محمد الصفار
ابنا: يجد الدارس لشعر الكميت بن زيد الأسدي كسراً للطابع التقليدي الذي اعتمده المؤرخون القدماء في رسم ملامح الشاعر القديم من خلال ترجمته، ويستطيع أن يستدل على ذلك برواية أبي الفرج الأصفهاني في الأغاني (ج15ص115) التي ميزّت الكميت على باقي الشعراء بمميزات خاصة، تقول الرواية: (سُئل معاذ الهرّاء: من أشعر الناس؟ قال: أمن الجاهليين، أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين. قال: أمرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وعبيد ابن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي. فقِيل له: يا أبا محمد مارأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت. فقال: ذاك أشعر الأولين والآخرين).
إن هذه المقولة التي أطلقها ناقد كبير مثل معاذ الهرّاء والتي خرجت عن نطاق الألفاظ الروتينية المتشابهة في ترجمات الشعراء القدماء قد تناقلها الدارسون المحدثون حذو الكلمة بالكلمة والحرف بالحرف دون الإلتفات إلى عمقها ودلالتها ودون محاولة تسليط الضوء على شعر الكميت وفق البحث والتحليل والاستنتاج، فبقيت هذه الدرر (الهاشميات) كامنة في زوايا التأريخ يُشار إليها بالشروح البسيطة بانتظار من يكشف عن أنوارها في ظلمات التاريخ ويظهرها كآية من آيات الشعر العربي. ورغم يقيننا أن هذا المقال لا يفي بالغرض الذي قصدناه إلا أننا توخينا الإحجام والقنوط في سلوك جزء من الغاية.
لا يخفى على القارئ العامل الرئيسي وراء هذا التجاهل والتغاضي بحق شاعر بهذه المكانة الكبيرة في تراثنا الإسلامي، فالحرب التي شنّها الأمويون والعباسيون على شعراء الشيعة تابعهم فيها أخلافهم في تضييع ذلك التراث الضخم , فلعبت النزعة المذهبية والصراع الأيديولوجي دوراً كبيراً في غبن الكميت حقه.
لقد ساهم الكميت مساهمة كبيرة في الدفاع عن قضية أهل البيت وخاصة ثورة الحسين من خلال شعره الذي كان له تأثير عظيم في النفوس، فحُظي بمنزلة عظيمة عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين أكدوا على الدعوة إلى تشجيع الشعراء وعقد المجالس الشعرية الخاصة برثاء الحسين (عليه السلام) والحث عليه، وحرصوا أشد الحرص على إبقاء روحية الثورة الحسينية ومبادئها متجذّرة في النفوس وحية في الضمائر.
الكميت شاعر المبدأ والعقيدة الذي لم ترهبه أساليب الأمويين القمعية عن إداء رسالته كشاعر في نصرة الحق ومحاربة الباطل حفلت حياته بالكثير من المخاطر والصعوبات التي واجهها بصلابة ويقين متحدياً بطش السلطة الأموية من أجل الدفاع عن قضيته بيده ولسانه، فكان لشعره دور كبير في تعريف الناس بالنزعة الوحشية التي جُبل عليها الأمويون وابتعادهم عن كل القيم الإنسانية والأخلاقية وخروجهم من الإسلام، كما عكس مبادئ قضية أهل البيت والثورة الحسينية فكانت تلك الأشعار هي من وسيلة إعلامية خطيرة على الأمويين.
وإضافة إلى أهمية شعر الكميت من الجانب السياسي كونه أرّخ لمرحلة من أقسى المراحل التي مرّت على الإسلام، فقد عُدَّ شعره من كنوز الشعر العربي ومن عيون تراثه الضخم، ويشعر القارئ لشعره أن قول معاذ الهراء لم يأتِ عن تعاطف مع الكميت أو تعصّب له، وإنّما كان عين الحقيقة التي تتجلّى في (الهاشميات) والتي ضمّت فناً شعرياً يُعدّ في مقام الذروة في الشعر العربي.
