كَتبَ سماحة آية الله الجوادي الآملي مقالاً يحمل عنوان "مستقبل العالم من وجهة نظر الاسلام" رفع من خلاله الضبابية التي تسود عقول وافكار البعض فيما يخص مستقبل العالم وذلك من خلال الاعتماد على الكتاب المقدس والسنة الشريفة وفيما يلي نص المقال:
المقدمة:
إن تبيين وجهة نظر الاسلام تجاه مستقبل العالم تتطلب منا الوقوف عند بعض القواعد الكلية الخاصة بمعرفة العالم في المدرسة الاسلامية؛ لكي تتضح لنا شفافية رؤية الدين من الحكم العالمي السائد، ورد الافكار غير الناضجة التي تنطوي عليها رؤية الاستكبار العالمي تجاه فكرة نهاية العالم .
اما الاصول والقواعد التي اكد عليها المكتب الاسلامي والتي لها دور كبير في معرفة مستقبل العالم يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
الاولى: ان هناك اهدافا شريفة وغاية ربانية نبيلة من وراء خلق العالم، ولا وجود للعبث والبطلان في عمل الخالق كما ورد في قوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلَاً ...﴾ [سورة ص، الآية 27].
ولاشك ان الهدف المرجو من كل شي هو الوصول الى كمال ذلك الشيء، والكمال الوجودي لعالم الخلقة، هو بلوغ الدرجات العالية في هذا الكون والابتعاد من النقص والعيب للوصول الى الكمال النهائي وشاطئ السلامة.
الثانية: عدم الانسجام بين الظلم وعالم الخلقة لوجود التضاد والتنافر بين الاثنين.
ان الظلم كالسَم القاتل لا يتناسب بتاتاً مع الجهاز الهضمي لنظام الخلقة، وان شياع الظلم في المجتمع يؤدي الى ضياع النظام الحاكم، وبما انه لا يتناسب مع النظام الداخلي السائد في عالم الخلقة، فلا شك انه يتعارض مع الاهداف السامية المرجوة لهذا العالم، ولذا يشكل بنفسه مانعا كبيرا في تحقق اهدافه كما ورد في قوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ...﴾ [سورة الروم، الآية 41]، ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ...﴾ [سورة المؤمنون، الآية 71].
الثالثة: الانسان كائن مفكر وحر، ولم يخلق عبثا، او لاشباع غرائزه وشهوته، بل هناك اهداف واغراض شريفة من وراء ظهوره الى الوجود؛ لان لا وجود للعبث او الجزاف في ساحة حريم البارئ تعالى كما ورد في قوله تعالى ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ [سورة القيامة، الآية 36]، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾.[ سورة المؤمنون، الآية 115].
الرابعة: الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين، بمثابة النار المشتعلة التي لا تتناسب والكمال الانساني السامي، وهتين المفردتين – الظلم والتعدي على حقوق الاخرين- هما اللتان يعملان بشكل جدّي على جهل الانسان بمعرفة الهدف النبيل لعالم الخلقة، هذا الهدف الذي لا يتيسر للانسان دون الابتعاد عن الظلم الفردي والاجتماعي، المتمثل بالاستبداد، والاستثمار، والاستعمار؛ وهذا الثلاثي المشؤوم يستعبد الناس ويرغمهم على العبودية الفردية.
الخامسة: حياة الانسان عبارة عن حياة اجتماعية، سواء كان المجتمع يرى بأن الوجود الفردي يختلف عن الوجود الاجتماعي كما يذهب اليه البعض، او ان المجتمع هو بمثابة تعدد الحيثيات الفردية كما يذهب اليه البعض الآخر؛ وعليه يجب البحث عن صلاح الفرد في الحياة الاجتماعية للمجتمع، ونحن لا ننكر وجود اشخاص يعيشون بمنتهى الصفاء والاخلاص في مجتمعات ملوثة، كما اننا لا ننكر وجود افراد يعملون ابشع الرذائل والجرائم بحق انفسهم والاخرين في المجتمعات التي يسودها النظام الديني؛ لان القانون الكلي لا يعتمد على هذه النوادر وانمّا النظرة الكلية للعالم هي المهمة في طرح القانون الجامع والكلي.
السادسة: ان تأمين الحياة الاجتماعية السليمة رهن بوجود نظام حاكم.
لا شك ان سيادة الحياة الاجتماعية في مجتمع ما بحاجة الى وجود نظام حكومي عادل؛ لان في حال عدم وجود قانون ودستور واحد، وقائد واحد، وعدم خضوع افراد هذا المجتمع للقانون والقائد، يؤدي اما الى استحالة استمرار الحياة الاجتماعية، او استمرار الحياة لكن دون تحقق الهدف والغاية المطلوبة .
وكما ان تعدد القانون والدستور في المجتمع، يؤدي في النهاية الى عدم استقرار النظام الحكومي، كما أن تعدد وكثرة القيادات في المجتمع الواحد- وان كانت الاوامر تصدر من شورى مركزية لهذه القيادات- سوف تمنع من تحقيق نظام اجتماعي مقتدر ومطلوب.
