دأبت الشيعة منذ استشهاد الامام الحسين عليه السلام على جعل الصلة نابضة وحية ومستمرة بينهم وبين عاشوراء، فمنذ ذلك اليوم اصبحت كربلاء أهم مزار لهم خاصة في شهري محرم وصفر، يجددون فيه العهد للامام الحسين عليه السلام على الارتباط المبدئي بنهجه الثوري الخالد واستذكار مآسي يوم الطف وما جرى عليه عليه السلام وعلى أهل بيته واصحابه من المصائب والمحن، فيعقدون مآتم الحزن والبكاء والنحيب وغيرها من الشعائر التي تمثل احياءً لهذه الذكرى الاليمة، وقد أولى الائمة الطاهرون عنايتهم الفائقة بزيارة قبر الحسين عليه السلام وحثوا شيعتهم على أداء هذه الشعيرة المقدسة وقد وردت في ذلك الكثير من الاحاديث والروايات عنهم عليهم السلام في فضل زيارة الحسين عليه السلام والثواب الجزيل الذي يصيبه زائره بزيارته، من هذه الاحاديث ماروي في حديث متسلسل ينتهي بسنده الى الامام الباقر عليه السلام يقول فيه: (مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين فان اتيانه مفترض على كل مؤمن يقرّ للحسين بالامامة من الله عزوجل). وفي حديث آخر له عليه السلام ايضاً عندما سئل ما لزائر الحسين من الثواب فقال عليه السلام: (يؤمنه الله يوم الفزع الاكبر وتلقاه الملائكة بالبشارة ويقال له لاتخف ولاتحزن هذا يومك الذي فيه فوزك). كما دأب الائمة عليهم السلام على الدعاء للزائرين، فمن دعاء طويل للامام الصادق عليه السلام في سجوده نقتطف منه هذا المقطع ليتبين لنا مدى الاهتمام الذي اولوه عليهم السلام بهذه الشعيرة والدعوة اليها يقول عليه السلام: (اللهم اغفر لي ولاخواني وزوار قبر الحسين الذين انفقوا اموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا ورجاءً لما عندك في صلتنا وسرورا ادخلوه على نبيك).
لقد دأب الائمة عليهم السلام على ابقاء هذه الذكرى حيّة في أذهان الناس وضمائرهم وابراز مظلومية الامام الحسين عليه السلام واحياء وقفته التي احيا بها الاسلام وادانة قاتليه وفضح وحشيتهم وهمجيتهم وجعل هذه الذكرى صلة مستمرة بين الانسان المسلم والاسلام الحقيقي بمبادئه السماوية السامية، وقد اتخذ الأئمة الهداة مادة الشعر خير لتحقيق ذلك، فعبأوا الشعراء وشجعوهم على رثاء الحسين عليه السلام ومن ذلك قول الامام الصادق: (من قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى غفر الله له و وجبت له الجنة)، والاحاديث في ذلك اكثر من ان تحصى.
