عربي
Monday 8th of July 2024
0
نفر 0

زينب في الشام

زينب في الشام

كان موقف السيدة زينب في مجلس يزيد بن معاوية من اروع مواقف الدفاع عن الحق ، وتحدي جبروت الطغيان والظلم .
فيزيد بن معاوية كان أمامها متربعاً على كرسي ملكه ، وفي أوج قوته ، وزهو انتصاره ، تحف به قيادات جيشه ، ورجالات حكمه ، وزعماء الشام ، وتشير الروايات التاريخية الى حضور بعض الدبلوماسيين الأجانب كرسول قيصر ملك الروم ، وبالتالي فقد كان يزيد حريصاً على التمتع بكامل هيبته ، والظهور بأعلى درجات القوة والسيطرة .
وتعرف السيدة زينب فظاظة يزيد وغلظته ، وتهوره في القمع والأرهاب ، وإن أي استفزاز له يمكن أن يدفعه الى أسوأ الأجراءات فليس له رداع من دين أو عقل .
كما أن أجواء المجلس كانت مهيأة ومعدة ليكون الإجتماع مهرجاناً للأحتفال بانتصار الحاكم على ثورة أهل البيت .
من ناحية أخرى فقد كانت السيدة زينب في ظروف بالغة القسوة والشدة ، جسدياً ونفسياً ، فهي لا تزال تعيش تحت وطأة الفاجعة وتأثيرها الهائل على أحاسيسها ومشاعرها ، ولأجواء الشماتة والأذلال التي استقبلتها في الشام وقع كبير على نفسها ، ومجرد حضورها سبية أسيرة في مجلس عدو ظالم حاقد قد ارتضع وتوارث عداء أسرتها منذ عهود وعقود ، وهي من هي في خدرها وصونها وعزها ، إن ذلك وحده كفيل بتحطيم المعنويات وهزيمة الروح .
وجسدياً فإن السفر كان مرهقاً وشاقاً ، حيث كان السير حثيثاً تنفيذاً لرغبة السلطة في الوصول بأسرع وقت الى الشام ، ومراكب السفر وهي الجمال لم تتوفر لها أدنى وسائل الراحة التي اعتادها المسافرون في ذلك الزمن .
والمرافقون العسكريون لقافلة السبايا كانوا جفاة صلفين في تعاملهم مع النساء والأطفال كزجر بن قيس وشمر بن ذي الجوشن ، حيث يقذفون السبايا بالشتم والسب ويضربونهم بالسياط لأدنى مناسبة .
وعامل الجوع والعطش كان له دور في انهاك السيدة زينب وارهاقها حيث كان الجنود يقترون على السبايا في الطعام والشراب ، مما يدفع السيدة زينب للتنازل عن حصتها لسد جوع وعطش الأطفال ، متحملة مضاضة الجوع والعطش .
ويصف الأستاذ عبد الباسط الفاخوري حالة قافلة السبايا الى الشام بقوله : « ثم إن عبيدالله جهز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان ، وترتعد منها مفاصل الأنسان بل فرائص الحيوان » (1) .
اضافة الى كل ذلك فقد أحيط دخول السبايا الى الشام وحضورهم في مجلس يزيد باجراءات بالغة الصعوبة قصد منها ايقاع أكبر قدر من الأذلال والهوان بنفوس السبايا .
وتمادى يزيد في اظهار شماتته وفرحه وصرح بما في مكنون نفسه من انه ينتقم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن أهل بيته حيث صار يتمثل بابيات شعر لعبدالله بن الزبعرى جاء فيها :
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحــاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعـدلناه ببدر فاعتـدل
لعبت هـاشم بالمـلك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف ان لم أنتقم *** من بني أحد ما كان فعل
وسمعت العقلية زينب ترنم يزيد بهذ الأبيات ، التي يعلن فيها كفره بالرسالة والوحي ، وإن دافعه الى قتل أهل البيت هو الأنتقام وأخذ ثأر قتلى المشركين في بدر ، ورأته كذلك يعبث برأس أخيها الحسين . . هنا قررت السيدة زينب أن تتحمل مسؤليتها في مواجهة هذا الكفر الصريح ، وأن تمارس دورها الرسالي في اعلان الحق ، فتفجر بركان ارادتها الأيمانية ، ووقفت خطيبة قائلة :
« الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله ( سبحانه ) حيث يقول : ( ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن ) (2) .
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى . أن بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ؟ .
وأن ذلك لعظم خطرك عنده ؟ فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسرورا ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقه ، والأمور متسقة ، وحين صفالك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً ، لا تطش جهلاً ، أنسيت قول الله ( تعالى ) ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ) (3) .
أمن العدل يابن الطلقاء ! .
تخديرك حرائرك واماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوبهن من بلد الى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ، ولا من رجالهن ولي ؟ .
وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ .
وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنآن ، والإحن والأظفان ؟ .
ثم تقول غير مستأثم ولا مستعظم :
لأهلوا وأستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تُشل
منحنياً على ثنايا أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة ، تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك ؟ وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب .
وتهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنك شللت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت .
اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا .
فهوالله ما فريت الا جلدك ، ولا حززت الا لحمك ، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، وانتهكت من حرمته في ذريته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقهم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) (4) .
وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً وبجبرئيل ظهيراً .
وسيعلم من سوّل لك ، ومكنك من رقاب المسلمين ( بئس للظالمين بدلاً ) (5) أيّكم ( شر مكاناً وأضعف جنداً ) (6) ؟ .
ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى ! ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! ! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي ، تنتابها العواسل ، وتعفرها أمهات الفراعل ! ! ولئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد ، والى الله المشتكى وعليه المعول .
فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها .
وهل رأيك الا فند ؟ وأيامك الا عدد ؟ وجمعك الا بدد ؟ .
يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .
والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة ، والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعمة الوكيل »

