لما قدم الامام الرضا (عليه السلام) إلى مرو أكرمه المأمون ورحب به وبالجماعة من آل أبي طالب، قال الشيخ المفيد: فقدم بهم على المأمون فأنزلهم دارا، وأنزل الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) دارا، وأكرمه وعظم أمره، ثم أنفذ إليه: إني أريد أن أخلع نفسي من الخلافة، وأقلدك إياها، فما رأيك في ذلك؟ فأنكر الرضا (عليه السلام) هذا الأمر، وقال له: أعيذك بالله - يا أمير المؤمنين - من هذا الكلام، وأن يسمع به أحد. فرد عليه الرسالة: فإذا أبيت ما عرضت عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي، فأبى عليه الرضا إباء شديدا، فاستدعاه إليه وخلا به، ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، ليس في المجلس غيرهم، وقال له: إني قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك. فقال له الرضا (عليه السلام): الله الله - يا أمير المؤمنين - إنه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه.(1)
قال له: فإني موليك العهد من بعدي، فقال له: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون كلاما فيه كالتهدد له على الامتناع عليه، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، وشرط فيمن خالف منهم أن تضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما أريده منك، فإنني لا أجد محيصا عنه، وفي رواية: وإنما جلبناك من المدينة ليس بأمرك، ولا رغبتك. فقال له الرضا (عليه السلام): فإني أجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد، على أنني لا آمر ولا أنهى، ولا أفتي ولا أقضي، ولا أولي ولا أعزل، ولا أغير شيئا مما هو قائم، فأجابه المأمون إلى ذلك كله. وقال: أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد، قال: حدثنا جدي، قال: حدثني موسى بن سلمة، قال: كنت بخراسان مع محمد بن جعفر، فسمعت أن ذا الرئاستين خرج ذات يوم وهو يقول: وا عجباه، وقد رأيت عجبا، سلوني ما رأيت؟ فقالوا: وما رأيت أصلحك الله؟ قال: رأيت المأمون أمير المؤمنين يقول لعلي بن موسى الرضا: قد رأيت أن أقلدك أمور المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي، وأجعله في رقبتك. ورأيت علي بن موسى يقول: يا أمير المؤمنين، لا طاقة لي بذلك ولا قوة. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها، إن أمير المؤمنين يتفصى (أي: يتنصل.) منها ويعرضها على علي بن موسى، وعلي بن موسى يرفضها ويأبى (2).
المأمون يقترح ولاية العهد، والإمام (عليه السلام) يقبل بشروط:
1- روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن أبي الصلت الهروي، قال: إن المأمون قال للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك 49: وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني. فقال الرضا (عليه السلام): بالعبودية لله عز وجل أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عز وجل. فقال له المأمون: إني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك. فقال له الإمام الرضا (عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك والله جعلها لك، فلا يجوز أن تخلع لباسا ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك. فقال له المأمون: يا بن رسول الله، لا بد لك من قبول هذا الأمر. فقال: لست أفعل ذلك طائعا أبدا. فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة، ولم تحب مبايعتي لك، فكن ولي عهدي، لتكون لك الخلافة بعدي. فقال الرضا (عليه السلام): والله لقد حدثني أبي، عن آبائه (عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولا بالسم مظلوما، تبكي علي ملائكة السماء وملائكة الأرض، وادفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد.
فبكى المأمون، ثم قال له: يا بن رسول الله، ومن الذي يقتلك، أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟ فقال الرضا (عليه السلام): أما إني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت. فقال المأمون: يا بن رسول الله، إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا. فقال الرضا (عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد. فقال المأمون: وما أريد. قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى (عليهما السلام) لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة؟ فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبدا بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك. فإن فعلت وإلا ضربت عنقك. فقال الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أني لا أولي أحدا، ولا أعزل أحدا، ولا أنقض رسما، ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيرا (3).
فرضي منه بذلك، وجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السلام) لذلك.
2 - وروى الصدوق في (العيون) بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر- في حديث - قال: إن الرضا (عليه السلام) لما ورد مرو، عرض عليه المأمون أن يتقلد الإمرة والخلافة، فأبى الرضا (عليه السلام) ذلك، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة، وبقوا في ذلك نحوا من شهرين، كل ذلك يأبى عليه أبو الحسن علي بن موسى (عليه السلام) أن يقبل ما يعرض عليه. فلما أكثر الكلام والخطاب في هذا، قال المأمون: فولاية العهد؟ فأجابه إلى ذلك، وقال له: على شروط أسألكها. فقال المأمون: سل ما شئت. قالوا: فكتب الرضا (عليه السلام): إني داخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أقضي، ولا أغير شيئا مما هو قائم، وتعفيني من ذلك كله. فأجابه المأمون إلى ذلك، وقبلها على كل هذه الشروط، ودعا المأمون الولاة والقضاة والقواد والشاكرية وولد العباس إلى ذلك، فاضطربوا عليه، فأخرج أموالا كثيرة، وأعطى القواد وأرضاهم (4).
