المقدّمة
الحمدُ لله على توفيقِهِ ، والصلاةُ والسلام على رسوله ، وعلى أهل بيته الطببين الطاهرين .
حرصَتِ الشريعةُ الإسلامية الحقَّةُ على تربية الأطفال والشباب ، واهتَمَّت بِبِناء شخصياتهم بناءاً سليماً ، مُحَصِّنة إِيَّاهُم من شتَّى أنماط الانحرافات وأنواع العُقد ، والأمراض النفسية الخطيرة والعادات السيئة والقبيحة .
وعلى أساس من مبادئها السامية وقِيَمِها الصالحة ، فإن بناءَ شخصيَّةِ الطفل والشاب في الإسلام ماهو – في الحقيقة – إلا عَمَليَّةً لبناء المجتمع الإسلامي ، وتمهيداً لإقامة الحياة الطيبة ، وِفقاً للمبادئ الإسلامية المباركة ، وذلك تحقيقاً لسعادة الإنسان ، وتحصيناً لمُقَوِّماتِ المجتمع ، وحفظاً لسلامة البشرية وخيرها.
وإن نجاح الأهداف الإسلاميّة ، وسعادة الفرد ، وسلامة المجتمع ، تتوقّف على سلامة عمليّة التربية .
وهذا مما يدعونا إلى تكريس جانب كبير من جهودنا واهتماماتنا لتربية الأطفال والشباب وإعدادهم إعداداً سليماً ، ليكونوا أفرداً صالحين وأعضاءاً نافعين ومنسجمين مع نُظُمِ الحياة الإسلامية السائدة في مجتمع الإيمان بالله عزَّ وجلَّ .
وقد توخينا من إعداد هذا البحث وطبعه لنكون قد ساهمنا في تربية أطفالنا وشبابنا التربية الإسلامية الصالحة التي يرضاها الله عزَّ وجلَّ ورسوله والأئمة المعصومون الإثنا عشر ( صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ) ، ومنه تعالى نستمد العون والسداد .
مركز آل البيت ( عليهم السلام ) العالمي للمعلومات
( الباب الأول )
أطفالنا في ظِل التربية الإسلامية
( الفصل الأول)
أهمية التربية في الإسلام
التعريف اللغوي للتربية :
لقد عَرَّف اللُغَويُّون وأصحاب المعاجم لفظة التربية بأنها : ( إنشاءُ الشيءِ حالاً فحالاً إلى حَدِّ التمام )
و ( ربُّ الولدِ ربّاً : وليُّه وتَعَهُّدُهُ بما يُغذِّيه ويُنمِّيه ويُؤدِّبه…) .
تعريف التربية الإسلامية :
من هذا المنطق يمكننا تعريف التربية الإسلامية بأنها : عملية بناء الإنسان وتوجيهه ، لتكوين شخصيَّتِهِ ، وفقاً لمنهج الإسلام الحنيف وأهدافه السامية في الحياة .
فالتربية إذن تعني تنشئة الشخصيّة وتنميتها حتى تكتمل وتتخذ سماتَها المميِّزة لها .
أهميَّة التربية الإسلامية :
من الأمور المُسَلَّم بها أن الإنسان يولد صفحة بيضاء ، غير مُتَّسِم بملامح أي اتجاه أو سلوك أو تشكيلة ، إلا أنه يحمل الاستعداد التام لِتَلَقِّي مختلف العلوم والمعارف ، وتكوين الشخصيَّة والانخراط ضِمن خطٍّ سلوكيٍّ معيَّنٍ .
لذا فإن القرآن الكريم يخاطب الإنسان ويذكره بهذه الحقيقة الثابتة ، وبنعمة الاستعداد والاكتساب والتعلُّم ، التي أودعها الله عزَّ وجلَّ فيه لكسب العلم والمعرفة ، والاسترشاد بالهداية الإلهيَّة .
فقال عزَّ وجلَّ : وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ النحل : 78 ] .
ويذكر الإمام عليّ ( عليه السلام ) هذه الحقيقة أيضاً بقوله : ( … وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما ألقي فيها من شيء قبلته ) .
وقد شرح العلاّمة الحلّي ( رضوان الله عليه ) مراحل تكوّن المعرفة لدى الطفل ، فقال : ( إعلم أنّ الله خلق النفس الإنسانيّة في بداية فطرتها ، خالية من جميع العلوم بالضرورة ، قابلة لها بالضرورة ، وذلك مشاهد في حال الأطفال ، ثمّ إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك ، وهي القوى الحسّاسة ، فيحسّ الطفل في أوّل ولادته لمس ما يدركه من الملموسات ، ويميّز بواسطة الإدراك البصري على سبيل التدرّج بين أبويه وغيرهما ) .
