسيتها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة).
وجاء في الإتقان في علوم القرآن مجلد 2 صفحة 25، والدرر المنثور صفحة 105
عن أبي موسى الأشعري قوله إنها نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدة، ثم رفعت وحفظت منها (إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم) ونحوه في مجلد 6 صفحة 378 من الدر المنثور.
4 - شائعات بنقص آية أو زيادة أية في القرآن الكريم
وهذه الشائعات منتشرة في كتب حديث أهل السنة كلها، ولا تجد صحيحا من صحاح أهل السنة يخلو منها، وكلها تذهب إلى الزعم بوجود نقص في القرآن، أو زيادة في القرآن الكريم، ولم نر حاجة لإيراد هذه النصوص والأحاديث، لأنها برأينا بنيت على افتراض أن رسول الله انتقل إلى جوار ربه ولم يجمع القرآن ولم يكتبه، فجاء الخلفاء فجمعوا هذا القرآن، فجاءت تلك الأحاديث ثمرة طبيعية من ثمرات هذه المقولة التي تسند جمع القرآن للخلفاء الثلاثة، وحتى لا يتصور متصور أننا نتقول القول تقولا عليهم فسنذكر بعض كتب الحديث التي وثقت هذه الشائعات.
كتب الحديث وثقت شائعات علماء الدولة: صحيح بخاري مجلد 4 صفحة 120 باب رجم الحبلى من كتاب الحدود، وصحيح مسلم مجلد 5 صفحة 116، وسنن أبي داود مجلد 2 صفحة 229 في الرجم من كتاب الحدود، والترمذي مجلد 6 صفحة 204 باب ما جاء في تحقيق الرجم من كتاب الحدود، وسنن ابن ماجة الحديث 2553، والدارمي مجلد 2 صفحة 179 كتاب الحدود، والموطأ مجلد 3 صفحة 42 كتاب الحدود وصحيح مسلم مجلد 4 صفحة 167 كتاب الرضاع، وأبو داود مجلد 1 صفحة 279، والنسائي مجلد 2 صفحة 82 كتاب النكاح، وابن ماجة مجلد 1 صفحة 626 كتاب النكاح الحديث 1944، وموطأ مالك مجلد 2 صفحة 118 كتاب الرضاع، والدارمي مجلد 1 صفحة 157 كتاب النكاح، وصحيح مسلم مجلد 3 صفحة 100 كتاب الزكاة، الإتقان في علوم القرآن مجلد 3 صفحة 25، وروح المعاني للآلوسي مجلد 1 صفحة 25، والدر المنثور مجلد 2 صفحة 298 ومجلد 1 صفحة 106، وكنز العمال مجلد 2 صفحة 568، ومسند الإمام أحمد مجلد 2 صفحة 42، والمصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة مجلد 2 صفحة 504... إلخ.
ولو أردنا أن نتتبع الأحاديث التي تقول بزيادة في القرآن أو نقص فيه، لما اتسع لتلك الأحاديث هذا المجلد، ويمكن لمن أراد أن يقف على موجزها أن يقرأ كتاب آراء علماء المسلمين للسيد مرتضى الرضوي من 185 - 248، وقد أعرضنا عن ذكر هذه الأحاديث لعدم إنتاجيتها، ولأنها مبنية على فرض أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك القرآن وهو معجزته الكبرى دون جمع، مما اضطر الخلفاء لتلاشي ما تركه الرسول، وهذا غير وارد بكل المقاييس العقلية والشرعية.
لقد رأينا كيف ترنحت نظرية السنة وتداعت واعتراها الخور وانهارت أمام هذا التحليل الرائع العلمي والعقلي لأحد مراجع الشيعة وسليل شجرة النبوة المباركة السيد أبو القاسم الخوئي، وتوجب علينا بعد ذلك وحتما مقضيا أن نبسط الخطوط العريضة لنظرية المعارضة أو شيعة أهل البيت الكرام في موضوع جمع القرآن الكريم.
المصادر :
1- كتاب الفريد البيان في تفسير القرآن وعلى الصفحات من 239 – 259
2- صحيح البخاري باب القراء من أصحاب النبي مجلد 6 صفحة 202
3- الإتقان، النوع 20 مجلد 1 صفحة 125.
