ولعل التفسير المعقول والمقبول لهذه الظاهرة هو : أن حروبه عليه السلام مع الخوارج كانت هي الأصعب ، والأقسى ، والأشد مرارة ، ولكن لا من حيث : أنه قد كانت لدى الخوارج قدرات قتالية فائقة !! إذ إنهم من هذه الناحية ليس كما يشاع عنهم ، بل إن أمرهم كان أهون من غيرهم فقد قتل منهم في معركة واحدة من معارك النهروان ، أربعة آلاف رجل ـ على ما قيل ـ ولم ينج منهم عشرة ، ولم يقتل من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عشرة (1) بسبب الخطة القتالية الناجحة التي رسمها علي ( عليه السلام ) ولأسباب أخرى لا مجال لبحثها الآن (2).
ولكن السر في صعوبة ومرارة هذه الحرب يعود إلى الأمور التالية :
1 ـ إن الخوارج كانوا في ظاهر الأمر من القرَّاء المسلمين ، الذين يتظاهرون بالتقوى ، والصلاح ، والنسك ، وقد عرف ذلك عنهم وشاع.
إذن .. فقتل هؤلاء بأيدي إخوانهم المسلمين لم يكن بالأمر المستساغ ولا المقبول لدى عامة الناس ، الذين لم يعرفوا بواطن الأمور ، ولا اطلعوا على خلفياتها.
2 ـ إن الخوارج كانوا ـ من جهة ثانية ـ جزءاً من هذا الجيش الذي حارب إلى جانبه ( عليه السلام ) أعداءه في الجمل وصفين فكانوا ـ إذن ـ رفقاء السلاح والجهاد لهذا الجيش الذي يحاربونه اليوم ، ويقتلهم ، ويقتلونه ، وكانت لهم به علاقات شخصية ، وروابط ، وذكريات ، حلوة ومرة.
3 ـ لقد كانت هناك وشائج قربى ونسب ، تربط بين هاتين الفئتين المتناحرتين ، حيث إن القوم كانوا أبناء القوم ، وآبائهم ، وإخوانهم ، وأبناء عمهم.
ومن الطبيعي أن تترك الحرب فيما بين هؤلاء آثاراً سلبية بليغة على البنية الاجتماعية ، وعلى العلاقات العشائرية والقبلية في داخل جسم الأمة.
هذا بالإضافة إلى الصعوبات العاطفية ، والصدمات الروحية ، والعقد النفسية التي تنشأ ـ عادة ـ عن قتل وقتال المرء لأخيه ، وصديقه ، وابن عمه. ولا ندري حقيقة المشاعر التي كانت تنتاب عدي بن حاتم حينما دفن ولده بعد انتهاء المعركة. وكذا غيره ، حينما دفن رجال من الناس قتلاهم بإذنه عليه السلام (3).
4 ـ إن الشعارات التي رفعها الخوارج كانت خداعة وبراقة إلى حد كبير ، وكانت تستهوي أولئك الذين ينساقون وراء مشاعرهم ، وعواطفهم ، دونما تأمل أو تعقل ، أو تمحيص لحقيقة ما يجري وما يحدث ، ودونما دراسة واعية لدوافعه وخلفياته. ولم تكن لديهم معرفة كافية تخولهم تمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال.
وهذا الواقع الذي كان يعاني منه مجتمع أمير المؤمنين ( عليه السلام )
يجعل من الشعارات البراقة والخداعة وسيلة فعالة في تخفيف هيمنة العقل والتقليل من زنته ورجاحته وجعل الأهواء ، والمشاعر هي الطاغية والمسيطرة ، وهذا هو السبب في أن فرعون قد استخف قومه ـ أي عقولهم ـ فأطاعوه حتى عبدوه.
وهو السبب في أن يتمكن الشيطان من أن يزين القبيح للإنسان ويظهره بصورة أحسن ، حتى يقع فيه. ولو كان ثمة أثارة من علم لعرف الصحيح من الزائف والحسن من القبيح ، والحق من الباطل.
5 ـ إننا إذا درسنا واقع المجتمع الذي كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتعامل معه ، ولاسيما بعد حربي الجمل وصفين ، فلسوف نخرج بنتيجة مثيرة ، وقد يرى البعض أنها تستند إلى نظرة مفرطة في التشاؤم.
فأما بالنسبة لفريق الخوارج ، فإن أمرهم واضح ، إذ يعلم كل أحد : أنهم كانوا أعراباً جفاةً ، أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام.
