فما يكون دخيلا في حصول الاستطاعة ـ على كلا المبنيين الاستطاعة العرفية والاستطاعة الشرعية ـ فلا شك في أنه لا يكون مأموراً به ومنطبقاً على عنوان حجة الإسلام فلا يجزي عنها .
وما يكون وجوده رافعاً لوجوب الحج كالحرج والضرر واعتقد عدمه وحج ثم بان خلافه الظاهر أنه يجزي عن حجة الإسلام ، لأنّ نفي الحرج والضرر مبنيان على الامتنان ، فلابد في الحكم بالإجزاء وعدم الإجزاء ملاحظة المبنيين، فمن يرى الاستطاعة ، الاستطاعة الشرعية ففي فقد مثل الزاد والراحلة يحكم بعدم الإجزاء، وفي فقد عدم الحرج والضرر يحكم بالإجزاء .
ولا فرق في ذلك بين كون اعتقاده بوجود الاستطاعة وشرائط الوجوب مبنياً على اليقين أو الظن المعتبر الشرعي، غير أنه على الثاني يكون مأموراً بالحج بالأمر الظاهري الشرعي، وفي الأول بالأمر العقلي، فلا يقع منه في الصورتين إلا الانقياد وإجزاء الأمر الظاهري الشرعي عن الأمر الواقعي على القول به ، إنما يكون في أجزاء المكلف به وشرائطه ، لا فيما يتحقق به الوجوب وأصل التكليف ، لأن كشف الخلاف فيه يكشف عن عدم التكليف والأمر .
وأما على ما بنينا عليه من الاستطاعة العرفية فالأمر واضح; لأن الضرر مانع عن حصول الاستطاعة .
إذا زعم فقدان ما يعتبر في الاستطاعة
مسألة 89 ـ إذا اعتقد فقد بعض ما يعتبر في الاستطاعة مع وجوده في الواقع ، فإن أتى بالحج بقصد ما عليه من حجة الإسلام، أو الحج الندبي، أو برجاء حجة الإسلام بل وبقصد الحج الندبي ، فالظاهر وقوعه حجة الإسلام، وإن ترك الحج به حتى مضى آخر أزمنة الإتيان بواجبات الحج أو أركانه وزال استطاعته بعد ذلك فهل يستقر عليه الحج بذلك، أم لا ؟
لا ريب في أن ترك الحج عصياناً وإهمالا من غير عذر إلى أن ينتهي زمان الإتيان بتمام أعماله أو أركانه أو زمان الرجوع إلى وطنه جامعاً لشرايط الاستطاعة موجب لاستقرار الحج عليه وإن زال استطاعته قهراً بعد ذلك . وهل تركه بدون ذلك باعتقاد فقد ما هو شرط لوجوبه كلا أم بعضاً موجب لاستقرار الحج عليه ، فيجب عليه الحج متسكعاً إن زال استطاعته قبل كشف فساد اعتقاده أو قبل زمان يمكن له الحج مستطيعاً أم لا ؟
حكي عن المحقق القّمي(قدس سره) في جامع الشتات عدم وجوب الحج ، سواء اعتقد عدم كونه مستطيعاً، أو غفل عن ذلك، أو كان غافلا عن وجوب الحج حتى زالت استطاعته . ظاهر عبارة المحقق في الشرايع أيضاً ذلك، لأنه قيد استقرار الحج عليه بالإهمال، قال : ( ويستقر الحج في الذمة إذا استكملت الشرايط فأهمل)، (ـ شرائع الإسلام : 1 / 166)وهذا ظاهر الجواهر،( جواهر الكلام : 17 / 298 . ) .وذهب السيد(قدس سره) في العروة وأكثر المحشِّين لها إلى استقرار وجوب الحج عليه بحصول الاستطاعة الواقعية وإن اعتقد خلافها وترك الحج .
والذي يمكن أن يكون وجهاً لعدم الاستقرار بغير الإهمال مضافاً إلى الأصل اُمور :
- الأول: كما عليه بعض الأعاظم: أن موضوع وجوب الحج هو المستطيع، وشرط وجوبه هو الاستطاعة ، فمتى تحقق عنوان الاستطاعة صار الحكم بوجوب الحج فعلياً، وإذا زالت الاستطاعة وارتفع الموضوع يرتفع الحكم بارتفاع موضوعه حتى بالإتلاف والعصيان ، نظير القصر في الصلاة الذي موضوعه المسافر فإذا زال هذا العنوان زال الحكم .
وبالجملة : الأدلة إنما تدل على وجوب الحج مادام المكلف مستطيعاً، فإذا انتفى هذا العنوان انتفى الوجوب، سواء زال بالاختيار والعصيان أو قهراً ومن غير اختيار ، وعليه ينبغي أن نقول بعدم الوجوب ولو كان زوال الاستطاعة بفعل المكلف عصياناً، إلا أننا نقول به في صورة زوال الاستطاعة بعد عصيان المكلف وتركه الحج مع تنجزه عليه بدلالة الأخبار كروايات التسويف .( معتمد العروة : 1 / 218 . ) وفيه: أنه لو تم هذا الوجه يلزم أن نقول به في صورة ترك الحج إذا كان جاهلا بالاستطاعة ودل الدليل مثل البينة على عدمها، أوقام الدليل على عدم الوجوب ، فيلزم منه قصر الحكم بالاستقرار على صورة الترك عصياناً وتسويفاً، ولا أظن أن يلتزم القائل بذلك، ولذا قال بالتفصيل بين الجهل البسيط والجهل المركب كما يأتي كلامه . هذا أولا .