تأملات في الخطاب

إن خطاب السيدة زينب ( عليها السلام ) في مجلس يزيد يعتبر وثيقة فكرية سياسية تسلط الأضواء على خلفيات المعركة بين أهل البيت والأمويين كما تناقش بعض التفاصيل والقضايا الهامة في تلك المعركة ، وتقدم استشرافاً وتصوراً مستقبلياً لآثار المعركة ونتائجها .
ونشير فيما يلي الى أبرز وأهم آفاق هذا الخطاب الرائع العظيم :

أولاً : المعركة في منظار القيم والمبادئ

فالأمويون وان كانوا يتظاهرون بالأسلام ، ويحكمون باسمه ، الا أنهم يتعاملون مع الحياة ، وينظرون للأمور حسب المعادلات المادية ، وضمن دائرة المصالح الدنيوية العاجلة بعيداً عن القيم والمبادئ .
ويريدون لجمهور الأمة أن ينظر الى واقعة كربلاء من منظارهم المادي الجاهلي ، حيث يصرح يزيد بأنه قد قام بأخذ ثارات بدر ومعارك الإسلام الأولى ضد أسلافه المشركين ، والمسألة في نظر الأمويين لا تعدو أن تكون دفاعاً عن عرش السلطة وكرسي الحكم ، وهو أمر مشروع بالعقلية المصلحية .
ويرى الأمويون أن القوة التي بأيديهم ، والأنتصارات التي أحرزوها ، تكفي دليلاً على أحقيتهم وشرعيتهم كواقع يفرض نفسه .
وفي مواجهة هذا المنطق الأموي المادي الأنتهازي كانت السيدة زينب في خطابها تؤكد على الرجوع الى القيم والمبادئ الدينية والأحتكام اليها في تقويم الواقع وتفسير أحداثه ، فلابد من محاكمة ما يجري على ضوء كتاب الله ، والنظر الى المعركة من خلال الرؤية الدينية التي يريد الأمويون تغييبها والغاءها في واقع حياة المسلمين .
لذلك تذكر يزيد بن معاوية بأن لا ينظر الى نفسه من خلال ما يملك من قوة وسلطة : « أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء » . فليس في ذلك دلالة على الأحقية والمشروعية والرضا الآلهي ، فقد يفسح الله المجال واسعاً أمام الكافرين لتتضاعف قوتهم وامكانياتهم دون أن يعني ذلك أحقيتهم أو رضا الله عنهم ، بل يكون ذلك سبباً لزيادة انحطاطهم وعذابهم عند الله .
والحسين وأهل بيته ليسوا مهزومين مغلوبين قد خسروا الحياة وابتلعهم الموت بل هم وفق مقياس المبادئ الآلهية شهداء خالدون وأحياء عند ربهم ، لأنهم قتلوا في سبيل الله .
واذا كانت المآسي قد حلت بأهل البيت فانهم يحتسبونها عند الله ، حيث لم تحدث لهم في سياق صراع دنيوي مصلحي وإنما لأنهم يحملون رسالة الله ويدافعون عن دينه ، وحسب المبادئ والقيم فهناك عدالة آلهية ، وهناك دار أخرى تكون فيها النتائج الحاسمة : « وحسبك بالله حاكماً وبمحمد خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ولتردن على رسول الله » .
والصراع بين أهل البيت والأمويين في نظر السيدة زينب ليس صراعاً قبلياً على الزعامة ، بل هو مظهر وامتداد للصراع الأبدي الدائم بين الخير والشر ، بين حزب الله وحزب الشيطان .