في كتاب الفريد البيان في تفسير القرآن عالج الإمام الخوئي موضوع جمع القرآن الكريم، فنقل روايات أهل السنة ووضع تحت تصرف عاشقي الحقيقة النص الحرفي لهذه الروايات، ثم أثبت أنها متناقضة تماما من حيث الوجوه التالية:
متى جمع القرآن؟ ظاهر الرواية الأولى أن الجمع كان في زمن عثمان، وصريح الروايات الأولى والثالثة والرابعة، وظاهر البعض الآخر أنه كان في زمن أبي بكر، وصريح الروايتين السابعة والثانية عشر أنه كان في زمن عمر.
من الذي تصدى لجمع القرآن حسب هذه الروايات؟ تقول الروايات الأولى والثانية والعشرون أن المتصدي زيد بن ثابت، وتقول الرواية الرابعة أنه أبو بكر نفسه، وإنما طلب من زيد أن ينظر، وتقول الرواية الخامسة أن المتصدي هما زيد وعمر.
من الذي فوض بجمع القرآن حسب هذه الروايات؟ تفيد الرواية الأولى أن أبا بكر فوض ذلك إلى زيد، وتقول الرواية الخامسة وغيرها أن الكتابة إنما كانت بشهادة شاهدين، حتى أن عمر جاء بآية الرجم فلم تقبل منه.
هل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمن عثمان؟ ظاهر كثير من الروايات بل صريحها أن عثمان لم ينقص مما كان مدونا قبله، وصريح الرواية الرابعة عشر أنه محا مما دون قبله، فأمر المسلمين بمحو ما محاه.
من الذي طلب جمع القرآن؟ تقول الرواية الأولى أن الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن هو عمر، وأن أبا بكر أجابه بعد الامتناع، فأرسل إلى زيد وطلب منه ذلك، فأجابه بعد الامتناع.
وتقول الرواية العاشرة أن زيدا وعمر طلبا ذلك من أبي بكر، فأجابهما بعد مشاورة المسلمين.
من الذي جمع المصحف الإمام وأرسل منه نسخا إلى الأمصار؟ تقول الرواية الثانية إنه كان عثمان، وصريح الرواية الثانية عشرة أنه كان عمر!
متى ألحقت الآيتان بآخر سورة براءة؟ صريح الروايات الأولى والحادي عشر والثانية والعشرين أن إلحاقهما كان في زمن أبي بكر، وصريح الرواية الثامنة وغيرها أنه كان في عهد عمر.
من أتى بهاتين الآيتين؟ صريح الروايتين الأولى، والثانية والعشرين أنه كان أبو خزيمة، وصريح الروايتين الثامنة والحادية عشرة أنه القرطبي.
بما ثبت أنهما من القرآن؟ بشهادة الواحد على ما هو ظاهر الرواية الأولى وصريح الروايتين التاسعة والثانية والعشرين، وبشهادة عثمان معه على ما هو صريح الرواية الثامنة، وبشهادة عمر على ما هو صريح الرواية الحادية عشر.
من عينه عثمان لكتابة القرآن وإملائه؟ صريح الرواية الثانية أن عثمان عين للكتابة زيدا وابن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن.
وصريح الرواية الخامسة عشرة أنه عين ثقيفا للكتابة، وهذيلا للإملاء، وصريح الرواية الثامنة عشرة أن الكاتب لم يكن من ثقيف، وأن المملي لم يكن من هذيل، وصريح الرواية التاسعة عشرة أن المملي كان أبي بن كعب، وأن سعيدا كان يعرب ما كتبه زيد، وهذا أيضا صريح الرواية العشرين بزياده عبد الرحمن بن الحرث للإعراب.
تعارض روايات الجمع فيما بينها: أن هذه الروايات معارضة بما دل على أن القرآن كان قد جمع وكتب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روى جماعة منهم ابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والضياء المقدسي، عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟
فقال عثمان: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد، وكان إذا نزل عليه الشئ يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك فرقت بينهما ولم أكتب سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال.(1)
وقد نقل الخوئي هذه الرواية عن منتخب الكنز العمال مجلد 2 صفحة 48.
وروى الطبراني، وابن عساكر عن الشعبي قال (جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ستة من الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد، وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة - منتخب الكنز مجلد 2 صفحة 52
وروى قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي؟ قال:
أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت وأبو زيد - صحيح البخاري باب القراء من أصحاب النبي صلی الله عليه وآله وسلم(2)
وروى مسروق (ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب - المرجع السابق.
وأخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال (جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إقرأه في شهر - الإتقان، النوع 20 مجلد 1 صفحة 124.
