معظم الناس يخافون الموت، لماذا؟
لقد كان الموت يتراءى دائماً للانسان في صورة مرعبة مخوفة تحيل طعم الحياة العذب الى مثل العلقم في فمه كلما خطر له الموت.
إنَّه لايخاف اسم الموت فحسب، بل يرتعب حتى من ذكر اسم المقابر، فيسعى الى تزيينها واضفاء البهرجة عليها لعله ينسى ماهيتها الحقيقية.
بالرجوع الى آداب مختلف شعوب العالم نجد آثار هذا الخوف من الموت بادية للعيان، فيوصف بهيولى الهلاك، أو بمخلب الموت، أو بضربة الأجل، وبأمثال ذلك.
وإذا أرادوا ذكر اسم ميت، سعوا الى تخفيف الموقف على السامع بتعبيرات مثل "أبعدنا الله عن ذلك" أو "اطال الله عمرك" وغير ذلك.
فلا بدّ أنْ نعرف إذن ما الذي يدعو الناس الى أنْ يخافوا دائماً من الموت.
ثم لماذا نجد، بخلاف ذلك، أناساً فضلاً عن كونهم لا يخافون الموت، فإنَّهم يستقبلونه بالابتسامة ويفخرون بمقدمه؟
يحدثنا التاريخ عن أناس كانوا يبحثون عن ماء الحياة واكسير الشباب، وعن أناس آخرين كانوا يهرعون الى جبهات الجهاد بشغف، يواجهون الموت بترحاب باسم، وقد يشكون من طول أعمارهم، لأنَّهم كانوا متلهفين للقاء الحبيب ورؤية الله.
وهذا ما نراه اليوم أيضاً على جبهات الحق ضد الباطل، وكيف أنَّ هؤلاء يسرعون إلى الاستشهاد وقد وضعوا ارواحهم على اكفهم.
لماذا الخوف؟
بالفحص والتمعن نستنتج أنَّ سبب الخوف من الموت أمران:
1- تفسير الموت بالفناء
إنَّ الانسان بطبيعته يهرب من العدم، فهو يهرب من المرض الذي يعني انعدام الصحة، ويهرب من الظلام الذي يعني انعدام النور، ويهرب من الفقر الذي يعني انعدام الغنى، بل إنَّه يهرب احياناً حتى من الدار الخالية، ومن الانفراد في الصحراء، لانعدام الرفيق فيهما.
والعجيب أنَّه يرهب الميت نفسه، فهو يرفض مثلاً ان يبيت مع جسد ميت في غرفة واحدة، مع أنَّه لم يكن يخاف هذا الميت قبل أنْ يموت! فما السبب ياترى في خوف الانسان من العدم وهروبه منه؟
إنَّ السبب واضح، فالوجود معقود بالوجود ويألفه، ولايمكن أنْ يتآلف الوجود والعدم يوماً، لذلك فمن الطبيعي أنْ نكون غرباء على العدم ونشعر بالخوف منه.
فاذا نحن قلنا بأنَّ الموت هو نهاية كل شيء، وأنَّ بالموت يبلغ كل شيء خاتمته، عندئذ يحق لنا أنْ نخشاه وأنْ نهرب حتى من اسمه ومظهره، لأنَّ الموت يسلبنا كل شيء.
أمّا إذا اعتبرنا الموت بداية حياة جديدة، حياة خالدة، ونراه نافذة تفتح لنا على العالم العظيم، عندئذ يكون من الطبيعي ألاّ نخاف الموت، بل إنَّنا نهنىء الطاهرين الذين يخطون نحوه بثبات مرتفعي الرأس!
2- الصحف السود
إنَّنا نعرف أناساً لايرون في الموت معنى الفناء والعدم، لأنَّهم لا ينكرون الحياة بعد الموت، ولكنهم مع ذلك يخافون الموت وذلك لأنَّ صحائف أعمالهم قد اسودت الى درجة أنَّهم إنَّما يخافون العقوبات الأليمة التي يتوقعونها بعد الموت.