- و ثانياً: فرق بين قولنا : « يقصر الصلاة في السفر » أو « المسافر يقصر صلاته» فإنه يستفاد منه أن تكليفه في السفر تقصير ما يتمه في الحضر وبين قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ، فإنه يستفاد منه أن الاستطاعة للحج شرط لوجوب طبيعة الحج ، سواء تحققت في ضمن فردها الخاص الواقع في زمان الاستطاعة أو ما يقع بعد هذا الزمان .
وبعبارة اُخرى : الاستطاعة شرط لحدوث الوجوب دون بقائه، وهذا مثل أن يقال : « من سافر يجب عليه التصدق » أو « من أفطر في شهر رمضان يجب عليه الكفارة » فإنه لا يستفاد منهما خصوصية وقوع التصدق أو الكفارة في السفر أو في شهر رمضان، ، فعلى هذا ترك الفرد الذي يقع في زمان الاستطاعة عمداً وعصياناً أو جهلا وعذراً لا يوجب سقوط وجوب الطبيعة لإمكان الإتيان بسائر أفراده ، وهذا هو الدليل على استقرار الحج عليه إذا سوَّف وتركه في حال الاستطاعة لا أخبار التسويف ، فعلى هذا إذا كان المكلف في حال الاستطاعة جاهلا بها بالجهل البسيط أو المركب ثم حصل له العلم بها يجب عليه الحج وإن كان بعد زوال الاستطاعة .
- الأمر الثاني : أنه إنما يستقر الحج عليه إذا تركه لا عن عذر، وأما إذا كان تركه لعذر فلا موجب له، والاعتقاد بالخلاف من أحسن الأعذار.
وفيه: أنه إن استفدنا من الدليل أن الحج الواقع في حال الاستطاعة هو المشروط وجوبه بالاستطاعة فلا وجه لا ستقراره عليه إن تركه إلى بعد حال الاستطاعة، وإن كان غير مقيد بذلك فهو يستقر عليه وإن تركه في حال الاستطاعة عن عذر واعتقاد بالخلاف .
- الامر الثالث : وهو الوجه للتفصيل الذي اختاره بعض الأعاظم ، وهو الفرق بين الجهل البسيط والمركب، قال : ( فإن كان الجهل جهلا بسيطاً وكان شاكاً فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه ، لما حقق في محله من أن رفع الحكم في مورده حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحج واستقراره عليه واقعاً، إذ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في موضوع وجوب الحكم، ولا مانع من توجه التكليف إليه لتمكنه من الإتيان به على سبيل الاحتياط .
وبعبارة اُخرى : في مورد الجهل البسيط الذي كان يتردد ويشك في أنه كان مستطيعاً أم لا إذا كان اعتماده على أصل شرعي يعذره عن ترك الواقع مادام جاهلا به إذا انكشف الخلاف وبانَ أنه مستطيع تنجز عليه التكليف الواقعي كسائر موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية، بخلاف ما لو كان جاهلا بالجهل المركب وكان معتقداً بالخلاف فإن التكليف الواقعي غير متوجه إليه; لعدم تمكنه من الامتثال حتى على نحو الاحتياط ، فإنه من كان قاطعاً بالعدم لا يمكن توجه التكليف إليه لعدم القدرة على الامتثال ـ إلى أن قال: ـ ففي هذه الصورة فالحق مع المحقق القمي ... وكذلك الحال في الغفلة ) .
وفيه : أنه ان كان الحج المشروط وجوبه بالاستطاعة هو الحج الواقع في حال الاستطاعة فلا فرق في عدم استقراره عليه بتركه في حال الاستطاعة بين تركه بالجهل البسيط أو المركب أو عصياناً أو غفلة، وإن كان ماهو المشروط وجوبه بالاستطاعة طبيعة الحج ، فلا فرق بين أن يكون سبب تركه في حال الاستطاعة الجهل المركب أو البسيط أو الغفلة أو العصيان .
وقد ظهر لك من ذلك كله عدم قيام واحد من هذه الاُمور لنفي استقرار الحج على من تركه في حال الاستطاعة بمطلق العذر أو بالجهل المركب، فلا شيء هنا إلا الأصل والبراءة التكليف لو لم يكن ما يدل على الاستقرار في البين .
وأما وجه الاستقرار عليه لو تركه في حال الاستطاعة مطلقاً وفي جميع الصور فيمكن تقريبه بوجوه :
- الأول : ما ظهر ممّا أوردناه على الوجوه التي ذكرناها وجهاً للقول الأول وهو: أنّ ما يستفاد من قوله تعالى وسائر الأدلة أن الحج يجب بالاستطاعة الكافية لأدائه ، فحصول هذه الاستطاعة موجب لوجوب الحج حدوثاً، وأما بقاؤه فليس مشروطاً ببقاء الاستطاعة كما أوضحنا لك .
وبعبارة اُخرى : الاستطاعة شرط لوجوب طبيعة الحج دون ما يقع في حال الاستطاعة وعلى هذا فإن تركه جهلا أو غفلةً أو نسياناً في حال الاستطاعة يأتي به بعده ، فضلا عن أن تركه عصياناً وإهمالا ، فلا حاجة إلى أخبار التسويف للاستدلال على الاستقرار في صورة الترك عن عذر لأنها لاتدلّ على أكثر من فورية وجوب الحج وعدم جواز التأخير، وأنه إن مات على ذلك ترك شريعةً من شرايع الإسلام .
- الثاني : أن اعتبار الحج على المكلفين ليس كاعتبار سائر التكاليف العبادية مثل الصوم والصلاة، وإنما اعتبر كالزكاة والخمس ديناً على المكلف ولذا يجب أداؤه وقضاؤه عنه، وفي مثله لا يضر جهل المكلف به فهو دين عليه علم به أم لم يعلم به
نعم، لا يجب أداؤه عليه مادام جاهلا به، أما بعد العلم يجب أن يؤديه وإن تركه حتى مات يقضى عنه ، فالاستطاعة الواقعية سبب لاشتغال ذمة المكلف بالحج، فتفويت الاستطاعة عمداً أو جهلا وتركه كذلك لا يوجب براءة ذمته .
