القضاء هو الإمضاء الإلهی على أمرٍ حتمی الوقوع الذی لا مرد له، والقدر هو الحد الطبیعی من القانون الإلهی فی الوجود فالله قدّر للإنسان أن یکون له عقل فلو توفرت الظروف الذاتیة والموضوعیة فیصیر أمراً واقعیاً وحتمیاً أی قضاءً. قال الإمام الکاظم (علیه السلام): (القدر هو تقدیر الشیء من طوله وعرضه والقضاء هو الإمضاء الذی لا مرد له) وقال الإمام الرضا (علیه السلام): (القدر هندسة والقضاء إبرام).
وللقضاء والقدر معانٍ أخرى وردت فی القرآن الکریم منها الإخبار کقوله تعالى :(وقضینا إلى بنی إسرائیل فی الکتاب لتفسدن فی الأرض مرتین)(1) أی إخبارهم بذلک ومنها الإرادة کقوله تعالى (وإذا قضى أمراً فإنما یقول له کن فیکون)(2) أی إذا أراد أمراً ومنها الحکم والفصل کقوله تعالى (فاقض ما أنت قاض)(3) ومنها الأمر کقوله تعالى (وقضى ربک ألا تعبدوا إلا إیاه وبالوالدین إحساناً) (4)أی أمر بعبادته ومنها الموت کما فی سورة القصص (فوکزه موسى فقضى علیه)(5).
ومن معانی القدر التحدید بالکمیة کقوله تعالى: (وَإِن مِّن شَیْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)(6) ومنها الخلق کقوله تعالى: (وقدّر فیها أقواتها) أی خلقنا ومنها التضییق کما فی سورة الفجر. (وإما إذا ما ابتلاه فقدر علیه رزقه فیقول ربی أهانن)(7).
ومنها القضاء الحتمی کما فی سورة الأحزاب (کان أمر الله قدراً مقدوراً)(8) أی حتماً مقضیّا أما المعنى الذی هو محل نزاع الفلاسفة والمتکلمین هو الذی یوصلنا إلى سلب إرادة الإنسان وإجباره على أعمال معینة خیّرة أو شریرة بدعوى أن القضاء والقدر ملزمان ولا مفر منهما أو ما یقابل هذا المعنى وهذا المذهب.
وقد اتفق المسلمون على أن أعمال الناس تجری بقضاء وقدر إلهیّین فقد ورد فی الحدیث الشریف (کل شیء بقضاء وقدر) ولکن کالمعتاد اختلف المسلمون فی تحدید مفهومی القضاء والقدر وقبل أن نوضح الاختلاف نحاول أن نسلط الضوء على جزء من المسألة فی البدایة فنقول: إن أفعال العباد اللاإرادیة هی خارجة عن موضوع البحث وهی التی نسمیها بالضروریة کالأعمال الداخلیة للإنسان کعمل المعدة وجهاز التنفس ونبض القلب والدورة الدمویة. فإذن الحدیث یقتصر ویدور حول الأعمال الإرادیة للإنسان والتی نسمیها بالأعمال الاختیاریة الخارجیة التی تخضع لإرادة الإنسان فیسیّرها کیف یشاء أو یُجبر على التصرف بها کما یذهب البعض لذلک، کالذهاب والإیاب والاعتقاد والعبادة والأکل والشرب والنوم وسائر الأفعال. وهنا أکّدت مدرسة المجبرة بأن القضاء والقدر الإلهیین هما مفروضان على البشر فالله سبحانه خلق أفعال الناس بقضائه وقدره وما یؤدی الناس من أعمال فهی بقضاء الله وقدره، فالله قدّر الکفر والعصیان على الکافرین والعاصین وقضى بالکفر والعصیان علیهم وهو الذی قدّر وقضى بالطاعة والإیمان على المطیعین والمؤمنین من دون أن تکون للناس إرادة وقابلیة تردّ قضاء الله وقدره فالناس مسلوبو الإرادة والاختیار أمام القضاء والقدر الإلهیین وبمعنى آخر أن الله خلق أفعال العباد الحسنة والقبیحة وأجبرهم على الاستسلام لها وتطبیقها فالمجبرة أرادوا أن ینفوا الشریک من الله فی أفعاله ولکنهم سقطوا فی وحلٍ عمیق حیث نسبوا إلیه الظلم والفساد.