إنَّ لهؤلاء الحق في أنْ يخافوا الموت. إنَّهم أشبه بالمجرمين الخطرين الذين يخافون الخروج من السّجن، لأنَّهم يعلمون أنَّ خروجهم من السّجن يعني تعليقهم على خشبة الاعدام، فهم، لذلك، يتشبثون بقضبان السّجن، لا لكرههم الحرية، إنَّما هم يكرهون الحرية التي تقودهم الى المشنقة.
وهكذا حال المسيئين، فهم يرون انعتاق أرواحهم من هذا السجن الضيق مقدمة لتحمل أنواع العذاب القاسي بسبب ما إرتكبوه من أعمال قبيحة ومن ظلم وجور وفساد، ولذلك فهم يخافون الموت.
أمَّا الذين لا يرون في الموت "فناء"، ولا يرون ملفات أعمالهم سوداً، فما الذي يحملهم على الخوف من الموت؟
إنَّهم، بالطبع، يريدون هذه الحياة بكل كيانهم ويرغبون فيها، لكي يستثمروها في سبيل حياتهم الجديدة بعد الموت، ويعدوا أنفسهم لاستقبال الموت الذي يكون في سبيل رضا الله، ذلك الهدف الذي يدعو للافتخار والاعتزاز.
نظرتان مختلفتان
قلنا إنَّ النّاس فريقان: فريق، وهم الأكثرية، يخافون الموت ويهربون منه.
وفريق آخر يستقبلون الموت، الذي يكون في سبيل هدف عظيم، كالشهادة في سبيل الله، باحضان مفتوحة، أو أنَّهم، على الأقل، إذا أحسوا بدنو الموت لا يداخلهم همّ ولا غمّ أبداً. والسبب هو أنَّ كلاً منهما يختلفان في النظرة.
الفريق الاوّل: إمّا أنَّ يكونوا من الذين لا يؤمنون بوجود عالم بعد الموت، وإمّا أنَّهم لا يصدقون بوجوده كل التصديق، ولذلك ينظرون الى لحظة الموت وكأنَّها لحظة فراقهم لكل شيء. إنَّ مفارقة كل شيء والخروج من النور الى الظلام المطلق أمر صعب اليم، كحال من يخرجونه من السجن ليقدموه للمحاكمة عن جريمه ثابتة عليه، فهي حالة رهيبة من الخوف.
أمّا الفريق الثّاني: فيرى الموت ولادة جديدة وخروجاً من محيط الدنيا الضيق المظلم، ودخول الى عالم وسيع نيرّ.
إنَّ التحرر من قفص ضيق صغير، والتحليق في السّماء الفسيحة، والخروج من ذلك المحيط المليء بالخصام والنزاع وضيق النظر والعلم والحقد والحروب، والدخول الى عام قد تطهر من كل هذا التلوث، لاشك يجعل الموت أمراً مرغوباً فيه عند هذا الفريق الثّاني، فلا يخافون منه. يقول الامام علي عليه السلام: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه"1.
إذن ليس من المستغرب أنْ نصادف في التاريخ رجالاً مثل الحسين عليه السلام ومثل أصحابه المضحين، كلما ازدادت لحظة الشهادة قرباً منهم، ازدادت فرحتهم واشتد شوقهم الى لقاء الحبيب وتلألأت وجوههم لقرب اللقيا.
وهذا هو نفسه الذي نقرأه في تاريخ حياة الامام علي عليه السلام العظيمة، فعند ما أهوى ذلك المجرم الاثيم، بالسيف على رأسه الشريف، صاح قائلاً: "فزت ورب الكعبة".
بديهي أنْ لا يعني هذا الكلام حثّ الناس على إلقاء أنفسهم في المهالك، والإغضاء عن هبة الحياة العظيمة التي وهبها الله لهم، فلا يستثمرونها للوصول الى اهدافهم الكبرى. بل المقصود هو حمل الانسان على استغلالاً الحياة استغلا سليماً، دون أنْ يعتورهم الخوف من انتهائها، وخصوصاً إذا كانت الغاية هدفاً عظيماً وسامياً.
آية الله مكارم الشيرازي
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- نهج البلاغة، محمد عبدة، الخطبة 7:4.