وحتى بعد مرور قرنين من الزمن وفشوا العلم بين الناس ، وظهور الفرق والنحل ، حتى نحلة الاعتزال المفرطة في الاعتماد على العقل ، وكذلك بعد ترجمة الكتب اليونانية ، وبعد أن صار كل فريق يحاول تقديم آرائه ، بقوالب علمية ، وبصيغ حضارية ـ نعم ، حتى بعد هذا وذاك وذلك ، فإن حالة الخوارج الثقافية قد بقيت في منتهى السوء ، حتى لقد قال فيهم بشر بن المعتمر :
ما كان من أسلافهم أبـو الحسن غـر مصابيح الـدجى مـنـاجب كمثل حرقوص ، ومن حرقوص ليس مـن الحنظل يشتار العسل ولا ابـن عباس ولا أهـل السنن أولئك الأعــلام لا الأعــارب فقعة قــاع حـولهــا قصيـص ولا من البحور يصطـاد الـورل
هيهات مـا سافلـة كعالـيـة مـا معدن الحكمة أهـل الباديـة (4)
وأما بالنسبة لمن عدا الخوارج من أصحابه وأعوانه ( عليه الصلاة والسلام ) ، فإن حربي الجمل وصفين ، والاغتيالات التي قام بها أعداؤه ، قد أفقدته الكثير من خلّص أصحابه ، ولم يبق معه إلا القليل. وقد قال الأشتر لهؤلاء الناس بعد انتهاء حرب صفين : « قتل أماثلكم ، وبقي أراذلكم » (5).
وقد كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتلهف على أصحابه المخلصين ، الذين فقدهم (6).
وقد قال ( عليه السلام ) حين تكلّموا حول مدى طاعة الأشتر لأوامره ( عليه السلام ) : « ليت فيكم مثله إثنان ، وليت فيكم مثله واحد » (7).
ويقول ( عليه السلام ) : « ذهب والله أولوا النهى ، والفضل والتقى ، الذين كانوا يقولون فيصدقون ، ويدعون فيجيبون ، ويلقون عدوهم فيصبرون وبقيت لي حثالة قوم لا يتعظون بموعظة ولا يفكرون في عاقبة لقد هممت أن أشخص عنكم فلا أطلب نصركم ما اختلف الجديدان » (8).
وكل ذلك يوضح : أنه ( عليه السلام ) لم يعد بإمكانه تحريك الساحة بنفس الفاعلية وبنفس الحماس ، إذ إن مراكز الثقل قد تلاشت ، والكوادر الفاعلة التي كان لها تأثير كبير في توجيه الفكر ، وبلورة الرؤية السياسية لدى الجماهير قد فقدت ، فليس لعلي ( عليه السلام ) بعد اليوم ، لا عمار ، ولا أبو الهيثم بن التيهان ، ولا الأشتر ، ولا ، ولا ..
أما من تبقى معه من المخلصين ، فقد كان عليهم أن يمسكوا بالمفاصل الحساسة للدولة التي تتناوشها ذؤبان معاوية ، ويعبث فيها الأخطبوط الأموي ، وغيره من فلول الحاقدين فساداً وإفساداً.
________________________________________
1 ـ راجع : كتاب علي ( عليه السلام ) والخوارج.
2 ـ راجع : كتاب علي ( عليه السلام ) والخوارج.
3 ـ راجع : تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 66 والكامل في التاريخ ج 3 ص 348 وتذكرة الخواص ص 105 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج 2 قسم2 ص 181.
4 ـ الحيوان ج 6 ص 455. والفقعة : الرخ من الكمأة. والقصيص : شجرة تنبت في أصلها الكمأة. والورل : دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه. وقال القزويني : إنه العظيم من الوزغ ، وسام أبرص ، طويل الذنب ، سريع السير ، خفيف الحركة.
5 ـ صفين للمنقري ص 491 والمعيار والموازنة ص 164 وشرح النهج للمعتزلي ج 2 ص 219.
6 ـ نهج البلاغة ج 2 ص 130/131 بشرح عبدة ، ونقله عن مصادر نهج البلاغة ج 2 ص 450/451 عن الزمخشري في ربيع الأبرار ، باب التفاضل والتفاوت. وراجع : الفتوح لابن أعثم ج 4 ص 102.
7 ـ المعيار والموازنة ص 183/184.
8 ـ الفتوح لابن أعثم ج 4 ص 66/67.