نّ هذه الشبهة من أقدم الشبهات التّي وردت في الكتب الكلامية حول المعاد الجسماني، و قد أعتنى بدفعها المتكلمون و الفلاسفة عناية بالغة، و الاشكال يقرر بصورتين:
إنّ هذه الشبهة من أقدم الشبهات التّي وردت في الكتب الكلامية حول المعاد الجسماني، و قد أعتنى بدفعها المتكلمون و الفلاسفة عناية بالغة،
الصورة الأُولى: إذا أكل انسانٌ إنساناً بحيث عاد بدن الثاني جزءاً من بدن الانسان الأوّل، فالأجزاء التّي كانت للمأكول ثم صارت للآكل، إمّا أن تعاد في كل واحد منهما، أو تعاد في أحدهما، أو لا تعاد أصلا. والأول محال، لا ستحالة أن يكون جزءٌ واحدٌ بعينه، في آن واحد، في شخصين متباينين. والثاني خلاف المفروض، لأنّ لازمه أن لا يعاد الآخر بعينه.
والثالث أسوأ حالا من الثاني، اذ يلزم أنْ لا يكون أي من الإنسانين معاداً بعينه. فينتج أنّه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها.
الصورة الثانية: لو أكل إنسان كافر، إنساناً مؤمناً، وقلنا بأنَّ المراد من المعاد هو حشر الأبدان الدنيوية في الآخرة، فيلزم تعذيب المؤمن، لأنّ المفروض أنّ بدنه أو جزءاً منه، صار جزء من بدن الكافر، والكافر يُعَذَّب، فيلزم تعذيب المؤمن1.
وقبل الورود في الجواب نعلّق على هذا السؤال بأنه لا يختص بما ورد فيه من أكل إنسان إنساناً، الّذي لا يتفق حصوله إلاّ في أعماق الأدغال، والمجتمعات الوحشية، بل السؤال يرجع إلى أمر يومي ملموس في المجتمعات المتحضرة، وذلك أنّ النباتات والثمار والحُبوب الّتي يتغذّى عليها الإنسان تنبت من تراب الأرض، الّذي هو مزيج رفات الأموات الذين قضوا عبر الدهور، والّذي هو عصارة الأبدان وخلاصتها.
ونحن نرى أنّ المقابر الواقعة في أكناف البلاد تتبدل إلى حدائق للتفرج والتنزه أو إلى مزارع للاستثمار، فيتغذى منها الحيوان والإنسان، فيؤول بدن الإنسان الميت، جزءاً من الإنسان الحي، فعندئذ يطرح السؤال المتقدم.
الجواب
إنّ هذه أقوى شبهة تعترض القول بالمعاد الجسماني، ونحن نذكر أولاً ما هو الحق عندنا في الإجابة، ثم نشير إلى ما ذكره المتكلمون في ذلك:
أما الصورة الأُولى من الإشكال، فبعض احتمالاتها ساقط جداً، وهو عود المأكول جزء لكلا الإنسانين، فيبقى الاحتمالان الآخران، وبأي واحد منهما أخذنا يندفع الإشكال، وذلك بالبيان التالي:
إنّ الإنسان من لدن تكوّنه وتولده إلى يوم وفاته واقع في مهب التغير وخضم التبدل، فليس وجوده جامداً خالياً عن التبدل. فبدن الإنسان ليس إلا خلايا لا يحصيها إلا الله سبحانه، وكل منها يحمل مسؤوليته في دعم حياة البدن، والخلايا في حال تغير وتبدل مستمر، تموت ويخلفها خلايا أُخرى، وبهذا يتهيّأ للبدن استمرار حياته، من غير فرق بين الخلايا الدماغية وغيرها، غاية الأمر أنّ الخلايا الدماغية، ثابتة من حيث العدد دون غيرها.
وقد قال الأخصائيون بأن مجموع خلايا البدن تتبدل إلى خلايا أُخرى كل عشر سنوات، فبدن الإنسان بعد عشر سنين من عمره يغاير بدنه الموجود قبل عشر سنين وعلى هذا فالإنسان الّذي يبلغ عمره ثمانين سنة قد عاش في ثمانية أبدان مختلفة، وهو يحسبها بدناً واحداً.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن هناك فروضاً
1- فلو فرض أنّ بدن إنسان صار جزءاً من بدن إنسان آخر، فبما أنّ للمأكول أبداناً متعددة على مدى حياته، فواحد منها مقرون بالمانع، والأبدان الأُخر خالية منه فيحشر مع الخالي.