الثالث : إطلاق بعض الروايات مثل صحيح محمد بن مسلم، وهو ما رواه الشيخ: عن موسى بن القاسم، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، قال : « سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل مات ولم يحج حجة الإسلام يحج عنه؟ قال (عليه السلام) : نعم». ورواه أيضاً، عن أحمد، عن الحسين، عن النضر، عن عاصم، عن محمد بن مسلم قال : « سألت أبا جعفر (عليه السلام)عن رجل مات ولم يحج حجة الإسلام ولم يوص بها أتقضى عنه ؟ قال (عليه السلام) : نعم » (تهذيب الأحكام : 5 / 492 ح 415 .). والظاهر أنهما رواية واحدة .
تقريب الاستدلال بهما : أن إطلاق السؤال فيهما يشمل من لم يأتِ بحجة الإسلام عصياناً إلى أن مات مع بقاء استطاعته، أو بعد زوال استطاعته، أو تركه في حال الاستطاعة وعدم تنجز التكليف عليه نسياناً أو جهلا بالحكم أو الموضوع جهلا بسيطاً أو مركباً. والمراد من قوله : « يحج عنه » أو « تقضى عنه » هو السؤال عن وجوب القضاء عنه، ولايشمل من لم يأتِ به، لعدم حصول الاستطاعة عليه .
وبعبارة اُخرى : السؤال يكون عن المستطيع الذي لم يحج حجة الإسلام دون من لم يحصل له الاستطاعة أصلا .
فإن قلت : الظاهر من السؤال والجواب أنّ مورد السؤال هو القضاء عمن ترك حجة الإسلام الواجب عليه، فالاستدلال على وجوب قضائها على من لم يثبت وجوبها عليه يكون من قبيل التمسك بالعامَّ في الشبهات المصداقية .
وبعبارة اُخرى : صدق كونه تاركاً لحجة الإسلام ولم يحجَّها يدور مدار تنجز وجوبها عليه، وأما بدون ذلك فتركه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع والرواية لا تشمله .
قلت : يكفي في صدق الترك أنّه لو علم بالاستطاعة وبالوجوب تجب عليه حجة الإسلام ولو كان آتياً بها رجاءً كان آتياً بحجة الإسلام، وإلاّ يلزم قصر دلالة الحديث على خصوص صورة العصيان، مع أن الظاهر منه شموله لصورة تركه عذراً .
من حج بغير استطاعة
قال في العروة : ( فالظاهر مسلّمية عدم الإجزاء، ولا دليل عليه إلا الإجماع ، وإلاّ فالظاهر أنّ حجة الإسلام هو الحج، الأول وإذا أتى به كفى ولو كان ندباً ، كما إذا أتى الصبي صلاة الظهر مستحباً بناءً على شرعية عباداته فبلغ في أثناء الوقت فإن الأقوى عدم وجوب إعادتها ، ودعوى أن المستحب لا يجزي عن الواجب ممنوعة بعد اتحاد ماهية الوجوب والمستحب . نعم، لو ثبت تعدد ماهية حج المتسكع والمستطيع تم ما ذكر ، لا لعدم إجزاء المستحب عن الواجب ،بل لتعدد الماهية ) .
أقول أولا إنّ مطلوبية الحج تكون بنحو مطلق الوجود فجميع أفراده مطلوب على حدة، فلا يجزي فرد منه عن الآخر، فإذا استطاع الشخص يجب عليه غير ما أتى به قبل الاستطاعة، فلا يسقط هذا الفرد بإتيانه بالفرد الأول، كما لا يسقط به وبالفرد الأول مطلوبية غيرهما من أفراده .
نعم، ما يجب بالاستطاعة يكون مطلوبيته المؤكدة على نحو صرف الوجود يسقط بالإتيان بأول الأفراد بعد حصول الاستطاعة وجوب غيره من الأفراد .
ولا يقاس المقام بالصلاة التي أتى بها الصبي حيث إنه يجزيه إن بلغ في الوقت فإن المطلوب فيها طبيعة الصلاة في الوقت على نحو صرف الوجود ، فالإتيان بها في ضمن فرد ما يجزيه ويسقط به الطلب ولا يمكن الإتيان به ثانياً .
- و ثانياً: نقول بتعدد ماهية الحج المستحب والحج الواجب، فإن متعلق الطلب والأمر في الأول مطلق الوجود، وفي الحج الواجب صرف الوجود، ولا يمكن أن يكون طبيعة واحدة مطلوبة بنحو صرف الوجود ومطلق الوجود، فيكشف من تعدد متعلق الطلب تعدد ماهية المطلوب، وهذا بخلاف الصلاة في الوقت فإنها متعلقة للطلب على نحو صرف الوجود .
ثمّ إنّه ربما توهم دلالة بعض الروايات على عدم الإجزاء مثل رواية أبي بصير التي رواها المحمدون الثلاثة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في الكتب الأربعة، وإليك سندها ولفظها برواية الكليني (قدس سره) : عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد جميعا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « لو أنّ رجلاً معسراً أحجّه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد كان عليه الحج » الحديث . قال المحقق في المعتبر في مسائل الشرط الرابع والخامس من شرايط حجة الإسلام : ( ولو حج ماشياً لم يجزه عن حجة الإسلام ، قال الباقون: يجزيه . لنا: أن الوجوب لم يتحقق، لأنه مشروط بالاستطاعة، فمع عدمها يكون مؤدياً مالم يجب عليه، فلا يجزيه عما يجب فيما بعد . وتنبه على ذلك روايات عن أهل البيت(عليهم السلام)منها: رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال : « لو أن رجلا معسراً أحجه رجل كانت له حجة . فإن أيسر بعد كان عليه الحج » ، (1)
من حج مع المرض، أو مع عدم أمن الطريق
مسألة 91 ـ لا ريب في عدم وجوب الحج مع عدم أمن الطريق، أو مع المرض وعدم صحة البدن، أو مع الضرر، أو الحرج وإن كانت تلك الاُمور مقترنةً بما هو قبل الميقات فضلا عما إذا كانت مقترنةً بما بعد الميقات والأعمال والمناسك .