ويضيف الإمام الخوئي قائلا: ولعل قائلا يقول: أن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين، ولا يخفى أن هذا القول دعوى لا شاهد عليها، أضف إلى ذلك أنك ستعرف أن حفاظ القرآن الكريم على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من أن تحصى أسماؤهم، فكيف يمكن حصرهم في أربعة أو ستة؟ وأن المتصفح لأحوال الصحابة وأحوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحصل له اليقين بأن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله، وأن عدد الجامعين له لا يستهان به.
وأما ما روى البخاري بإسناده عن أنس قال: مات النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، فمطروح لأنه معارض للروايات المتقدمة، حتى لما رواه البخاري بنفسه، ويضاف إلى ذلك أنه غير قابل للتصديق، وكيف يمكن أن يحيط الراوي بجميع أفراد المسلمين حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، على كثرتهم، وتفرقهم في البلاد، ويستعلم أحوالهم ليمكنه أن يحصر الجامعين للقرآن في أربعة؟ وهذه الدعوى تخرص بغير علم.
وصفوة القول: أنه مع هذه الروايات كيف يمكن أن يصدق أن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بعد خلافته؟ وإذا سلمنا بذلك فلماذا أمر زيدا وعمر بجمعه من اللخاف، والعسب، وصدور الرجال، ولم يأخذه من عبد الله ومعاذ وابن أبي، وقد كانوا عند الجمع أحياء، وقد أمروا بأخذ القرآن منهم ومن سالم؟ نعم إن سالما قد قتل في حرب اليمامة فلم يمكن الأخذ منه، على أن زيدا نفسه كان أحد الجامعين للقرآن على ما يظهر من هذه الرواية، فلا حاجة إلى التفحص والسؤال من غيره، بعد أن كان شابا عاقلا غير متهم، كما يقول أبو بكر.
أضف إلى ذلك أن أخبار الثقلين المتضافرة تدلنا على أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما سنشير إليه.
تعارض روايات الجمع مع الكتاب: إن هذه الروايات معارضة بالكتاب، فإن كثيرا من آيات الكتاب الكريمة دالة على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وأن السور كانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين وأهل الكتاب، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تحدى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القرآن، وبعشر سور من مثله مفتريات، وبسورة من مثله، ومعنى هذا أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم.
وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من الآيات، وفي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) وفي هذا دلالة صريحة على أنه كان مكتوبا مجموعا لأنه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللخاف والعسب، والأكتاف، إلا على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإن لفظ الكتاب ظاهر في ما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزءا غير مجتمع، فضلا عما إذا لم يكتب وإنما كان محفوظا في الصدور فقط.
مخالفة أحاديث الجمع مع حكم العقل: إن هذه الروايات مخالفة لحكم العقل، فإن عظمة القرآن في نفسه، واهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحفظه وقراءته، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي (صلى الله عليه وآله)، وما يستوجب ذلك من الثواب، كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور في تلك الروايات، فإن في القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لأن يكون القرآن موضعا لعناية المسلمين وسببا لاشتهاره حتى بين الأطفال والنساء منهم، فضلا عن الرجال، وهذه الجهات هي:
1 - بلاغة القرآن: فقد كانت العرب تهتم بحفظ الكلام البليغ، ولذلك فهم يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف بالقرآن الذي تحدى ببلاغته كل بليغ، وأخرس بفصاحته كل خطيب لسن، وقد كانت العرب بأجمعهم متوجهين إليه سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن يحفظه لإيمانه، والكافر يتحفظ به لأنه يتمنى معارضته وإبطال حجته.
2 - إظهار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رغبته بحفظ القرآن، والاحتفاظ به، وكانت السيطرة والسلطة له خاصة، والعادة تقضي بأن الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته، فإن ذلك الكتاب يكون رائجا بين جميع الرعية الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا.
3 - إن حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس وتعظيمه عندهم، فقد علم كل مطلع على التاريخ ما للقراء والحفاظ من المنزلة الكبيرة، والمقام الرفيع بين الناس، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة، أو بحفظ القدر الميسور منه.
4 - الأجر والثواب الذي يستحقه القارئ والحافظ بقراءة القرآن وحفظه.
هذه أهم العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به، وقد كان المسلمون يهتمون بشأن القرآن، ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم وبما يهمهم من مال وأولاد.
