الإمامة من الأصول والعقائد
هل أن الإمامة من أصول الديانات والعقائد أو هي من الفروع ؟ فالحق : أنها من الأصول كالنّبوة ، وممّا يدلّ على ذلك الحديث الصحيح المتّفق عليه الصريح في أنّ « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليةً » وقد روي بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وهو ما ذكرناه ، فهو باللفظ المذكور في عدة من الكتب كشرح المقاصد 5 / 239 ، وبلفظ « من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية » في مسند أحمد
4 / 96 وغيره . وبلفظ : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » في سنن البيهقي 8 / 156 وغيره ، وله ألفاظ أخرى .
فإنّه دليل صريح على وجوب معرفة الإمام والإعتقاد بولايته الإلهيّة ووجوب طاعته والإنقياد له ، وأن الجاهل به أو الجاحد له يموت على الكفر كما هو الحال بالنسبة إلى نبوّة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وبما ذكرناه غنىً وكفاية عن غيره من الأدلة .
وعن جماعة من الأشاعرة كالقاضي البيضاوي موافقة الإمامية في أن الإمامة أصل من أصول الدين ، وعن بعضهم كالتفتازاني أنها بعلم الفروع أليق !
ولابدّ من تعريفها أولاً
إن « الإمام » هو المؤتّم به ، أي المتبّع والمقتدى ... قال تعالى لإبراهيم عليه السلام : ( إنّي جاعلك للناس إماماً ) وأما تعريف الإمامة فالظاهر أن لا خلاف فيه .
قال العلامة الحلي رحمه الله بتعريف الإمامة : « الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخصٍ من الأشخاص نيابةً عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم » .
وقال المقداد السيّوري رحمه الله بشرحه : « الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخصٍ انساني . فالرياسة جنس قريب ، والجنس البعيد هو النسبة ، وكونها عامة فصل يفصلها عن ولاية القضاة والنواب ، وفي أمور الدين والدنيا بيان لمتعلّقها ، فإنّها كما تكون في الدين فكذا في الدنيا ، وكونها لشخص إنساني فيه إشارة إلى أمرين :
أحدهما : أن مستحقّها يكون شخصاً معيّناً معهوداً من الله تعالى ورسوله ، لا أيّ شخص إتفق .
وثانيهما : إنه لا يجوز أن يكون مستحقّها أكثر من واحد في عصر واحد .
وزاد بعض الفضلاء في التعريف بحقّ الأصالة ،
وقال في تعريفها : الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني بحق الأصالة ، واحترز بهذا عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية ، فإنّ رياسته عامة لكن ليست بالاصالة .
والحق : أن ذلك يخرج بقيد العموم ، فإنّ النائب المذكور لا رياسة له على إمامه ، فلا يكون رياسته عامة .
ومع ذلك كلّه فالتعريف ينطبق على النبوة ، فحينئذٍ يزاد فيه : بحق النيابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بواسطة بشر » (1) .
وجوب نصب الإمام
( نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعاً ... وقالت الإمامية والإسماعيلية : لا يجب نصب الإمام علينا ، بل على الله سبحانه ، إلاّ أنّ الإمامية أوجبوه عليه لحفظ قوانين الشرع عن التّغيير بالزيادة والنقصان ...
لنا في إثبات مذهبنا أن تقول : أمّا عدم وجوبه على الله أصلاً وعدم وجوبه علينا عقلاً فقد مر ، لما تبين من أنه لا وجوب عليه تعالى ولا حكم للعقل في مثل ذلك ... ) .
( إحتج الموجب النصب للإمام على الله بأنّه لطف ، لكون العبد معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية ، واللطف واجب عليه تعالى .
والجواب بعد منع وجوب اللطف : أن اللطف الذي ذكرتموه إنما يحصل بإمام ظاهر قاهر ... ) .
قد عرفت أنّ « الإمامة » نيابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلافة عنه في كلّ ما لأجله بعث ، فهي من توابع « النبوة » وفروعها ، فكلّ دليل قام على وجوب بعث النبي وإرسال الرسول فهو دال على وجوب نصب الإمام النائب عنه والقائم مقامه في وظائفه ...
ومن ذلك قاعدة اللّطف ، وهو : ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، ولا حظّ له في التمكين ، ولا يبلغ الإلجاء ، لتوقّف غرض الّلطف عليه ، فإنّ المريد لفعل من غيره إذا علم أنّه لا يفعله إلاّ بفعل المريد من غير مشقة لو لم يفعله لكان ناقضاً لغرضه ، وهو قبيح عقلاً (2) .
ولا ريب في أن « الإمام » كذلك مثل « النبي » .
فنصب الإمام واجب على الله كبعث النبي ، لتكون ( لله الحجة البالغة ) (3)
و ( لئلاّ يكون الناس على الله حجّة ) (4)
و ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بيّنة ) (5) .