وبهذا الترتيب يتوجه الإنسان في تلقيه للمعرفة إلى استخدام أحاسيسه ، فهو يتعرّف على ثدي أمّه ، نظراً لعلاقته الحياتية به وحاجته إليه في التغذي ، ثمّ يتعرّف على أمّه قبل غيرها ممّن يحيطون به .
ثمّ إنّ هذا الطفل يزداد فطنة وذكاء ، فينتقل من إحساسه بالأمور الجزئية إلى معرفة الأمور الكليّة ، مثل التوافق والتباين والأنداد والأضداد ، فيعقل الأمور الكليّة الضروريّة بواسطة إدراك المحسوسات الجزئيّة .
ثمّ إذا استكمل الاستدلال عنده ، فإنه يتمكن حينئذ من إدراك العلوم الكسبية بواسطة العلوم الضروريّة .
فظهرمن هذا أن العلوم المكتسبة فرع على العلوم الكلّية الضروريّة ، والعلوم الكلّية الضروريّة فرع على المحسوسات الجزئيّة .
فلهذا ، يتعيّن على الأبوين في ظلّ التعاليم الإسلاميّة أن يبادروا إلى تربية أطفالهم وتعليمهم منذ نشأتهم الأولى .
ومن جهة أخرى ، فإنّ الطفل ـ كإنسان ـ وهبه الله عزَّ وجلَّ العقل والذكاء ، وخلق فيه موهبة التعلّم والاكتساب و التلقي .
فهو منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا يبدأ عن طريق أحاسيسه بالتعلّم واكتساب السلوك والآداب والأخلاق ، ومختلف العادات ، وكيفيّة التعامل مع الآخرين .
فنجد أنّ الأجواء المحيطة بالأسرة وطريقة تعاملها ونمط تفكيرها ، كلّ ذلك يؤثر تأثيراً مباشراً وعميقاً في تكوين شخصيّة الطفل ، وبلورة الاتجاه الذي سوف يتخذه في المستقبل .
فإن كانت تلك العائلة سليمة ومؤمنة ومستقيمة وملتزمة بتعاليم الإسلام السامية ، فإن ذلك سوف يساعد الطفل على أن يكون فرداً صالحاً وإنساناً طيّباً وسعيداً .
وإن كانت تلك الأسرة من العوائل المتحلّلة المنحطة ، فإن ذلك سوف يوفر الأرضية إلى انحطاط شخصية ذلك الطفل وخروجه إلى المجتمع فرداً فاسداً مجرماً شقيّاً .
فلذا جاء في الحديث النبويّ الشريف : ( ما من مولود يولد إلاّ على هذه الفطرة ، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ) .
وقد أثبتت التجارب والدراسات العلميّة التي أجراها الباحثون والمحقّقون في مجال البحوث التربويّة والنفسيّة ، أن للتربية أثراً كبيراً ومباشراً في تكوين شخصيّة الفرد وبلورة أهدافه وميوله ورغباته في الحياة .
وقد تطابقت هذه البحوث والتحقيقات مع قواعد الرسالة الإسلاميّة المباركة وقوانينها التربويّة العلميّة ، فغدت تأييداً ومصداقاً للتعاليم الإسلاميّة الحقّة في مجال التربية والتعليم .
فتقول معظم الدراسات التي أجريت في هذا المجال بأنّ شخصية الطفل تتحد في سِنِي عمره الأولى ، وفي هذه الفترة تنمو مواهبه الفرديّة ، وتتكوّن لديه ردود فعل على الظواهر الخارجيّة ، عن طريق احتكاكه بالمحيط الذي يترعرع فيه .
وتكتمل هذه الردود وتأخذ قالبها الثابت في حينه : ( من شبّ على شيء شاب عليه ) .
وفي الحقيقة أنّ للقيم السائدة في العائلة التي يعيش الطفل فيها ـ سواء كانت إيجابيّة أم سلبيّة ـ دوراً خطيراً ومؤثراً في تأطير طريقة تعامله مع الآخرين .
وقد أثبتت الأبحاث التربويّة أيضاً أنّ للأجواء المحيطة بالطفل التأثير المباشر في تكوين نظرته إلى نفسه في هذه الحياة .