2- ولو فرض أنّ جميع أبدانه اقترنت بالمانع، فإنه أيضاً لا يصد عن القول بالمعاد الجسماني، لأنّ الناموس السائد في التغذية، هو أنّ ما يستفيده الإنسان من الغذاء لا يتعدى ثلاثة بالمائة من المأكول والباقي يدفعه.
فإذاً لا مانع من أنْ تتعلق الروح بأحد هذه الأبدان الّتي تتفاوت عن البدن الدنيوي من حيث الوزن والحجم، ولم يدل على أنّ المحشور في النشأة الأُخروية يتحد مع الموجود في النشأة الدنيوية في جميع الجهات وعامة الخصوصيات.
3- ولو فرض أنّ قانون التحول ساد على أبدان المأكول، فلم يبق من كل بدن إلا النذر اليسير الّذي يتشكل منه بدن إنسان كامل، فلا مانع في هذا الفرض النادر من تكميل خلقته بالمواد الأرضية الأُخرى حتى يكون إنساناً قابلاً لتعلق الروح به، وليس لنا دليل على أنّ المُعاد في الآخرة يتحد مع الموجود في الدنيا في جميع الجهات حتى المادة الّتي يتكون منها البدن.
نعم، إنْ كانت المادة الترابية الّتي تكوّن منها البدن الدنيوي موجودة، فلا وجه للعدول عنها إلى تراب آخر، وأما إذا كانت مقرونة بالمانع، فلم يبق إلا جزء يسير لا يكفي لتكوّن البدن، فلا غرو في أن يُتَسَبَّب في تكميل خلقته بالأخذ من المواد الترابية غير المقرونة بالمانع.
والّذي يدل على ذلك أنه سبحانه في مقام التنديد بالمنكرين، يعبر بلفظ المثل، ويقول: "أَوَ لَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ"(يس:81). الضمير في (مِثْلَهُمْ) يعود إلى المشركين المنكرين للمعاد، وهذا يعرب عن كفاية المثل من غير حاجة إلى صدق العينية، بالوحدة في المادة الترابية.
ويؤيد ذلك قول الإمام الصادق عليه السَّلام: "فإذا قبضه الله إليه، صيّر تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا"2.
فترى أنّ الإمام عليه السَّلام يذكر كلمة الصورة، ولعلّ فيه تذكير بأنّه يكفي في المعاد الجسماني كون المُعاد متحداً مع المبتدأ في الصورة من غير حاجة إلى أنْ يكون هناك وحدة في المادة الترابية بحيث إذا طرأ مانع من خلق الإنسان منه، فشل المعاد الجسماني ولم يتحقق.
والتركيز على وحدة المادة، يبتني على تحليل وجود الإنسان تحليلاً مادياً وأنه ليس وراء المادة شيء آخر، وأما على القول بأنّ واقعية الإنسان بروحه ونفسه، وأنّ جميع خصوصياته وملكاته موجودة في نفسه، فالمعاد الجسماني لا يتوقف على كون البدن المحشور نفس البدن الدنيوي حتى في المادة الترابية، بل لو تكوّن بدن الإنسان المُعاد من أيّة مادة ترابية كانت، وتعلقت به الروح، وكان من حيث الصورة متحداً مع البدن الدنيوي، يصدق على المُعاد أنه هو المُنشأ في الدنيا.
قال صدر المتألهين: "إن تشخّص كلّ إنسان إنما يكون بنفسه لا ببدنه، وإنّ البدن المعتبر فيه، أمر مُبْهَم، لا تحصّل له إلا بنفسه، وليس له من هذه الحيثية تعيّن، ولا يلزم من كون بدن زيد مثلاً محشوراً أنْ يكون الجسم الّذي منه صار مأكولاً لسبع أو إنسان آخر، محشوراً، بل كلّ ما يتعلّق به نفسه هو بعينه بدنه الّذي كان. فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أنْ تُبعثَ أبدانٌ من القبور إذا رأى أحد كلّ واحد منها يقول هذا فلان بعينه، أو هذا بدن فلان، ولا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدّل الوجود والهوية. كما لا يلزم أن يكون مشوَّه الخَلْق وأن يكون الأقطْع والأعمى والهَرِم محشوراً على ما كانوا عليه من نقصان الخلقة وتشويه البنية"3.
