يكفينا الآن، ونحن بصدد موضوع لا ندري على التحقيق، مدى تأثره بسوابقه ومقارناته، ان نرجع --ولو قليلاً - الى استعراض بعض الاوضاع الاجتماعية التي ثاب اليها المسلمون لاول مرة بعد عهد النبوة، بما كان للنبوة من اثر عميق في النفوس، وسلطان قوي على تكوين المجتمع، ويد صناع في بناء عناصر الحيوية في الاتباع.
يكفينا ونحن نستوحي الذكريات لوضع الصورة العابرة هنا، ان نأخذ من كل مناسبة صلتها بموضوعنا، أو نأخذ بالمناسبات ذات الصلة من دون غيرها، لنتعرف - على ضوء هذا الاسلوب - مدى تأثر موضوعنا بماضيه.
وكان الحدث الاكبر في تاريخ الاسلام هو وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وانقطاع ذلك الاشعاع السماوي الذي كان يفيض على الدنيا كلها بالخير، فاذا الدنيا كلها مظلمة تستعد للشر. وانقطعت الارض بموت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)عن السماء، اذ كان الوحي هو بريدها الى الارض واداة صلتها بها. وهل للارض غنى عن السماء، وفي السماء رزقها ومنها خيرها وحياتها وحيويتها ونورها ودينها. وما كان أشد من هذه الوحشة على الدنيا، ولا أفدح من هذه الخسارة على المسلمين، لو انه كان - ونعوذ باللّه -
انقطاعاً باتاً وانفصالاً نهائياً. ولكن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)أدرك ما سيمتحن به المؤمنون بعده من عظيم الرزية بانقطاع الوحي من بينهم، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فأخبرهم بان حبلاً واحداً سيبقى متصلاً بينهم وبين السماء. وهل حبل أولى بالتمسك من حبل السماء وقد انقطع الوحي، قال:
«اني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الارض، وعترتي اهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1)
ومن حق البحث الذي بين ايدينا ان يستقرئ في هذه المناسبة موقف المجتمع من عترة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، او موقف الجماعات التي كانت تدعي لنفسها حق التمثيل للمجتمع، لينظر فيما خلفوا رسول اللّه في عترته - استغفر اللّه - بل لينظر فيما يتصل من ذلك بموضوعنا من هذه المناسبة العابرة. واذا كانت العترة عشيرة الرجل، فعلي أبرز رجالها بعد رسول اللّه، واذا كانت ذريته، فالحسن كبير عترة النبي من بعده. وتجيز اللغة اطلاق العترة على الصنفين - العشيرة والذرية - معاً.
نعم انه قدّر لهذا المجتمع، ان ينقسم انقسامته التاريخية التي وقعت فور الفاجعة العظمى بوفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، حين تأول قوم فانساحوا الى تأولاتهم، وتعبّد آخرون فثبتوا على الصريح من قول نبيهم، وللنبي تصريحات كثيرة في موضوع الترشيح للخلافة ليس هنا مكان استعراضها. ولسنا الآن بصدد مناقشة المتأولين أو مساجلة المتعبدين، لان كل شيء مما نتفق عليه معهم جميعاً، أو مع فريق واحد منهم، أو مما نختلف فيه قد تم في حينه على صورته. وليس فيما تتناوله بحوثنا الآن ما يستطيع ان يغير الواقع عن واقعه.
ولكنا - ولنلتمس المعاذير للمتأولين - على مخالفتهم لنصوص نبيهم نقول: انهم نظروا الى هذه النيابة عن الوحي التي جعلها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)للكتاب وللعترة من بعده، في حديثه هذا وفي نظائره الكثيرة من الاحاديث الاخرى، نظرتهم السياسية التي لا تعني الانكار على رسول اللّه، ولكنها تهدف - قبل كل شيء - الى «المصلحة» فيما يرون، ورأوا ان وجوب اطاعة الاوامر النبوية في الموضوعات السياسية، منوط بذوي التجارب من الشيوخ المتقدمين بالسن. فان صادقوا على ما أراده النبي فذاك، والا فليكن ما أرادوا هم.
وهكذا زويت الخلافة عن العترة. وهكذا صار من الممكن وربما من المستحسن لدى فريق عظيم من مسلمة محمد (صلى اللّه عليه وآله)، ان يصبح معاوية أيضاً ممن ينازع على خلافة الاسلام ويطلبها لنفسه، ويحتج عليها بالسن(2) ايضاً، ويصادق عليها الشيوخ المسنون ايضاً كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وابي هريرة الدوسي. ولم تكن حملة معاوية هذه بما فيها من استخفاف بقدسية الاسلام، الاولى من نوعها، ولكنها كانت تمتد بجذورها الى عهد أقدم، والى تصالح وتعاون أسبق، ومن طراز أسمى(3) ولم يبق مخفياً ان الحجر الاساسي لهذا التدهور غير المنتظر، كان هو الذي بني هناك في المدينة المنورة، وقامت عليه سقيفة بني ساعدة بما ابرم فيها من حبل جديد هو غير الحبل الممدود - عمودياً - من السماء الى الارض الذي عناه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)في حديثه الآنف الذكر. ولكنه حبل آخر اريد ليمتد مع التاريخ - افقياً -.
