لما كانت قضية الحياة بعد الموت ومحكمة يوم القيامة العظيمة تعتبر قضية جديدة على انسان يعيش في هذه الدنيا الضيقة المحدودة، فإنَّ الله أوجد لنا مثاًل مصغراً لتلك المحكمة في هذه الدنيا، هي محكمة الضمير، إلاّ أنَّها كما قلنا صورة مصغرة لها.
دعونا نوضح هذا الموضوع
يحاكم الانسان على الأعمال التي يقوم بها في عدّة من المحاكم. أوّلها هي المحاكم البشرية العادية، بكل ما فيها من ضعف ونقص وانحرافات.
وعلى الرّغم من أنَّ لهذه المحاكم بعض التأثير في تخفيف نسبة ارتكاب الجرائم، إلاّ أنَّ الأسس التي أقيمت عليها هذه المحاكم لا تتكفل بتحقيق العدالة كاملة، ولا يمكن أنْ ينتظر منها ذلك. فالقوانين الموضوعة والقضاة الفاسدون وتفشي الرشوة والمحسوبيات والمنسوبيات والمناورات السياسية وآلاف الأُمور الأخرى تؤدي كلها الى إضعافها الى درجة يمكن القول معها بأنَّ عدمها خير من وجودها، وذلك لأنَّ وجودها يساعد على تنفيذ مآرب المتنفذين المشؤومة.
وحتى لو كانت قوانينها عادلة. وقضاتها متقين وواعين، فإنَّ هناك الكثيرين من المجرمين القادرين على اخفاء معالم جرائمهم، أو الماهرين الذين يستطيعون تزييف المستندات والأدلة بحيث لايجد القاضي طريقه بوضوح، فيجردون القوانين بذلك من محتواها.
المحكمة الثانية التي يحاكم فيها الانسان هي محكمة "نتائج الاعمال".
إنَّ لأعمالنا آثاراً ونتائج تصيبنا على المدى القريب أو البعيد. وإذا لم يكن هذا حكماً عاماً، فإنَّه يصدق على الاقل بالنسبة لكثير من الناس.
لقد رأينا حكومات شيدت حكمها على الظلم والجور والاعتداء وارتكبت كل جريمة شاءت، ولكنها في النهاية وقعت في فخاخ نصبتها بنفسها وسقطت في شباك هي التي نسجت خيوطها، فحاقت بها ردود افعالها، فانهارت وتلاشت حتى لم يبق لها أثر.
ولما كانت نتائج الاعمال هي العلاقة بين العلة والمعلول والعلائق الخارجية، فقلما استطاع أحد أنْ ينجو من مخالبها بالتزوير والتزييف، كما يفعلون في المحاكم العادية. ولكن كل ما في الأمر إن هذه المحاكم ليست عامّة وشاملة، ولهذا فهي ليست قادرة على جعلنا في غنى عن محكمة يوم القيامة.
أمّا المحكمة الثالثة، وهي أدق وأقسى من محاكم النوع الثاني، فهي محكمة الضمير.
وفي الواقع، كما أنَّ المنظومة الشمسية بنظامها العجيب قد تمثلت مصغرة جداً في قلب الذّرة، كذلك يمكن القول بأنَّ محكمة يوم القيامة قد تمثلت مصغراً في داخلنا.
إنَّ في أعماق الانسان قوة غامضة يطلق عليها الفلاسفة اسم "العقل العملي"، ويسميها القرآن "النفس اللوّامة"، ويصطلح عليها المعاصرون باسم "الضمير" أو "الوجدان".
فما أنْ يقوم الانسان بعمل ما، خيراً كان أم شراً، حتى تعقد هذه المحكمة جلسة بدون ضوضاء ولا تشريفات، ولكن بكل جد ووفق الأصول، وتبدأ المحاكمة، ويصدر الحكم، ثواباً أو عقاباً، يتم تنفيذه بهيئة آثار نفسية.
قد يكون عقاب المجرمين أحياناً من الشدة والقسوة بحيث يتمنى المجرم الموت ويستقبله بكل ترحاب ويفضله على الحياة، ويكتب فى وصيته: انتحرت تخلصاً من عذاب الضمير!
واحياناً يكون الثواب على عمل الخير كبيراً يشيع الفرحة والسرور في نفس فاعله ويضفي عليه حالة من الاطمئنان والهدوء النفسي مما يصعب وصف ما فيه من العذوبة واللذة.
إنَّ لهذه المحكمة خصائص معينة
1- في هذه المحكمة قاضيها وشاهدها ومنفذ أحكامها والمتفرج فيها واحد، وهو الضمير الذي يشهد ويقضي ويصدر الحكم ثم يشمر عن ساعد الجد وينفذ الحكم.
2- في هذه المحكمة بخلاف ما يجري في المحاكم العادية التي يكثر فيها الضوضاء والمظاهر، وقد تطول فيها محاكمة قضية واحدة بسنوات طوال ـ تجرى المحاكمة بسرعة البرق في أكثر الحالات إلاّ إذا اكتنف القضية بعض الغموض مما يتطلب بعض الوقت لفحص أدلة القضية وإزاحة سجف الغفلة عن نظر القلب، ولكن بعد التأكد يكون صدور الحكم قطعياً.
3- الحكم في هذه المحكمة يتم في مرحلة واحدة، فلا استئناف ولا تمييز، بل هو حكم نهائي باتّ.
4- هذه المحكمة لا تصدر أحكام العقوبات فقط، بل هي تحكم بالمكافأة والإثابة. أي إنَّها محكمة تنظر في قضايا المجرمين والمحسنين معاً، فتعاقب المسيء وتثيب المحسن.
5- عقوبات هذه المحكمة لا تشبه عقوبات المحاكم العادية، إذ ليس فيها سجون حقيقية، ولا سياط للجلد، ولا أعواد للشنق، ولا محرقة للحرق، ولكن عقابها يكون أحياناً حارقاً وسجنها قاسياً بحيث إنَّ الدنيا على سعتها تضيق بالانسان، كأضيق سجن انفرادي في سجن رهيب.
وعليه، فإن هذه المحكمة لا تشبه أيّاً من المحاكم العادية، بل هي من نوع محكمة يوم القيامة.
إنَّ هذه المحكمة من العظمة بحيث إنَّ القرآن يقسم بها كما يقسم بمحكمة المعاد، فيقول: "لا أُقْسِمُ بِيَومِ القِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ أيَحْسَبُ الانْسَانُ أنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قادِرينَ عَلَى أنْ نُسَوِّىَ بَنَانَه"(القيامة:1-4)
بديهي إن هذه المحكمة، لكونها دنيوية على كل حال، فيها من النقائص ما لا يجعلنا نستغني عن محكمة يوم القيامة، وذلك
1- لأنَّ نطاقها ضيق لا يستوعب كل شيء، بل تتناسب مع نطاق تفكير الانسان نفسه وإدراكه.
2- هنالك أشخاص على درجة من المكر والدهاء بحيث إنَّهم يستطيعون أنْ يخدعوا حتى ضمائرهم ويحرفوها.
3- قد يكون نداء الضمير في بعض المجرمين من الضعف بحيث إنَّه لا يصل الى مسامعهم.
وهكذا يتبين لنا أنَّ وجود المحكمة الرابعة، محكمة يوم القيامة، أمر لابدّ منه.
آية الله مكارم الشيرازي