فإنه إن لمس الرعاية والمحبّة والعاطفة السليمة والحنان والاهتمام والتقدير والتشجيع والمكافأة بين أفراد أسرته ، تشرق صورته في نفسه و تطيّبها ، وتنمي قدراته ومواهبه وإبداعاته وابتكاراته ، وتجعله يشعر بإشراقة مضيئة تشعّ من ذات شخصيّته فتؤهّله للقيام بدور فعّال في حياته العائليّة ، ومن ثمّ المدرسية والمهنيّة فالاجتماعيّة .
وقد أثبتت هذه الدراسات و التجارب أن 50 % من ذكاء الأولاد البالغين السابعة عشرة من العمر يتكوّن بين فترة الجنين وسنّه الرابعة .
وأنّ 50 % من المكتسبات العلميّة لدى البالغين من العمر ثمانية عشر عاماً تتكوّن ابتداءً من سنّ التاسعـة .
وأنّ 33 % من استعدادات الولد الذهنيّة والسلوكيّة والإقداميّة والعاطفيّة يمكن معرفتها في السن الثانية من عمره ، وتتوضح أكثر في السنّ الخامسة بنسبة 50 % .
وتضيف دراسة أخرى بأن نوعيّة اللغة التي يخاطب الأهل أولادهم بها تؤثر إلى حدّ كبير في فهم هؤلاء وتمييزهم لمعاني الثواب والعقاب ، وللقيم السلوكيّة ولمفاهيمها ، ودورهم في البيت والمجتمع .
فلهذا ، نجد أن الإسلام العظيم أبدى عنايته الفائقة بالطفل منذ لحظات ولادته الأولى .
فدعا إلى تلقينه الشهادتين ، لكي تُبنى شخصيّته وفق الأسس الدينية ، والتعامل الصحيح ، ولكي تترسخ القواعد الفكريّة الصحيحة في عقله ونفسه .
فقد روي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) عن جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : ( من وُلد له مولود فليؤذن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة ، وليقم في أذنه اليسرى ، فإن إقامتها عصمة من الشيطان الرجيم ) .
ولعلّ أكثر الأدلة صراحة في على تحديد مسؤوليّة الوالدين في مسألة تربية أولادهم، وأهميّة التربية في الإسلام هو قوله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ … [ التحريم : 6 ] .
( الفصل الثاني )
تأثير البيئة والمحيط على تربية الأطفال
إن البيئة التي يعيش فيها الطفل لها تأثير عميق وفعّال في حياته وتكوّن شخصيّته ، فالإنسان منذ نعومة أظفاره يتأثر وينفعل بما يجري حوله من ممارسات .
فإنه يكتسب مزاجه وأخلاقه وممارساته و طريقة تفكيره من المحيط أو البيئة التي يعيش فيها .
وقد تبيّن أنّ للوالدين ، ولسلوك العائلة ، ووضعيّة الطفل في العائلة ، دوراً كبيراً في تحديد شخصيّته وصقلها وبلورتها وتحديد معالمها .
كما أن للمعلّم ، والأصدقاء ، والمجتمع ووسائله الإعلامّية ، وعاداته ، وأسلوب حياته ، الأثر المباشر والكبير على سلوك الطفل وكيفيّة تفكيره .
إلاّ أنّنا نلاحظ ـ انطلاقاً من فلسفة الإسلام العامّة والتربويّة خاصّة ـ أنْ ليس لعالم الطفل الخارجي بمختلف مصادره ومع شدّة تأثيره القدرة كلّيّاً وبصورة قاطعة و إلى الأبد في تحديد معالم شخصيّة الإنسان ، وتأطير مواقفه ، بل لإرادة الإنسان الذاتيّة القويّة دور فعّال في تحديد سلوكه ومعتقداته وممارساته .
لأنّ الإنسان في ظلّ الاعتقاد بالتعاليم الإسلاميّة الحقّة ، ويتعرف على ما فيه الخير والصلاح والسعادة له ولغيره ، فيعمل به .
وكذلك يتعرف على ما فيه الشرّ والفساد والشقاء له ولغيره ، فيتجنب عنه ، وبهذا يحصل على العقلية الواعية التي يتمكن بها من توجيه سلوكه والوقوف بوجه جميع التيارات السلبية المضادة التي تحاول أن تجرفه معها .