كان المأمون يحاول في العديد من المناسبات إقحام الإمام (عليه السلام) في بعض المواقف، لكي يجعل الإمام (عليه السلام) مشاركا له في الحكم، لكن الإمام (عليه السلام) بقي ملتزما بموقفه، واقفا عند حدود ما شرط على نفسه وعلى المأمون، مذكرا المأمون بهذه الشروط، ومن هذه المواقف:
روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن محمد بن عرفة وصالح بن سعيد، قالا: لما حضر العيد بعث المأمون إلى الرضا (عليه السلام) يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضا (عليه السلام) وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي هذا الأمر. فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به، فلم يزل يراده الكلام في ذلك، فلما ألح عليه، قال: يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكما خرج أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام). فقال المأمون: اخرج كما تحب. الحديث. وسيأتي مفصلا في هذا الفصل (5).
وفي رواية أخرى عن (عيون الأخبار) عن معمر بن خلاد: أن المأمون قال لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): يا أبا الحسن، انظر بعض من تثق به توليه هذه البلدان التي قد فسدت علينا. فقال له الإمام الرضا (عليه السلام) كما جاء في الرواية: تفي لي وأفي لك، إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أعزل ولا أولي، ولا أسير حتى يقدمني الله قبلك، فوالله إن الخلافة شيء ما حدثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي، وإن أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون لي كالأعمام، وإن كتبي نافذة في الأمصار، وما زدتني في نعمة هي علي من ربي. فقال: أفي لك (6). وفي (الكافي) بالإسناد عن معمر بن خلاد، قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): قال لي المأمون: يا أبا الحسن، لو كتبت إلى بعض من يطيعك في هذه النواحي التي قد فسدت علينا. قال: قلت له: يا أمير المؤمنين، إن وفيت لي وفيت لك، إنما دخلت في هذا الأمر الذي دخلت فيه على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أولي ولا أعزل، وما زادني هذا الأمر الذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئا، ولقد كنت بالمدينة، وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنت أركب حماري وأمر في سكك المدينة وما بها أعز مني، وما كان بها أحد منهم يسألني حاجة يمكنني قضاؤها له إلا قضيتها له. قال: فقال لي: أفي لك (7).
الإمام (عليه السلام) يوافق مكرها:
روي عن عتاب بن أسيد، قال: ثم ملك المأمون عشرين سنة وثلاثة وعشرين يوما، فأخذ البيعة في ملكه لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) بعهد المسلمين من غير رضاه، وذلك بعد أن تهدده بالقتل، وألح عليه مرة بعد أخرى، في كلها يأبى عليه، حتى أشرف من يأسه على الهلاك. وقال (عليه السلام): اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده، وقد أكرهت واضطررت، كما اضطر يوسف ودانيال (عليهما السلام) إذ قبل كل واحد منهما الولاية لطاغية زمانه، اللهم لا عهد لي إلا عهدك، ولا ولاية لي إلا من قبلك، فوفقني لإقامة دينك، وإحياء سنة نبيك، فإنك أنت المولى والنصير، نعم المولى أنت، ونعم النصير. ثم قبل ولاية العهد من المأمون وهو مكروب حزين، على أن لا يولي أحدا ولا يعزل أحدا، ولا يغير سنة ولا رسما، وأن يكون في الأمر مشيرا من بعيد، فأخذ له المأمون البيعة على الخاص والعام. وكان إذا ظهر للمأمون من الرضا (عليه السلام) فضل وعلم وحسن تدبير، حسده 54: على ذلك، وحقده عليه، حتى ضاق صدره منه، فغدر به، فقتله بالسم، ومضى إلى رضوان الله وكرامته (8).
وعن ياسر الخادم، قال: لما ولي الرضا (عليه السلام) العهد، سمعته وقد رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إنك تعلم أني مكره مضطر، فلا تؤاخذني كما لم تؤاخذ عبدك ونبيك يوسف حين دفع إلى ولاية مصر (9).
وعن الهروي، قال: والله ما دخل الرضا (عليه السلام) في هذا الأمر طائعا، وقد حمل إلى الكوفة مكرها، ثم أشخص منها على طريق البصرة وفارس إلى مرو (10).