ولو حج مقترناً بهذه الاُمور فإن كانت المقدمات قبل الميقات مقترنة بها دون الأعمال فلا ريب في إجزاء حجه عن حجة الإسلام ، لأنه بعد وصوله إلى الميقات يكون مستطيعاً للحج، فلا وجه لعدم وجوب الحج عليه بعد وصوله إلى الميقات، ولا عدم إجزاء حجه عن حجة الإسلام .
وأما إذا كانت الأعمال مثل الطواف والسعي والوقوفين مقترنةً بالضرر أو الحرج أو عدم صحة البدن أو عدم أمن الطريق فهل الحكم هو الإجزاء مطلقا، أو عدم الإجزاء، أو التفصيل بالإجزاء في بعض هذه الاُمور وعدمه في البعض الآخر ؟ وجوه.
والذي ينبغي أن يقال: إنّه إذا حج مع عدم كون نفسه في حال الإتيان بالأعمال مأموناً من الخطر والضرر فالحكم فيه عدم إجزاء حجه عن حجة الإسلام، بل الظاهر بطلان عمله ، هذا في الضرر البدني .
وأما في الضرر المالي فإن قلنا بأن وجوده مانع من الاستطاعة وأنّ من يتضرر بسفر سواء كان الحج أو غيره لا يكون عند العرف مستطيعاً له فإن تحمَّل الضرر وحج لا يجزيه عن حجة الإسلام، وإن قلنا بنفي وجوب الحج بعد حصول الاستطاعة بقاعدة لا ضرر فحيث إنها امتنانية يكون معناها ترخيص المكلف للترك، فإن حج وتحمل الضرر يجزيه عن حجة الإسلام .
اللهمّ إلاّ أن يقال بوجوب الأخذ بالترخيصات الشرعية مثل قوله تعالى : (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة ) (النساء : 101) فلا يجوز الإتمام، ولكن ذلك على النحو الكلي لم يثبت، بل الثابت خلافه ، ولذا يجوز الاحتياط في مثل البراءة الشرعية .
ويمكن أن يقال : إن الضرر إذا كان لازماً للحج مثل كونه مستلزماً لتلف ماله فالحكم ما ذكر على المبنيين ، أما إذا كان تخلية السرب متوقفة على ضرر مثل أن يكون الطريق من جانب الظالم مسدوداً ولا يسمح لأحد العبور منه إلابدفع المال الكثير له فيمكن أن يقال بعدم حصول الاستطاعة; لعدم تخلية السرب على المبنيين ودفع المال إليه تحصيل للاستطاعة . والمسألة بعد محل إشكال .
وأما إذا حج مع عدم صحة البدن فالظاهر أن حجه ليس مصداقاً للواجب، فيجب عليه الحج إذا صح بدنه مع استكماله لسائر الشرايط .
هذا،وقد ظهر مما ذكر حكم الحرج، وأنه على البناء على منعه من الاستطاعة لا يجزيه عن حجة الإسلام، وعلى البناء على أنه رافع لوجوب الحج يجزيه إن تحمل الحرج وأتى بالحج . والله هو العالم .
إذا ترك الحج خوفاً من اللصّ فباَن الخلاف بعد زوال الاستطاعة
مسألة 92 إذا خاف من وجود اللص في الطريق على نفسه أو على ماله خوفاً يعتني به العرف والعقلاء وترك الحج وبعد زوال استطاعته بان عدم وجود اللص فهل هذا ليس من عدم تخلية السرب، فإذا بانَ خلافه يجب عليه الحج، أو أن الخوف من وجود اللص مانع من حصول الاستطاعة فلا يكون الخائف من اللص مستطيعاً للحج، ولا يجوز عند العرف سير الطريق المخوف وإن ظهر بعد ذلك خلافه ، فلا يستقر عليه بذلك الحج لعدم الاستطاعة ، لأن ما هو المانع من صدق الاستطاعة هو الخوف العقلائي من اللص ، لا وجود اللص واقعاً ؟
والأقوى أن الخوف مانع من حصول الاستطاعة ، والقول بأن الخوف طريق عقلائي إلى وجود اللص لم نفهم معناه ، فإن الخوف العقلائي وإن كان يحصل من الطريق العقلائي إلاّ أنّه بنفسه وواقعه مانع من حصول الاستطاعة، وليس من قبيل قيام الطريق على مانع في الطريق مما يوجب الخوف من سلوكه .
إتيان الحج مع استلزامه ترك واجب أو ارتكاب حرام
مسألة 93 ـ إذا حج مع استلزامه لترك واجب أو ارتكاب حرام فهل يجزيه عن حجة الإسلام، أم لا ؟
لا ريب في أنه إذا كان هذا الاستلزام في خصوص ذهابه إلى الميقات دون ما بعده فحجه يقع حجة الإسلام ، وأما إذا استلزم المناسك والأعمال ترك الواجب أو فعل الحرام فعلى القول باعتبار الاستطاعة الشرعية في وجوب الحج بمعنى عدم مزاحمته لواجب آخر وأن المانع الشرعي كالمانع العقلي أو العرفي فلا يجزي عن حجة الإسلام; لعدم تحقق الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج . وعلى القول بأن الاستطاعة المذكورة ليست إلاّ ما فسِّرت في الروايات بتخلية السرب وصحة البدن والزاد والراحلة ، فالقول بعدم الإجزاء وجيه إن كان الواجب الذي استلزم الحج تركه أهم من الحج ولم نقل بالترتب ولا بكفاية وجود الملاك، وهكذا على القول بالاستطاعة العرفية الإجزاء وعدمه يدور مدار أهمية الحج، أو القول بالترتب، أو كفاية وجود الملاك .