من هنا جاء التأكيد في التربية الإسلاميّة على القيم والأخلاق والمبادئ ، كحقائق مستقلّة متعالية على تأثيرات الواقع ، ليتمكن الإنسان بها أن يصون نفسه من الآثار السلبية خلال تواجده في البيئة المنحرفة من الآثار السلبية .
فبالإرادة الذاتيّة المحصّنة من تأثيرات المحيط ، والثابتة على القيم والمبادئ السامية على واقع العالم المحيط بالإنسان ـ يتمكن الإنسان من الوقوف بوجه الواقع المنحرف .
وهذا التقويم الواقعي السليم لمنطق التأريخ ، الذي يعطي الإنسان قيمته الحقيقيّة في هذا العالم الرحب ، ويضعه في محلّه المناسب له ، هو بعينه تقويم التشريع الإسلاميّ للإنسان .
والذي قد جاء صريحاً في القرآن الكريم : بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [ القيامة : 15 ] .
كما يقول الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) : ( لا تكن إمّعة تقول أنا مع الناس ، إن أحسنوا أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، بل وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس تحسنوا ، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) .
1ـ المحيط الطبيعي :
إن القاعدة الأساسيّة في تربية الطفل تتوقف على أساس من الاهتمام بالطبيعة ، والعمل على إبعاد المخاوف عنه ، وتوجيهه إلى مواطن السرور والأمان والطمأنينة في هذا العالم لصيانته من الحالات النفسيّة التي تؤلمه وتضرّ به .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ينبغي ترغيب الطفل في التوجه نحو الطبيعة ، وتشجيعه على استلهام أسمى معاني الحبّ والبهجة والجمال والأمن منها ، وتشويقه على البحث والمعرفة والاكتشاف .
وقد قال عزَّ وجلَّ : أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ [ الأعراف : 185 ] .
ومن الواضح أنّ الطفل يتأثر بالمحيط وينفعل به ، فيتساءل كثيراً عمّا يراه و يسمعه في هذا العالم ممّا يثير إعجابه و دهشته ، ويلفت نظره .
فصوت الرعد ووهج البرق ونباح الكلب ودويّ الريح وسعة البحر ووحشة الظلام ، كلّها تثير مخاوفه ، وتبعث في نفسه القلق والاضطراب والخوف ، وتجعله ينظر إليها بحذر وتردّد ، ويعدّها في عداد العدوّ والخطر .
فيتطوّر عنده هذا الشعور ، و يأخذ أشكالاً مختلفة ، وتتطوّر هذه التحوّلات مع نموّ الطفل .
فتترسّب حالات الخوف في نفسه ، وتنمو شخصيّته على القلق والتردّد والاضطراب والخوف والجبن .
وكما أنّ لهذه الظواهر الطبيعيّة وأمثالها ، هذا الأثر السلبيّ في نفسيّة الطفل ، فإنّ منها ماله التأثير الإيجابي والنافع في نفسه ، فنجده يفرح ويسرّ بمنظر الماء والمطر ، وتمتلئ نفسه سروراً وارتياحاً بمشاهدة الحقول والحدائق الجميلة ، ويأنس بسماع صوت الطيور ، وترتاح نفسه حين اللعب بالماء والتراب والطين .
فيجب في كلتا الحالتين التعامل معه ، وتدريبه على مواجهة ما يخاف منه ، وإعادة الثقة في نفسه منحه الصورة الحقيقية عن الحياة .
وممّا هو مهمّ جدّاً في دور التربية هو أن نجيب الطفل ـ بكل هدوء وبساطة وارتياح وحبّ ورحابة صدر ـ عن جميع تساؤلاته حول المطر و الشمس والقمر والنجوم والبحر والظلام وصوت الرعد و… بما يرضيه و يريح نفسه .
فننمّي بذلك روح الإقدام فيه وحبّ الاستطلاع ، وحبّ الطبيعة وما فيها من خلق الله عزَّ وجلَّ البديع العجيب .. لينشدّ إليها ، ويعرف موقعه فيها ، و يدرك عظمة خالقه ، ومواطن القدرة والإبداع ، ودوره فيها .
فينشأ فرداً سليماً نافعاً ذا إرادة تجنّبه الانحراف وفعل الشرّ ، وذا عزيمة على الإقدام على فعل الخير .
ويتركّز في نفسه مفهوم علميّ وعقائديّ مهم بأنّ الطبيعة بما فيها هي من صنع الله عزَّ وجلَّ وإنّ الله قد سخّرها لخدمة الإنسان ، ليتصرّف فيها ويستفيد منها ، ويكيّف طاقاته ويستغلّها بما ينفعه وينفع الناس .