وقد ورد أن بعض النساء جمعت القرآن كله، أخرج بن سعد في الطبقات:
أنبأنا الفضل بن دكين، حدثنا الوليد بن عبد الله بن جميع قال: حدثني جدي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين غزا بدرا قالت له: أتأذن لي فأخرج معك، أداوي جرحاكم، وأمرض مرضاكم، لعل الله أن يهدي لي شهادة؟ قال:
إن الله مهد لك شهادة – (3)
وإذا كان هذا حال النساء فكيف يكون حال الرجال، وقد عد من حفاظ القرآن على عهد رسول الله جم غفير؟ قال القرطبي (قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بئر معونة مثل هذا العدد) الإتقان مجلد 20 صفحة 122، وراجع تفسير القرطبي مجلد 1 صفحة 50، وقد تقدم في الرواية العاشرة أنه قتل من القراء يوم اليمامة 400 رجلا، وقد كان للنبي كتاب عديدون، ولا سيما أن القرآن نزل نجوما في مدة 23 سنة.
كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي كان قد أمر بكتابة القرآن على عهده، روى زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع. (قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وفيه الدليل الواضح على أن القرآن إنما جمع على عهد رسول الله) المستدرك للحاكم مجلد 2 صفحة 611، أما حفظ بعض سور القرآن، أو بعض السورة، فقد كان منتشرا جدا، وشذ أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين.
روى عبادة بن الصامت قال (وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن) مسند أحمد مجلد 5 صفحة 324
وروى كليب قال (كنت مع علي (عليه السلام) فسمع ضجتهم في المسجد يقرأون القرآن فقال: طوبى لهؤلاء) كنز العمال مجلد 2 صفحة 185
وعن عبادة بن الصامت قال (كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع من مسجد رسول الله ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا) مناهل العرفان صفحة 324.
نعم إن حفظ القرآن ولو بعضه كان رائجا بين الرجال والنساء من المسلمين، حتى أن المسلمة قد تجعل مهرها تعلم سورة من القرآن أو أكثر رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي، التاج مجلد 2 صفحة 332
ومع هذا الاهتمام كله كيف يمكن أن يقال: إن جمع القرآن قد تأخر إلى زمن خلافة أبي بكر، وإن أبا بكر احتاج في جمع القرآن إلى شاهدين يشهدان أنهما سمعا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
2 - شجرة اجتثت ما لها من قرار
نكرر نحن أهل السنة بلا كلل ولا ملل، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انتقل إلى جوار ربه، ولم يبين من هو الخليفة من بعده، ولا بين كيفية محددة لاختيار خليفته، ولا كيف ينتقل منصب الخليفة، ونتيجة عدم البيان هذا، ضاع الناس سياسيا، وأوشكت أن تحدث فتنة لولا أن قيض الله لهذه الأمة أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وسنا سنة ولاية العهد، فاستقرت الأمور سياسيا، فأصحبت ولاية العهد هي الطريقة المتبعة لتنصيب الخليفة وإضفاء طابع المؤسسية على النظام السياسي الإسلامي.
كذلك نكرر نحن أهل السنة بلا كلل ولا ملل بأن رسول الله أيضا لم يجمع القرآن في كتاب واحد، بل تركه متفرقا مبعثرا في صدور الرجال، والأكتاف، والألواح المتفرقة بين المسلمين، وأدرك الصديق والفاروق رضي الله عنهما أنهما إن تركا القرآن الكريم دون جمع كما تركه رسول الله فإن الدين سيضيع تماما وسيندثر القرآن الكريم وهو معجزة النبي، وقانون الدولة الإسلامية، لذلك نهدا لهذه المهمة التاريخية، وقاما بجمع القرآن! وسموه المصحف!
هذه النظرية هي في حقيقتها كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهي لا تثبت لا بحكم العقل، ولا بحكم الشرع، وهي في ميزان الحق والحقيقة لا تقدم ولا تؤخر، وما هي إلا وسيلة من وسائل إبراز فضل الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم، وقد أغنى الله هؤلاء الخلفاء عن الفضل الذي سينسب إليهم على حساب القرآن الكريم، وعلى حساب النبي العظيم.
ومع أن هذه النظرية لا تستقيم بأي مقياس موضوعي، ولا تقدم ولا تؤخر إلا أنها وبسبب نسيجها الواهي فتحت على القرآن الكريم أبواب الشائعات، والشائعات لا تؤثر على الحقيقة، إلا أنها قد تبلبل أفكار العامة، وتفتح شبهة ظنون أعداء الإسلام، وتغذي ظنونهم المريضة عن الإسلام.
