عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

مراحل بلوغ العبودية الكاملة

مراحل بلوغ العبودية الكاملة

ومن أجل بلوغ مرحلة الولاية وتسخير العالم وبعبارة أخرى بلوغ درجة الكمال والقدرة التى تحصل من خلال العبودية لله والإخلاص والعبادة الحقّة فإنه يتوجب اجتياز وطى مراحل ومنازل عديدة:
المرحلة الأولى‌
ضبط النفس وتطويعها من خلال الارتفاع بالعبادة والعبودية بنية خالصة نقية كما يريدها الله عزّ وجلّ.
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «1».
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «2».
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‌ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ «3».
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «4».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ «5». وفى هذه المرحلة من العبودية تنفتح الشخصية الإنسانية على آفاق من المعرفة بحيث تكون الرغبات والميول النفسانية للإنسان طوع إرادته فتظهر بذلك أولى ملامح العبودية وهى الولاية على النفس الإمارة والسيطرة عليها.
المرحلة الثانية
وفيها تكون للإنسان ولاية على أفكاره المشتتة المبعثرة، وبعبارة أولى تكون له القدرة على التحكم والسيطرة بقوته التخيلية.
إن من أعجب العجائب فى القوى الإنسانية قوّته التخيلية وبسبب هذه القوة ينتقل ذهن الإنسان فى كل لحظة ويقفز من موضوع إلى موضوع آخر أو بما يمكن التعبير عنه بتداعى المعانى وتسلسل الخواطر.
هذه القوة ليست تحت طوعنا وإرادتنا، بل نحن أسرى هذه القوّة المدهشة، ولذا كلما حاولنا أن نركز على موضوع معين إذا بنا نقفز إلى موضوع آخر، وإذا نحن أسرى هذه القوّة التخيلية التى تحلّق بنا هنا وهناك، ولعلنا ندرك كيف نحاول أن نستحضر وقوفنا فى الصلاة، فكلما حاولنا من أن نركز على ما نقوله أثناء الصلاة من كلمات ومعانى وأن يكون لنا حضور قلبى إذا بنا نعجز عن ذلك ونكلّ.
وهناك حديث لسيدنا ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام يقول فيه:
مثل القلب مثل الريشة فى الفلاة تعلقت فى أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن «1».
وتصور مشهد الريشة فى مهب الريح وهى معلقة فى أصل‌ الشجرة كيف تقلبها الريح بهذه الجهة.
         وقال النبى الكريم قلب ابن آدم             ريشة فى فلاة فى مهب الرياح‌
             تعصف بها الريح مرّة صوب اليمين             وأخرى تتجه بها نحو الشمال‌

وفى حديث آخر قال النبى:
قلب ابن آدم كالمياه تفور فى القدر الكبيرة
مرة تراه هنا وأخرى هناك‌
هناك فى تقلب كالمياه وهى تفور
قلب ابن آدم أشدّ انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غليا «1».
فهل الإنسان خاضع لهذه القوة التخيلية وهل أن هذه القوة الغامضة التى تشبه عصفوراً يقفز من هذه الغصن إلى ذاك هى التى تتحكم بكياننا؟ أم أن سيطرتها علينا نابعة من ضعفنا وسذاجتنا بينما الذين بلغوا درجات الكمال وأهل الولاية قادرون على تسخير هذه القوة العتيدة وتطويقها؟.
لا ريب أن القسم الثانى من هذا التساؤل هو الصحيح ذلك أن من واجبات الإنسان أن يتحكم برغباته ويقهر قوّة الخيال لديه ويسيطر عليها وإلّا فأن هذه القوة الشيطانية إذا ما تحكمت بالنفس الإنسانية، فانها ستذهب بها بعيداً عن طريق التكامل والصراط المستقيم وسوف تستغل جميع القوى النفسانية أبشع استغلال وتبدد كل هذه القوى بعيداً عن بناء الشخصية الإنسانية الرفيعة.
الروح العوبة بيد الخيال تقذفها هنا وهناك.
إن السالكين فى طريق العبودية يبلغون فى المرحلة الثانية مقام الولاية والربوبية على القوة التخيلية فتصبح فى طوعهم، وأثر ذلك فإن الروح والضمير ينهجان بنحو التسامى وتجذبهم الفطرة نحو الله، وحينئذ تكون الطريق مفتوحة بعد التحكم بالقوة التخيلية وبعادها عن قطع الطريق إلى الله.
يقول الشاعر مولوى وهو يصوغ حديث النبى (ص):
تنام عيناى ولا ينام قلبى «1».
         وقال النبى (ص): عيناى لا تنام             لا ينام القلب عن رب الأنام‌
             عينك متيقظة وقلبك نائم             عينى نائمة وقلبى متيقظ قائم‌
             جليسك لست أنا إنما ظلى             أبعد من الأفكار أنا