فإن قلت : قد قلتم في الحرج والضرر : إنّهما مانعان من حصول الاستطاعة العرفية فليكن ترك الواجب أو فعل المعصية مثلهما .
قلت : الظاهر أن المانع من الاستطاعة العرفية هو ما يكون بنظر العرف مانعاً من الاستطاعة للحج .
وبعبارة اُخرى : ما يكون من الموانع العرفية وترك الواجب أو فعل المعصية ليسا منه إلاّ على القول بالاستطاعة الشرعية الذي لا دليل عليه . والله هو العالم .
وجوب الحجِّ على الكافر المستطيع، وعدحه
مسألة 94 ـ قال في العروة : ( الكافر يجب عليه الحج إذا استطاع; لأنه مكلف بالفروع لشمول الخطابات له أيضاً ، ولكن لا يصحّ منه مادام كافراً كسائر العبادات وإن كان معتقداً بوجوبه وآتياً به على وجهه مع قصد القربة لأن الإسلام شرط في الصحة .
أقول : تفصيل الكلام في هذه المسألة يقع في جهات :
- الجهة الاولى و في تكليف الكفار بالفروع إمّا مطلقاً، أو في خصوص الحج ، أما بالنسبة إلى الحج فيدل عليه قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت )فإنه يشمل المسلم والكافر على السواء .
وأما في سائر التكاليف فيدل عليه مثل قوله تعالى : ( يا أيها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً )( ـ الأعراف : 158 )، ولا ريب أن من جملة ما اُرسل به رسول الله (صلى الله عليه وآله)الأحكام والفروع، فالناس كلهم مكلفون بها. ومثل قوله تعالى : ( إنّ الدينَ عند الله الإسلام )( آل عمران : 19 .)، والإسلام اسم لجميع ما اُنزل على النبي (صلى الله عليه وآله) اُصولا وفروعاً .
وخصوص جملة من الآيات مثل قوله تعالى : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة )، ( ـ فصِّلت : 6 و 7)، وقوله تعالى : ( قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين )، ( ـ المدَّثَّر : 44 .) وغيرها من الآيات والروايات وادُّعي الإجماع على ذلك .
ولكن بعض الأعلام أفاد بأن ( محل الكلام في تكليف الكفار بالفروع إنما يكون في الأحكام المختصة بالإسلام، وأمّا المستقلات العقلية التي يشترك فيها جميع أرباب الشرايع كحرمة القتل وقبح الظلم وأكل مال الناس عدواناً فلا إشكال، كما لا كلام في تكليفهم بها، وأما في الأحكام المختصة فما هو الصحيح عدم تكليف الكفار بها ) .
واستشهد بما ورد من أن « الناس يؤمرون بالإسلام ثم بالولاية » ، فإن ظاهر العطف بـ ( ثم ) هو عدم تعلق الأمر بالولاية إلا بعد الإسلام، فإذا كان هو الحال في الولاية وهي من أعظم الواجبات وأهم الفروع، بل إنّه لا يقبل عمل بدونها كما ورد في غير واحد من النصوص فما ظنّك بما عداها من سائر الواجبات كالصلاة والصيام ونحوهما . أقول : أما في المستقلات العقلية فشأن العقل ليس إلاّ إدراك حسن بعض الأفعال وقبح بعضها وحسن مدح فاعل الأول وذم تارك الثاني ، لا تكليف له ولا أمر ولا نهي مولوياًء له، فلا شأن له إلاّ درك الحسن والقبح الذي يترتب عليه الميل والرغبة إلى فعل الحسن وترك القبيح ، وهذا غير التكليف المولوي الصادر من الشارع المقدس الذي يستحق المكلف بامتثاله الثواب وبمخالفته العقاب .
ولعلّ هذا مرادهم من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، غير أن الوجوب الشرعي غير الوجوب العقلي لترتب الثواب على موافقة الأول والعقاب على مخالفته دون الثاني، والمبحوث عنه في مسألة تكليف الكفار بالفروع هذا الوجوب الشرعي، ولا فرق في ذلك بين الأحكام المختصة بالإسلام وغيرها .
وأما ما ذكر وروده من أن الناس يؤمرون بالإسلام ثم بالولاية فلم نجده فيما راجعنا إليه بالعجالة، ولو كان فليس معناه أن من لم يؤمن بالإسلام ليس مكلفاً بالإيمان بالولاية، بل معناه أن الدعوة إلى الولاية في طول الدعوة بالنبوة وأن الإيمان بالرسالة يكون قبل الإيمان بالولاية كما أن الإيمان بالالوهية يكون قبل الإيمان بالرسالة لأنه لا يعقل الإيمان بالنبوة بدون الإيمان بالالوهيته ، ولكن ليس معنى ذلك أن من لم يؤمن بالالوهية ليس مكلفاً بالنبوة ومن لم يؤمن بهما ليس مكلفاً بالولاية فالناس كلهم مكلفون بالإيمان بهذه الثلاثة، غير أن الإيمان بالالوهية واجب نفسي بنفسه وغيري لتوقف الإيمان بالنبوة والولاية عليه، وهكذا الإيمان بالنبوة نفسي وغيري لتوقف الإيمان بالولاية عليه . وبالجملة ليس معنى ذلك أن التكليف بالولاية لا يتعلق بالمكلف إلا بعد الإيمان والاعتقاد بالنبوة .