فهذه (الملحمة) ـ الهاشميات ـ تمثل ثورة أدبية وفكرية في منطلقاتها، فهي تصوِّر تصويراً دقيقاً حقبة من أقسى الحُقب التي عاشتها الأمة الإسلامية عايشها الشاعر وناله نصيب وافر من ظلمها فشُرِّد وطُورد وتعرّض للسجن والقتل في سبيل حبه وولائه لأهل البيت والجهر بذلك الحب والموالاة في قصائده وكانت له مواقف مشرِّفة كثيرة دلّت على خالص ولائه وقوة إيمانه وصفاء دينه ورسوخ عقيدته فدوِّنت كلماته في سجل الخالدين:
إلـى الـنـفـرِ الـبـيـضِ الـذيـن بـحـبِّـهـم *** إلـى اللهِ فـيـمـا نـالـنـي أتـقـرَّبُ
بـنـي هـاشـمٍ رهـط الـنـبـيِّ فـإنـنـي *** بـهـمْ ولـهـمْ أرضـى مِـراراً وأغـضـبُ
خـفـضـتُ لـهـم مِـنِّـي جَـنـاحَـي مـودةٍ *** إلـى كـنـفٍ عَـطـفـاهُ أهـلٌ ومـرحـبُ
وكـنـتـمْ لـهـمْ مـن هـؤلاء وهـؤلا *** مُـجِـنَّـاً عـلـى أنِّـي أٌذَمّ وأُغـضـبُ
وأُرمـى وأرمـي بـالـعـداوةِ أهـلـهـا *** وإنـي لأُوذي فـيـهـمُ وأُؤنَّـبُ
يـعـيّـرنـي جـهَّـال قـومـي بـحـبِّـهـم *** وبـغـضـهـمُ أدنـى لـعـارٍ وأعـطـبُ
بـأيِّ كـتـابٍ أم بـأيـةِ سُـنّـةٍ *** ترى حـبّـهـمْ عـاراً عـلـيَّ وتَـحـسـبُ
سـتـقـرعُ مـنـهـا سـنّ خـزيـان نـادمٍ *** إذا الـيـوم ضـمَّ الـنـاكـثـيـنَ الـعـصـبـصـبُ
فـمَـالِـيَ إلّا آلَ أحـمـدَ شـيـعـةٌ *** ومـالـي إلّا مـشـعـبُ الـحـق مـشـعـبُ
وهذه الأبيات تفصح عن إيمان الشاعر المطلق بأهل البيت الذي لا تشوبه شائبة كما تفصح هذه الأبيات عن العداء الأموي المتجذّر لأهل البيت وشيعتهم والمسلمين في الفترة المرعبة التي مرّوا بها أيام الحكم الأموي، الفترة السوداء التي زرعت الرعب في البلاد الإسلامية وألقت بظلال الجاهلية على أجوائها.
يقول أحمد أمين المصري عن الحكم الأموي في كتابه ضحى الإسلام (ج1ص27): (الحق أن الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً يسوّى فيه بين الناس ويكافئ المحسن عربياً كان أو مولى ويعاقب المجرم عربياً كان أو مولى، وانما الحكم فيه عربي والحكام خدمة للعرب وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية). وهذا القول يعطينا انطباعاً واضحاً عن تلك الفترى الدموية خصوصاً إنه جاء من كاتب عُرف بنزعته المعادية للشيعة وانحرافه عن أهل البيت.
في تلك الفترة الدموية صدح الكميت بـ (هاشمياته) التي أفرغ فيها عقيدته الناطقة بمظلومية أهل البيت والصارخة بالرفض بوجه الحكم الأموي وسجّل مواقف مشرّفة وشجاعة في نصرة الحق وأهله.
الكميت الشاعر والعالم والنسابة
ولد ابو المستهل الكميت بن زيد الاسدي في الكوفة سنة (60هـ)، ونشأ كما جاء في ترجمته في المصادر: (شاعراً، متقدماً، مطبوعاً، عالماً بلغات العرب، خبيراً بأيامها، من كبار شعراء مضر وألسنتها).
