إنّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان في فترة من عمره الشريف يغسل رجليه بأمر من اللّه سبحانه، ولعلّ الحديث المعروف: «ويل للأعقاب من النار» ورد في تلك الفترة، ولكن لمّا نزل القرآن الكريم بالمسح نُسِخَت السنّة بالقرآن الكريم وقد عرفت أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولم ينسخ منها شيء.
لاشكّ أَنّ القرآن دعا للمسح، ولكن المصلحة لدى الخلفاء والحكام اقتضت إلزام الناس على غسل الأرجل بدل المسح لخبث باطن القدمين، وبما أنّ قسماً كبيراً منهم كانوا حفاة، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص:
روى ابن جرير عن حميد، قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة أنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور، فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإِنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
فقال أنس: صدق اللّه وكذب الحجّاج قال اللّه تعالى: (وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم) قال:
وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها (1).
وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل، وتؤاخذ من يقول بالمسح، حتّى إِنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّ خفية، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه: اجتمعوا أُصلّـي بكم صلاة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فلمّا اجتمعوا، قال:
هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا:
لا، إلاّ ابن أُخت لنا، قال: ابن أُخت القوم منهم، فدعا بجفنة فيها ماء، فتوضّأ ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم صلّـى(2).
(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبير) .(3)
1- تصريح الكتاب بمسح الأرجل وأنّ غسلها لا يوافق القرآن الكريم.
2- إِنّ لفيفاً من أعلام الصحابة وسنامها ـ الذين هم عيبة السنّة وحفظة الآثار ـ كانوا يمسحون ويُنكرون الغسل أشدّ الإنكار، وقد وقفت على رواياتهم الكثيرة البالغة حدّ التضافر.
3- انّ أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام، وفيهم:
الإمامان الباقر والصادق ـ عليهما السَّلام ـ بيّنوا وضوء رسول اللّه، وانّه كان يمسح الأرجل بدل غسلها، وقد مرت كلماتهم.
4- إِنّ ما دلّ على غسل الأرجل ففيه الصحيح، والضعيف ، بل الضعاف أكثر من الصحاح، فعلى الفقيه معالجة تعارض الروايات الدالّة على الغسل، بعرضها على الكتاب أوّلاً وعلى السنّة الدالة على المسح ثانياً.
5- إِنّ النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي» فالتمسّك بأقوالهم وأحاديثهم امتثال لقول الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وهو لا يصدر إلاّ عن الحق، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة، ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول .
مضافاً إلى أنّ علياً ـ باب علم النبيّ ـ هو المعروف بالقول بالمسح، ويقول الرازي في الاقتداء بعليّ: «ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليـه قولـه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : اللّهمّ أدر الحق مـع علي حيث دار» (4).
6- إذا كان الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعيّة فلماذا اختصّت هذه النعمة الكبرى بالأئمّة الأربعة دون سواهم، وكيف صار السلف أولى بها من الخلف؟!
هذا ونظيره يقتضي لزوم فتح باب الاجتهاد في أعصارنا هذه والإمعان في عطاء الكتاب والسنّة في حكم هذه المسألة ونظائرها ممّا ستمرّ عليك في هذا الكتاب متجرداً عن قول الأئمّة الأربعة ونظرائهم.
إِنّ الاجتهاد رمز خلود الدين وصلاحيّته للظروف والبيئات وليس من البدع المحدثة، بل كان مفتوحاً منذ زمن النبيّ وبعد وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وقد أُغلق لأُمور سياسية عام 665 هـ .
قال المقريزي في بدء انحصار المذاهب في أربعة:
فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 هـ حتى لم يبق في مجموع أقطار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه ولم يولّ قاض ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلِّداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم عداها، والعمل على هذا إلى اليوم. (5)
المصادر :
1- تفسير ابن كثير:2/27; تفسير الطبري:6/82.
2- مسند أحمد بن حنبل:5/342، المعجم الكبير :3/280 برقم 3412.
3- هود:1.
4- مفاتيح الغيب: 1/111.
5- راجع الخطط المقريزية: 2/333 ـ 344.