تساؤلات:وإجابات الإمام (عليه السلام) على تساؤلات أصحابه وغيرهم، توحي جميعا بعدم اقتناع الإمام (عليه السلام) بجدية موقف المأمون، وعدم الموافقة المبدئية من قبله (عليه السلام)، وتعبر عن الواقع السياسي الذي فرض عليه ولاية العهد، وفيما يلي بعض هذه الإجابات:
وعن الريان قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له: يا بن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا. فقال (عليه السلام): قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف (عليه السلام) كان نبيا رسولا، فلما دفعته الضرورة إلى تولي [خزائن العزيز] قال له: *(اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)*(11)، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان (12).
وعن الحسن بن موسى، قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنه قال له رجل: أصلحك الله، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر عليه، فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يا هذا، أيهما أفضل، النبي أو الوصي؟ فقال: لا، بل النبي. قال: فأيهما أفضل، مسلم أو مشرك؟ قال: لا، بل مسلم. قال: فإن العزيز - عزيز مصر - كان مشركا، وكان يوسف (عليه السلام) نبيا، وإن المأمون مسلم وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يوليه حين قال: *(اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)*(13) وأنا أجبرت على ذلك (14).
وعن محمد بن عرفة، قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فقال (عليه السلام): ما حمل جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) على الدخول في الشورى (15).
وعن محمد بن زيد الرزامي، قال: كنت في خدمة الرضا (عليه السلام) لما جعله المأمون ولي عهده، فأتاه رجل من الخوارج... فقال: أخبرني عن دخولك لهذا الطاغية فيما دخلت له، وهم عندك كفار، وأنت ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما حملك على هذا؟! فقال أبو الحسن (عليه السلام): أرأيتك هؤلاء أكفر عندك، أم عزيز مصر وأهل مملكته؟ أليس هؤلاء على حال يزعمون أنهم موحدون، وأولئك لم يوحدوا الله، ولم يعرفوه؟! ويوسف بن يعقوب نبي ابن نبي، قال للعزيز وهو كافر: *(اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) ، وكان يجالس الفراعنة، وأنا رجل من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجبرني على هذا الأمر، وأكرهني عليه، فما الذي أنكرت ونقمت علي؟ فقال: لا عتب عليك، إني أشهد أنك ابن نبي الله، وأنك صادق (16).
لماذا السلبية؟
يواجه الباحث في ظروف وملابسات تلك الفترة العصيبة من حياة الإمام (عليه السلام) عدة تساؤلات، أهمها: لماذا هذه السلبية من الإمام (عليه السلام)؟ ولماذا يكره الإمام (عليه السلام) على قبول ولاية العهد، ولا يكره على قبول الخلافة؟ ولماذا قبل الإمام ولاية العهد بشرط عدم التدخل في شؤون الدولة؟ وباختصار يمكن القول: إن الإمام (عليه السلام) قد رفض التعاون مع المأمون في إنفاذ مهام الدولة وقيادة جهازها، أي رفض الخلافة دون أي قيد أو شرط، وقبل ولاية العهد بالإكراه وبشروط وضعها، كما بيناه آنفا، وذلك لأن نظرته (عليه السلام) للحكم ليست إيجابية، ولأنه كان يعتبره حكما غير شرعي ولا منصوص عليه من قبل صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله). ولهذا السبب سمعنا الإنكار عليه من أصحابه وغيرهم في قبول ولاية العهد الذي يعتبر اعترافا ضمنيا بشرعية الخلافة القائمة، وكان تبرير الإمام (عليه السلام) أنه مكره، وأن دخوله في هذا الأمر لن يغير من موقفه إزاء الحكم شيئا، وإنما دخل دخول خارج منه كما دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشورى. ولو أراد الإمام (عليه السلام) أن يشارك المأمون في إنفاذ مهام الدولة، والقيام في تحمل أعباء مسؤولية الحكم، لكان ذلك بمثابة اعتراف بشرعية تركيبة الحكم، وإقرار بالتصرفات الصادرة عن أجهزته، ولكنه آثر دور المشير من البعيد، ليحفظ المصلحة الإسلامية التي يجب عليه رعايتها في التوجيه والإرشاد، فبالقدر الذي كان المأمون ذكيا وبارعا في فرض ولاية العهد على الإمام (عليه السلام) لتحقيق مصالح وأهداف سياسية تعود بالنفع لسلطته وللخلافة العباسية، كان الإمام (عليه السلام) واعيا لموقفه، وبصيرا بالعواقب التي تترتب على مشاركته العملية في الحكم، لهذا ابتعد وبشدة عن مواطن المسؤولية. ولم يكره المأمون الإمام (عليه السلام) على قبول الخلافة كما أكرهه على قبول ولاية العهد، لأنه لم يكن جديا في عرضه الخلافة، بل كان