الدرجات الوجودية لأهل البيت (ع) سير نزول وصعود الإنسان إن للإنسان مراحل ودرجات طواها ومرّ بها حتى وصل إلى الدنيا ثم تعقب مرحلة الدنيا مراحل أخرى، لابد أن يمرّ بها الإنسان إلى أن يصل إلى نفس المرحلة التى بدأ منها رحلته الطويلة، ولكن مع اختلاف فى الكيفية. قال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ «2». مع التأكيد أن هذه المسيرة والحركة من الله وإلى الله لا تختص بالإنسان وحده، بل أن جميع الكائنات تسير فى قوسى النزول والصعود وبهذا تكتمل الدائرة، إلا أن السير والحركة فى الإنسان وهو أشرف المخلوقات هو سير وتحرك تكاملى، بحيث أن جميع الدرجات والمراحل الوجودية يطويها فى دائرة النزول والصعود، فالإنسان يتحرك من عند الحق فى مرحلة أحسن تقويم إلى أن يصل أسفل سافلين المادة، ومن ثم يعود إلى الحق فى حركة صعودية وسير وحركة جوهرية تكاملية مع تحولات وتغيرات فى أبعاده المعرفية والوجودية. ومن بين البشر جميعاً هناك أناس بارزون وممتازون ولهم صفة الإمامة بالنسبة للآخرين ويمتازون بسعة وجودية خاصّة، هؤلاء الناس تكون حركتهم بصورة أكمل من دون عيب أو نقص يعنى أن مسارهم التكاملى يتم بدون ارتكاب أى خطأ. وفى طليعة هؤلاء البشر يبرز النبى الأكرم (ص) باعتباره الإنسان الأكثر كمالًا ثم أهل بيته الأطهار (ع). مراحل نزول الإنسان كل كائن بما فى ذلك الإنسان يمرّ بمرحلة لم يكن فيها شيئاً ثم أصبح شيئاً، وهاتان المرحلتان عبارة عن ظل وفى ذلك الزمان حيث هو فى ذات العلم الإلهى المكنون وبشكل إجمالى، له وجود فى ذات العلم المكنون وهذه هى نفسها المرحلة الأولى يعنى اللاشيئية ثم شاء الله عز وجل أن ما فى ذات علمه المكنون أن يكون فى حالة مدّ الظل على شكل أعيان ثابتة وهذه هى المرحلة الثانية لتكون مؤهلة وقابلة لتلقى الأمر الإلهى كن فيتعلق بها الوجود؛ لأنه قبل هذه المرحلة لم يكن شيئاً حتى يكون جديراً للأمر كن الوجودى. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1». وهذه المرحلة تتحقق بالتجلى ولا يمكن تصور سرعتها أبداً: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «2». وهذه إشارة قرآنية صريحة فى قوله تعالى: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً «3». وكذا قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَم يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً «1». وهذه هى مرحلة العين الثابتة وهى ليست سوى شىء غير مذكور. ومن هذه الآية الكريمة يمكن فهم وإدراك المرحلة الثالثة، وهى أن الإنسان يمكن أن يكون شيئاً قابلًا للذكر، وهى ذات المرحلة حيث زمن الوجود الخلقى وتجلّى شمس الوجود المحمدى وجلوة نوره، والوجود الخلقى له درجات ومن أجل أن يكون خلالها جديراً بالذكر والإشارة. كل شئ وقبل تحقق الوجود الخارجى والعينى موجود فى علم الله على نحو الوجود العلمى، فنحن كنا معلومين للحق ثم بإرادته وأمره كن ظهرنا من العلم إلى العين وأصبح لنا وجوداً خارجياً. ومن الواضح جداً أن كل شىء يكون محلًا لخطاب الله ويتلقى أمر كن من خالق الوجود لا يمكن أن يكون عدماً محضاً لأن العدم المحض ليس أهلًا للخطاب، وإذن فنحن وإن لم يكن لنا وجود خارجى فنحن كنّا فى علم الحق تعالى. فمن جهة أن وجودنا العلمى