قال أبو الفرج في (الأغاني) وابن عساكر في (تاريخ الشام): (كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر، كان خطيب أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، ثبت الجنان، كاتباً حسن الخط، نسابة، وجدلاً، وهو أول من ناظر في التشيّع، ورامياً لم يكن في أسد أرمى منه، فارساً، شجاعاً، سخياً، ديناً)
وروى ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) (ج1ص410) عن ابن عبدة النساب قوله: (ماعُرف النسّاب أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت (النزاريات) فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها، فلما سمعت هذا جمعت شعره فكان عوني في التصنيف لأيام العرب). وقال الشيخ المفيد (قُدس سره الشريف) في رسالته في معنى المولى: (الكميت ممن استُشهد بشعرهِ في كتاب الله وأجمع أهل العلم على فصاحته ومعرفته باللغة ورئاسته في النظم وجلالته في العرب حيث يقول:
ويـوم الـدوح دوح غـديـر خـمٍّ *** أبـان لـه الـولايـة لـو أطـيـعـا)
الهاشميات أول شعره
كان أول ما نطق به الكميت من الشعر قصائده الهاشميات، فأخفاها مدة ثم جاء إلى الفرزدق فقال له: (نفث على لساني فقلتُ شعراً فأحببتُ أن أعرضه عليك فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره وكنت أولى من ستره علي)، ثم أنشده أبياتاً من قصيدته البائية فقال له الفرزدق: (ياابن أخي.. أذع..، ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي).
هذه الشهادة لها ثقل أجيال من الشعراء لأنها صدرت من شاعر (ينحت في صخر) كما قيل عنه وهو الشاعر الكبير الفرزدق الذي لم يحابِ الكميت بهذه الشهادة بل أطلقها عن جدارة واستحقاق، فالكميت هو ابن الكوفة العلوية التي اقتبس شعراؤها وأدباؤها من سيد البلغاء والمتكلمين وأمير اللغة والكلام جذوة البلاغة والفصاحة فشهد لهم معاصروهم من الشعراء والمؤرخين والنقّاد القدامى والمحدثين على تفوّقهم وتقدّمهم على غيرهم حتى قيل: (خير الشعر شيعي كوفي).
اهتزّ الفرزدق ـ وهو الخبير بالشعر ـ وهو يستمع لشعر الكميت الذي فاق شعر عصره لأنه وجد فيه ما يميزّه عن غيره بصدق العاطفة وقوة المعنى، فالباعث الذي حدا بالكميت إلى قول هذا الشعر لم يكن دنيوياً، بل كان نابعاً عن ولاء مطلق وتمسك خالص بمنهج أهل البيت بعيداً عن الدوافع المادية والدنيوية، ويتجلى ذلك في قوله للإمام الباقر (عليه السلام) كما في الأغاني (ج15ص118) حينما أمر له بجائزة على قصيدة قالها في رثاء الحسين: (والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه ولكنني احببتكم للآخرة).
ورُوي عن سبب كتم الكميت قصائده الهاشميات بحق أهل البيت: هو أنه كان خائفاً يترقب من بطش الأمويين مختفياً عن عيونهم حتى رأى النبي في المنام فقال له (صلى الله عليه وآله): أنشدني.. فأنشده الكميت بائيته المشهورة:
طـربـتُ ومـا شـوقـاً إلـى الـبـيـضِ أطـربُ *** ولا لـعـبـاً مـنـي وذو الـشـيـب يـلـعـبُ
فلما وصل إلى قوله:
فـمـا لـي إلا آل أحـمـد شـيـعـة *** ومـا لـي إلا مـشـعـبُ الـحـقِ مـشـعـبُ
قـال له النبي: إن الله قد غفر لك بهذه القصيدة.
فـلـمـا وصـل إلـى قـولـه:
ألـم تـرنـي مـن حـبِ آل مـحـمـدٍ *** أروحُ وأغـدو خـائـفـاً أتـرقـبُ
قال (صلى الله عليه وآله): مِمَ خوفك؟ قال: يا رسول الله من بني أمية.
فقال النبي: (أظهر فأن الله قد أمنك في الدنيا والآخرة).