يهدف إلى انتزاع صبغة الشرعية من وجود الإمام المقدس، فبمجرد عرضه الخلافة على الإمام (عليه السلام) فإنه سيحرز انتصارا للخلافة العباسية سواء رفض الإمام أو لم يرفض - وذلك وفقا لاعتقاد المأمون - فإن قبل الإمام (عليه السلام) الخلافة، فسيكون المأمون وليا للعهد، وبذلك يضمن شرعية خلافته بعد مضي الإمام (عليه السلام) عند جميع الأطراف المتنازعة، وحينما يصبح وليا للعهد يسهل عليه في حينه القضاء على الإمام ليستلم من بعده مركز الخلافة دون أن يشعر به أحد، ويكون بذلك قد أرضى طموح العلويين وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) في خراسان وما والاها وأقنعهم بشرعية خلافته. وفي حال عدم موافقة الإمام (عليه السلام) فإن ذلك سيعرض الإمام (عليه السلام) للنقد الواسع من قبل عامة شيعته وأتباعه - كما يتصور المأمون - باعتبار أن الخلافة حق شرعي له (عليه السلام) وعليه أن يقبل ذلك، وهذا ما لم يتحقق، لأن قاعدة الإمام (عليه السلام) وأصحابه كانوا على دراية بموقف السلطة ونواياها، وكانوا يدركون حراجة موقف الإمام (عليه السلام) وإكراهه للدخول في هذا الأمر. ولو رفض الإمام أيضا فإن المأمون سيكون معذورا عند كافة الفرقاء، لأنه سلم الأمر لأهله فردوه عليه، وبذلك يكون قد قطع ألسنة المعارضين من الجهة الشيعية المعارضة. وهذه فذلكة سياسية صدرت من داهية بني العباس (المأمون)، للسيطرة على العرش العباسي بيده الحديدية وإحراز بقائه عليها، والهيمنة على جميع الأطراف المتنازعة حينذاك بما فيهم العباسيين والثوار العلويين. وسنأتي على بيان الأسباب في ولاية العهد والدوافع السياسية في ثنايا هذا البحث بإذن الله تعالى.
مقدمات ولاية العهد ومراسمه:
1 - عن إبراهيم بن العباس، قال: كانت البيعة للرضا (عليه السلام) لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين (17)، وقيل في التأريخ غير ذلك على ما سيأتي.
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): وذكر جماعة من أصحاب الأخبار ورواة السير والآثار وأيام الخلفاء: أن المأمون لما أراد العقد للرضا علي بن موسى (عليه السلام) وحدث نفسه بذلك، أحضر الفضل بن سهل، فأعلمه ما قد عزم عليه من ذلك، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه، ويعرفه ما في إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له المأمون: إني عاهدت الله أنني إن ظفرت بالمخلوع (المراد أخوه محمد بن هارون الأمين).
أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل على وجه الأرض. فلما رأى الحسن والفضل عزيمته على ذلك، أمسكا عن معارضته فيه، فأرسلهما إلى الرضا (عليه السلام) فعرضا ذلك عليه، فامتنع منه، فلم يزالا به حتى أجاب، ورجعا إلى المأمون، فعرفاه إجابته، فسر بذلك، وجلس للخاصة في يوم خميس، وخرج الفضل بن سهل، فأعلم الناس برأي المأمون في علي بن موسى، وأنه قد ولاه عهده وسماه الرضا ، وأمرهم بلبس الخضرة والعود لبيعته في الخميس الآخر، على أن يأخذوا رزق سنة (18).
فلما كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القواد والحجاب والقضاة وغيرهم في الخضرة، وجلس المأمون، ووضع للرضا وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه، وأجلس الرضا (عليه السلام) عليهما في الخضرة، وعليه عمامة وسيف، ثم أمر ابنه العباس بن المأمون يبايع له أول الناس، فرفع الرضا (عليه السلام) يده فتلقى بها وجه نفسه وببطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة. فقال الرضا (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هكذا كان يبايع، فبايعه الناس ويده فوق أيديهم، ووضعت البدر (البدر: جمع بدرة، وهي عشرة آلاف درهم. ) وقامت الخطباء والشعراء، فجعلوا يذكرون فضل الرضا (عليه السلام)، وما كان من المأمون في أمره. ثم دعا أبو عباد بالعباس بن المأمون، فوثب فدنا من أبيه فقبل يده، وأمره بالجلوس، ثم نودي محمد بن جعفر بن محمد، وقال له الفضل بن سهل: قم، فقام فمشى حتى قرب من المأمون، فوقف ولم يقبل يده، فقيل له: امض فخذ جائزتك، وناداه المأمون: ارجع يا أبا جعفر إلى مجلسك، فرجع. ثم جعل أبو عباد يدعو بعلوي وعباسي فيقبضان جوائزهما، حتى نفدت الأموال. ثم قال المأمون للرضا (عليه السلام): أخطب الناس وتكلم بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن لنا عليكم حقا برسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكم علينا حقا به، فإذا أديتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم، ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس (19).
