إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :
١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :
ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :
الصورة الأولى من التشويق :
الضمان بالجزاء
لقد نوهت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.
أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :
الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.
١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :
يقول تعالى : ( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (1).
وفي آية أخرى قال سبحانه : ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (2).
ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :
الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :
أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.
ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.
وقوله سبحانه : ( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.
الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.
هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.
وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.
( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (3).
ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.
( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟
من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.
( ولا هم يحزنون ).
وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهالسلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً » (4).
وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.
لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه : ( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (5).
ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :
١ ـ قوله : ( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ).
٢ ـ قوله : ( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ).
٣ ـ قوله : ( وهو خيرُ الرازقين ).
أولاً : ( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ).
ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.
أما ما هي المصالح ؟.
فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.
وفي الحديث عن النبي صلىاللهعليهوآله إن الله سبحانه يقول : ( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ).
ثانياً : ( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ).
فعن جابر عن النبي صلىاللهعليهوآله قوله :
« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً » (6).
ثالثاً : ( وهو خير الرازقين ).
أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.
عطاؤه يأتي بلا منة.
وعطاء البشر مقرون بمنة.
وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.
وكذب من قال انه محدود العطاء :( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (7).
وقد جاء عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه » (8).
وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :
( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (9).
( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (10).
( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (11).
وقد فسر قوله « عليم » أو « يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.
وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.
٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :
يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.
وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.
وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :
فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.
وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.
ومن الاجمال إلى التفصيل :
يقول سبحانه : ( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون * الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون * أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (12).
( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.
وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله : ( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (13).
أما ما أعد لهم من جزاء فهو :
( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.
( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.
( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.
وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :
( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـ أعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (14).
( والمتصدقين والمتصدقات ).
هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.
وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ * الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ * والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب * والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ * جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (15).
يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه ( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.
أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.
في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.
ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.
أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.
أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.
وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.
قال تعالى : ( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ * الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (16).
وقال جلت عظمته :
( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ * الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار * الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (17).
وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :
الأول : جزاء حسي.
الثاني : جزاء روحي.
أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ).
وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ).
وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،
ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.
تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.
أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :
( والله يحبُ المحسنين ).( ورضوانٌ من اللهِ ).
رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.
على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.
وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.
ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.
المصادر :
1- سورة البقرة / آية : ٢٧٢.
2- سورة الانفال / آية : ٦٠.
3- سورة البقرة / آية : ٢٤٧.
4- الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.
5- سورة سبأ / آية : ٣٩.
6- مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.
7- سورة المائدة / آية : ٦٤.
8- الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.
9- سورة البقرة / آية : ٢٧٣.
10- سورة البقرة / آية : ٢٧٠.
11- سورة آل عمران / آية : ٩٢.
12- سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.
13- سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.
14- سورة الأحزاب / آية : ٣٥.
15- سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.
16- سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.
17- سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.