فلما فرغ من قصيدته قال له: بوركت وبورك قومك. فكانت بنو أسد تقول: فينا فضيلة ليست في العالم ليس منزل منّا إلّا وفيه بركة دعاء النبي. فجاهر الكميت بحبه لأهل البيت وأظهر عقيدته وولائه لهم وإخلاصه في الدفاع عن قضيتهم.
يد الأمويين تغتال الهاشميات
يقول الشيخ عبد الحسين الاميني في موسوعته الغدير (ج2ص266): (الهاشميات من غرر قصائد الكميت المقدرة بخمسمائة وثمانية وسبعين بيتاً غير أنه عاثت في طبعها يد النشر (الأمينة على ودائع العلم) فنقصت منها شيئاً كثيراً لا يُستهان به)، غير أن ماكان لله ينمو ويُحفظ، فقد حفظت كتب السير والتاريخ والأدب قصائد الكميت وخاصة التي قرأها على الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام).
كما حُظيت الهاشميات بعناية النقّاد القدماء والمحدثين لأهميتها، يقول محمد العيساوي الجمحي عن شعر الكميت: (الكميت أول من أدخل الجدل المنطقي في الشعر العربي فهو مجدِّد بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وشعره ليس عاطفياً كبقية الشعراء، بل إن شعره شعر مذهبي، ذهني عقلي).
وقد خمّس الهاشميات كثير من الشعراء الأعلام في عصور مختلفة منهم الشيخ ملّا عبدالله الزيوري البغدادي، والعلامة الشيخ محمد السماوي، والسيد محمد صادق آل صدر الدين الكاظمي، وشرحها الأستاذ محمد محمود الرافعي المصري، وقال في مقدمة شرحه: (الهاشميات هي من مختار الكلام، ومن رائق الشعر وشيّقه، وجيد القول وطريفه، أحسن فيه كل الإحسان وأجاد كل الإجادة)، كما شرحها الأستاذ محمد شاكر الخياط النابلسي.
يبدأ الكميت هاشمياته بالميمية التي مطلعها:
مـن لـقـلـبٍ مـتـيَّـم مـسـتـهـامِ *** غـيـرَ مـاصـبـوةٍ ولا أحـلامِ
بـل هـواي الـذي أجـن وأبـدي *** لـبـنـي هـاشـمٍ أجـل الأنـامِ
وهي قصيدة طويلة تبلغ أكثر من مائة بيت وقد قرأها عند الإمام الباقر (عليه السلام) وكان منصتاً له فلما بلغ إلى قوله:
أخـلـص الله هـواي فـمـا أغـرق نـزعـاً ولا تـطـيـش سـهـامـي
قال له الامام (عليه السلام) قل: (فقد أغرق نزعاً ولا تطيش سهامي) فقال الكميت: يامولاي أنت أشعر مني بهذا المعنى فلما وصل إلى قوله:
وقـتـيـلٌ بـالـطـفَّ غُـودر مـنـه *** بـيـنَ غـوغـاءِ أمـةٍ وطـغـامِ
تـركـبُ الـطـيـرُ كـالـمـجـاسـد مـنـه *** مـع هـابٍ مـن الـتـرابِ هـيـامِ
وتـطـيـلُ الـمـرزآتُ الـمـقـالـيـتُ عـلـيـه الـقـعـودَ بـعـد الـقـيـامِ
يـتـعـرّفـن حـرَّ وجـهٍ عـلـيـه *** عـقـبـةُ الـسـروِ ظـاهـراً والـوسـامِ
قـتـل الادعـيـاءُ إذ قـتـلـوه *** أكـرم الـشـاربـيـن صـوبَ الـغـمـامِ
بكى الإمام الباقر (عليه السلام) وتوجه بوجهه إلى الكعبة المشرفة وقال ثلاث مرات: (اللهم ارحم الكميت واغفر له)، ثم قال: (ياكميت هذه مائة ألف قد جمعتها لك من أهل بيتي). فقال الكميت: لا والله لا يعلم أحدٌ إني آخذ منها حتى يكون الله عز وجل الذي يكافئني، ولكن تكرمني بقميص من قُمصِك فأعطاه (عليه السلام) قميصاً.