وأما المفوّضة فإنهم ذهبوا إلى أن الله خلق العباد وترک لهم حریتهم المطلقة والکاملة فی کل التصرفات والسلوک لذلک أرادوا أن ینزهوا الله من الظلم والجور والفساد فوقعوا فی وحل عمیق أیضا حیث أنهم عزلوا الله سبحانه عن ملکه وجعلوا له شریکاً فی الأفعال فقد قال الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله): (من زعم أن الله یأمر بالسوء والفحشاء فقد کذب على الله ومن زعم أن الخیر والشر بغیر مشیئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ومن زعم أن المعاصی بغیر قوة الله فقد کذب على الله ومن کذب على الله أدخله النار)(9).
وهذه خلاصة مدرسة أهل البیت - فی الجبر والتفویض - فالله سبحانه منزّه من أن یجبر عباده على عمل معین ومن ثم یعاقبهم علیه لأن ذلک خلاف عدله وحکمته وخلاف ما نشعره فی وجداننا الشخصی.
وفی روایة الصدوق فی (العیون) بإسناده عن یزید بن عمیر قال: دخلت على علی بن موسى الرضا (علیه السلام) بمرو فقلت له یا بن رسول الله روی لنا عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: لا جبر ولا تفویض بل أمر بین أمرین فما معناه، فقال الرضا (علیه السلام): من زعم أن الله تعالى یفعل أفعالنا ثم یعذّبنا علیها فقد قال بالجبر ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حجته (علیه السلام) فقد قال بالتفویض، فالقائل بالجبر کافر والقائل بالتفویض مشرک، فقلت له یا ابن رسول الله فما أمر بین أمرین، فقال: وجود السبیل إلى إتیان ما أمروا به وترک ما نهوا عنه فقلت له فهل لله عز وجل مشیئة وإرادة فی ذلک، فقال: أمّا الطاعات فإرادة الله ومشیئته فیها الأمر بها، والرضا والمعاونة علیها، وإرادة ومشیئته فی المعاصی النهی عنها، والسخط لها والخذلان علیها، فقلت فلله عز وجل فیها القضاء. قال: نعم، ما من فعل یفعله العباد من خیر وشر إلا ولله تعالى فیه القضاء، قلت فما معنى هذا القضاء، قال: الحکم علیهم بما یستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب فی الدنیا والآخرة)(10).
فمن هنا نفهم بأن الجزاء الإلهی هو حق طبیعی لله تعالى وذلک انطلاقاً من عدالته فمن العدل أن یعوّض الله الإنسان المؤمن عن صبره وجهاده وعبادته بما تشتهی الأنفس وتلذ الأعین. یقول تعالى:(إنما یوفّى الصابرون أجرهم بغیر حساب)(11).
ومن العدل أن یعاقب الله الإنسان المنحرف لعصیانه وانحرافه وظلمه أیضا: (فمن یعمل مثقال ذرة خیراً یره، ومن یعمل مثقال ذرة شراً یره).(12).