3 - شائعات بنقص سور من القرآن الكريم
جاء في صحيح مسلم مجلد 3 صفحة 100 باب لو كان لابن آدم واديين كتاب الزكاة - أن أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء البصرة وكانوا ثلاثمائة رجل فقال من جملة ما قال: وإن كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ودايا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب).
وكنا نقرأ سورة فأنسيتها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة).
وجاء في الإتقان في علوم القرآن مجلد 2 صفحة 25، والدرر المنثور صفحة 105
عن أبي موسى الأشعري قوله إنها نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدة، ثم رفعت وحفظت منها (إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم) ونحوه في مجلد 6 صفحة 378 من الدر المنثور.
4 - شائعات بنقص آية أو زيادة أية في القرآن الكريم
وهذه الشائعات منتشرة في كتب حديث أهل السنة كلها، ولا تجد صحيحا من صحاح أهل السنة يخلو منها، وكلها تذهب إلى الزعم بوجود نقص في القرآن، أو زيادة في القرآن الكريم، ولم نر حاجة لإيراد هذه النصوص والأحاديث، لأنها برأينا بنيت على افتراض أن رسول الله انتقل إلى جوار ربه ولم يجمع القرآن ولم يكتبه، فجاء الخلفاء فجمعوا هذا القرآن، فجاءت تلك الأحاديث ثمرة طبيعية من ثمرات هذه المقولة التي تسند جمع القرآن للخلفاء الثلاثة، وحتى لا يتصور متصور أننا نتقول القول تقولا عليهم فسنذكر بعض كتب الحديث التي وثقت هذه الشائعات.
كتب الحديث وثقت شائعات علماء الدولة: صحيح بخاري مجلد 4 صفحة 120 باب رجم الحبلى من كتاب الحدود، وصحيح مسلم مجلد 5 صفحة 116، وسنن أبي داود مجلد 2 صفحة 229 في الرجم من كتاب الحدود، والترمذي مجلد 6 صفحة 204 باب ما جاء في تحقيق الرجم من كتاب الحدود، وسنن ابن ماجة الحديث 2553، والدارمي مجلد 2 صفحة 179 كتاب الحدود، والموطأ مجلد 3 صفحة 42 كتاب الحدود وصحيح مسلم مجلد 4 صفحة 167 كتاب الرضاع، وأبو داود مجلد 1 صفحة 279، والنسائي مجلد 2 صفحة 82 كتاب النكاح، وابن ماجة مجلد 1 صفحة 626 كتاب النكاح الحديث 1944، وموطأ مالك مجلد 2 صفحة 118 كتاب الرضاع، والدارمي مجلد 1 صفحة 157 كتاب النكاح، وصحيح مسلم مجلد 3 صفحة 100 كتاب الزكاة، الإتقان في علوم القرآن مجلد 3 صفحة 25، وروح المعاني للآلوسي مجلد 1 صفحة 25، والدر المنثور مجلد 2 صفحة 298 ومجلد 1 صفحة 106، وكنز العمال مجلد 2 صفحة 568، ومسند الإمام أحمد مجلد 2 صفحة 42، والمصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة مجلد 2 صفحة 504... إلخ.
ولو أردنا أن نتتبع الأحاديث التي تقول بزيادة في القرآن أو نقص فيه، لما اتسع لتلك الأحاديث هذا المجلد، ويمكن لمن أراد أن يقف على موجزها أن يقرأ كتاب آراء علماء المسلمين للسيد مرتضى الرضوي من 185 - 248، وقد أعرضنا عن ذكر هذه الأحاديث لعدم إنتاجيتها، ولأنها مبنية على فرض أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك القرآن وهو معجزته الكبرى دون جمع، مما اضطر الخلفاء لتلاشي ما تركه الرسول، وهذا غير وارد بكل المقاييس العقلية والشرعية.
لقد رأينا كيف ترنحت نظرية السنة وتداعت واعتراها الخور وانهارت أمام هذا التحليل الرائع العلمي والعقلي لأحد مراجع الشيعة وسليل شجرة النبوة المباركة السيد أبو القاسم الخوئي، وتوجب علينا بعد ذلك وحتما مقضيا أن نبسط الخطوط العريضة لنظرية المعارضة أو شيعة أهل البيت الكرام في موضوع جمع القرآن الكريم.
المصادر :
1- كتاب الفريد البيان في تفسير القرآن وعلى الصفحات من 239 – 259
2- صحيح البخاري باب القراء من أصحاب النبي مجلد 6 صفحة 202
3- الإتقان، النوع 20 مجلد 1 صفحة 125.
source : راسخون