إن من الممكن كسب المعركة مع قوّة الخيال لأنه:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «2».
وعلى الإنسان أن يتجه إلى الله على أساس قابلياته فى العبادة، إن المرتاضين ينتهجون طرقاً أخرى وأقصى جهدهم هو الإنزواء بعيداً عن الحياة واتخاذ موقف سلبى تجاه نشاط الإنسان فى الدنيا، يعنى إهمال الحياة وتعذيب الذات عن طريق معاقبة الجسم من خلال التجويع والتشديد عليه والقيام بحركات هى فى الحقيقة نوع من التعذيب الذاتى، ومع كل ذلك فإنهم يحققون تقدماً طفيفاً على الصعيد الروحى.
إلا أن الإسلام حدد مساراً عبادياً يحقق أقصى النتائج من دون اللجوء إلى ما يقوم به المرتاضون.
إن استحضار القلب والوقوف أمام الرب والاستغراق فى هذا المشهد بشكل وجدانى سوف يوفر الظروف المساعدة للتركيز الذهنى والصفاء النفسى.
يقول ابن سينا: العبادة عند العارف رياضة ما لهممه وقوى‌ نفسه المتوهمة والمتخيلة ليجرّها بالتعويد عن جناب الغرور إلى جناب الحق فتصير مسالمة للسرّ الباطن حينما يتجلّى الحق لا تنازعه فيخلص إلى الشروق الباطن «1».
وابن سينا فى هذا النص يعتبر القوى المتوهمة والخيال و قوى تجرّ الإنسان فى طريق الغرور بعيداً عن الحق. والرياضة هنا هى تقوية الإرادة والهمّة لكبح جماح الخيال والوهم وتطويعها من خلال التعويد الذى هو تمارين مستمرة ورياضة روحية إلى حدّ استسلام قوّة الخيال وبالتالى حدوث حالة سلام داخل النفس بانتهاء حالة النزاع، وهنا يكون القلب مستعداً لتلقى الإشراق.
المرحلة الثالثة
وفى هذه المرحلة تصل الروح فى قدرتها وقوّتها وولايتها مرحلة تكون مستغنية فى كثير من الشؤون البدنية فى وقت يكون فيه البدن محتاجاً للروح مئة بالمئة.
الروح والبدن محتاجان لبعضهما البعض، فحياة البدن بالروح والروح صورة وحافظة للبدن، وإن سلب العلاقة التدبيرية للروح بالبدن تستلزم خراب وفساد البدن.
ومن جهة أخرى فإن الروح تحتاج البدن لأداء العديد من النشاطات فالروح تستخدم البدن فى نشاطها.
أى أن الروح لا يمكنها أن تقوم بنشاطها وفعالياتها من دون الأدوات البدنية.
واستغناء الروح عن البدن فى بعض نشاطاتها قد يحصل أحياناً فى لحظات، وقد يتكرر ذلك وربما يصبح دائمياً، وهذه الحالة يطلق عليها خلع البدن. والسهروردى فيلسوف الإشراق، يقول: أنه لا يعترف بحكمة من لا يستطيع القيام ب خلع البدن، أما ميرداماد فيذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: أنه لا يعترف بحكمة من لا يصبح خلع البدن لديه ملكة، بحيث يمكنه القيام بذلك متى شاء.
ويرى بعض الباحثين أن خلع البدن لا يدل على مرتبة متقدمة من الكمال؛ لأن بعض من لم يعبر عالم المثال. ولم يضع قدميه فى مرحلة الغيب المعقول، يمكنه أن يقوم بذلك ويبلغ مرحلة خلع البدن.
المرحلة الرابعة
وفيها يكون البدن تحت إمرة وقيادة وإرادة الإنسان، بحيث يمكنه القيام بأعمال خارقة للعادة فى إطار بدنه.
يقول الإمام الصادق (ع): ما ضعف بدن عما قويت عليه النية «1».
المرحلة الخامسة
وهذه المرحلة من أعلى المراحل وفيها تصبح الطبيعة تحت نفوذ الإنسان وتحت سيطرته وطوع إرادته، ومن هنا تأتى معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء؛ وذلك أن المعجزات هى تصرّف وتسخير للطبيعة وتنضوى تحت الولاية التكوينية.
فالعصا واستحالتها إلى أفعى وثعبان وتحويل الأعمى إلى بصير وبعث الحياة فى الموتى ومعرفة ما رواء الأستار، إن كل ذلك يأتى من باب التصرّف والولاية التكوينية.
ويظن البعض أن وقوع معجزة ما على يد نبى أو كرامة على يد ولى ليس له علاقة بإرادة صاحب المعجزة أو الكرامة ولا دخل لشخصيتة فى ذلك وأنه فقط واسطة أو مسرح لوقوع هذه الحادثة المدهشة، وأن الذات إلى الاحدية المقدسة هى وحدها فقط وبشكل مباشر وراء ذلك، لأن المعجزة إنما هى خرق للقانون الطبيعى وهو خارج عن قدرات الإنسان مهما بلغ من قدرته.