نعم، تحقق الإيمان بالولاية خارجاً موقوف على تحقق الإيمان بالرسالة كالظهر والعصر فإنّ ترتب العصر على الظهر لايمنع من التكليف بهما، ولا يمنع من التكليف بالعصر قبل الإتيان بالظهر .
وهنا رواية ربما تدلّ على ذلك، وهي ما رواه شيخنا الكليني ـ رحمه الله ـ في الصحيح: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم عن زرارة ، قال : « قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق ؟ فقال :إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمداً (صلى الله عليه وآله)إلى الناس أجمعين رسولا وحجةً لله على جميع خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)واتّبعه وصّدقه فإّن معرفة الإمام منا واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما ؟ قال : قلت : فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدق رسوله في جميع ما أنزل الله يجب على اُولئك حق معرفتكم ؟ قال (عليه السلام) : نعم، هؤلاء يعرفون فلاناً وفلاناً ؟ قلت : بلى ، قال : أترى أن الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء ؟ والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلا الشيطان ، لا والله ما ألهم المؤمنين حقنا إلاّ الله عز وجل ».( الكافي : 1 / 180 ، ح3 . )يمكن أن يقال بدلالته على عدم وجوب معرفة الإمام (عليه السلام) على من لم يؤمن بالله ورسوله ، فيكون سائر الأحكام مثله .
ولكن لأحد أن يقول : إنّ المستفاد من الحديث سؤالا وجواباً وصدراً وذيلا عدم وجوب معرفة الإمام (عليه السلام)بالانفراد واستقلاله عنهما ، أو عدم تحققه كذلك، فيكون معناه أن معرفة الإمام (عليه السلام) لوحظ فيها معرفة النبي (صلى الله عليه وآله) فكيف يمكن إيجاب معرفته بدون معرفة النبىّ (صلى الله عليه وآله)، وليس معناه أن معرفة الإمام (عليه السلام) الذي لا تتحقق إلاّ بمعرفة النبي (صلى الله عليه وآله)ومعرفة الله تعالى لا يمكن إيجابها قبل معرفتهما وعلى من لم يؤمن بهما.
قال العلاّمة المجلسي (قدس سره) : ( قوله (عليه السلام) : « فكيف تجب عليه معرفة الإمام » أي على الانفراد ، بل يجب عليه أن يؤمن بالله ورسوله أولا، ثم بالإمام، والغرض أن معرفتهما أوجب عليه، بل لا سبيل له إلى معرفته إلاّ بمعرفتهما، فلا ينافي أن يعاقب بتركها أيضاً إذا ترك الجميع ) .
والحاصل: أنه لا ظهور معتّد به للرواية على عدم كون الكفار مكلفين بمعرفة الإمام(عليه السلام)بالمعنى الذي ذكر ، فيسقط الاستدلال به على عدم كون الكفار مكلفين بالفروع .
مضافاً إلى ما يعارض هذا الاستدلال من الروايات، وسيما الآيات الدالة على المؤاخذة بالفروع وهي لا تصح من غير تكليف بهما .
- الجهة الثانية : على القول بكون الكفار مكلفين بالفروع لا ريب في سقوط التكليف عنهم في صورة موافقتهم للأحكام بترك المحرمات وفعل الواجبات التوصلية، لكن لا يوجب ذلك تقرّبهم إلى الله واستحقاقهم للثواب ، فإنهما مشروطان بالإسلام، ولمانعية الكفر من تقرب صاحبه إلى الله، فلا يؤثّر عملهم في تقربهم وإن أتوا به بقصد التقرب لقبحه الفاعلي .
وأما في العبادات فإتيانهم بها لا يوجب تقرّبهم; لعدم صحتها منهم لاشتراطها بالإسلام، فلا يسقط بالعصيان بها تكليفهم ، فهم معاقبون على تركها وإن أتَوا بها في حال الكفر; لأنها بدون الإيمان لا يؤتى بهاعلى وجه الصحيح ، بخلاف غير العبادات حيث إن الإتيان به مسقط للتكليف ومانع من استحقاق اللوم والعقاب .
- الجهة الثالثة : بعد ما ظهر عموم التكاليف الشرعية وشمولها للكفار أيضاً فهل جميعهم معاقبون على ترك امتثالها ولو كانوا في كفرهم معذورين لقصورهم وعدم التفاتهم أو لجهلهم المركب إذا لم يكن بتقصيرهم في مقدماته، أو أن المعاقب عليها يكون خصوص الكفار الجاحدين الذين ذمّهم الله تعالى بقوله جلّ شأنه : (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم )( النمل / 14 .)، ومن ترك الفحص وبقي في الجهل البسيط أو حصل له الجهل المركب بتقصيره في مقدماته وتعلمه ما ينتهي إلى الضلال والإلحاد ؟
الظاهر أن المستحق للعقاب هوالثاني; لتنجز التكليف عليه، ولعلّ أن يكون في حكم الأول من لم تستقر له العقيدة الإسلامية لقصوره .
إلاّ أنّ السيد الخوانساري نفى البعد عن القول بلزوم الأعمال عليه رجا قال : « أمّا الوجوب عليه فاّدعي عليه الإجماع، وأدلة الفروع تشمله ، وأما عدم الصحة فلكون الإسلام شرطاً في الصحة ، ويشكل الأمر بالنسبة إلى العاجز كمن لم يسلم لقصوره من دون تقصير منه، فمثل هذا كيف يكون مكلفاً بالعبادات مثل الصلاة والصوم والحج مع عدم تمكنه من الإتيان بها صحيحة؟ ومجرد الإقرار باللسان وإن كان مقدوراً لكّنه لايكفي في صحة العبادات; لاشتراط الإيمان الغير المتحقق هنا بدون الاعتقاد وإن قلنا بكفاية مجرد الإقرار باللسان في الإسلام، ولايبعد أن يقال بلزوم الأعمال عليه رجاءً وإن لم يترتب عليه ثواب ، نظير وجوب الخمس على الذمّي إذا اشترى أرضاً من مسلم ) .