ثانياً : ـ ادانة الجرائم الأموية

ففي مجلس يزيد وأمامه وبحضور أتباعه ومؤيديه ، أعلنت السيدة زينب الأدانة والأستنكار لما ارتكبه من جرائم بحق أهل البيت ، وأوضحت مظلومية أهل البيت وعمق مأساتهم بقتل رجالات أهل البيت ، وسوق نسائهم سبايا بتلك الحالة المفجعة ، وترك جثث أهل البيت دون مواراة . كما توبخه بشدة على أقواله التي تنضح كفراً وتشكيكاً في الدين ، وتعنفه على ما فعله برأس أخيها الحسين .
ومن يعرف مدى غرور يزيد وتجبره يدرك وقع هذا التوبيخ والأدانة على نفسه .
يقول المرحوم الأستاذ توفيق الفكيكي : وكان الوثوب على أنياب الأفاعي ، وركوب أطراف الرماح ، أهون على يزيد من سماع هذا الأحتجاج الصارخ (7) .

ثالثاً : ـ الجذور العائلية الفاسدة

فسياسات يزيد المنحرفة ، ومواقفة الفاسدة ، لم تنطلق من فراغ ، وإنما هي امتداد واستمرار لسلوكيات أسلافه المشركين والمنافقين ، لذلك تذكره السيدة زينب بجدته « هند » أم معاوية وزوج أبي سفيان ، والتي قادت حملة التأليب والتحريض على قتال رسول الله والمسلمين ، وأغرت « وحشي » بقتل الحمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، ثم مثلت بجسمه وانتزعت كبده وحاولت مضغها بأسنانها ، اظهاراً لحقدها البشع ، وبغضها المتوحش لرسول الله وذويه ، ويزيد في اعتداءاته الأليمة على أهل البيت لم يأت بشيء غريب ، وإنما هو شر خلف لشر سلف ، تقول ( عليها السلام ) « وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء » .
وتتوعده السيدة زينب بأن مصيره هو مصير أسلافه عتبة وشيبة والوليد وانه لاحق بهم في نار جهنم : « وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم » .

رابعاً : الأشادة بأهل البيت :

في مجتمع تربى على بغض أهل البيت ، وفي أجواء معباة ضد الأسرة العلوية ، ووسط مجلس انعقد للشماتة بمقتل الحسين ، تقف السيدة زينب صادحة بالحق ، مشيدة بفضائل أسرتها الكريمة .
فهي تخاطب يزيد معلنة للأمة أن هذه الدولة والكيان الاسلامي إنما أشادته سيوف بني هاشم ، وتضحيات آل الرسول بالدرجة الأولى « وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا » فأهل البيت هم القادة الحقيقيون لهذه الأمة وهم الأولى بالسلطة والحكم .
ولأهل البيت فضل عظيم على يزيد بالذات فأبوه وجده وأسرته هم طلقاء عفو رسول الله عند فتح مكة لذلك تخاطبه العقيلة : « أمن العدل يا ابن الطلقاء » .
أما شهداء كربلاء فتصفهم السيدة زينب بأنهم : « ذرية محمد ونجوم الأرض من آل عبد المطلب » وتذكر أخاه الحسين باعتباره : « سيد شباب أهل الجنة » .
وتعتز السيدة زينب بفضل اسرتها وأمجادها العظيمة قائلة : « والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة » .

خامساً : المستقبل لمن ؟

يتبختر يزيد بانتصاره على أهل البيت ، ويظن أنه كسب المعركة لصالحه ، ووسائل أعلامه تكرر وتجتر هذا الوهم على مسامع الناس ، لكن العقيلة زينب تسنف أوهامه ، وتسفه أحلامه ، وتقرر أمام مجلسه الحاشد أنه قد تلطخ بأوحال الهزيمة ، وسقط في حضيض الهوان ، وإن تظاهر بالنصر وتراءى له الظفر .
أنها تتحدى يزيد في أن يتمكن من تحقيق هدفه بطمس خط أهل البيت ، مهما جند من قواه واستخدم من قدراته : فكد كيدك واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا » فخط أهل البيت يمثل الحق والعدل ن ويجسد الوحي الآلهي ، وسوف تبقى البشرية متطلعة للحق والعدل وسوف يظهر الله دينه على الدين كله .
كما تظهر العقيلة سخريتها واحتقارها لمظاهر القوة التي أحاط بها يزيد نفسه :
« وهل رأيك الا فند ، وأيامك الا عدد ، وجمعك الا بدد » .
ورهان السيدة زينب على النصر وثقتها بالظفر ليس محجماً بحدود الدنيا الفانية ، بل تتطلع للآخرة هناك حيث عدالة الله ، وحيث تكون العاقبة للمتقين ، والنار والخزي للظالمين .

سادساً : العزة الأيمانية

تلك المرأة السبية الأسيرة التي سيقت الى مجلس يزيد مكتفة بالحبال ، تقف أمام الحاكم المتغطرس المتجبر صارخة به : « يا ابن الطلقاء » ومنذرة له : « ولتودّن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت » وداعية عليه : « اللهم خذلنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا » .
وتتحداه قائلة : « فوالله ما فريت الا جلدك ولا حززت الا لحمك » وتكرر تحديها له هاتفة : « فكد كيدك واسع سعيك » .
وبصراحة أوضح تبدي احتقارها له وأنها أكبر وأسمى من أن تكلمه أو تخاطبه لولا ما فرضته عليها الظروف فتقول : « ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك » .
فمن يداني ابنة علي في شجاعتها وعزتها وبطولتها ؟ .
إنها ابنة أبيها وهي تفرغ عن لسانه وروحه .
لذلك تحطمت كبرياء يزيد أمامها وانهار غروره ، وأصابته الحيرة والأرتباك ، فلم يزد أن تمثل بعد خطابها بقول الشاعر :
يا صحيحة تحمد من صوائح *** ما أهون النوح على النوائح
وكأنه يفسر خطاب السيدة زينب بأنه نوع من الأنفعال الطبيعي لما تعانيه من مصيبة ! !