وبسبب تجرّده كان مرافقاً للعلم ومواكباً. وعلى هذا يكون من المؤكد أنه وقبل أن يكون لنا وجود خارجى كان لنا وجود علمى، وهذا الوجود العلمى هو وجود مجرّد وهو مجرّد بالنسبة لذات العالم. وإذن فقبل هذا كانت لنا شيئية علمية لا شيئية عين ذات العلم، يعنى أننا كنا نعلم فى مقام العلم والتجرد بوجودنا إلا أن وجودنا ليس عينياً ولا خارجياً، ولذا ورد فى القرآن الكريم قوله تعالى: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً «1». وهذه الشعلة للتذكير والإضاءة إنما جاءت لأننا كنا نعلم، ولكن دهمتنا الغفلة وغلب علينا النسيان أو أننا نتناسى ونستغفل أنفسنا، ذلك لو أننا دققنا النظر وتأملنا وفكرنا بعمق فأننا سنتذكر أننا لم نكن شيئاً ثم أصبحنا شيئاً لكننا، لم نكن شيئاً قابلًا للذكر وأهلًا للإشارة، ثم بعد ذلك خلقنا وأصبحنا شيئاً مذكوراً. وإذن فإن المقطع القرآنى الكريم: (أولا يذكر الإنسان) يدل على أنه كان للإنسان علم سابق نسيه على نحو ما. فإذا ما نفضنا غبار الغفلة فإننا سنتذكر أن الله عز وجل كلمنا وخاطبنا فى زمن ما، وفى مرحلة خاصّة من مراحل وجودنا وقد علمنا أنه لم نكن شيئاً مذكوراً، وأنه تبارك وتعالى شاء أن ينقلنا من العلم والعين الثابت إلى العين الخارجية والخلقية. وينبغى هنا أن نلتفت إلى هذه الحقيقة وهو أن تنزّل الإنسان من نشأة علم الحق إلى العين، ومن ثم إلى الخارج هو على نحو التجلّى لا على نحو التجافى، يعنى أن نشأة علم الله لم تقفر من وجود الإنسان وأن الإنسان الذى انتقل إلى عالم الخارج فإن وجوده العملى، يظل محفوظاً فى مرحلة العلم الإلهى كما هو الحال فى انتقال العلم من الأستاذ إلى التلميذ، لكن هذا الانتقال لا يكون على نحو التجافى، وإنما على نحو التجلّى. وإذن فنحن وإن كنا فى الخارج ولنا وجود فى ظرف العين، لكننا ما نزال موجودين فى مرحلة العلم الإلهى للحق تعالى وبين هاتين النشأتين ارتباط تكوينى وعلاقة قائمة. وعلى هذا فإننا نستطيع أن ننفض عن ذاكرتنا غبار النسيان وأن نعى علاقتنا ونقويها مع وجودنا العلمى فى المرحلة النورية العالية فنتذكر كل ما قد نسيناه. وإذن فإن وجودنا الطبعى والمادى فى أسفل السافلين هو الدرجة الأخيرة لوضعنا الوجودى وأعلى منها هو الوجود المثالى، ثم يلى هذه الدرجة والمرحلة الوجود العقلى وأعلى من هذه أيضاً هو الوجود العلمى فى ذات المكنون. وعلى هذا فإن مرحلة الظل تلك هى نفسها مرحلة لَمْ يَكُ شَيْئاً «1» لأنها فى دائرة الذات البسيطة ومن ثم تحقق وجودها بالخطاب الأمرى (كن) وأصبحت (شيئاً مذكورا) «2». ويتوجب القول: إن الأمر الإلهى والخلق قد اجتمعنا فى الإنسان: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ «3». ليظهر الإنسان. يقول القرآن الكريم فى شإن هذا الكائن العجيب: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ «4». ويقول أيضاً: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ «5». هاتان الآيتان وغيرهما تشيران إلى الوجود الطبيعى والخلقى فى درجات أسفل السافلين المادية، ومن ثم يقول الله عز وجل: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «6». ومن هذه الآيات الكريمة نستنتج بأن الإنسان مخلوق جامع ويمتاز على سائر المخلوقات.
source : دار العرفان