من هنا نعرف أن الائمة المعصومين عليهم السلام ونظراً لما يشكله الشعر من اهمية خاصة ارادوا ان تمتزج العواطف والمشاعر مع المعاني الانسانية لسيد الشهداء والاحداث المأساوية التي مرت عليه وهذا مايعطيها ابعاداً واحتواء اكثر غنى وجاذبية، فكان للشعراء دورهم الكبير في نشر حادثة كربلاء وإبقاء جذوتها متقدة في النفوس من خلال التعبير عن مشاعرهم وحبهم للامام الحسين عليه السلام. وكان من بين هؤلاء الشعراء من تشرّف بزيارة مرقد أبي الاحرار في كربلاء المقدسة، وفيها سكب فيها من القوافي والكلمات المؤثرة، وعبر بشعره عن مدى ولائه للامام الحسين عليه السلام وايمانه بقضيته العادلة، وايضاً إظهار بطولات شهداء الواقعة ومواقفهم الخالدة أمام جبهة الباطل ثم مسير السبايا من نساء النبي الأكرم الى الشام وما جرى عليهن من المحن والى بشاعة الاعمال الاجرامية التي قام بها الامويون وغيرها من الصور عن حادثة كربلاء. كل ذلك كان يصوره الشاعر بلغة الحزن الذي يغرس فيه انطباعاً بهول المأساة وهو يقف على قبر سيد الشهداء ليؤدي مراسيم زيارته حزناً وشعراً، ومن أوائل الشعراء الذين عكسوا في شعرهم شعيرة زيارة الحسين عليه السلام هو عقبة بن عمرو السهمي الذي عدّه ابن الجوزي في تذكرة الخواص والسيد الامين في اعيان الشيعة على انه اول من رثى الحسين عليه السلام فقد قصد هذا الشاعر قبر الحسين عليه السلام ووقف بأزاء القبر وقال:
مررت على قبر الحسين بكربلا
ففاض عليه من دموعي غزيرها
ومازلت ابكيه وأرثي لشجوه
ويسعد عيني دمعها وزفيرها
وبكيت من بعدالحسين عصائبا
أطافت به من جانبيه قبورها
اذا العين قرّت في الحياة وانتم
تخافون في الدنيا فأظلم نورها
سلام على أهل القبور بكربلا
وقلّ لها مني سلام يزورها
في هذه الابيات يطفح الحزن بين ثنيات الكلمات وهو حزن عارم لاتقر العين به ولاتهدأ له الجوانح ويزور سليمان بن قتة العدوي قبر الحسين عليه السلام فيرثيه بابياته المشهورة:
مررت على ابيات آل محمد
فلم أرَ أمثالها يوم حلتِ
ألم ترَ ان الشمس اضحت مريضة
لقتل حسينٍ والبلاد اقشعرتِ
وكانوا رجاء ثم أضحوا رزيةً
لقدعظمت تلك الرزايا وحلتِ
وتسألنا قيس فنعطي فقيرها
وتقتلنا قيس اذا النعل زلّتِ
وعند غني قطرة من دمائنا
سنطلبها يوماً بها حيث حلتِ
يشير الشاعر الى الآيات التي ظهرت بعد قتل الحسين عليه السلام لعظيم الرزية وهول الجريمة التي ارتكبت بحق سبط الرسول وذلّ المسلمين بعد قتل الحسين عليه السلام ولايخفى ما لهذه المعاني من دلالة على التعريض ببني أمية وإدانةً أعمالهم وسياستهم. كما كان قبر الحسين عليه السلام منطلقا لثورة التوابين بعد زياراتهم له سنة65 هـ فقداجتمع مع سليمان بن صرد الخزاعي أربعة آلاف مقاتل في الكوفة وسعوا بأجمعهم نحو قبر الحسين اقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون وازدحموا على لثم القبر الشريف وانشد شعراؤهم قصائد كثيرة في رثائه عليه السلام تضمنت أسى نفوسهم ولوعتها على ماجرى عليه كما تضمنت غضبهم وسخطهم على بني أمية واعوانهم فقال عوف بن عبدالله الازدي من قصيدة طويلة :
ألا وانع خير الناس جداً ووالدا
(حسينا) لاهل الدين ان كنت ناعيا
ليبك حسينا مرمل ذو خصاصة
عديم وامّامٌ تشكى المواليا
فاضحى حسين للرماح دريئة
وغودر مسلوباً لدى الطف ثاويا
سقى الله قبراً ضمّن المجد والتقى