مواجهة حادة

بعكس ما كان يقصده ويهدفه يزيد من دخول السبايا الى مجلسه بأن يستعرض قوته ، ويؤكد انتصاره ، ويوجه لأهل البيت ضربات جديدة من الأذلال والهوان .
فقد انعكس الأمر ، وتحول المجلس الى ساحة محاكمة لجرائمه ، وميدان معركة تكبد فيها هزيمة نكراء . . وفوجئ يزيد بحصول مالم يكن يتوقع ، وفقد السيطرة على نفسه ، ولم يعد يدري كيف يواجه الموقف ، بينما استمرت العقيلة زينب توجه له ضربات التحدي ، وسهام التبكيت والاحتقار .
ونظر رجل من أهل الشام ومن القريبين من يزيد الى السيدة فاطمة بنت الامام علي ـ وحسب روايات أخرى بنت الامام الحسين ـ فقال مخاطباً يزيد : يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي ! ! .
فاسودت الدنيا في عين السيدة فاطمة ، وانتابها الرعب والقلق ، فلاذت بزعيمة الركب العقيلة زينب ، فطمأنتها زينب وهدأت روعتها حيث رفعت صوتها لتسمع يزيد قائلة للرجل :
ـ كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا لأميرك .
واستشاط يزيد غضباً لهذه الضربة القاصمة لصرح هيبته الزائفة ومقامه الباطل
فرد بانفعال : كذبت ولله ، إن ذلك لي ، ولو شئت أن أفعله لفعلت .
فعاجلته السيدة زينب بضربة أكثر وقعاً وصرامة حين قالت :
« كلا والله ما جعل الله لك ذلك الا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا » .
وطفح الكيل في نفس يزيد وما عاد يتحمل ما يسمع من كلمات التحدي والتحقير وفي مقر حكمه وبين أنصاره وجمهوره فصاح غاضباً :
ـ إياي تستقبلين بهذا ؟ انما خرج من الدين أخوك وأبوك ! .
وإذا كان يزيد منفعلاً قد فقد السيطرة على نفسه فإن السيدة زينب كانت في قمة الأطمئنان والثبات ، لذلك أجابته واثقة :
ـ بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك إن كنت مسلماً ! ! .
وما عسى أن يكون جواب يزيد أو موقفه تجاه هذا التحدي الصارخ ، فهو يتربع على عرش خلافة المسلمين لكن السيدة زينب تجعل اسلامه موضع شك ، وتعلن على رؤوس الأشهاد فضل أسرتها عليه وعلى أسرته بهديهم للاسلام . . لذك لم يحر يزيد جواباً ولم يجد رداً فلجأ الى الشتم ، بحنق وغيظ ، حيث خاطب زينب قائلاً : كذبت يا عدوة الله ! ! .
لكن غضب يزيد وانفعاله وشتمه لم يسكت العقيلة زينب ولم يضع حداً لهجومها عليه وتحديها له ، بل أوضحت أمام الجمع أن دافع يزيد الى الشتم هو سوء استخدامه لموقعه باعتباره حاكماً يمارس الظلم والقهر ، قالت ( عليها السلام ) :
ـ أنت أمير مسلط ، تشتم ظالماً ، وتقهر بسلطانك .
فسكت يزيد وأفحم واعترف بخسارته المعركة ، حيث إن الرجل الشامي كررعليه الطلب وكأنه يريد أن يعرف النتيجة ، وينتزع من يزيد الاعتراف بالهزيمة أمام تحدي السيدة زينب له ، فقال الشامي :
ـ يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية ! .
فصب يزيد عليه جام غضبه قائلاً له :
ـ اعزب وهب الله لك حتفاً قاضياً (8) .

ردود الفعل

خلافاً لما كان يقصده يزيد من مجيء السبايا ورؤوس الشهداء إلى الشام ، بأن يصنع من خلال ذلك جواباً مضاداً لثورة الحسين ، ويدعم عرش حكمه وسلطته ، فقد حصل العكس من ذلك تماماً ، حيث سادت النقمة وانتشر الاستياء في مختلف أوساط العاصمة الأموية ، استنكاراً لما فعله يزيد .
ومما رصده لنا التاريخ من مظاهر الاستنكار ما يلي :
ممثل ملك الروم :
وكان في مجلس يزيد ممثل ملك الروم ، فلما رأى رأس الامام بين يدي يزيد تأثر من ذلك وسأل يزيد : رأس من هذا ؟ .
أجابه يزيد : رأس الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال يزيد : ابن فاطمة .
وسأله : من فاطمة ؟ .
قال يزيد : ابنة رسول الله .
فانذهل ، وقال : نبيكم ؟ .
أجابه يزيد : نعم .
ففزع ممثل ملك الروم : وأبدى انزعاجه قائلاً : تباً لكم ولدينكم ، وحق المسيح إنكم على باطل ، إن عندنا في بعض الجزائر ديراً فيه حافر فرس ركبه المسيح فنحن نحج اليه في كل عام ، من مسيرة شهور وسنين ، ونحمل اليه النذور والأموال ، ونعظمه أكثر مما تعظمون كعبتكم ، افٍ لكم .
ثم قام وخرج غضباناً من مجلس يزيد (9) .