وتوالت تحت السقيفة أحدا***ثٌ أثارت كوامناً وميولا
نزعات تفرقت كغصون ال***عوسج الغض شائكاً مدخولا
ووقف صاحب الحق بالخلافة من اخوانه المتأولين، موقفه المشرف الذي دل بذاته، وبما حفظ الاسلام من الانهيار، على انه وحده كان الوسيط بين الناس وحبل السماء. وتلكأ عن بيعتهم بمقدار ما نبه الذهنية الاسلامية الى الحق المغلوب على امره، واخذ الى البيعة - بعد ذلك - أخذاً. وسأله بعض اصحابه: «كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟» فقال: «انها كانت أثرة، شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم للّه والمعود اليه القيامة. ودع عنك نهباً صيح في حجراته(4)
لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم.
وعشا عن انواره مناوئوه، وعلى أبصارهم غشاوة الذحول. فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره واخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذ اكثر مما نستوعبها نحن. ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في احقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الاسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.
ونقموا عليه سنه لانه كان في العقد الرابع. ولا عجب اذا رأى ذوو الحنكة المسنون، ان لا يكون الخليفة بعد رسول اللّه مباشرة، الا وهو في العقد السابع مثلاً.
وخفي عليهم ان الامامة في الاسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة، ولا يجوز عليها ما لا يجوز على النبوة في عظمتها. فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص على التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات اللّه وتصريحات نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم). وكانت سن علي يوم وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، سن عيسى بن مريم يوم رفعه اللّه عز وجل، أفيجوز لعيسى ان ينتهي بقصارى نبوته في الارض الى هذه السن، ولا يجوز لعلي أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها اللّه لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنيّ الانسان لما اختارها اللّه للمصطفين من عباده في الجنان.
ونقموا عليه قرباه «فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد» ولا نعرف كيف انقلبت الفضيلة - على هذا المنطق - سبباً لنقمة. ولا نفهم كيف كانت «القرابة» بموجتها القصيرة، وبما هي اقرب الى النبي صلى اللّه عليه وآله حائلاً دون الخلافة، ثم هي بموجتها الطويلة، وبما هي أبعد عن النبي، دليل الخلافة والحجة الوحيدة في ما دلفوا به من حجاج خصومهم.
وحسبوا انهم أحسنوا صنعاً للاسلام وللمصلحة العامة بفصلهم الخلافة عن بيت النبوة، وبما فسحوا المجال لبيوتات اخرى، تتعاون - بدورها - على غزو المنصب الديني الأعلى، أبعد ما يكون بطبيعته عن مجالات الغزو والغلبة والاستيلاء بالقوة والعنف.
وخفي عليهم ما كان يحتاط به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لامته ولعترته، حين سجل الخلافة في بيته.
وجاءت الاحداث - بعد ذلك - فنبهت العقول الواعية الى اخطاء القوم وصواب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.
فكانت «عملية الفصل» هذه، هي مثار الخلافات التاريخية الحمر، بين عشاق الخلافة في مختلف الاجيال، ومبعث مآسٍ فظيعة في المسلمين، ومصدر انعكاسات مزرية في مثالية الاسلام، كان المسلمون في غنى عنها لو قدّر للخلافة - من يومها الاول - ان تأخذ طريقها اللاحب الذي لا يجوز فيه اجتهاد، ولا تمسه سياسة، ولا يتصرف فيه احد غير اللّه ورسوله.
«وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى اللّه ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا».
وهل كان التناحر والتطاحن المديد العمر المتوارث مع الاجيال فيما بين الاسر البارزة في المسلمين، الا نتيجة فسح المجال لهذا او ذاك في الطماح الى غزو المقام الرفيع.
وهل كانت المجازر الفظيعة التي جابهها المسلمون في الفترات المختلفة من تاريخ الاسلام: بين بني هاشم وبني امية: وبين بني الزبير وبني امية: وبين بني العباس وبني امية: وبين بني علي وبني العباس... الا النتيجة المباشرة لفصم ذلك التقليد الديني الذي احتاط به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، ليكون حائلاً دون امثال هذه المآسي والاحداث المؤسفة في الاسلام.
وهل كانت «فجائع العترة» الفريدة من نوعها - بالقتل والصلب والسبي والتشريد - الا اثر الخطأة الاولى، التي خولفت بها سياسة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)فيما اراده لامته ولعترته، وفيما حفظ به امته وعترته جميعاً، لو انهم اطاعوه فيما اراد.
ولكنهم جهلوا مغزى هذه السياسة البعيدة النظر، فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد، انصهاراً بسياسة اخرى.