الجهة الرابعة : إذا مات الكافر في حال الاستطاعة أو بعد انقضائها فهل يجب القضاء عنه تبرعاً أو من ماله ؟ قال السيد ـ رحمة الله تعالى عليه ـ في العروة:( لو مات لايقضى عنه; لعدم كونه أهلا للإكرام والإبراء ) .
قال بعض الأعاظم : ( لومات كافراً لايقضى عنه ولايخرج من تركته; لعدم وجوب الحج عليه مباشرةً لأن الإسلام شرط في الصحة، ولانيابة; لعدم الدليل على ذلك ) .
أقول : أما كون الإسلام شرطاً في الصحة لايلزم منه عدم وجوب الحج عليه مباشرةً كالطهارة المشروط عليها صحة الصلاة، فيجب تحصيل الإسلام كما يجب تحصيل الطهارة . فلاينافي ذلك وجوب الحج عليه مباشرة ونيابة . ولو قال : لعدم كونه مكلفاً بالحج كان أبعد من الإشكال على ما اختاره من عدم كون الكفار مكلفين بالفروع.
وأما عدم كونه أهلاً للإكرام والإبراء فيمكن أن يوجه الاستدلال به إذا كان متبرعاً به، لقوله تعالى : ( لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله و رسوله ولو كانوا آباءهم )( المجادلة / 22 .)، وهذا من أظهر آثار الموادة ، وأما القضاء عنه من ماله فيمكن أن يقال : إنه من قبيل أداء ما عليه من الديون المالية المتعلقة بمال المديون ، وإلاّ يلزم، كما أفاده السيد الخوانساري (قدس سره) من عدم صحة التخميس عنه .
اللهمّ إلاّ أن يقال في خصوص المشركين بدلالة الآية الكريمة : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) ، ( التوبة : 113 .)، فإذا لم يكن لهم أن يستغفروا لهم كيف يجوز النيابة عنهم أو الاستنابة لهم للحج ؟
وأما في غير المشركين فلعدم إثبات مشروعية القضاء عن غير المسلم، وما يدل على مشروعيته يختص بالمؤمن المتوقع منه الحج، إلاّ أن ذلك لاينفي جوازه برجاء إبراء ذمته وتخفيف عذابه .
نعم ، ورد في الناصب عدم جواز النيابة عنه إلاّ إذا كان أباً للنائب، والفرق بين التخميس والحج: أن الخمس يؤخذ من الكتابي ويجبر على أدائه، وأما الحج فلايجبر عليه ويترك بحاله .
الجهة الخامسة : الظاهر أنه لاريب في أن الكافر إذا استطاع ولم يسلم حتى زالت استطاعته ثم أسلم لايجب عليه الحج متسكعاً ، كما أنه لاريب في أن الكافر الذي لم يسلم وفات منه الصلاة والصيام في الوقت ثم أسلم بعده لايجب عليه القضاء.
إلاّ أنّ الكلام في أن عدم وجوب الحج عليه وعدم وجوب قضاء الصلاة والصوم هل يكون لعدم تكليفه بالحج بعد زوال الاستطاعة وعدم تكليفه بقضاء الصلاة والصوم بعد الوقت ، فلايكون معاقباً بترك الحج والصلاة لو لم يتنجز عليه التكليف في الوقت وفي حال الاستطاعة إن مات كافراً ، أو أن الكفار مكلفون بذلك كله كسائر الفروع وإن لم يتنجز عليهم التكليف في حال الاستطاعة وفي الوقت، غير أن بالإسلام يسقط عنهم وجوبها بقاعدة الجبّ المسلّمة، سواء كان دليلها الخبر العامي المشهور الذي قيل بأنه المنجبر بعمل الأصحاب، أو السيرة المستمرة عليها من عصر النبي (صلى الله عليه وآله)وبعده إلى هذا الزمان ؟
ظاهر القائلين بقاعدة اشتراك الكفار مع غيرهم في التكليف بالفروع أنهم مكلفون بالحج وقضاء الصوم والصلاة، ويجب عنهم ذلك بالإسلام، فإن ماتوا على الكفر فهم معاقبون على ترك الحج والصلاة وإن لم يتنجزا عليه في حال الاستطاعة وفي الوقت .
إلاّ أنّه قد اُورد عليهم: بأنّه لايعقل وجوب القضاء والحج على الكافر مع البناء على سقوطه بالإسلام، فإن الإتيان بهما صحيحاً وامتثال التكليف بهما مشروط بالإسلام وبه يسقط عنهم التكليف .
وبعبارة اّخرى : لايتمكن من الامتثال إلاّ بالإسلام، وبه يسقط موضوع الامتثال ، لأنه إذا أسلم يسقط به الوجوب .
وبعبارة ثالثة : في حال الكفر لايصح منه، وإن أسلم يسقط عنه التكليف ، ولذا حكي عن صاحب المدارك (قدس سره): أنه اختار عدم تكليفهم بالقضاء حال الكفر وإن كانوا مكلفين بغيره من التكاليف .