حبر يهودي :

وحضر حبر يهودي مجلس يزيد أثناء دخول السبايا ، وسمع خطاب الامام زين العابدين فتأثر الحبر والتفت الى يزيد سائلاً : من هذا الغلام ؟ .
أجابه : علي بن الحسين .
فسأل : من الحسين ؟ .
قال : ابن علي بن أبي طالب .
وسأل الحبر : من أمه ؟ .
أجابه يزيد : بنت محمد .
فاندهش الحبر وأعلن استنكاره أمام يزيد قائلاً : يا سبحان الله ! ابن بنت نبيكم قتلتموه ، بئسما خلفتموه في ذريته ، فوالله لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطاً لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا ، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه وقتلتموه سوأة لكم من أمة ! .
وغضب يزيد من قوله ، وأمر بتنكيله ، فقام الحبر وقد رفع عقيرته قائلاً : إن شئتم فاقتلوني ، إني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعوناً أبداً ما بقي ، فاذا مات أصلاه الله نار جهنم (10) .

قيصر ملك الروم :

فقد وصلته أخبار قتل الحسين وأخبار السبايا ، فكتب الى يزيد مستنكراً :
ـ « قتلتم نبياً أو ابن نبي » (11) .

رأس الجالوت :

وممن أظهر استنكاره وادانته لما حدث الزعيم الديني لليهود رأس الجالوت فقد قال لمحمد بن عبد الرحمن : إن بيني وبين داود سبعين أباً ، وإن اليهود تعظمني وتحترمني وأنتم قتلتم ابن بنت نبيكم ؟ (12) .

شيخ من أهل الشام :

أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين ( رضي الله تعالى عنهما ) أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم ! .
فقال له علي ( رضي الله تعالى عنه ) : أقرأت القرآن ؟ .
قال : نعم .
قال : أقرأت الـ ( حم ) (13) ؟ .
قال : نعم .
قال : أما قرأت : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (14) .
قال : فانكم لأنتم هم ؟ .
قال : نعم (15) .
وفي نص آخر : دنا شيخ من الامام زين العابدين ، وقال له :
ـ الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم ! .
فقال ( عليه السلام ) له : يا شيخ أقرأت القرآن ؟ .
قال : بلى .
قال : أقرأت : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (16) .
وقرأت قوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ) (17) ، وقوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) (18) ؟ .
قال الشيخ : نعم قرأت ذلك .
فقال الامام : نحن والله القربى في هذه الآيات .
ثم قال له الامام : أقرأت قوله ( تعالى ) : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (19) ؟ .
قال : بلى .
فقال الامام : نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير .
قال الشيخ : بالله عليك أنتم هم ؟ .
قال الامام : وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم من غير شك .
فوقع الشيخ على قدمي الامام يقبلهما ويقول : أبرأ الى الله ممن قتلكم . وتاب على يد الامام مما فرط في القول معه وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله : فأمر بقتله (20) .

الصحابي أبو برزة الأسملي :

وكان هذا الصحابي حاضراً في مجلس يزيد فلما رأى أحوال السبايا وعبث يزيد برأس الحسين أعلن استياءه واستنكاره .
قال الطبري : فقام رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له : أبو برزة الأسلمي ، وقال :
أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين ؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرشفه ! أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفيعه .
ثم قال فولى (21) .
وفي رواية أخرى : قال أبو برزة الأسلمي : أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : انتما سيدا شباب أهل الجنة قتل الله قاتلكما ، ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا .
فغضب يزيد منه وأمر به فأخرج سحباً (22) .