وكانت هي المعذرة الظاهرة التي لم يجدوا غيرها معذرة يبوحون بها للناس. اما معذرتهم الباطنة، فلا يعلم بها الا العالم ببواطن الامور وهي على الاكثر لا تعدو الذكريات الدامية في حروب الدعوة الاسلامية، أو الحسد الذي «يأكل الدين كما تأكل النار الحطب» - كما في الحديث الشريف -.وكان حب الرياسة وشهوة الحكم، شر أدواء الناس وبالاً على الناس، وأشدها استفحالاً في طباع الاقوياء من زعماء ومتزعمين.وما النبوة ولا الامامة بما هما - منصب إلهي - من مجالات السياسة بمعناها المعروف، وكل سياسة في النبوة أو في شيء من ذيولها الادارية، فهو دين والى الدين. والمرجع الوحيد في كل ذلك، هو صاحب الدين نفسه، وكلمته هي الفصل في الموضوع.
ولكي تتفق معي على مسيس اتصال هذه المناسبة بموضوعنا اتصالاً وشيجاً، عليك ان تتطلع الى اللغة المتظلمة الناقمة التي ينكشف عنها الحسن بن علي عليهما السلام في هذا الشأن، بما كتبه الى معاوية، ابان البيعة له في الكوفة. قال: «فلما توفي - يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم - تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته واولياؤه، ولا يحل لكم ان تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب ان القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم في امر محمد. فأنعمت لهم وسلمت اليهم، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا اهل بيت محمد واولياءه الى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه وهو الولي النصير. »ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين ان يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.
«فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، وانت ابن حزب من الاحزاب، وابن أعدى قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار !!»(5)
وهكذا نجد الحسن عليه السلام، يعطف - بالفاء - عجبه من توثب معاوية على تعجبه لتوثب الاولين عليهم في حقهم وسلطان بيتهم. ومن هنا تنبثق مناسبة اتصال قضيته بقضايا الخلائف السابقين، وتنبثق معها مناسبات اخرى. بعضها للاخوين. وبعضها للابوين. وبعضها للحق العام. وما نحن بالذاكرين شيئاً منها هنا، لانا لا نريد ان نتصل بهذه البحوث، في سطورنا هذه، الا بمقدار ما تتصل هي بالصميم من موضوعنا.
وعلمنا ان الرشاقة السياسية البارعة التي ربحت الموقف بعد وفاة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)في لحظات، والتي سماها كبير من اقطابها «بالفلتة» وسماها معاوية «بالابتزاز للحق والمخالفة على الامر»(6)، كانت بنجاحها الخاطف دليلاً على سبق تصميم في الجماعات التي وليت الحل والعقد هناك. فكان من السهل ان نفهم من هذا التصميم «اتجاهاً خاصاً» نحو العترة من آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)له اثره في حينه، وله آثاره بعد ذلك.
فكانوا المغلوبين على امرهم، والمقصيين - عن عمد - في سائر التطورات البارزة التي شهدها التاريخ يومئذ فلا الذي عهد بالخلافة قدمهم. ولا الذي حصر الخليفة في الثلاثة من الستة انصفهم. ولولا رجوع الاختيار الى الشعب نفسه مباشرة، بعد حادثة الدار، لما كان للعترة نصيب من هذا الامر على مختلف الادوار.
ثم كان لهذا «الاتجاه الخاص» أثره في خلق معارضة قوية للعهدين اللذين رجعا بامرهما الى العترة من آل محمد صلى اللّه عليه وآله.
وفي حروب البصرة وصفين فمسكن شواهد كثيرة على ما نقول.
وفي موقف ابن عمر(7) وسعد بن ابي وقاص واسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وقدامة بن مظعون وعبد اللّه بن سلام وحسان بن ثابت وأبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير.. وهم «القعّاد» الذين آثروا الحياد، واستنكفوا من البيعة لعلي ولابنه الحسن عليهما السلام شواهد اخرى.
ولهذه المعارضة ميادينها المختلفة والوانها المتعددة. ومنها المواقف السلبية النابية التي جوبه بها زعماء العترة عليهم السلام، في المدينة اولاً، وفي الكوفة اخيراً.
والا فما الذي كان يحدو علياً عليه السلام، ليقول من على منبره في الكوفة:
«يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الاطفال وعقول ربات الحجال، أما واللّه لوددت أن اللّه أخرجني من بين أظهركم، وقبضني الى رحمته من بينكم، ووددت أني لم أركم ولم أعرفكم، فقد والله ملأتم صدري غيظاً. وجرعتموني الامرين أنفاساً. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان..»
الى كثير مما يشبه هذا القول، مما أثر عنه في خطبه وكلماته.
اليست هي المعارضة التي زرعت نوابتها الخبيثة في كل مكان من حواضر علي عليه السلام، فأخذت على الناس التقاعس عن نصرته بشتى المعاذير.
أقول هذا. ولا اريد ان أتتاسى - معه - العوامل الاخرى التي شاركت «الاتجاه» - الآنف الذكر - في تكوين هذه المعارضة بموقفيها - الايجابي المسلح والسلبي الخاذل - تجاه العترة النبوية في العهد الهاشمي الكريم.