وحينئذ لا يقال : « أنه لا وجوب عليه تعالى ، ولا حكم للعقل في مثل ذلك » لأنّ معنى هذا الوجوب العقلي درك العقل حسن إرسال ونصب الإمام ، إذا بذلك يعرف الله ويعبد ، وهذا هو الغرض من الخلقة حيث قال سبحانه :
( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) (6) ، ولو تركه لكان ناقضاً لغرضه .
فسقط منع وجوب اللّطف ، ولعلّ منشأ المنع هو الغفلة عن حقيقة
الإستدلال .
وسقط أيضاً النقض بالإمام المعصوم الغائب ، ولعل منشأه الغفلة عن حقيقة الإمامة ، وتوهّم كونها السلطنة الظاهرية فحسب ...
وقد عرفت أنها منصب إلهي كالنبوة ، فكما أن النبوة قد تجتمع مع السلطنة الدنيوية والحكومة الظاهرية وقد تفترق عنها والنبوة باقية ، كذلك الإمامة ...
و « البعث » و « النصب » من الله في جميع الأحوال على حاله ، و « النبي » و « الامام » باقيان على النبّوة والإمامة ... وعلى الناس الإنقياد لهما والتسليم لأوامرهما ونواهيهما ...
ولا إلجاء من الله كما عرفت ، فإن فعلوا إجتمعت الرئاستان وتمّ اللطف ، وإلاً افترقتا ولم تبطل النبوة والإمامة ، بل خسرت الأمة فوائد بسط اليد ونفوذ الكلمة منهما ...
على أنّ وجود النبي أو الإمام الفاقد للسلطنة الظاهرية ينطوي على بركات وآثار ، حتى ولو كان غائباً عن الأبصار ...
هذا موجز الكلام في بيان الإستدلال بقاعدة اللطف ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب الكلامية لأصحابنا الإمامية ، كالذخيرة والشّافي وتلخيصه وتجريد الإعتقاد وشرحه وغيره من كتب العلامة الحلّي وشروحها وغير ذلك ...
واستدل أيضاً : بأنه قد ثبت أن شريعة نبيّنا عليه وآله السلام مؤبدة ، وأن المصلحة لها ثابتة إلى قيام الساعة لجميع المكلّفين . وإذا ثبت هذا فلا بدّ لها من حافظ ، لأنّ تركها بغير حافظ إهمال لها ، وتعبّد للمكلّفين بما لا يطيقونه ويتعذّر عليهم الوصول اليه .
وليس يخلو الحافظ لها من أن يكون جميع الأمّة أو بعضها .
وليس يجوز أن يكون الحافظ لها الأمة ، لأن الأمّة يجوز عليها السّهو والنسيان وارتكاب الفساد والعدول عمّا علمته .
فإذن ، لا بدّ لها من حافظ معصوم يؤمن من جهته التغيير والتبديل والسهو ، ليتمكّن المكلّفون من المصير إلى قوله .
وهذا الامام الذي نذهب إليه (7) .
وقد أشير في الكتاب إلى هذا الإستدلال وترك بلا جواب .
واستدل أيضاً بانّه : قد ثبت أنه ليس كل ما تمسّ الحاجة إليه من الشريعة على حجّة قاطعة من تواتر أو أجماع أو ما جرى مجراهما ، بل الأدلة في كثير من ذلك كالمتكافئة ، ولولا ما ذكرناه ما فزع خصومنا إلى غلبة الظن والإستحسان وإجتهاد الراي ، وإذا ثبت ذلك ، وكنّا مكلّفين بعلم الشريعة والعمل بها ، وجب أن يكون لنا مفزع نصل من جهته إلى ما اختلف أقوال الأمة فيه .
وهو الإمام الذي نقوله .
وهذا دليل آخر على وجوب إمام معصوم في كلّ زمان ...
وهناك غير ما ذكر من الأدلة .
فهذا جملة من الأدلة العقلية على أنّ نصب الإمام بيد الله بيد الأنام ... وفي الكتاب والسنة أدلّة عديدة على أن لا دخل للناس في نصب الإمام وتعيينه ، من ذلك قوله تعالى : ( وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) (8) .
ومن ذلك ما ثبت عو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أنّه لما عرض نفسه على بعض القبائل ودعاهم إلى الإسلام قال له رجل منهم :
« أرأيت ان نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء » (9) .
المصادر :
1- النافع يوم الحشر ـ شرح الباب الحادي عشر : 44 :
2- الباب الحادي عشر : 35 .
3- سورة الأنعام : 149 .
4- سورة النساء : 165 .
5- سورة الأنفال : 42 .
6- سورة الذاريات : 56 .
7- تلخيص الشافي 1 / 133 ، شرح التجريد : 285 .
8- سورة القصص : 68 .
9- السيرة النبوية لابن هشام 2 / 66 ، السيرة الحلبية 2 / 154 .