من داخل الأسرة الأموية

وهكذا كانت أمواج السخط والأستنكار تتلاطم بتأثير قافلة السبايا حتى ضربت أطناب البيت الأموي الحاكم ، وتعالت أصوات المعارضة لما حصل في أوساط عائلة يزيد ، فيحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم اعترض على يزيد في مجلسه وشتم ابن زياد أمامه متعاطفاً مع آل الرسول حيث أنشد البيتين التاليين :
لهام بجنب الطف أدنى قرابه *** من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى *** وليس لآل المصطفى اليوم من نسل
قال : فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيى بن الحكم ، وقال : اسكت (23) .
وابنة يزيد عاتكة بادرت الى رأس الإمام الحسين فطيبته ، وقالت نادبة : رأس عمي (24) .
أما معاوية بن يزيد فموقفه واضح اذ رفض حتى تولي الخلافة بعد أبيه يزيد وأعلن تنديده لسياسة أبيه وجده .
وزوجته هند لم تستطع كتمان ألمها واعتراضها ، يقول ابن الأثير : ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه ، فسمعت الحديث هند بنت عبدالله بن عامر بن كريز ، وكانت تحت يزيد ، فتقنعت بثوبها وخرجت ، فقالت :
يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ .
قال : نعم ، فاعولي عليه ، وحدّي على ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصريخة قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله (25) .
هذا الأستياء الشامل والأستنكار من مختلف الأوساط أظهر ليزيد فشل سياسته وتخطيطه ، وجعله يتمنى لو لم يقدم على قتل الحسين ، أو على الأقل لو تستر على جريمته ولم ينشرها على رؤوس الملأ عبر قافلة السبايا والرؤوس . وصدرت عن يزيد كلمات وتصريحات عديدة يلقي فيها المسؤلية عن قتل الحسين ومآسي عائلته على عبيدالله بن زياد . . ككلامه لزوجته وقوله مخاطباً رأس الحسين .
والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك ! ! (26) .
وينقل ابن الأثير أنه ، لما وصل رأس الحسين الى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل ، ثم لم يلبث الا يسيراً ، حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم ، فندم على قتل الحسين فكان يقول :
وما عليّ لو احتملت الأذى ، وأنزلت الحسين في داري وحكمته فيما يريد ، وان كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورعاية لحقه وقرابته ، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره ، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله ، فلم يجبه الى ذلك فقتله ، فبغضنى بقتله الى المسلمين ، وزرع في قلوبهم العداوة ، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين ، ما لي ولابن مرجانة ، لعنه الله وغضب عليه (27) .
المصادر :
1- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 367 .
2- سورة الروم آية 10 .
3- سورة آل عمران أية 178 .
4- سورة آل عمران آية 169 .
5- سورة الكهف آية 50 .
6- سورة مريم آية 75 .
7- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 378 ـ 380 . ( مقتل الحسين ) المقرم ص 357 ـ 359 .
8- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 381 .
9- ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 256 . / ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 389 . ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 86 .
10- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 394 .
11- المصدر السابق ص 395 .
12- المصدر السابق ص 396 .
13- سورة الشورى آية 1 .
14- سورة الشورى آية 23 .
15- سورة الشورى آية 23 .
16- ( تفسير روح المعاني ) الآلوسي ج 25 ص 31 .
17- سورة الإسراء آية 26 .
18- سورة الأنفال آية 41 .
19- سورة الأحزاب آية 33 .
20- ( مقتل الحسين ) المقرم ص 349 .
21- ( تاريخ الأمم والملوك ) الطبري ج 6 ص 267 .
22- ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4ص 85 .
23- ( الكامل في التاريخ ) ابن الأثير ج 4 ص 85 .
24- ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 400 .
25- ( الكامل في التاريخ ) ابن الاثير ج 4 ص 84 .
26- المصدر السباق ص 85 .
27- المصدر السابق ص 87 .

source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الايه التي ذكرت فيها مصيبة الحسين عليه السلام
موقف الحسين (ع) من بيعة يزيد بن معاوية
كرامات الإمام الحسين (عليه السلام)
زينب في الشام
ذكرى استشهاد السيدة أم البنين (عليها السلام)
كربلاء من جديد
فضل زيارة أولاد الأئمة (عليهم السلام) و أصحابهم
أهمية التربية في الإسلام
دولة آل محمد هي آخر الدول
جولة في فکر السید جمال الدین الأسد ...

 
user comment