ثم إن للمتكلمين جواباً آخر في الذب عن هذه الصورة من الإشكال حاصله أنّ المُعاد، إنما هو الأجزاء الأصلية، وهي الباقية من أول العمر إلى آخره، لا جميع الأجزاء على الإطلاق، وهذه الأجزاء الأصلية، الّتي كانت للإنسان المأكول، هي في الآكل فضلات، فإنا نعلم أنّ الإنسان يبقى مدة عمره وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه، فإذا كانت فضلات فيه، لم يجب إعادتها في الآكل بل في المأكول4.
ويظهر من المحقق الطوسي ارتضاؤه حيث يقول: "ولا يجب إعادة فواضل المكلف". وأوضحه العلامة الحلي بقوله: "إن لكلّ مكلف أجزاء أصلية لا يمكن أنْ تصير جزءاً من غيره، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى به"5.
وما ذكروه خال عن الدليل، إذ لم يدلّ دليل على أنّ لكل مكلف أجزاء أصلية لا تكون جزءاً لبدن غيره.
نعم، ورد في بعض الروايات، ولكنها روايات آحاد، لا توجب علماً، فلو ثبت صدورها، فَلْيُقْبَل تعبداً6.
إلى هنا تم الجواب عن الصورة الأُولى من الإشكال.
وأما الصورة الثانية من الإشكال: فقد عرفت أنها تركز على العدل الإلهي، وأن كون بدن المؤمن جزءاً من بدن الكافر يستلزم تعذيب المجرم، ولكنه مبني على إعطاء الأصالة في الحياة للبدن وهي نظرية خاطئة، فإن اللذائذ والآلام ترجع إلى الروح، والبدن وسيلة لتعذيبه وتنعيمه.
فصيرورة بدن المسلم جزءاً من بدن الكافر، لا يلازم تعذيب المؤمن، لأنّ المُعَذّب بتعذيب البدن، هو روح الكافر ونفسه، لا روح المؤمن. وهذا نظير أخذ كلية من إنسان حيّ ووصلها بإنسان يعاني من ضعفها وعلّتها، فإذا نجحت عملية الوصل وصارت الكلية الموصولة، جزء من بدن المريض، ثم عُذّب هذا المريض، فالمعذب هو هو، ولو نُعّم، فالمُنَعَّم هو هو، ولا صلة بينه وبين من وَهَب كليته وأهداها إليه.
وقد عرفت في كلام صدر المتألهين ما يفيدك في المقام.
آية الله جعفر السبحاني
----------------------------------------------------
الهوامش:
1- لاحظ شرح المواقف للسيد شريف، ج 8، ص 245، شرح المقاصد، للتفازاني، ج 2 ص 216. والإشكال الثاني وارد فيه دون الأول. وكشف المراد، ص 255، ط صيدا. والأسفار، ج 9، ص 199. والفرق بين الصورتين هو أنّ الإشكال بالتقرير الأول يركز على نقص الإنسان المُعاد من حيث البدن، ولكنه في التقرير الثاني يركز على أنّ المعاد الجسماني في المقام يستلزم خلاف العدل الإلهي، فالأساس في الإشكال في الصورتين واحد، وهو كون بدن إنسان جزءاً من بدن إنسان آخر، ولكن المترتب على الصورة الأولى هو عدم صدق كون المُعاد هو المُنْشأ في الدنيا، وعلى الصورة الثانية هو تعذيب البريء مكان المجرم.
2- البحار، ج 6، باب أحوال البرزخ، الحديث 32، ص 229.
3- الأسفار، ج 9، ص 200
4- شرح المواقف، ج 8 ص 296
5- ونظيره الأحقاف:3.
6- كشف المراد، ص 256، ط صيدا.