السابعة: حاجة المجتمع الى قانون وقائد نزيه.
ان تدوين القانون من قبل شخص معين او مجموعة معينة، سوف لا يضمن حقوق ومصالح جميع اطياف المجتمع؛ وذلك لان كل فرد او مجموعة، اما يعملان لجر النفع لانفسهم، او التخبط في معرفة ما ينفع الاخرين وما هو مضر لهم ، كما ان القائد الذي يحظى بشعبية كبيرة في مجتمعه، دون التأييد او التسديد الالهي، سوف لن يضمن مصالح جميع فئات مجتمعه؛ بل نجده يتأثر بالتجاذبات الحزبية والفئوية السياسية منها او الاجتماعية، وينحاز الى طبقة دون اخرى او يقدم مصلحة حزبه على مصالح الآخرين، لذلك سوف لن تحلّ هذه المعضلة في المجتمع دون تأمين الركنين الاصليين في المجتمع وهما الركن السياسي والاجتماعي، والاول يتمثل في القانون والحرية، والثاني في وجود قائد نزيه وحر.
الدستور الذي يكتب بأيدي حرة سوف تجده خاليا من الخطأ والتمييز الذي لا محل له، وكانّه الدستور الالهي، وفي المقابل القائد الحر هو الانسان النزيه المتحرر من قيود التحزب والفئوية، وقد تعدى حدود الحاق الضرر بالاخرين.
الثامنة: ان عالم الخلقة لم يشهد الى الان نظاما حكوميا مثاليا؛ والمجتمعات البشرية لم تحظ بمجتمع مثالي ونزيه؛ يعني لم تتحقق الاهداف السامية لعالم الخلقة الى الان، صحيح ان هناك ايدي خيرة وطيبة عملت على تحقيق الاهداف المرجوة لنظام التكوين والخلقة، وفي هذا المجال نجدها قدمت قرابين في تحقيق هذه الاهداف السامية، لكن لم يحصل الهدف النهائي وهو سيادة العدل والقسط في انحاء العالم، طبعاً العمل الذي بادرت اليه تلك الايدي الخيرة يعتبر أرضية مناسبة لتحقق الاهداف النهائية، وسوف يشكر سعيهم وجهدهم على امتثال الأوامر الملقاة على عاتقهم.
التاسعة: وبحسب الاصول التي ذكرت اعلاه ان الاسلام يبشر بحكومة عادلة تمتد حدودها الى اقصى العالم لتشمل جميع العالم، يقودها اُناس عظماء متحررين من رذائل الدنيا ومغرياتها، لانهاء ظلم المستكبرين، وتطهير العالم من الطغاة؛ واحقاق الحق ونجاة الفقراء من الواقع المرير الذي هم عليه كما ذكر تعالى في قوله: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ﴾ [سورة القصص، الآية 5]، وقوله تعالى: ﴿... أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [ سوره الانبياء، الآية 105].
العاشرة: ان برنامج حكومة الثلة الصالحة، انّما هو تطهير الارض من دنس الظلم، ونجاتها من اي نوع من أنواع التعدّي والطغيان، واصلاحها لاستقبال القسط والعدل على احضانها؛ وبما ان اهم عامل في النجاة من سلطة الشيطان وهوى النفس هو بث روح العبودية لله تعالى في الفرد والمجتمع ، فقد رسم الدين الاسلامي واجب المصلحين وورثة الارض في هذه المفردات التي اشارت اليها الاية المباركة في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾] سورة الحج، الآية 41 ].
وعليه يمكن تلخيص ما مر علينا من اصول التي أماطت اللثام عن وجه الرؤية الالهية لمستقبل العالم في التالي:
أهمية التفاؤل بالمستقبل، ومواجهة الظلم ، وتهيئة الارضية المناسبة للسلام العالمي، والاعتقاد بالاهداف التي تسمو اليها البشرية، والتحرر من اليأس والقنوط، والوقوف ضد انتشار الاسلحة النووية والحروب التكنولوجية الهدامة لمبادئ البشرية، وانتظار ظهور المصلح العالمي الحر، وعدم البخل بما نملك من الغالي والنفيس في عصر الغيبة لتوفير ارضية الظهور، والجهاد في سبيل استقرار وترسيخ دعائم حكومة هذا الانسان الكامل وخليفة الله على ارضه، وتبديل الآلام وآهات الفقراء والمساكين الى حلاوة وسعادة بعد الاقتصاص من الاغنياء الذين يكنزون الاموال، وتحقق رغبة خالق العالم والكائنات في سيادة العدل والقسط بين البشرية.
على أمل ذلك اليوم السعيد، اليوم الذي يظفر الحق والعدل بالظلم والطغيان، عندما ترفرف راية القسط فوق القصور والاكواخ على جميع انحاء المعمورة!
والحمد للّه رب العالمين
الجوادي الآملي