ولا أشك بان العدل الصارم، والمساواة الدقيقة في التوزيع التي كانت طابع هذا العهد، بل هي - دون ريب - طابع العهود الهاشمية مع القرن الاول، في نبوتها وفي خلافتها. - هي الاخرى التي تحسس منها الناس أو قسم من الناس، بشيء من الضيق لا يتسع للطاعة المطلقة ولا للاخلاص الحر اللذين لن ينتفع بغيرهما في ميدان سلم أو ميدان حرب.
والظروف الطارئة بمقتضياتها الزمنية التي طلعت بها على الناس خزائن الممالك المهزومة في الفتوح، والطعوم الجديدة من الحياة التي لا عهد لهؤلاء الناس بمثلها من قبل - كل ذلك، كان له أثره في خلق الحس المظلم الذي من شأنه ان يظل دائماً في الجهة المعاكسة للنور.
وفي بحران هذا «الاتجاه الخاص» الذي تعاون على تكوينه ربع قرن من السنين، يتمثل عهد علي عليه السلام في خلافته قبل بيعة الحسن في الكوفة.
والحسن من علي (عليهما السلام) كبير ولده، وولي عهده، وشريك سرائه وضرائه، يحس بحسّه ويألم بألمه. وهو - اذ ذاك - على صلة وثيقة بالدنيا التي أحاطت بابيه من قومه ومن رعيّته ومن أعدائه، فهو لا يجهلها ولا يغفل عنها، وكان ينطوي ممّا يدور حوله على شجى مكتوم، يشاركه فيه أخوه كما يشاركه في اخوّته. وكان هذا الشجى المكتوم، هو الشيء الظاهر مما خلف به هؤلاء المسلمون - يومئذ - نبيَّهم في عترته، جواباً على قوله (صلی الله عليه وآله وسلم)لهم: «فانظروا كيف تخلفوني فيهما !!».
وكان الحسن عليه السلام، اذ ينطوي على هذا الشجى، لا يلبث ان يستروح الامل - أحياناً - بما يجده في صحابة أبيه البهاليل من النجدة والحيوية والمفاداة وشمائل الاخلاص الذي لا تشوبه شائبة طمع في دنيا، ولا شائبة هوى في سياسة.
ومن هؤلاء، القواد العسكريون، والخطباء المفوّهون. والفقهاء والقراء والصفوة الباقية من بناة الاسلام. كانوا - بجدارة - العدة التي يستند عليها امير المؤمنين، في حربه وسلمه. وكانوا - بحق - دعامة العهد الهاشمي فيما تعرض له هذا العهد، من زلازل وزعازع واخطار.
وكانوا المسلمين الذين وفوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فيما واثقوه عليه في ذريته، بأن يمنعوهم بما يمنعون به انفسهم وذراريهم. فلم لا يستروح الحسن بهم روائح الامل لقضية ابيه، بل لقضية نفسه.
وكانوا المؤمنين الذين آمنوا بكلمات اللّه في اهل بيت نبيهم وذوي قرباه وآمنوا بوصيّنبيهم، وبمراتبه التي رتبها اللّه له أو رتّبه لها. وفهموا علياً كما يجب أن يفهم. وعليٌّ هو ذلك البطل الذي لم يحلم المسلمون بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)بمثله، اخلاصاً في الحق، وتفادياً في الاسلام، ونصحاً للمسلمين، واستقامة على العدل، واتساعاً في العلم. ولن ينقص علياً في كبرياء معانيه، جحود الآخرين فضائله ومميزاته، ولهؤلاء الآخرين من مطامعهم واهوائهم شغل شاغل يملأ فراغ نفوسهم. وما في ملاكات علي عليه السلام متسع للاهواء والمطامع. فليكن هؤلاء - دائماً - في الملاكات البعيدة عن علي، وليكونوا في المعسكر الذي يقوم على المساومة بالمال والولايات.. وليكن مع علي زمرته المنخولة تلك، المسلمة اسلامها الصحيح امثال عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وحذيفة بن اليمان، وعبد اللّه وعبد الرحمن ابني بديل، ومالك بن الحارث الاشتر، وخباب بن الارت، ومحمد بن ابي بكر، وابي الهيثم بن التيهان، وهاشم بن عتبة ابن ابي وقاص (المرقال)، وسهل بن حنيف، وثابت بن قيس الانصاري، وعقبة بن عمرو، وسعد بن الحارث بن الصمة، وابي فضالة الانصاري، وكعب بن عمرو الانصاري، وقرضة بن كعب الانصاري، وعوف بن الحارث بن عوف، وكلاب بن الاسكر الكناني، وابي ليلى بن بليل.... واضراب هؤلاء من قادة الحروب وأحلاس المحاريب، الذين انكروا الظلم، واستعظموا البدع، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتسابقوا الى الموت في سبيل اللّه، استباق غيرهم الى المطامع في سبيل الدنيا.