بغربية الطف الغمام الغواديا
وقال (أبو دهبل) وهب بن زمعة الجحمي من قصيدة طويلة أيضاً:
تبيت النشاوى من أمية نوّما
وبالطف قتلى ما ينام حميمها
وتضحى كرام من ذؤابة هاشم
يحكّم فيها كيف شاء لئيمها
وتغدو جسوم ماتغذت سوى العلى
غذاها على رغم المعالي سهومها
واشعار التوابين عند قبر الحسين عليه السلام كثيرة ورغم سياسة القمع والارهاب التي. واجهها الشعراء الشيعة من قبل السلطات الاموية والعباسية عندما يذكرون فضل أهل البيت عليهم السلام وخاصة حادثة كربلاء ومقتل الامام الحسين إلاّ ان وفوداً لشعراء تحدت هذه السلطات واصبحت شعيرة الزيارة تستوعب الشعراء من ابعد البلاد لزيارة القبر الشريف فهذا (الصنوبري) احمدبن محمد بن الحسن يقطع الصحارى من الشام الى كربلاء لينشد قصيدته عند القبر الشريف:
ما في المنازل حاجة نقضيها
إلاّ السلام وأدمع نذريها
ويضمن المقطع من الزيارة (ياليتنا كنا معكم) فيقول:
سقيا لها فئة وددت بأنني
معها فسقّاني الردى ساقيها
تلك التي لا ارض تحمل مثلها
لامثل حاضرها ولا باديها
وتلهب لوعة مصاب الحسين عليه السلام قلب الشريف الرضي فيشدّ الرحال من بغداد الى كربلاء ليصادف وصوله اليها يوم عاشوراء فيهرول الى القبر الشريف حاسر الرأس حافي القدمين ضاجا بالبكاء لينشد ملحمته الخالدة:
كربلا لا زلت كرباً وبلا
ما لقي عندك آل المصطفى
كم على تربك لما صّرعوا
من دم سال ودمع جرى
كم حصان الذيل يروي دمعها
خدها عند قتيل بالظما
تمسح الترب على اعجالها
عن طلا نحر زميل بالدما
ويقصد (ابن الهبارية) محمد بن محمد الهاشمي كربلاء ويقف على القبر الشريف ويقول:
حسين والمبعوث جدك بالهدى
قسما يكون الحق عنه مسائلي
لو كنت شاهد كربلا لبذلت في
تنفيس كربك جهد بذل الباذل
وسقيت حد السيف من اعدائكم
عللاً وحدّ السمهري البازل
هبني حرمت النصر من اعدائكم
فأقل من حزنٍ ودمعٍ سائل
و روى ابن الجوزي في تذكرة الخواص ان هذا الشاعر كان يبكي عندما انشد الابيات فلما فرغ منها نام قرب القبر الشريف فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام فقال له صلى الله عليه وآله : ابشر فان الله قد كتبك ممن جاهد بين ٍيديّ الحسين. وهذا شاعر آخر يقصد كربلاء فتفيض جوانحه بأسى المصاب وهو الشاعر علي بن حماد العبدي فيقول:
إبك ما عشت بالدموع الغزار
لذراري محمد المختار
شردّوا في البلاد شرقا وغربا
خلت منهم عراص الدار
وغزتهم بالحقد أرجاس هند
وغليل من الصدور الحرار
فكأني بهم عطاشى يسقّون
كؤوس الردى بحدّ الحرار
وهي قصيدة طويلة جدا عبر فيها الشاعر عن ألمه للفاجعة التي حلت بآل الرسول في كربلاء. وتطول قائمة الشعراء الذين وقفوا على القبر الشريف وسكبوا قرائحهم حزنا واسىً على سيد الشهداء وهم يستلهمون المعاني الانسانية العليا. من الامام الحسين وأخيراً وليس آخراً وقف شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري على القبر الشريف ليشم أريج الاباء والكرامة فخاطب القبر :
فداء لمثواك من مضجع
تنوّر بالابلج الاروع
بأعبق من نفحات الجنان
روحاً ومن مسكها أضوع
شممت ثراك فهب النسيم
نسيم الكرامة من بلقع
وعفرت خدي حيث استراح
خدّ تفرى ولم يضرع
وهكذا تنعكس مواقف الحسين عليه السلام وانسانيته وثورته المباركة ومصابه في نفوس الشعراء فيستلهمون منه أروع دروس الاباء فتفيض قرائحهم حباً واعجاباً وولاءً.