وهذا الثواب أو العقاب إما أن یتجزأ لمصلحة معینة فی الدنیا والآخرة وإما أن یؤجل تماماً للآخرة وبهذا التوجیه ندرک وبعمق العدل الإلهی فحرمان فی الدنیا وعطاء فی الآخرة وصبر فی الدنیا ونعیم دائم فی الآخرة وبالمقابل الاعتداء على الحقوق فی الدنیا یعنی الجحیم فی الآخرة فإذن الحیاة الآخرة تکمل الحیاة الدنیا علماً بان الدنیا عمل بلا حساب وفی الآخرة حساب بلا عمل. وبمعنى آخر أن الذی ینظر إلى الدنیا فحسب باعتبارها کل الحیاة ربما یصل إلى معرفة التفاوت والاختلاف بین العباد فی المال والجمال والکمال وحینما یجعل الدنیا إحدى الحلقتین الکبیرتین فی الحیاة العامة والحلقة الثانیة هی الآخرة فتکتمل صورة الحیاة العامة وتزول هذه المعرفة السطحیة التی یحصل علیها الإنسان من الوهلة الأولى حینما ینظر إلى الحیاة الدنیویة. وأتخطر هنا حدیث الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله) حینما دخل على ابنته الزهراء (علیها السلام) وهی تطحن بیدیها وترضع ولدها فدمعت عینا رسول الله (صلى الله علیه وآله) فقال لها (صلى الله علیه وآله): (یا بنتاه تعجلی مرارة الدنیا بحلاوة الآخرة)(13) وطبیعی - کما قلنا - یمکن أن تکون مصلحة معینة فی البین فینزل الله عقابه على عباده فی الدنیا کتأدیب المجتمعات الغابرة أو المعاصرة فیأتی العقاب فی الدنیا وبالمقابل فی الحالة الإیجابیة قد یستجاب الدعاء کإنزال المن والسلوى على بنی إسرائیل أو إلحاق العقوبة المباشرة لأقوام الأنبیاء الذین انحرفوا وأصرّوا على الانحراف کقوم نوح وعاد وثمود فقد جاء دعاء النبی نوح (علیه السلام) فی قوله تعالى: (وقد أضلوا کثیراً ولا تزد الظالمین إلا ضلالاً، مما خطیئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم یجدوا لهم من دون الله أنصاراً)(14) فأصبحت من القوانین والسنن الإلهیة کما قال سبحانه (سنة من قد أرسلنا قبلک من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحویلاً)(15).
فدلت هذه الآیات على ربط الأسباب بالمسببات ونتائج الأعمال بمقدماتها سواء کانت النتائج فی الدنیا أو فی الآخرة حسب الحکمة الإلهیة. لذلک قال الملا صدر فی شرحه لأصول الکافی (القضاء والقدر إنما یوجبان ما یوجبان بتوسط أسبابٍ وعللٍ مترتبةٍ ومنتظمةٍ بعضها مؤثرات وأخرى متأثرات).
وهنا لابد من التنویه لمسألة حیاتیة وهی: إن الإیمان بالقضاء والقدر بالمعنى الجبری یدفع بالإنسان لمنهجیة اللا مبالات والکسل لأنه ینتظر جاهزاً ما فی قضاء الله وقدره. والصحیح أن الإیمان بقضاء الله وقدره هو الإیمان بسنن الله وشریعته حیث یدفعنا الله إلى التنافس الإیجابی فی عمل الخیر والإحسان ویدفعنا إلى الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والإصلاح والجهاد فی سبیل الله کما قال فی محکم کتابه:(انفروا خفافاً وثقالاً وجهادوا بأموالکم وأنفسکم فی سبیل الله)(16).
وقال سبحانه: (إن الله لا یغیر ما بقوم حتى غیروا ما بأنفسهم...)(17).
وهذا الذی یجعلنا نقرر ما قلناه بأن الإنسان فی أفعاله وسلوکه مختار وبمعنى آخر إنه مخیّر لا مسیّر وإرادة الإنسان الاختیاریة هذه هی تحت سلطان الله وقدرته الکبرى فالإنسان مختار فی تصرفاته بتلک القدرة والقابلیة الإلهیة التی منحها الله إیاه. فالله منح عباده القابلیة على الشر کما منحهم القابلیة على الخیر فقد قال عز وجل: (وما تشاؤون إلا أن یشاء الله) (18)فحینما یعمل العبد معصیة فقد أساء اختیاره مستعیناً بقدرة الله سبحانه حیث منحه القدرة والقابیة على ذلک وفاعل الخیر استفاد من هذه القدرة وأحسن اختیاره فقال سبحانه: (لیبلوکم أیکم أحسن عملاً)(19) فالإنسان بإرادته یختار ویتجسد لطف الله عز وجل فی توضیح الطریقین وعواقبهما ویمکن أن یثار ههنا سؤال حول تفسیر الحدیث المشهور للنبی الأعظم (صلى الله علیه وآله) (السعید من سعد فی بطن أمه والشقی من شقی فی بطن أمه)(20) فهل یمکن تغیّر الشقاوة أو السعادة ما دامت مکتوبة على جبین الإنسان قبل نزوله إلى دار الدنیا والحق إن الله یعلم قبل أن یخرج هذا الإنسان من بطن أمه أنه سوف یرتکب الجرائم أو یعمل الحسنات کما قال الإمام الکاظم (علیه السلام) حینما سئل عن معنى الحدیث (الشقی من علم الله - وهو فی بطن أمه - أنه سیعمل عمل الأشقیاء والسعید من علم الله - وهو فی بطن أمه - إنه سیعمل عمل السعداء) فبمجرّد علم الله تعالى فی تمییز عباده لا یعنی ذلک جبراً أو قسراً علیهم، هذا ومن الممکن أن نفسر الحدیث على أن السعادة تحصل من تأثیر الأبوین وحالتهما النفسیة والصحیة مثلاً - مما یعکس على الجنین الارتیاح والسعادة. ومن المغالطة بمکان أن نرمی بأسباب الأعمال الصالحة أو المعاصی على الله - سبحانه - فقد ورد فی روایة قول الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله): (یکون فی آخر الزمان قوم یعملون من المعاصی ویقولون إن الله قد قدّرها علیهم، الراد علیهم کشاهر سیفه فی سبیل الله)(21).