ومن الخير، أن ننبّه هنا، الى ان جميع هذه الصفوة المختارة كانت قد استشهدت في ميادين علي عليه السلام، وان ثلاثاً وستين بدرياً استشهد معهم في صفين(اسم موضوع على شاطئ الفرات بين «عانة» و«دير الشعار». كان ميدان الحروب الطاحنة بين الكوفة والشام.) وحدها، وان أضعاف هذه الاعداد كانت خسائر الحروب المتعاقبة مدى ثلاث سنوات.
فما ظنك الآن، بذلك الامل الذي كان يداعب الحسن عليه السلام بوجود الانصار، وهل بقي للحسن - بعد هذا - الا الشجى المكتوم، مضاعفاً على تضاعيف الايام.
اما معسكر علي عليه السلام، فقد نكب نكبته الكبرى، حين أصحر من خيرة رجالاته، ومراكز الثقل فيه.
واما دنيا علي عليه السلام، فقد عادت لسقيا الغصص وشرب الرنق - على حد تعبيره هو فيما ندب به أصحابه عند مصارعهم -.
وتلفّت عليّ الى آفاقه المترامية التي تخضع لامره، فلم يجد بين جماهيرها المتدافعة، من ينبض بروح اولئك الشهداء، أو يتحلى بمثل مزاياهم، اللهم الا النفر الاقل الذي لا يناط به أمل حرب ولا أمل سلم.
ولولا قوة تأثيره في خطبه، وعظيم مكانته في سامعيه، لما تألف له - بعد هؤلاء - جيش، ولا قامت له بعدهم قائمة.
وهكذا أسلمته ظروفه لان يكون هدف المقاطعة من بعض، وهدف العداء المسلح من آخرين، وهدف الخذلان الممقوت من الاتباع (فلا اخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء).
وأيّ حياة هذه التي لا تحفل بأمل، ولا ترجى لنجاح عمل. وقد أزمع فيها الترحال عباد اللّه الاخيار، الذين باعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى.
فسُمِعَ وهو يقول (اللهم عجل للمراديّ شقاءه) وسُمِعَ وهو يقول (فما يحبس أشقاها ان يخضبها بدم أعلاها)، وسُمِعَ وهو يقول (أما واللّه لوددت ان اللّه أخرجني من بين أظهركم وقبضني الى رحمته من بينكم).
وسلام عليه يوم وُلِد. ويوم سبق الناس الى الاسلام. ويوم صنع الاسلام بسيفه. ويوم امتحن. ويوم مات. ويوم يبعث حياً.
وترك من بعده لولي عهده، ظرفه الزمنّي النابي، القائم على اثافيّه الثلاث - فقر الأنصار. والعداء المسلَح. والمقاطعة الخاذلة.
البيعة
اذا كان الدين في الاسلام، هو ما يبلّغه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لانه الذي لا ينطق عن الهوى «ان هو الا وحي يوحى»، واذا كان الخليفة في الاسلام هو من يعيّنه النبي للخلافة، لانه المرجع الأعلى في الاثبات والنفي، فالحسن بن علي، هو الخليفة الشرعي، بايعه الناس أو لم يبايعوه.
ذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باسمه في سلسلة أسماء خلفائه الاثني عشر، كما تضافر به الحديث عنه، فيما رواه علماء السنة(8)، وفيما أجمع على روايته علماء الشيعة، وفيما اتفق عليه الفريقان، من قوله له ولاخيه الحسين: «انتما الامامان ولأُمَّكما الشفاعة(9)». وقوله وهو يشير الى الحسين: «هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة(10)» - الحديث -.وأمره أبوه أمير المؤمنين - منذ اعتل - أن يصلي(11) بالناس، وأوصى اليه عند وفاته قائلاً: «يا بنيّ أنت ولي الامر وولي الدم، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ودفع اليه الكتاب والسلاح، ثم قال له: «يا بنيّ أمرني رسول اللّه أن اوصي اليك، وأن أدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصى اليّ رسول اللّه ودفع اليّ كتبه وسلاحه. وأمرني أن آمرك، اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين». ثم أقبل على الحسين فقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك هذا». ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال: «وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك محمد. فأقرِئه من رسول اللّه ومني السلام»(12)
صورة تحكيها كل كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع، وترفعها مسندة بالطرق الصحيحة الموثقة، الى مراجعها من اهل البيت عليهم السلام وغيرهم. وهي الصورة التي تناسق الوضع المنتظر لمثل ظرفها. والا فما الذي كان ينبغي غير ذلك ؟
وهذه هي طريقة الامامية من الشيعة في اثبات الامامة.
- نصوص نبوية متواترة من طرقهم، ومروية بوضوح من طرق غيرهم، تحصر الامامة في اثني عشر اماماً كلهم من قريش(13)، وتذكر - ضمناً - أو في مناسبة اخرى، أسماءهم اماماً اماماً الى آخرهم، وهو المهدي المنتظر الذي يملأ اللّه به الارض قسطاً وعدلاً، بعد أن تكون قد امتلأت ظلماً وجوراً.
- ونصوص خاصة، من كل امام على خلفه الذي يجب أن يرجع اليه الناس.
ثم يكون من تفوّق الامام، في علمه وعمله ومكارمه وكراماته، أدلة وجدانية اخرى، هي بمثابة تأييد لتلك النصوص بنوعيها.