وقد تُفُصِّيَ عن هذا الإشكال: بأن تكليف الكافر بالحج بعد زوال الاستطاعة يمكن تصوره بنحو الوجوب المعلق، بأن نقول بوجوب الحج عليه في حال الاستطاعة مستطيعاً، وإن تركه فمتسكّعاً فهو في حال الاستطاعة مأمور به في هذا الحال وفي ما بعده إن تركه ، فإن هو ترك الإسلام في حال الاستطاعة فوَّت على نفسه بتركه الإسلام الحج في الحالتين حال الاستطاعة وحال عدمها . وهكذا يقال بالنسبة إلى الصلاة في الوقت فإنه مأمور بالصلاة فيه أداءً، وإن تركه فبقضائها بعده ، فهو مكلف بقضاء الصلاة إن ترك أداءه في الوقت ، وحيث إنّ القضاء بعد الوقت مقدور له بإسلامه في الوقت لامانع من إيجابه عليه في الوقت .
واُورد على هذا الجواب: بأنّ الوجوب المعلق وإن كان ممكناً في نفسه لكنّ ثبوته يحتاج إلى دليل، ولادليل في المقام، بل الدليل على عدمه ، لأنّ القضاء موضوعه الفوت وما لم يتحقق الفوت لم يؤمر بالقضاء . وفيه : أنّ هذا يتمّ في قضاء الصلاة والصوم الذي يحتاج الأمر بهما إلى تحقق موضوعه وهوالفوت ، أما في الحج فهو أداء سواء وقع في حال الاستطاعة أو بعدها، وعليه فالكافر كالمسلم مأمور بالحج في حال الاستطاعة وبعدها ،غير أنه يجب عليه الإسلام ليتمكن من الإتيان به، فهو مأمور بالحج بعد الاستطاعة كما كان مأموراً به في حال الاستطاعة، غير أنه إذا لم يسلم في حال الاستطاعة وإن لم يتمكن من الحج بعدها إن أسلم فلايصح عقابه بتركه الحج في هذا الحال إن مات كافراً ، إلاّ أنه يصح عقوبته بتركه الحج في حال الاستطاعة .
نعم ، إن لم يتنجز عليه الحج في حال الاستطاعة لايتنجز عليه بعدها، ولايصح عقوبته وإن مات كافراً.
والذي ينبغي أن يقال : إنّ الوجوب المعلق وإن كان ممكناً في نفسه إلاّ أنّه إذا كان مشروطاً بترك الصلاة وفوتها في الوقت أو ترك الحج في حال الاستطاعة كيف يمكن تصوير الوجوب المعلق ـ بالنسبة إلى القضاء ـ في الوقت والحج في حال الاستطاعة فيمكن وجوب الصلاة بعدالوقت في الوقت بأن يكون الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً ، كما يمكن وجوب الصلاة بشرط مضي الوقت بأن يكون كليهما استقبالياً .
وبعبارة اُخرى : ترك الصلاة في الوقت وترك الحج في حال الاستطاعة لايمكن أن يكون من شرايط الواجب ، فلابد أن يكون من شرايط الوجوب . ومع ذلك لايمكن تصوير الوجوب المعلق في الوقت قبل تحقق الترك فيه وفي حال الاستطاعة قبل تحقق الترك فيها.
ثمّ إنّه قد أجاب الشيخ المؤسِّس المحقّق الحائري (قدس سره) في كتاب الصلاة ـ الذي سمعت من سيدنا الاُستاذ الأعظم رضوان الله عليه ( إنّه قلَّ فيما رأيت مثله قليل اللفظ وكثير المعنى ) ـ : بأن الكافر مكلف بإتيان الصلاة أداءً إن دخل الوقت، وبإتيانها خارج الوقت قضاءً إن تركها في الوقت، والتكليف الأول بدخول الوقت يصير مطلقاً، والثاني المشروط بتركها في الوقت يصير مطلقاً بتركها، إلاّ أنه غير متمكن منه لتركه الإسلام في الوقت ، وحيث إنّ تركه مستند إلى ترك غير ما علق عليه الطلب لاعدم ما هو شرطه يصح المؤاخذة على تركه .
لايقال : إنه على هذا يصح المؤاخذة على تركه ولو أسلم خارج الوقت .
فإنه يقال : إنه مكلف بالصلاة في الوقت، وبقضائها إن تركها في الوقت وترك الإسلام في خارج الوقت، إلاّ أنّ تركها في خارج الوقت مستند إلى تركه الإسلام في الوقت ، فهو إن مات تاركاً للإسلام يعاقب بتركه قضاء الصلاة في خارج الوقت الذي هو مستند إلى تركه الإسلام في الوقت .
وأما إسلامه إن كان يتحقق في خارج الوقت فهو بدل عن الصلاة في الوقت الذي ترتب على تركها وجوب القضاء خارج الوقت ، فلايجوز أن يكون مؤاخذاً بترك القضاء وهو أسلم بعد الوقت وآتياً بما هو بدل عن الصلاة في الوقت التي كان تركها شرطاً لوجوب القضاء خارج الوقت، فتدبّر جيّداً.
هذا بالنسبة إلى قضاء الصلاة ، أما بالنسبة إلى الحج ـ الذي هو مأمور به بعد الاستطاعة بالأمر الأول وأداءً له لا قضاءً ـ يبقى الإشكال على حاله;لأنه لايعقل تكليفه بالحج الذي شرط صحته الإسلام الذي إن تحقق يسقط التكليف به .
نعم ، إن كان مأموراً بالحج في حال الاستطاعة وبه مشروطاً بتركه في حال الاستطاعة يأتي ما ذكر في دفع الإشكال ، لأن تركه الحج بعد الاستطاعة يكون مستنداً إلى بترك الإسلام في حال الاستطاعة، فيصح مؤاخذته عليه ، لأن تركه مستند إلى غير ما هو شرط للتكليف وهوالترك في حال الاستطاعة ، بل مستند إلى تركه الإسلام في حال الاستطاعة .