وقد قال جلّ وعلا : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [ البقرة : 29 ] .
وقال أيضاً : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [ الملك : 15 ] .
وهذا التسخير الإلهيّ ما هو إلاّ تمكين للإنسان من تكييف قوى الطبيعة واستثمارها لصالحه وفق ما تقتضيه المفاهيم الإنسانيّة التي عالجها من خلال علاقته بالطبيعة ، مثل مفاهيم الحبّ والخير والجمال والأمن والسلام والاحترام ، وغيرها .
2- البيئة الاجتماعية :
إنّ للوسط الاجتماعي الذي يعيش الطفل فيه تأثيراً كبيراً في بلورةسلوكه وبناء شخصيّته ، لأنه سرعان ما يتطبّع بطابع ذلك الوسط ، ويكتسب صفاته ومقوّماته من عقائد وأعراف وتقاليد ونمط تفكير ، وما إلى ذلك .
والبيئة أو الوسط الاجتماعيّ الذي يعيش فيه الطفل يتمثل بما يلي :
أ ـ الأسرة :
هي المحيط الاجتماعيّ الأول الذي يفتح الطفل فيه عينيه على الحياة ، فينمو ويترعرع في وسطه ، ويتأثّر بأخلاقه وسلوكيّاته ، ويكتسب من صفاته وعاداته و تقاليده .
فالطفل يرى في أبويه ـ وخصوصاّ والده ـ الصورة المثالّية لكّل شيء ، ولذا تكون علاقته معه علاقة تقدير وإعجاب وحبّ واحترام من جهة .
ومن جهة أخرى علاقة مهابة وتصاغر ، ولذا فهو يسعى دائماً إلى الاكتساب منه ، وتقمّص شخصيّته ، ومحاكاته وتقليده ، والمحافظة على كسب رضاه .
في حين يرى في الأمّ مصدراً لتلبية ما يفتقر إليه من حبّ وعطف وحنان وعناية ورعاية واهتمام ، لهذا فإن شخصيّة الأم تؤثر تأثيراً بالغاً في نفسية الطفل وسلوكه حاضراً ومستقبلاً .
لذا فإنّ لأوضاع الأسرة وظروفها الاجتماعيّة والعقائديّة والأخلاقيّة والسلوكيّة والاقتصادية وغيرها ، طابعها وآثارها الأساسيّة في تكوين شخصيّة الطفل ونموّ ذاته .
فالطفل يتأثر بكل ذلك ، وينعكس هذا على تفكيره وعواطفه ومشاعره وإحساساته ووجدانه وسلوكه ، وجميع تصرّفاته .
فعلاقة الوالدين مع بعضهما ، وكيفيّة تعامل أفراد الأسرة ، من إخوة وأقارب فيما بينهم ، توحي إلى الطفل بنوعيّة السلوك الذي يسلكه في الحاضر والمستقبل .
فهو حينما يرى أن هذه العلاقة قائمة على الودّ والعطف والحنان والتقدير والاحترام والتعاون ، فإنه يألف هذا السلوك ، ويتأثر به .
فتكون علاقته بوالديه وإخوته وبقيّة أفراد أسرته والآخرين قائمة على هذا المنحى ، وعندما يخرج إلى المجتمع فهو يبقى في تعامله معه على هذا الأساس أيضاً .
أمّا إذا كان الطفل يعيش في وسط أسرة متفكّكة منهارة ، تقوم علاقاتها على الشجار والخلاف وعدم الاحترام والتعاون ، فإنّه يبني علاقته بالآخرين على هذا الأساس .
فينشأ معانياً من الجفوة والقسوة والانحلال والتفكّك وعدم الانسجام ، ويتكوّن لديه الشعور بالنقص ، وربّما ينشأ مريضاً نفسيّاً وانتقاميّا حقوداً على الجميع ، وكم يذكر لنا التاريخ من هذا النمط الذين كانوا وبالاً على المجتمعات .
وفي الوقت الحاضر لا يخلو العالم من هذه النماذج الحقودة على الإنسانيّة ، الخطرة على مجتمعها ، ممّن يندى جبين العفّة والشرف عند الاطلاع على ماضيهم الدنيء وحاضرهم القبيح .
والإسلام الحنيف يولي أهميّة فائقة للطفل ، ويركّز على تربيته التربية الصالحة المفيدة .