اما بيعة الناس فليست شرطاً في امامة الامام. وانما على الناس أن يبايعوا من أرادته النصوص النبوية. ولا تصحّح الامامية بيعة غيره. ولا تقع من أحدهم الا اضطراراً.
وقضت الظروف بدوافعها الزمنيّة، أن لا يبايع الناس من الائمة المنصوص عليهم، الا الامامين علياً والحسن عليهما السلام.
وابتدأ بعد الحسن عهد «الخلافات» الاسمية، التي ترتكز في نفوذها على السلاح، وتقوم في بيعتها على شراء الضمائر بالمال. أو كما قال الغزالي «وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق»(14)
وكان الاولى بالمسلمين، أو بمؤرخة الاسلام على الاخص، ان يغلقوا عهد «الخلافة» بنهاية عهد الحسن عليه السلام، ليشرعوا بعده عهد «الملك» بظواهره وسياسته وارتجالاته ولو فعلوا لحفظوا مثالية الاسلام مجلوّةً بما ترسَّمه خلفاؤه المثاليون من سيرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولصانوا الاسلام عن كثير مما وصمه به هؤلاء الملوك الذين فرضوا على المسلمين خلافاتهم فرضاً، ثم جاء التاريخ فرضي أن يسميّهم «الخلفاء» من دون استحقاق لهذا الاسم، وأساء الى الاسلام من حيث أراد الاحسان.
ترى، أيصح للخليفة الذي يجب أن يكون أقرب الناس شبهاً بصاحب الرسالة في ورعه وعلمه والتزامه بحرفية الاسلام، أن يصلي «الجمعة» يوم الاربعاء، أو يصليها مرةً اخرى في ضحى النهار، أو يتطلب محرماً، أو يبيع الذهب باكثر منه وزناً، أو يلحق العهار بالنسب، أو يقتل المؤمن صبراً، أو يرد الكافر بالمال ليتجهز على اخوانه المسلمين بالحرب ؟ الى غير ذلك والى أنكى من ذلك من ظواهر الملك التي لا يجوز نسبتها الى الدين. فَلمَ لا يكون صاحبها رئيس دنيا و«ملكاً» بدل أن نسميه رئيس دينٍ و«خليفةً» ؟. وناهيك بمن جاء بعد معاوية من خلائف هذه الشجرة المنعوتة في القرآن - نعتها اللائق بها -. فماذا كان من يزيد وماذا كان من عبد الملك ومن الوليد، ومن آخرين وآخرين.
كل ذلك كان يجب أن يستحث المسلمين الى الانتصاف للاسلام، فلا يضيفون الى مراكزه الدينية العليا، الا الاكفاء المتوفرين بتربيتهم على مثاليّته والذين هم أقرب الناس شبهاً بمصدر عظمته الاول (صلی الله عليه وآله وسلم).
وعلمنا - مما تقدم - أن الحسن بن علي عليهما السلام، كان أشبه الناس برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خلقاً وخلقاً وهيأة وسؤدداً(15). وانه كان عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك. وعلمنا أنه كان سيد شباب أهل الجنة في الآخرة. والسيد في الآخرة هو السيد في الدنيا غير منازع. و«السيد» المطلق لقبه الشخصيّ الذي لقبه به جدّه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
وعلمنا أنه كان أشرف الناس نسباً، وخيرهم أباً واماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة. كما وصفه مالك بن العجلان في مجلس معاوية(16)
فلم لا يكون - على هذا - هو المرشح بالتزكية القطعية للبيعة العامة. كما كان - الى ذلك - هو الامام المقطوع على أمره بالنص. ولم لا يضاف اليه المركز الدينيّ الأعلى، وهو من عرفت مقامه وسموّه ومميزاته. واذا تعذر علينا أن نفهم الامامة والكفاءة للخلافة، من هذه القابليات الممتازة والمناقب الفضلى، فأي علامة اخرى تنوب عنها أو تكفينا فهمها.
خرج عليه السلام الى الناس، غير ناظر الى ما يكون من أمرهم معه، ولكنه وقف على منبر أبيه، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتله صلوات اللّه وسلامه عليه.
فقال: «لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه. ولقد تُوفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران. ورفع بها عيسى بن مريم، وانزل القرآن. وما خلّف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله»(17)
وتأبين الحسن هذا - بأسلوبه الخطابي - فريد لا عهد لنا بمثله، لانه - كما ترى - لم يعرض الى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل، فكان لهم أفضل درجاتها، ومرنوا على المكارم فاذا هم في القمة من ذرواتها، علماً وحلماً وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسباً وحسباً ونبلاً ووفاء واباء، كعلي الذي حيّر المادحين مدح علاه. فلماذا يعزف الحسن عليه السلام، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء ؟. ترى أكانت الصدمة القوية في مصيبته به، هي التي سدّت عليه - وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب - أبواب القول فيما ينبغي أن يقول، أم أنه كان قد عمد الى هذا الاسلوب قاصداً، فكان في اختيارالاسلوب الخاص، ابلغ الخطباء وابرعهم اصابة للمناسبات، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات.