وروى الصدوق في (العيون) و(الأمالي) عن الحسين بن أحمد البيهقي، عن محمد بن يحيى الصولي، عن الحسن بن الجهم، عن أبيه، قال: صعد المأمون المنبر ليبايع علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فقال: أيها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والله لو قرئت هذه الأسماء على الصم والبكم لبرئوا بإذن الله عز وجل (20).
قال الطبري: جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولي عهد المسلمين، والخليفة من بعده، وسماه الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 201 (21).
وروى الصدوق في (العيون) عن البيهقي، عن أبي بكر الصولي، عن أبي ذكوان، عن إبراهيم بن العباس الصولي، قال: كانت البيعة للرضا (عليه السلام) لخمس خلون من شهر رمضان سنة 201 (22).
وروى الشيخ الصدوق بالإسناد عن الريان بن شبيب، قال: إن المأمون لما أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين، وللرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وللفضل ابن سهل بالوزارة، أمر بثلاثة كراسي فنصبت لهم، فلما قعدوا عليها، أذن للناس فدخلوا يبايعون، فكانوا يصفقون بأيمانهم على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر ويخرجون، حتى بايع في آخر الناس فتى من الأنصار، فصفق بيمينه من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، فتبسم أبو الحسن الرضا (عليه السلام)، ثم قال: كل من بايعنا بايع بفسخ البيعة، غير هذا الفتى، فإنه بايعنا بعقدها. فقال المأمون: وما فسخ البيعة من عقدها؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): عقد البيعة هو من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، وفسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر. قال: فماج الناس في ذلك، وأمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن (عليه السلام)، وقال الناس: كيف يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة! إن من علم لأولى بها ممن لا يعلم. قال: فحمله ذلك على ما فعله من سمه (23).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): وأمر المأمون فضربت له الدراهم، وطبع عليها اسم الرضا (عليه السلام)، وزوج إسحاق بن موسى بن جعفر بنت عمه إسحاق ابن جعفر بن محمد، وأمره بحج بالناس، وخطب للرضا (عليه السلام) في كل بلد بولاية العهد. فروى أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثني من سمع عبد الجبار بن سعيد يخطب في تلك السنة على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة، فقال في الدعاء له: ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام). ستة آباء هم ما هم * أفضل من يشرب صوب الغمام (24)
وذكر المدائني، عن رجاله، قال: لما جلس الرضا علي بن موسى (عليه السلام) في الخلع بولاية العهد، قام بين يديه الخطباء والشعراء، وخفقت الألوية على رأسه، فذكر عن بعض من حضر ممن كان يختص بالرضا (عليه السلام)، أنه قال: كنت بين يديه (عليه السلام) في ذلك اليوم، فنظر إلي وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إلي أن ادن مني، فدنوت منه، فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: لا تشغل قلبك بهذا الأمر، ولا تستبشر به، فإنه شيء لا يتم (25).
وهذا الحديث يدل على علم الإمام المسبق بنوايا المأمون الحقيقية بوعيه النافذ للظروف التي دعت المأمون إلى تقليده ولاية العهد، وأنه كان مطمئنا بعدم تمامية هذا الأمر بعلم مسبق عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
تهنئة الشعراء:
1- وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل بن علي الخزاعي، فلما دخل عليه قال: إني قد قلت قصيدة، وجعلت على نفسي ألا أنشدها أحدا قبلك، فأمره بالجلوس حتى خف مجلسه، ثم قال له: هاتها. قال: فأنشده قصيدته التي أولها: مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات حتى أتى على آخرها. فلما فرغ من إنشاده قام الرضا (عليه السلام) فدخل إلى حجرته، وبعث إليه خادما بخرقة خز فيها ستمائة دينار، وقال لخادمه: قل له: استعن بهذه على سفرك واعذرنا. فقال له دعبل: لا والله ما هذا أردت، ولا له خرجت، ولكن قل له: أكسني ثوبا من أثوابك، وردها عليه، فردها عليه الرضا (عليه السلام) وقال له: خذها، وبعث إليه بجبة من ثيابه. فخرج دعبل حتى ورد قم، فلما رأوا الجبة معه أعطوه بها ألف دينار، فأبى عليهم، وقال: لا والله ولا خرقة منها بألف دينار، ثم خرج من قم، فاتبعوه وقطعوا عليه، وأخذوا الجبة، فرجع إلى قم، وكلمهم فيها، فقالوا: ليس إليها سبيل، ولكن إن شئت فهذه ألف دينار، قال لهم: وخرقة منها، فأعطوه ألف دينار وخرقة من الجبة (26).