والحق أن القضاء والقدر قانونان إلهیّان نرى أثرهما الواضح فی الحیاة ففی الروایة عن الإمام علی (علیه السلام) أنه کان جالساً فی ظل جدار وفجأة عرف أن الجدار مشرف على الانهدام فابتعد عنه حالاً وحینئذٍ اعترض أحد الحضور قائلاً: أمن قضاء الله تفرّ یا علی؟ فأجابه (علیه السلام): أفر من قضاء الله إلى قدره(22).
إذن هما قانونان من القوانین الإلهیة فالفرار من قانون الهی یمکن أن یسبب الموت حین سقوط الحائط فعلیه أن یبتعد الإنسان عن الحائط المائل ویضمن حیاته لما بقی من العمر المقدّر له فلو کانت ساعة الموت حتمیّة (بالقضاء) فیحل علیه الموت حتى دون سبب ظاهر کقانون الهی أیضا فقد قال عز وجل: (قل إن الأمر کله لله یخفون فی أنفهسم ما لا یبدون لک یقولون لو کان لنا من الأمر شیء ما قتلنا ههنا قل لو کنتم فی بیوتکم لبرز الذین کتب علیهم القتل إلى مضاجعهم)(23).
وهذا ردّ من الله سبحانه على الکافرین لما قالوا: (لو کانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا لیجعل الله ذلک حسرةً فی قلوبهم والله یحیی ویمیت)(24).
ومن هنا نفهم الأحادیث الشریفة والروایات الواردة مثلاً: الصدقات تدفع البلاء وصدقة السر تطفئ غضب الله.. فالأجل المعلق والبلاء الطارئ یدفع بالصدقة کقانون الهی والأجل الحتمی لا یدفعه شیء کقانون الهی أیضا لقوله - تبارک وتعالى:
(فإذا جاء أجلهم لا یستأخرون ساعة ولا یستقدمون)(25).
فهذا هو القضاء الحتمی من الله سبحانه لا یعارضه شیء أبداً.
المصادر :
1- فی سورة الإسراء، الآیة 4
2- فی سورة البقرة، الآیة 117
3- فی سورة طه، الآیة 72
4- فی سورة الإسراء، الآیة 23
5- فی سورة القصص، الآیة 15
6- الحجر/21
7- سورة الفجر، الآیة 16
8- الأحزاب، الآیة 38
9- مغنیه، فلسفة التوحید والنبوة، ص63
10- عقائد الزنجانی، ص33
11- سورة الزمر، الآیة 10
12- سورة الزلزلة، الآیتان 7-8
13- میزان الحکمة، ج3، ص327
14- سورة نوح الآیتان 24-25
15- سورة الإسراء، الآیة 77
16- سورة التوبة، الآیة 41
17- سورة الرعد، الآیة 11
18- فی سورة الإنسان، الآیة 30
19- فی سورة هود، الآیة 7
20- میزان الحکمة، ج5، ص129
21- بحار الأنوار، ج5، ص47
22- التوحید للصدوق، الطبعة الحجریة، ص337، عن المطهری، ص121
23- سورة آل عمران، الآیة 154
24- سورة آل عمران، الآیة 156
25- سورة النحل، الآیة 61