نعم انه يؤبّنه بما لا يسع أحداً في التاريخ أن يؤبن به غيره. وكل تأبين على غير هذا الاسلوب، كان بالامكان أن يؤبَّن على غراره غيره وغيره من عظماء الناس. اما الاوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الاولياء.
انه ينظر اليه من زاويته الربانية - نظر امام الى امام - فاذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم، ولا يضاهيه - في شتى مراحله - وليٌّ ولا زعيم.
رجلٌ ولكنه الذي لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون. وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل، وهل هذا الا الانسان الملائكي. ترفع روحه يوم يرفع عيسى، ويموت يوم يموت موسى، وينزل الى قبره يوم ينزل القرآن الى الارض! مراحل كلها بين ملَكٍ مقرّب ونبي مرسلٍ وكتاب منزل، ومع رسول اللّه يقيه بنفسه. فما شأن مكارم الدنيا، الى جنب هذه المكرمات الكرائم، حتى يعرض اليها في تأبينه.
ولعلك تتفق معي الآن الى أن هذا الاسلوب الرائع «الفريد» فيما أبن به الحسن أباه عليهما السلام، كان أبلغ تأبين في ظرفه، وأليقه بهذا الفقيد.
وهذه احدى مواقفه الخطابية، التي دلت بموهبتها الممتازة على نسبها القريب، من جده ومن أبيه (صلى اللّه عليهما وعلى آلهما). وسيكثر منذ اليوم أمثالها، من الحسن «الخليفة» عليه السلام، بحكم نزوله الى قبول البيعة من الناس، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات.
ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع - وقد غص بالناس - ابن عمه «عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب». ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرَّنة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبين الامام الحسن لابيه عليهما السلام.
ثم قال - بصوته الجهوريّ الموروث - الذي يدوّي في الارض دويّ أصوات السماء، وما كان عبيد اللّه منذ اليوم، الا داعي السماء الى الارض:
«معاشر الناس هذا ابن نبيكم، ووصي امامكم فبايعوه» «يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه، ويهديهم الى صراط مستقيم».
وفي الناس الى ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول اللّه صلى اللّه عليه واله، على امامته بعد ابيه. فقالوا: «ما أحبّه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة». وبادروا الى بيعته راغبين.
وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة ابيه عليه السلام، سنة اربعين للهجرة(18)
وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها، من اللّه عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته - معها - البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم «جارية بن قدامة»، وفارس على يد عاملها «زياد بن عبيد»، وبايعه - الى ذلك - من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والانصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته - فيما نعلم - الا معاوية ومن اليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجرى مع الحسن مجراه مع أبيه بالامس. وتخلّف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.
اما الخلافة الشرعية. فقد تمت «على ظاهرتها العامة» من طريق البيعة الاختيارية، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين وطلعت على المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن. فكانت من ناحية صلتها برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، امتداداً لمادة النور النبويّ، في المصباح الذي يستضيء به الناس. ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته.
فكان على ذلك الأولى بقول الشاعر:
نال الخلافة اذ كانت له قدراً***كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
ويعود الامام الحسن عليه السلام - بعد أن أُخذت البيعة له - فيفتتح عهده الجديد، بخطابه التاريخيّ البليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار..
فيقول. (وهو بعض خطابه):
«نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه الاقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه في امته، ثاني كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة، اذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة، قال اللّه عزّ وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول وقال: ولو ردّوه الى الرسول واولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم».
ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله:
«واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوّ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني أرى ما لا تَرون. فستلقون للرماح وردا، وللسيوف جزرا، وللعُمُد حطما، وللسهام غَرَضا. ثم لا ينفع نفساً ايمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً»(19)
ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمَّر الامراء ونظر في الامور
قبول الخلافة
وتحذلق بعض المترفهين بالنقد، فرأى من «التسرع» قبول الحسن للخلافة، في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع ونتائج، بعضها ألم، وبعضها خسران.
ولكي نتبين مبلغ الاصابة في التسرع الى هذا النقد. نقول:
اما اولاً:
فلما كان الواجب على الناس ديناً، الانقياد الى بيعة الامام المنصوص عليه، كان الواجب على الامام - مع قيام الحجة بوجود الناصر - قبول البيعة من الناس.
اما قيام الحجة - فيما نحن فيه - فقد كان من انثيال الناس طواعية الى البيعة في مختلف بلاد الاسلام، ما يكفي - بظاهر الحال - دليلاً عليه. ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.
واما ثانياً:
فان مبعث هذا الانعكاس البدائي، عن قضية الحسن عليه السلام هوالنظر اليها من ناحيتها الدنيوية فحسب. بينما الانسب بقضية «امام» ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية على الاكثر. وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين في نظر امام. والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة - كما سنأتي على توضيحه في محله المناسب - وهي وان تكن معرض آلام، ولكنها آلام في سبيل الاسلام، ومن أولى من الحسن بالاسلام وتحمّل آلامه. وانما هو نبت بيته.