2- وكان مع دعبل إبراهيم بن العباس، فأنشده: أزالت عزاء القلب بعد التجلد * مصارع أولاد النبي محمد (27)
3- وأنشده أبو نؤاس: مطهرون نقيات ثيابهم * تتلى الصلاة عليهم أينما ذكروا (28)
خروج الإمام (عليه السلام) لصلاة العيد:روى علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم والريان بن الصلت جميعا، قالا: لما حضر العيد، وكان قد عقد للرضا (عليه السلام) الأمر بولاية العهد، بعث إليه المأمون في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم، فبعث إليه الرضا (عليه السلام): قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر، فاعفني من الصلاة بالناس. فقال له المأمون: إنما أريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. ولم تزل الرسل تردد بينهما في ذلك، فلما ألح عليه المأمون أرسل إليه: إن أعفيتني فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فقال له المأمون: اخرج كيف شئت. وأمر القواد والناس أن يبكروا إلى باب الرضا (عليه السلام). قال: فقعد الناس لأبي الحسن (عليه السلام) في الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، وصار جميع القواد والجند إلى بابه، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس. فاغتسل أبو الحسن (عليه السلام) ولبس ثيابه، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، ألقى طرفا منها على صدره، وطرفا بين كتفيه، ومس شيئا من الطيب، وأخذ بيده عكازة، وقال لمواليه: افعلوا مثل ما فعلت، فخرجوا بين يديه وهو حاف، قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة، فمشى قليلا، ورفع رأسه إلى السماء، وكبر وكبر مواليه معه، ثم مشى حتى وقف على الباب، فلما رآه القواد والجند على تلك الحال، سقطوا كلهم عن الدواب إلى الأرض، وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها وتحفى. وكبر الرضا (عليه السلام) على الباب، وكبر الناس معه، فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج، لما رأوا أبا الحسن (عليه السلام) وسمعوا تكبيره. وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين، إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل، افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فأنفذ إليه أن يرجع. فبعث إليه المأمون: قد كلفناك شططا وأتعبناك، ولسنا نحب أن تلحقك مشقة فارجع، وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه. فدعا أبو الحسن (عليه السلام) بخفه فلبسه، وركب ورجع، واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم (29).
صورة العهد الذي كتبه المأمون بولاية العهد للرضا (عليه السلام):كتب المأمون بخطه، ومن إنشائه عهدا للرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وأشهد عليه، وكتب عليه الرضا (عليه السلام) بخطه الشريف، وذكره عامة المؤرخين. قال علي بن عيسى الإربلي في (كشف الغمة): في سنة 670 وصل من مشهده الشريف أحد قوامه، ومعه العهد الذي كتبه المأمون بخط يده، وبين سطوره وفي ظهره بخط الإمام (عليه السلام) ما هو مسطور، فقبلت مواقع أقلامه، وسرحت طرفي في رياض كلامه، وعددت الوقوف عليه من منن الله وإنعامه، ونقلته حرفا حرفا، وهو بخط المأمون: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده. أما بعد، فإن الله عز وجل اصطفى الإسلام دينا، واصطفى له من عباده رسلا دالين عليه وهادين إليه، يبشر أولهم آخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهدا لهم، ومهيمنا عليهم، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، بما أحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به ونهى عنه، لتكون له الحجة البالغة على خلقه *(ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم)*(30).
فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي والرسالة، جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة، التي بها تقام فرائض الله وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه. فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل، وحقن الدماء، وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين، واختلالهم واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة. فحق على من استخلفه الله في أرضه، وائتمنه على خلقه، أن يجهد لله نفسه، ويؤثر ما فيه رضى الله وطاعته، ويعتد لما الله مواقفه عليه ومسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود (عليه السلام): *(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)*(31)، وقال الله عز وجل: *(فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون)*(32).
وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال: لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوفت أن يسألني الله عنها، وأيم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله، ليعرض على أمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة؟ وبالله الثقة، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة والتسديد، والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة. وأنظر الأمة لنفسه، وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلائفه في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه، وسنة نبيه (عليه السلام) في مدة أيامه وبعدها، وأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده، ويختاره لإمامة المسلمين، ورعايتهم بعده، وينصبه علما لهم، ومفزعا في جمع إلفتهم، ولم شعثهم، وحقن دمائهم، والأمن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم، فإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم، ما عظمت به النعمة، وشملت فيه العافية، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة، والسعي في الفرقة، والتربص للفتنة. ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها، وشدة مؤونتها، وما يجب على من تقلدها، من ارتباط طاعة الله، ومراقبته فيما حمله منها، فأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه وعباده، ومختارا لولاية عهده، ورعاية الأمة من بعده، أفضل ما يقدر عليه في ورعه ودينه وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا له تعالى بالاستخارة في ذلك، ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره، معملا في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فكره ونظره، مقتصرا مما علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره وجهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وأبتلي أخبارهم مشاهدة، واستبرى أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة، فكانت خيرته بعد استخارته الله، وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في البيتين جميعا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه عن الدنيا، وتسلمه من الناس. وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا وناشيا، وحدثا ومكتهلا، فعقد له بالعهد والخلافة من بعده، واثقا بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله أنه فعله إيثارا له وللدين، ونظرا للإسلام والمسلمين، وطلبا للسلامة، وثبات الحق، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين. ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه، فبايعوا مسرعين مسرورين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك منه رحما، وأقرب قرابة، وسماه الرضا، إذ كان رضا عند أمير المؤمنين. فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده، وعامة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده علي بن موسى، على اسم الله وبركته، وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدوركم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم وصلاحكم، راجين عائدة ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم، وقوة دينكم، واستقامة أموركم، وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الأمر الذي إن سارعتم إليه وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله. وكتب بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين (33).
صورة ما كان على ظهر العهد بخط الإمام (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.
أقول وأنا علي الرضا بن موسى بن جعفر: إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت، وآمن نفوسا فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت، مبتغيا رضى رب العالمين، لا يريد جزاء من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين. وإنه جعل إلي عهده والإمرة الكبرى، إن بقيت بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها، فقد أباح حريمه، وأحل محرمه، إذا كان بذلك زاريا على الإمام، منتهكا حرمة الإسلام، بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفا من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز، وبائقة تبتدر. وقد جعلت الله على نفسي إذ استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافته، العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، بطاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وأن لا أسفك دما حراما، ولا أبيح فرجا ولا مالا، إلا ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه، وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: *(وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا)*(34).
وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحؤول بيني وبين معصيته، في عافية لي وللمسلمين، والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن الحكم إلا لله، يقضي بالحق، وهو خير الفاصلين. لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيدا. وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والفضل بن سهل، وسهل ابن الفضل، ويحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن أشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين. الشهود على الجانب الأيمن: شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه، وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين بركة هذا العهد والميثاق، وكتب بخطه في التأريخ المبين فيه: عبد الله بن طاهر بن الحسين، أثبت شهادته فيه بتأريخه، شهد حماد بن النعمان بمضمونه ظهره وبطنه، وكتب بيده في تأريخه، بشر بن المعمر، يشهد بمثل ذلك. الشهود على الجانب الأيسر: رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة التي هي صحيفة الميثاق، نرجو أن يجوز بها الصراط ظهرها وبطنها، بحرم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وسائر الأولياء والأجناد، بعد استيفاء شروط البيعة عليهم، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة على جميع المسلمين، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتأريخ [المعين] فيه (35).
هذا ما ذكره صاحب (كشف الغمة)، وقال سبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص): ثم قرئ العهد في جميع الآفاق، وعند الكعبة، وبين قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ومنبره، وشهد فيه خواص المأمون وأعيان العلماء، فمن ذلك شهادة الفضل بن سهل كتب بخطه: شهدت على أمير المؤمنين عبد الله المأمون، وعلى أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر، بما أوجبا به الحجة عليهما للمسلمين، وأبطلا به شبهة الجاهلين، وكتب فضل بن سهل في التأريخ المذكور. وشهد عبد الله بن طاهر بمثل ذلك، وشهد بمثله يحيى بن أكثم القاضي، وحماد ابن أبي حنيفة، وأبو بكر الصولي، والوزير المغربي، وبشر بن المعتمر، في خلق كثير (36).
صورة الدرهم الذي ضرب في عهد الرضا (عليه السلام):
كما أورده صاحب كتاب (مطلع الشمس)، واستشهد على ذلك جماعة من العلماء والمجتهدين، ووضعوا خطوطهم وخواتيمهم، وأصل الصورة بالخط الكوفي، ونقشت أيضا بالخط النسخ، وهذه صورة الخط النسخ. كتب على أحد الجانبين في الوسط في سبعة سطور هكذا: الله محمد رسول الله المأمون خليفة الله مما أمر به الأمير الرضا ولي عهد المسلمين علي بن موسى ابن علي بن أبي طالب ذو الرياستين وكتب عن الجانب الآخر في الوسط في أربعة سطور هكذا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له المشرق (37) وكتب على أحد جانبي الدرهم بشكل دائرة هكذا: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وعلى الجانب الآخر بشكل دائرتين داخلة وخارجة، فعلى الداخلة هكذا: بسم الله ضرب هذا الدرهم بمدينة أصبهان سنة أربع ومائتين. وعلى الخارجة هكذا: في بعض سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. ومما ينبغي التنبه له أن كتابة هذا الدرهم إذا صحت تؤيد أن وفاة الرضا (عليه السلام) بعد سنة 204، وتوهن ما قيل: إن وفاته سنة 203 أو أقل، إلا أن يكون هذا الدرهم طبع بعد وفاته (عليه السلام) تبركا، وليس مما طبع بأمر المأمون، والله أعلم (38).
المصادر:
1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 137 / 2، بحار الأنوار 49: 126 / 2، العوالم 22: 242 / 2.
2- الإرشاد 2: 259 - 260، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 141 / 6، إعلام الورى: 333 - 334، بحار الأنوار 49: 136 / 11.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 139 / 3، علل الشرائع 2: 237 / 1، أمالي الصدوق: 65 / 3، بحار الأنوار 49: 128 / 3.
4- العوالم 22: 245 / 2، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 149 / 21، بحار الأنوار 49: 133 / 9.
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 149 / 21، بحار الأنوار 49: 133 / 9.
6- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 164 / 29، بحار الأنوار 49: 144 / 20، العوالم 22: 287 / 2.
7- الكافي 8: 151 / 134، بحار الأنوار 49: 155 / 27، العوالم 22: 287 / 1.
8- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 18 / 1، بحار الأنوار 49: 9 / 15، العوالم 22: 283 / 4.
9- أمالي الصدوق: 525 / 13، بحار الأنوار 49: 130 / 5.
10- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 141 / 5، بحار الأنوار 49: 140 / 15.
11- يوسف: 55.
12- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 139 / 2، أمالي الصدوق: 68 / 3، بحار الأنوار 49: 130 / 4.
13- يوسف: 55.
14- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 138 / 1، تفسير العياشي 2: 180 / 38، بحار الأنوار 49: 136 / 10، علل الشرائع 1: 238 / 2.
15- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 140 / 4، بحار الأنوار 49: 140 / 14.
16- الخرائج والجرائح 1: 766 / 86، بحار الأنوار 49: 55 / 67، العوالم 22: 108 / 73.
17- إعلام الورى: 343.
18- ذكر أبو الفرج في المقاتل: 375 نحو هذا الحديث، إلا أنه قال: فأرسلهما إلى علي بن موسى الرضا، فعرضا ذلك عليه، فلم يزالا به، وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت وإلا فعلنا بك وصنعنا، وتهدداه. ثم قال له أحدهما: والله أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد.
19- الإرشاد 2: 260 - 262، مقاتل الطالبيين: 562 - 565، الفصول المهمة: 252 - 253، بحار الأنوار 49: 145 / 13، إعلام الورى: 334 - 335.
20- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 147 / 18، أمالي الصدوق: 525 / 15، بحار الأنوار 49: 130 / 6.
21- تأريخ الطبري 8: 554.
22- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 245 / 2، بحار الأنوار 49: 221 / 9، العوالم 22: 368 / 1.
23- علل الشرائع: 239 / 1، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 138، بحار الأنوار 49: 144 / 21، حلية الأبرار 2: 457، العوالم 22: 249 / 4.
24- الإرشاد 2: 263، مقاتل الطالبيين: 376، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 145 / 14، المناقب 4: 364، الفصول المهمة: 253، بحار الأنوار 49: 146.
25- الإرشاد 2: 263، الفصول المهمة: 253، إعلام الورى: 335، بحار الأنوار 49: 147.
26- الإرشاد 2: 264، رجال الكشي: 504 / 970، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 263.
27- العوالم 22: 258. 66:
28- العوالم: 258، كشف الغمة 3: 107، إعلام الورى: 328، وستأتي القصيدة كاملة في مدائحه ومراثيه (عليه السلام).
29- الكافي 1: 488 / 7، الإرشاد 2: 264 - 265، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 149 / 21، الفصول المهمة: 257 - 258، المناقب 4: 371، بحار الأنوار 49: 134 / 9، العوالم 22: 246 / 2، كشف الغمة 3: 68، إعلام الورى: 336 - 337.
30- الأنفال: 42.
31- ص: 26.
32- الحجر: 92 و93.
33- كشف الغمة 3: 123 - 127، الفصول المهمة: 253 - 255، بحار الأنوار 49: 148 / 25.
34- الإسراء: 34.
35- كشف الغمة 3: 127 - 128، الفصول المهمة: 255 - 257، بحار الأنوار 49: 152.
36- تذكرة الخواص: 354.
37- كذا، وفي صورة الدرهم المطبوع في موسوعة العتبات المقدسة 11: 155، في السطر الأخير بالملك، وفي أخرى: المودة، والله أعلم. 76:
38- أعيان الشيعة 2: 21.
source : راسخون