وهذا التصور خاطئ ذلك أن الله عز وجل جعل لكل شى‌ء سبباً وهو سبحانه يأبى أن يحدث فعل بدون واسطة وخارج نظامه ولأن هذا التصور يصطدم مع نصوص القرآن الكريم.
إن القرآن الكريم يصرح بشكل واضح أن الأنبياء هم من كانوا يقومون بالمعجزات، ولكن بإذن الله سبحانه وأنهم صلوات الله عليهم يقومون بالمعجزات بترخيص من الله عز وجل.
ومن البديهى أن الأذن الإلهى والترخيص الربّانى ليس من سنخ الأذن الإنسانى الذى نفهمه ونتصور وهو الطلب من إنسان ما الأذن بفعل شى‌ء.
كما أنه ليس هناك منعاً أخلاقياً أو اجتماعياً، بحيث يطلب الإنسان ترخيصاً بما يقوم به مثلًا.
إن الإذن الإلهى هو نوع من الكمال يبلغه النبى وهو بإرادة الله:
وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «1».
وفى هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على أن المعجزة هى من النبى، ولكن بإذن الله وهو إذن تكوينى فكل كائن فى هذا العالم وفى أى درجة كان ومرحلة إنما هو منفذ لإرادة الله ومشيئته، وهو مظهر من مظاهره، وأن الأنبياء وفى كل ما يفعلون ومن ضمن ذلك قيامهم بالمعجزات إنما يستمدون ذلك من النبع الأزلى للغيب، وقد أشرنا إلى ما ورد فى قصة النبى سليمان وعرش بلقيس ملكة سبأ: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ «1».
وفى الآية الكريمة تصريح إلى نسبة هذا العمل الخارق إلى الإنسان، أى ذلك الشخص فهو يقول أنا آتيك به واستناداً إلى علمه بجزء من الكتاب، فهناك علم لديه من اللوح المحفوظ وما حصل من علم خارق إنما جاء بموجب ما لديه من علم، وهكذا الأعمال الخارقة تأتى من خلال بلوغ الإنسان واطلاعه بنوع من العلوم لها علاقة واتصال باللوح المحفوظ ومقام القرب من الحق.
إذن فالقرآن الكريم يشير إلى تدرج الإنسان فى حركة جوهرية وبلوغه مرحلة يمكنه أن يتصرف بالطبيعة وتكون له ولاية على الكائنات، وهذه كلها نتيجة للقرب الإلهى وكلما زادت درجة القرب من الله عز وجل زادت قدرته فى التصرّف واشتدت ولايته.
عن الإمام الصادق (ع) عن جدّه رسول الله (ص) عن الله عز وجل فى حديث قدسى: ما تقرّب إلىّ عبد بشى‌ء أحب إلىَّ مما افترضت عليه، وأنه ليتقرّب إلىّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به، ويده التى يبطش بها إن دعانى أجبته وإن سألنى أعطيته «2».
وعلى هذا فإن الطريق الوحيد لبلوغ المقامات الإنسانية والوصول إلى درجة الإنسان الكامل هو سلوك طريق العبودية؛ لأن جوهر وكنه العبودية وحقيقتها هى الربوبية والولاية.
وقد بلغ أهل البيت فى عبادتهم وأخلاقهم وعبوديتهم لله تعالى مرحلة أصبحوا فيها الأكثر قرباً من الله عز وجل من سائر الكائنات من الجن والإنس والملائكة والكائنات صاحبة العقل الأخروى، ولهذا فقد أصبحت دائرة ولايتهم من السعة والإمتداد مستوى شملت الكائنات.


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

متسابقة إیرانیة تحظى بتشجیع کبیر بعد أداءها فی ...
بدء التسجيل للمشاركة في المسابقات القرآنية لدار ...
مغاربة يحفظون القرآن ويرتلونه على الألواح ...
أكثر من 860 حسابا تعمل لـ"داعش" على ...
داعش تحرق ١٥ مدنيا بينهم اطفال بتهمة ترك "ارض ...
اذاعة القرآن تنقل لقاء قائد الثورة الاسلامية مع ...
متمردون ينصبون كمينا ويقتلون 11 شرطيا في شرق الهند
العتبةُ العبّاسية تنشر مظاهر الفرح ابتهاجاً ...
الشيخ صديق محمود المنشاوى: الناس حمّلونى إلى دكة ...
ضرورة الإستفادة من القدارات الداخلية لمدرسة ...

 
user comment