واما ثالثاً:
فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم، بالذي يستطيع الفراغ وان أراده عن عمد، ولا بالذي يتركه الناس وان أراد هو ان يتركهم، وكان لابد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي، أن تتدافع اليه، تستدعيه للوثوب احقاقاً للحق وانكاراً للمنكر - كما وقع لاخيه الحسين عليه السلام في ظرفه.
وأيضاً. فلو ترك الناس وتجافى عن بيعتهم، أو تركه الناس وأعفوه خلافتهم، فلن يتركه المتغلبون على الناس. وانهم لينظرون اليه - دائماً - كشبح مخيف، بما يدور حوله من الدعوة الى الاصلاح، او النقمة الصارخة على الوضع، التي كان يتطوع لها مختلف الطبقات، من الساخطين والمعارضين والدعاة للّه، ولن يجد هؤلاء يومئذ ملجأ يفيئون اليه، خيراً من ابن رسول اللّه الامام المحبوب. وهل كانت الوفود التي عرضت عليه استعدادها لمناوأة الحكام الامويين واعادة الكرة(20) لاسترجاع الحق المغصوب، الا ظاهرة هذه النقمة الصارخة التي كان يعج بها المجتمع الاسلامي يوم ذاك. وأنى لسلطان المتغلبين أن يستقر ما دام هذا المنار قائماً يفيء اليه الناس.
ولنتذكر أنه قتل مسموماً. ولماذا يقتلونه وقد صالحهم وترك لهم الدنيا برمتها، لولا أنهم خافوه على سلطانهم، ورأوا من وجوده حاجزاً
يمنعهم من النفوذ الى قلوب الناس ؟ وهل ذلك الا دليل انقياد الناس - في عقيدتهم - اليه دونهم ؟
وهذا كله بعد الصلح، وبعد ظهور جماعات من شيعته وغير شيعته ينكرون عليه موقفه من الصلح.
ترى فكيف كانت قوته في الناس لو انه أبى الخلافة من أول الامر، وبقي شغف المسلمين الى بيعته على حدّته، فهل كان من المحتمل، أن يظل محور الامل ومفزع الناقمين والمعارضين، ثم تنام عنه العيون الحذرة على دنياها، فلا تعاجله بما ختمت به حياته المقدسة اخيراً ؟ وهل كان الا طعمة الاغتيالات الكافرة في سنته الاولى بعد ابيه - على اغلب الظن - ؟.
فأيّ منطق هذا الذي يرى من قبول الحسن للخلافة تسرّعاً !
والخلافة - في أصلها - مقام ابيه وميراثه وميراث أخيه - على حد تعبير الامام علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام.
واما الزعازع التي لوّح بها هذا النقد، فما كانت الا خطط المناوئين في الكوفة، وليس شيء منها بالذي يضير الحسن ابان نشاط الناس معه - كما هو في ابان بيعته - وأي خليفة أو زعيم ليس له مناوئون ؟
فلم لا يكون قبول البيعة هو الارجح على مختلف الوجوه ؟.
بل هو الواجب لضرورة الوقت وللمصلحة العامة ولاحقاق الحق.
المصادر :
1- اخرجه الترمذي وهو الحديث 874 من احاديث كنز العمال (ص 44 ج 1)
2- يلحظ هنا كتاب معاوية الى الحسن عليه السلام شرح النهج (ج 4 ص 13)
3- ويراجع للتأكد تصريح معاوية نفسه فيما رواه المسعودي (ج 6 ص 78 - 79 هامش ابن الاثير)
4- نهج البلاغة (ج 1 ص 299)، شرح محمد عبده
5- ابن ابي الحديد (ج 4 ص 12)
6- المسعودي على هامش ابن الاثير (ج 6 ص 78 – 79)
7- قال المسعودي (هامش ابن الاثير ج 5 ص 178 - 179)
8- ينابيع المودة (ج 2 ص 440)
9- الاتحاف بحب الاشراف، للشبراوي الشافعي (ص 129 ط مصر) ونزهة المجالس. للصفوري الشافعي (ج 2 ص 184)
10- ابن تيمية في منهاجه (ج 4 ص 210)
11- المسعودي (هامش ابن الاثير ج 6 ص 61
12- اصول الكافي (ص 151) وكشف الغمة (ص 159) وغيرهم
13- ففي صحيح مسلم (ج 2 ص 119)
14- تراجع «دائرة المعارف» لفريد وجدي مادة «حسن» (ج 3 ص 231)
15- الارشاد (ص 167) واليعقوبي (ج 2 ص 201) وغيرهما.
16- البيهقي ج 1 ص 62)
17- اليعقوبي (ج 2 ص 190) وابن الاثير (ج 3 ص 16) ومقاتل الطالبيين.
18- الى شرح النهج لابن ابي الحديد (ج 4 ص 11)
19- البحار (ج 10 ص 99) والمسعودي.
20- الامامة والسياسة (ص 151).