جاهر الكميت بشعره في ذلك الجو المشحون بالرعب، يقول أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني: (كانت الشعراء لا تقدم على رثاء الحسين مخافة من بني أمية وخشية منهم)، لكن الكميت جهر بولائه الصادق رغم اضطهاد الامويين فيدخل على الإمام الصادق (عليه السلام) وينشده لاميته:
ألا هـل عـمٍ فـي رأيـه مـتـأمِّـل *** وهـل مـدبـرٌ بـعـدَ الإسـاءةِ مـقـبـلُ
فلما وصل إلى قوله في الحسين (عليه السلام):
يُـحـلّـئـنَ عـن مـاءِ الـفـرات وظـلـه *** حـسـيـنـاً ولـم يُـشـهـر عـلـيـهـنَّ مـنـصـلُ
كـأن حـسـيـنـاً والـبـهـالـيـل حـولـه *** لأسـيـافـهـم مـا يـخـتـلـي الـمـتـبـقـلُ
يـخُـضـن بـه مـن آل أحـمـد فـي الـوغـى *** دمـاً ظـل مـنـهـم كـالـبـهـيـمِ الـمـحـجَّـلُ
وغـابَ نـبـيُّ اللهِ عـنـهـمْ وفـقـده *** عـلـى الـنـاسِ رزءٌ مـا هـنـاك مـجـلـلُ
فـلـم أرَ مـخـذولاً أجـلَّ مـصـيـبـة *** وأوجـبُ مـنـه نـصـرةً حـيـن يُـخـذلُ
يـصـيـبُ بـه الـرامـون عـن قـوس غـيـرهـم *** فـيـا آخـراً أسـدى لـه الـغـيَّ أوّلُ
رفع الإمام الصادق (عليه السلام) يديه وقال: (اللهم اغفر للكميت ما قدّم وأخّر وما أسرّ وأعلن واعطه حتى يرضى)، ثم اعطاه ألف دينار وكسوة. فقال له الكميت: (والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردتها لأتيت من هي في يديه، ولكنني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها وأما المال فلا أقبله).
الخاتمة المشرفة
دعا للكميت ثلاثة من أئمة الهدى (عليهم السلام) هم الإمام السجاد والباقر والصادق وكانوا يلحّون عليه في قبول صلاتهم وعطاياهم مع إكبارهم محله وتبجيلهم له لأنهم وكانوا يعلمون إن مدحه لهم وذمه ظالميهم ومناوئيهم لم يكن إلّا لله ولرسوله معرضاً بذلك حياته للخطر فشهد الإمام زين العابدين له بذلك بقوله: (اللهم إن الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك نفسه حين ضنَّ الناس وأظهر ماكتمه غيره)، كما شهد له عبدالله الجعفري بقوله لبني هاشم: (هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم وعرّض دمه لبني أمية).
انتهت حياة الكميت بأشرف وأجل خاتمة وهي الشهادة على حب آل محمد كما دعا له الإمام زين العابدين بقوله: (اللهم أحيه سعيداً، وأمته شهيداً، وأره الجزاء عاجلاً، وأجزل له جزيل المثوبة آجلاً) فاستجاب الله دعاء الإمام السجاد فرزق الكميت الشهادة بعد أن بذل عمره في حب أهل البيت وقاسى في سبيل ذلك شتى أنواع الاضطهاد وكانت نهايته على يد جند خالد بن عبدالله القسري والي الكوفة في خلافة مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين سنة (126هـ) ففاضت تلك الروح الطاهرة التي عشقت أهل البيت إلى بارئها راضية مرضية وهي تلهج بذكر آل محمد.
مات الكميت وذكر أهل البيت على شفتيه وعرجت روحه وهو يلهج بذكرهم، فقد حدّث المستهل بن الكميت فقال: حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه وأغمي عليه ثم أفاق ففتح عينيه ثم قال: اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد.