الإمام جعفر الصادق عليه السلام يلاحظ واقع الاُمة مظهراً ومحتوى
أعرب الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حين تصدّى لموقع الإمامة الإلهية في منتصف القرن الثاني الهجري حين أوصاه أبوه الباقر عليه السلام بصحابته، فأجاب قائلاً: “جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في مصر، فلا يسأل أحداً” أو قال: “لا تركتهم يحتاجون الى أحد”. فعزم الإمام الصادق عليه السلام على اصلاح الاُمة من خلال وضع مخططه الكبير; الذي سيتبين لك شيء من فقراته في السطور اللاحقة من هذا المقال.
فقبل أن يباشر الإمام بتنفيذ مشروعه قد لاحظ عدة مظاهر، قد سادت واقع الاُمة في قرنها الثاني، ذلك العصر الذي مُلئ بالمتراكمات المتناقضة التي خلفتها السياسات السابقة. ورمت بثقلها البائس في قلب هذه المرحلة العصيبة من حياة الاُمة; في الوقت الذي يمثل خلّص أصحاب أهل البيت في وسط الاُمة عدداً يسيراً، وقد صرّح عليه السلام بحجم معاناته، حيث الكثرة من الناس قد خذلتهم وجهلت حقهم، فقد كان هذا هو صريح قوله، لوفد من أهالي الكوفة الذي التقاه حين تصدّيه لموقع الإمامة في المدينة بعد وفاة أبيه إذ قال: “ما من البلدان أكثر محباً لنا من أهل الكوفة، لا سيما هذه العصابة، إن الله هداكم لأمر جهله الناس، فأجبتمونا وأبغضنا الناس، وبايعتمونا وخالفنا الناس، وصدقتمونا وكذبنا الناس، فأحياكم الله محيانا وأماتكم مماتنا”.
كما يعرف الإمام جيداً تفكير وسياسة الحاكم الاموي هشام بن عبدالملك القاتل لأبيه قبل أيام وجيزة، الذي مازال يتمادى في سياسته الرعناء ولم يتراجع عن خط أسلافه في الخصومة لخط أولاد علي بن أبي طالب عليه السلام الورثة الشرعيين للخلافة وفق النص الإلهي عن لسان صاحب الرسالة، الذي لم يُعد هذا النص خافياً على هشام وأبيه عبدالملك وجدّه مروان من قبل.
لاحظ عليه السلام السواد الأعظم من الناس الذي لم يدرك بَعدُ المعادلة، وقد قادته الفوضى وتجاذبته ثقافات خلفتها السياسة بؤر ومراكز تدّعي الأصالة والتجديد والمرجعية للفكر الإسلامي، كالخوارج والمرجئة، ومدرسة الحديث، والاعتزال، والقدرية، والزندقة، والغلاة وأصحاب الرأي والقياس في الكوفة وغيرها.
خلاصة الأمر هناك اهتزاز واضطراب عمّ الثقافة والعلم والعقيدة والاجتماع. وكل هذه الظواهر انتجت لنا ضميراً نفسياً مزدوجاً يائساً من الاصلاح، يبحث عن بديل يتقلب في خياراته وقناعاته، لا يمتلك معياراً ثابتاً يهديه للصواب وتراه مستجيباً للخطاب المتناقض و يتأثر بالطارئ، فهو واقع ينذر بالعاصفة والانهيار، والأخطر من ذلك يُنبئ بموت الحضارة الناشئة.
تفحص الإمام بعينه الإلهية الثاقبة واقع الاُمة، ولاحظ حاضرها بدقة وما ينبئ عن مستقبل خطير، اُمة تتقاسمها ولاءات سياسية تسلحت برؤى عقائدية، تخندقت ورسمت لها أهدافاً ووضعت لها حدوداً وفواصل وسواتر حديدية مع خصومها; وعمدت الى توظيف وجلب الأفكار واستيرادها من أجل تقوية معتقداتها السياسية. وتخرّج من مدارسها جيل ولّد قيادات، ضاعفت المحنة بجلب عناصر فكرية أجنبية نثرت عليها مساحيق اسلامية، ورتّشتها بديكور زائف; لاقناع دعاتها من أجل بقائها صامدة; لئلا تذوب في هذا المعترك الصاخب، لقد وظفت الآيات القرآنية والحديث الشريف لصالحها فاقتطعت واختارت وأوّلت ما يناسبها، ورمت عرض الحائط ما يخالفها، ووظّف الغلاة أفكاراً غريبة لا صلة لها بالتوحيد، وقالت بوجود وسائط وعقول سماوية، تتوسط بين الله والعالم، وتتخذ من النجوم والكواكب مطايا لها. واستطاعت هذه الفكرة أن تجنّد الساخطين على النظام الاُموي، وتغرر بهم، معتمدين التأويل الباطني لكثير من الآيات، وطبيعي لمّا كان لهؤلاء أنصار، فلهم خصوم أيضاً، فالحكومة كانت من خصومهم لتعارض أفكار الغلاة وعدم خدمتها لسلطانهم; لكونها لا تربط الدين بالسلطان الحاكم، وبالتالي فإنها تعتقد بعدم شرعية السلطان الاُموي الحاكم، والخوارج من جهة يرفعون شعار تكفير مرتكب الكبيرة، ويهدرون دم مرتكبها.
وهذه الفرقة قد أتعبت الحكومة الاُموية كثيراً، لأنها منظمة ثورية تتسلح بفكرة واعتقاد يبرّر لها القتال، فليس من السهل القضاء عليها بقوة السلاح أيضاً. ولما كان أكثر الحكام والملوك من أصحاب الكبائر فهم مشمولون بهذا القرار الخوارجي، وتقابلهم المرجئة التي أدت خدمات كثيرة الى السلطات الاُموية والعباسية; حيث تبيح ارتكاب كل الجرائم، وللإنسان كامل الحرية في ممارستها مثل شرب الخمر، القتل، الزنا، ولا يخرج صاحبها عن حظيرة الإيمان، فقد وفّرت فيما بعد غطاءاً لممارسات الاُمويين الظالمة، ومدرسة أهل السنة والحديث الذين يرون شرعية الحكم الاُموي، فهم محافظون قد قدّموا خدمات اُخرى للطغاة، وفسروا الوضع القائم: بأن وجود حاكم ظالم وغير عادل على رأس الاُمة لا يبرر الثورة ضدّه، لأنه ولي أمر للمسلمين، وقام هؤلاء بتضخيم الحديث ونفخه اكثر ممّا صدر عن صاحب الرسالة; بواسطة وعّاظ السلاطين عن طريق الوضع والتزوير والتحريف حتى نشأت قبالهم مدرسة الرأي وفرقة الاعتزال المعارضة لهم واتهمتهم بالجمود والتحجّر وعدم تحكيم العقل، لعجز هذه المدرسة أي مدرسة الحديث عن استيعاب المستجدات والتساؤلات وتحولوا الى معارضة زمن المنصور العباسي; ممّا دعاه أن يقرب مدرسة الرأي والقياس عندها شنّت المعتزلة حملاتها على مدرسة الحديث، فكانت في محتواها أي المعتزلة معارضة للحكومة الاُموية.
ولما انتصر العباسيون اصبح الاعتزال يمثل النخبة التي تدعم السلطان العباسي، فنظّروا لشرعيته مثل ابتكار فكرة جواز تقديم المفضول على الفاضل; خصوصاً مدرسة الاعتزال في بغداد، نقضاً لمعتقد أهل البيت عليهم السلام الذي يرى وجوب تقديم الفاضل بموجب نظرية النص على المفضول، حتى التزمت هذه الفرقة الخصومة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام بهذا المحور الكلامي، الذي يعود بالفائدة للحكومة العباسية، ويبرر شرعية سلطتها وغيره من الأفكار، حتى حظي الاعتزال يومها بحماية الدولة فاصبح دينها الرسمي لمدة من الزمن.
والزندقة: حركة الحادية تجرأت على مقدسات الاُمة، وطرحت افكارها بقوة في مركز الوحي مكة وغيرها من الحواظر الإسلامية، وقد تبنّت فلسفة إلحادية سافرة وهاجمت الفرق الاُخرى معتمدة فلسفات أجنبية هي الاُخرى كذلك.
ويدخل الى مراكز القوى في الساحة طرف آخر يغيّر المعادلة ويمزقها بين فترة واُخرى; ذلك هو الاتجاه العلوي الذي أصبح رمزاً للثورة والفكر، ومعقلاً لقلق سلاطين الحكم الاُموي على طول الخط، ترى السلطة فيه الخطر والمنافس الوحيد.
وفي زمن الإمام الصادق عليه السلام يفسر الاُمويون وكذا العباسيون بأن التحركات والفعاليات الثورية تخضع الى توجيه مركزي للإمام أو هي ايحاءات منه عليه السلام ; لكونه الوريث الشرعي للخلافة، وهذا الظن الذي لا تمتلك الدولة عليه دليلاً، كان صحيحاً بنسبة ما ولكن ليس على وجه الإطلاق، فقد يرى أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام قبل تصدّيه للإمامة انّ اجتثاث الظلم لا يتم إلاّ بالحل الثوري، وقد تبنى زيد بن علي عمّ الإمام زعامة هذا الاتجاه، ولحقه الكثير من العلويين.
قد لاحظ الإمام عليه السلام تلك الشريحة الواسعة من الناس التي تتطلع اليهم، مع خلو ذاتها ومحتواها من عنصر الثبات وتتحرك بالعاطفة التي لا تصمد عند النزال، فولاؤها مهزوز لا يمكن العمل بموجبه; لأنه يتحرك كالرمال.
ثم لاحظ عليه السلام أيضاً مظاهر الفساد التي قد بُرمجت بوعي من سلاطين الجور وانفق عليها آلاف الدنانير من بيت مال المسلمين; مثل محافل الغناء ورقص الجواري في ليالي حمراء، واشاعة شراب الخمر بمحضر الخلفاء، مع استهانة بالمقدسات، من خلال مغنيّن، شعراء ماجنين، وعّاظ سلاطين، حضور يهودي سافر في البلاط الحاكم; حتى أصبح الواجهة الإعلامية للدولة الإسلامية، ولهؤلاء وغيرهم أثر كبير في القرار السياسي.
وتصل للإمام الأخبار عن مصير الناس في أطراف البلاد الإسلامية التي لم يصلها نور الهداية، ولم يعرف أهاليها من الإسلام إلاّ اسمه، ولم يشاهدوا إلاّ أمرين فقط طُبقا بحقهم، فقد استبدلوا الحاكم بحاكم آخر، ولم ينعموا من وافر خيرات البلاد هذا أولاً، وثانياً اداء الخراج بدل الضرائب.
نعم إنهم مازالوا على ثقافتهم القديمة; يفسرون الحوادث والظواهر بطرقهم الخرافية التي ألفوها قبل الإسلام، وعاداتهم وقيمهم لم تتبدل، ولاحظوا أمراً ثالثاً، وهو أن الحكومة قد وضعتهم في الطبقة الثانية وجعلت العربي فوقهم في الطبقة الاُولى، وهذا النهج هو الذي جاء بالشعوبية فيما بعد كردّ فعل للنظريات والقرارات الجاهلية الغريبة في محتواها عن جسم العقيدة الإسلامية ومبادئها السامية.
إنّ هذا الوضع بشكله العام ولّد انتماءات قبلية وطائفية; تتنازع فيما بينها تحت ظل ديكتاتورية ظالمة، قوامها الظلم وقمع الآخرين بلا نظرية للحكم. وبمرور الزمن تخندقت القوى المتحاربة ثقافياً، وانتجت زعماء وأتباع وأصبحت ذات تاريخ وفلسفة.
وبتعبير آخر أصبح النزاع فلسفة قبال فلسفة وفكر قبال فكر، وأملى هذا الاختلاف سلوكات متباينة واهدافاً متقاطعة، ومواقف متناقضة أو متحدة فيما لو جمعتها المصلحة، وهناك متربصون وتجار سياسة يترقبون المعادلة، ويتصيدون مواطن الفراغ السياسي، يبكون على ظلم أهل البيت عليهم السلام في المحافل نهاراً ويعدّون المكائد ضدهم في البيوت ليلاً، وشخّصهم الإمام جعفرالصادق عليه السلام، وأشار الى أبعاد المؤامرة عند انصراف العباسيين من مؤتمر الأبواء، مخاطباً عبدالله قائلاً: “لا تفعلوا فإن الأمر لم يأت بعد، وهو ليس بالمهدي أي ابنه محمد ذي النفس الزكية الى أن قال: ولكن هذا واخوته وابناؤهم دونكم، وضرب بيده على ظهر أبي العباس، ثم قال لعبدالله: ماهي إليك ولا الى ابنيك الى أن قال: ولكنّها لبني العباس، وإنّ ابنيك لمقتولان”.
هذه الحقبة الزمنية من تاريخ الاُمة لم يأت بها التاريخ اعتباطاً، بل لها عواملها، فقد ولّدتها ارادات ومخططات وسياسات، فهي بتعبير مختصر: مرحلة صنعتها لنا الظروف السابقة عليها.
وعليه فما الذي نتوقعه بعد هذه الفترة، والى اين يصير هذا الوضع؟ والى أين تسير بنا الظروف بعد هذه الفترة؟ أي ان هذا الحاضر ماذا يحمل للمستقبل بعد ثلاثين عاماً أو بعد أربعين عاماً، أو قل بعد مائة عام؟ ماذا سيكون والله سبحانه أبى ألا تجري الاُمور إلاّ بأسبابها؟ فهل الضياع يؤدي الى الالتحام؟ والتفرقة والابتعاد عن خط الرسالة يؤدي الى الاعتزاز بها؟ وهل الطغيان يولّد الاستقامة ويهيئ الاُمة لأن تطبق العدالة؟ وهل نترقب أن يتخلى الجميع عن خلافاتهم، ويتنازلوا عن معتقداتهم، فيذوب البعض في الكل فتنعم الحياة وتهطل السماء بخيراتها والأرض ببركاتها، فيحدث الوئام والمحبة والتراحم أم ماذا؟ كل هذه الاُمور وغيرها قد لاحظها الإمام بعينه الإلهية التي تخترق حجب الغيب، فرأى أن الوضع المستقبلي كئيب، موت حتمي للإسلام، ذلك التشخيص الذي يكشف لنا عن ضخامة مسؤولية الإمام وماذا عليه من اُمور سيعدها للمستقبل ليواجه بها هذا الظلام الآتي من بعيد ولابد أن يشد عزمه ويتحمل لأجل ذلك الصعاب.
مستقبل الاُمة المحتمل وقوعه لولا تدخل الإمام
سيعجز الحدث السياسي في المستقبل، ولا يمتلك القدرة على صياغة الخطاب الذي يُحشد قوى الاُمة فتستجيب له، لأن الحدث السياسي يكون مؤثراً إذا خاطب الأفكار والقيم التي هي موضع تقديس واحترام عند الاُمة ولما افترضنا أن القيم والأفكار قد تهشمت وتقطّعت أوصالها، وأدت الى توزيع الاُمة الى جماعات، فلا يرى الفرقاء خطاباً يجمعهم تحت هدف واحد، وعليه فانّ الاُمة حين ذاك تُباعد بها الاتجاهات والميول الى حيث تريد.
ويضاف لو لاحظنا الاتجاهات التي تفسّر الأحداث بأنها تجري بتقدير من الله، وأن قرارات الحاكم الظالمة تعبير عن ارادة السماء، فالمرجئة والجبرية والزنادقة والمتأثرون بهذه الأفكار أصحاب الموقف الايجابي أو الحيادي من تصرفات الحاكمين; فسوف ينقلب موقف هؤلاء مستقبلاً مع الحاكمين، لأن الأعمال الاجرامية المبررة وفق هذا التفسير ستبرر هي الاُخرى الأعمال المضادة لها مازال الذي يجري كله بتقدير من الله، وكأن المتناقضات كلّها بتقدير من الله، وعند ذاك لا يستطيع أحد أن يوحد صف الاُمة بخطاب جديد، وهذا ما سوف يطلق العنان لأهل الاطماع، فلا عودة للإسلام لا بواقعه فحسب بل بنظريته أيضاً، وهذا ما كان يدركه الإمام قطعاً.
وسيحدث الانفتاح مطلقاً على الفلسفات المخالفة للإسلام، مع اقتباس شظايا منها بغية الرقع او التوظيف بشكل مستمر لغرض مواصلة الصراع، واحراز تقدم ضد الخصوم.
ولأجل أن تحقق بالوقت نفسه قوة للمعتقد بالاضافة الى كونها مدعاة لانبهار الأنصار والمؤيدين، ودعوة الى مزيد من الاندكاك والتشرنق داخل المعتقد، وضخّها بوقود أمل يدفعها لمواصلة الطريق، ودعاية خارجية تفيد لكسب الآخرين ممّن اكتشفوا ضعف عقائدهم الباحثين عن اعتقادات جديدة، ينتمون إليها في هذه المباريات والمزايدات التي ستؤول مستقبلاً الى الانحراف المطلق عن خط الرسالة، فلا جامع ولا مشترك يوحّد صفها، ولا أمل بالاُفق يلوح الى ذلك، لا على المستوى القريب ولا على المستوى البعيد أيضاً فهو تشاؤم مطبق بالمرة.
وسيفقد العمل الثوري جدواه في المستقبل البعيد فقط، ولا أقول على مستوى المستقبل القريب، حيث سنتكلم عنه في فقرة لاحقة.
إن حاضر الاُمة إذا استمر كما هو عليه; فسيفقد العمل الثوري أثره، ذلك لأن السبب في اختلاف الولاءات هو العامل الثقافي، والثورة المسلحة خطوة لاحقة تهدف الى استنهاض الضمير والقيم الحيّة في محتوى الاُمة. ولما كانت الأفكار والقيم موزعة; فلا مشترك يعبئ الاُمة ويوحّد مصيرها، وستكون الثورة حين ذاك لغواً لا طائل وراءه.
وأخيراً أدرك الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أن حاضر الاُمة يُنبئ عن موت حتمي قريب ما لم يتدخل هو لتفاديه.
إن الأوضاع إذا بقيت على ماهي عليه ستحصل ظاهرة رفض أي مشروع يريد توحيد الاُمة; لأنها يائسة من كل بديل، وتشكك في كل طرح جديد، اُمة تفتقد الهدف الكفيل بتوحيدها وتتحرك نحو أهداف تجزيئية، حوّلتها الظروف بمرور الزمن الى مطلق، وسيصبح الفكر الإسلامي فكراً هامشياً في حياتها بعد أن كان الأصيل في حركتها، وستتمزق الى دويلات، كل قد تبنّى فكرة يتعبد بها ويتخندق حولها ويقاتل من أجلها، ويُصرّ على عدم التفريط بها أو قبول الذوبان في الفكر المضاد لها، وستنقسم البلاد الإسلامية أرضاً وفكراً الى أقاليم متباعدة، لا يربط بينها مشترك ولا تنظر للإسلام كعنصر للاعتزاز، وسيعود الإسلام غريباً، وستتحرك الجماعات التي استحكمت قناعاتها نحو مستقبليات متعددة; تعمق فجوة التباعد بمرور الزمن، وسيتم الطلاق الخُلعي بين الاُمة واسلامها طلاقاً لا رجعة فيه.
فان قلت: انّ هذه الاُمور لم تحدث في أرض الواقع فهي لا تعدُ أكثر من تخيلات واستغراقات في النظر.
قلت: إنّ المرحلة التي عاصرها الإمام كان من المفروض أن تنتج لنا ظواهر، سواء هذه الظواهر التي تحدثنا عنها أم غيرها، ولما لم تحدث; لابد من وجود مانع قد حال دون وقوعها، وهذا المانع هو جهد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كما نعتقد نحن، وكما ستلاحظ ذلك في الفقرات التالية لجهد الإمام الذي صبّه بهذا الاتجاه.
الخيارات والحلول الاصلاحية المطروحة في زمن الإمام الصادق(ع)
وقبل الحديث عن جهد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لتغيير مسار التاريخ وتفادي ما كان يُتوقع أن يحدث ; لابد من الحديث عن الحلول المقترحة والمناهج التغييرية التي لها القدرة في تغيير الوضع، أو الخيار الأسلم الذي يكفل لنا اعادة الاُمة الى اسلامها على ضوء القراءة السريعة التي مرّت عليك.
لقد كان يدور في أذهان القادة والعقول التي تراقب الأحداث وذات الحضور السياسي والفكري في المعادلة زمن الإمام الصادق عليه السلام عدد من الخيارات، وفي مقدمتها الخيار الثوري المسلح، وبعد أن نعرضها سنتناول خيار الإمام في التغيير والثورة.
الخيار الأول الثورة المسلحة
إنّ بعض الوجوه الاجتماعية، وأهمها العقول القريبة من الإمام والمحيطة به; تتحدث عن ترجيح الحل الثوري، وهذه القناعة ناشئة من تعليل مظاهر الفساد بكل صوره الى فساد السلطة، ولا سبيل للقضاء عليه إلاّ بالقضاء على رأسه، وذلك هو السلطان المنحرف، وعلى هذا الأساس ترفض هذه الوجوه الحلول الاُخرى، معتقدة بأن الشرّ لا يسكته إلاّ السيف.
والإمام جعفر الصادق عليه السلام يتفق مع هؤلاء من جهة، إلاّ أن الخلاف يقع معهم من جهة الآلية أو عدم توفر مقدمات هذا الحل فضلاً عن كون الظلم واشاعته في البلاد لا يتحمله الظالم وحده، وإنّما تشاركه الاُمة في ذلك، وعليه فانّ للمشكلة علّتين: مشكلة حاكم منحرف، ومشكلة اُمة تخلّت عن مسؤوليتها وتفاعلت مع اُطروحات الضلالة. وبتعبير أصح أن المشكلة مشكلة اُمة قبل أن تكون مشكلة سلطة، لأن فساد الحاكم معلول لفساد الاُمة أو قبولها بالظلم والفساد.
والنظرة المتوازنة للاُمور تدعو الى النظر بعين بصيرة. بهذه الدقة كان جواب الإمام لأحد أصحابه حين قال للإمام: والله ما يسعك القعود، فقال: “ولِمَ يا سدير؟” قلتُ: لكثرة مواليك وشيعتك وانصارك الى أن قال: “يا سدير وكم عسى أن يكونوا؟” قلت: مائة ألف، قال: “مائة الف” قلت: ومائتي ألف. قال: “مائتي ألف؟!” قلت: نعم، ونصف الدنيا، قال: فسكت عنّي ثم قال: “يخفُّ عليك أن تبلغ الى ينبع”، الى أن قال: ونظر الى غلام يرعى جداء فقال: “والله يا سدير لوكان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود”، يقول الراوي: عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر.
ودعا هذا التصور البعض الى أن يرى أن مسؤولية الإمام عليه السلام هي القيام بالثورة، وليس بصحيح أن ينشغل الإمام بالفكر والحديث أو على الأقل أن الإنسان بهذا الظرف لا يمتلك تفسيراً لأي خيار غير الخيار الثوري المسلّح ويترك الطغاة يعيثون في الأرض فساداً، ولا يكون هو المبادر للثورة فضلاً عن كونه المكلف بإزالة الظلم عن رقاب الناس، وبوسع الإمام أن يسلك هذا الاتجاه، وعدم جواز سكوته واضح; لأنه يبرر للظالمين انشطتهم وافعالهم المنحرفة، ولذا نجد الإمام الحسين عليه السلام قد جسّد هذا المنطق حتى آخر لحظة من حياته، ثم لم ينقل لنا التاريخ أن علياً عليه السلام قد سكت يوماً عن الظلم، وقد تجلّى ذلك خلال حياته كلها ومواقفه مع معاوية تشهد له بذلك.
وهذا التصور ترد عليه مؤاخذات، منها: أن ترجيح هذا الخيار دون غيره ناتج عن قصر النظرة، وعدم فهم دور الإمام وتحديده بهذا النمط، وهذا يعني أننا قد وضعنا خطة العمل والتحرك في المجتمع بهذه الصياغة للإمام، وافترضنا أن مسؤوليته تنحصر بهذا الخيار، وجئنا بمرحلة ثانية لنرى مدى تطبيقه لهذه المسؤولية فيما إذا نجح فيها أم أخفق، والحال أنّ الأمر يقتضي العكس كما هو ثابت في نظرتنا للإمام عليه السلام.
أما مسألة مقايسة الإمام الصادق بجدّه الحسين فهي قياس مع الفارق، فمن اعتقاداتنا البديهية أن مسؤولية الإمام هي الهداية لا الثورة، فالثورة ليست أصيلة في حياة الإمام، وإنّما الاصالة للهداية، نعم قد تتحقق الهداية عبر وسيلة الثورة، وقد تتحقق بغيرها، فمسؤولية مكافحة الظلم وازالته عن المستضعفين تقع على عاتقه بلا إشكال، ولكن من قال إن الظلم لا يرتفع إلاّ عن طريق الثورة والاقتصاص من شخص الظالم; فهذا إن صح في بعض الأحيان إلاّ انه لا يصح مطلقاً.
وعلى فرض أن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام قد اختار موقف المعارضة المسلحة، وشهر سيفه كعمّه زيد ضد الظلم، لترتب على هذا الموقف اُمور منها:
1- وقوف الدولة وأجهزتها بكل ثقلها، لاجهاض ثورته ممّا يجعل احتمالات النصر ضئيلة جداً.
2- إنّ القوى التي سيستعين بها الإمام من الطبيعي أن تكون من العناصر الساخطة على النظام، والتي يتوقع لها أن تتحقق كامل أغراضها وأهدافها بمجرد انتصار الثورة، وأغراض هذه العناصر ليست موضع قبول الإمام ورضاه; وعند ذاك ستحدث تقاطعات مع الثوار أنفسهم، ممّا يكون حدث الثورة عاجزاً عن منح الإمام فرصة لطرح برنامجه التغييري فيما بعد، والذي فجّر الثورة على أساسه، وهذا يعني أنها ثورة بلا أهداف.
3- من الطبيعي أنّه ستقف كل الفصائل والطوائف التى نمت وتطورت في الظروف السابقة وبنت لها كيانات، بمجرد حدوث انقلاب مسلّح يقوم به الإمام الصادق عليه السلام ستقف معارضة ضد النهضة الجديدة، لأنها تستهدفهم أيضاً وإن لم يقفوا ضدها، سيقفون مع الاُمويين وان عارضوهم قبل الثورة; انطلاقاً من وحدة المصلحة.
4- وعلى فرض أنّ الإمام قاد الثورة وتحقق النصر بالمعجزة; فماهو السبيل أو البرنامج الناجح الذي أعده الإمام ليكون ملائماً مع الوضع الجديد؟ وبتعبير آخر: هل الأرضية الاجتماعية والثقافية مهيأة، وأن الاُمة كانت تترقب الحدوث للتعامل مع الطرح الجديد؟ أم أن الاُمة لا تعرف من أهداف الثورة شيئاً؟
5- إن قلت: إن الظروف آنذاك كانت تبحث عن قيام ثورة، والاُمة كانت تنتظر عود الثقاب الذي يفجّر عبوة البارود.
قلنا: هذا التطلع الثوري إن صح فهو تطلع ليس أصيلاً وترقب غير واعي، بل يتأثر بالدعاية والشعار البرّاق، وولاءاته متحركة، لا تعتمد الثابت وتتغير بين لحظة واُخرى، وهذا يعني أنّ الإمام سيقود ثورة عائمة لا تصمد أمام التحديات، وهذا الاحتمال له ما يؤيده حين قال الإمام لعبدالله الذي جاء يخبره بكتاب أبي سلمة المتضمن دعوته للخلافة بمعنى أن الخلافة تكون لعبدالله يا أبا محمد، ومتى كان أهل خراسان شيعة لك؟ أنت بعثت أبا مسلم الى خراسان؟ وأنت أمرتهم بلبس السواد؟ هؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وجّهت فيهم؟ وهل تعرف منهم أحداً. هكذا كان الإمام يراقب الأوضاع وبموجبها يتّخذ القرار.
6- بالتأكيد سيشارك العلويون من آل الحسن بالثورة مع الإمام جعفر عليه السلام، مع اعتقادهم بأن القيادة لهم، وأنها كانت شعوراً أو هاجساً إلا أنه سيتحول الى فعل، ولهذا فقد طرح محمد بن عبدالله بن الحسن نفسه خليفة للمسلمين، وممثلاً الاتجاه العلوي بحضور من الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، فمن المحتمل أن يعارض الحسينيون سياسة الإمام الصادق، انطلاقاً من الاعتقاد بأهليتهم وتقدمهم على الإمام، وعند ذلك ستحدث حرب علوية علوية بدل من أن تكون علوية عباسية، أو من ثلاثة أطراف.
وتتميماً لمناقشة هذا الخيار قد يثور في الذهن سؤال وهو لماذا لا يقوم الإمام الصادق عليه السلام بثورة حسينية مع العلم القطعي باستشهاده كثورة صاحب فخر وقبله زيد، رضوان الله عليهما؟
لا تصح المقارنة بين ثورة الإمام الحسين عليه السلام وثورة سيقوم بها الإمام الصادق عليه السلام، وذلك لأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قريب عهد بالنبوة، ولازال بعض أصحاب رسول الله احياء يُرزقون، والاُمة لا تعرف ابن بنت للنبي بالمباشرة غير الإمام الحسين عليه السلام، كما لا يشك من أنه ابن الخليفة الرابع، وقد شارك في كثير من الحروب مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، وقد توافرت شروط موضوعية لثورته كالتي هيّأها الإمام الحسن عليه السلام له، ثم إنّ الإمام الحسين كان بصدد تزييف حكومة يزيد بفضح عدم شرعيتها ورفضه لها مهما كلف الثمن، وهذا المقدار حاصل في نظر الاُمة مع الحكّام الاُمويين زمن الإمام الصادق عليه السلام وادراكها عدم شرعيتهم مع عدم بيعتها للامام الصادق عليه السلام كالتي أعلنتها مع جده الحسين عليه السلام، بالوقت الذي أصبحت ظاهرة الثورة عاجزة عن التعبئة الجماهيرية ككل. ولم تتكفل بحدوث انقلاب جذري يقلب مفاهيم الاُمة رأساً على عقب، بل كانت الثورة زمن الإمام الصادق تمثل بعداً سياسياً لا أكثر من كونها رفض السلطان الحاكم وقيام سلطان آخر مقامه، وعليه فلا يعدو الإمام بثورته في نظر الاُمة أكثر من كونه يريد السلطة بغض النظر عن كونه محقاً في طلبه، فهدف الثورة المستقر في ذهن الاُمة والانجاز الذي تترقبه هو ازالة الحكم الاُموي بلا بُعد استراتيجي وبلا طموح الى بديل، وحتى هذا الشعور لم يكن سائداً بحيث يمثل قناعة عامة في نظر الجميع، وعليه فانّ الإمام لو قام بثورة من هذا القبييل في المدينة الأكثر انصاراً له من غيرها أو بالكوفة وقتل هناك وما أكثر الثورات فلا تعرف الناس أكثر من كونه خرج ثم قتل، والإمام يُريد أن يدخل المعادلة من كل أبوابها; فلا يحصر نفسه بخيار واحد كزيد وغيره من الثوار.
الخيار الثاني: البناء الطائفي (دولة داخل دولة)
أن يعمل الإمام بخيار الانفراد والتكريس المذهبي، وبناء الطائفة الشيعية كفرقة من الفرق الإسلامية ليتخذ منها طريقاً من طرق التغيير، ويركّز على بناء الجماعة الصالحة، مبتعداً عن الأنشطة الاُخرى التي تستنزف قواه وتهدر طاقاته، ويعتني بحفظ الحديث والتفسير والأخلاق على أمل أن تكون فرقته ذلك النموذج المؤثر في الاُمة; ممّا يدعوها أن تحذو حذوه في هذا النشاط والبناء، وقد وردت تصاريح منه عليه السلام تؤكد هذا المعنى مثل: “شيعتنا من اتقى الله”، وقوله: “كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا”. فقد يقول قائل: إن هذا الخيار هو عين ما كان يعمل به الإمام.
إنّ هذا الفهم لنشاط الإمام واطروحته الإصلاحية غير صحيح، وتصور خاطئ من الأساس.
إننا لو تابعنا النهضة العلمية والثورة الاجتماعية والسياسية التي تبناها الإمام بوعي; لوجدنا أن النهضة قد احدثت انعطافة تاريخية في حياة كل الاُمة لا في حياة الطائفة الشيعية فقط، فقد تعاطت الاُمة في حياته مفاهيم جديدة، وامتلكت وعياً جديداً، واُعيدت الثقة فى نفسها واستردت عافيتها، وأصبح الذي يتبنى الفكر الصحيح مميزاً عن غيره أو موضع اقتداء بعد أن أكلها التناحر والتنافس المذهبي، فلا قدوة في نظر الاُمة ولا أحد يمثل الاسلام، وكلٌ قد أعجب بنفسه وفرقته.
فالفتوحات العلمية في كل الحقول قد أذهلت الجميع، وأصبحت موضع افتخار ودعوى للاعتزاز والانتماء للدين، وبهذا فجّر الإمام طاقات الاُمة بعد فترة يأس وذبول، دعاها أن تسرق أفكار الغير وتتشبث بها مدعية إسلاميتها، ودعا هذا الخطاب سواد الناس الى الجمود والتحجّر. فالنهضة التي فجّرها الإمام الصادق عليه السلام قد أعادت ثقة الاُمة باسلامها; وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أن الإمام لم يحصر تفكيره في الاطار المذهبي، بل كان هدفه أبعد من ذلك.
لا تقل هذه دعوى خطيرة وفهم خاطئ; يُشم منها رائحة جواز تذويب أفكار الإمام واصالته المذهبية ودمجها بأفكار الآخرين المخلوطة، وذلك أنّ الإمام انطلق كمسؤول من قبل الله لحماية الرسالة ووحدة الاُمة، وأكّد الخصوصية كطريق لحمايتها معاً، من هنا نفسر تشديده في المحاسبة للخواص التي هي من أجل بناء تلك الجماعة، ومعنى الخصوصية هي طرد كل غريب من فكر وسلوك ليس له صلة بالإسلام ممّا دعا الأقربين أن يطلقوا على نهضة جعفر بالجعفرية التي هي احدى مفردات برنامجه الذي يهدف الى بناء قاعدة متينة، تمد الاُمة بالعطاء والبقاء لا لغرض التكريس الطائفي (اُمة داخل اُمة)، وإنّما كانت الوحدة من أساسيات عمل الإمام جعفر الصادق عليه السلام وأولويات برنامجه.
الخيار الثالث: تقديم الأولويات (اصلاح الحاضر من أجل بناء المستقبل)
أن يعمل الإمام ويركز نشاطه على أساس تقديم الأولويات; كأن يكون هدفه المركزي هو الحفاظ على وحدة الاُمة; لأنه كان يتخوف من حدوث طلاق بين الاُمة والاسلام لا رجعة فيه ; ولذا يمكن القول بأن الإمام تحرك باتجاه هدفه المركزي في مرحلته الراهنة، وعلى المدى البعيد أيضاً.
وهو أن لا تتعرض الاُمة للموت المحتم كما هي سنن الله التي فعلت فعلها في الاُمم الماضية، وإن كان وجود الإمام من قبل الله يمثل السنة الإلهية التي تحفظ الاُمة من السقوط المطلق، والانهيار الكامل حسب اعتقادنا بالأئمة عليهم السلام. وهذا الخيار هو الذي تبنّاه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وبالتحديد هو أن يبقى الإسلام محوراً جامعاً لفصائل الاُمة وإن اختلفت في الجزئيات، الانحراف السياسي يأتي في المرحلة الثانية من اصلاحات الإمام، فالمهم عند الإمام أن يبقى الإسلام هو المقياس والمرجع الذي يحاكم الآراء فيما إذا خالفت خطوطه الحمراء.
فالاُمة قد يصيبها المرض وتخنع للظالمين إلاّ أنه يبقى أملها في الإسلام، فالإمام يتخوّف أن يضيع هذا الأمل ; لهذا فهو يبحث عن ايجاد عناصره في ضمير الاُمة، ويقطع الأمل ويسد الطريق أمام دعاة الالحاد كالزنادقة أو الغلاة، وقد تصدى لهم بقوة; بالوقت الذي كانت تعجز السلطات الاُموية أو العباسية أن تجتث جذور هذه الدعوات الخطيرة على مستقبل الرسالة الإسلامية، والتي تنذر بتشتيت الاُمة، ولذا كان يسعى الإمام الى لملمة حاضرها تحت سقف واحد، لا الانشغال، بالماضي القريب وإنّما ترميم الحاضر وبناء المستقبل بمعنى الانطلاق من الماضي الأصيل لا الماضي القريب المنحرف، و لا يريد اطلاقاً أن يتعامل مع الاُمة لا من خلال حاضرها المتهرئ الخطير ولا من خلال ماضيها المنحرف القريب، هذه النقطة المركزية التي صبّ الإمام عليها كثيراً من جهوده، وكانت من أولويات أعماله، وقد أعطت ثمارها فوق التصور.
ولا يتم تحقيق هذه الأولويات إلاّ باعادة ثقة الاُمة برسالتها وإبعادها عن تعاطي الفكر الدخيل الذي وجد له في هذا الظرف مناخاً ملائماً، فأخذ يزحف بردائه الإسلامي الكاذب تحت عناوين التجديد، والاصلاح الداخلي أو اصلاح النظام السياسي الذي يفتقد الفلسفة الشرعية لحكمه، وقد خاض الإمام الصادق عليه السلام حرباً لا هوادة فيها; استهدف خلالها البنى الثقافية التحتية التي تتكئ عليها تلك المعتقدات، وكذا الأفكار الاُخرى التي تعارض النظام وتمتلك فلسفة وثقافة تبرر معارضتها الثقافية وليس السياسية كما هو في الظاهر.
لقد سلك الإمام مع كل الاتجاهات الفكرية والواجهات السياسية السائدة آنذاك اسلوب الهدم; فغزاها في عقور ديارها، وناظرها وحاكمها وطرح الفكر الإسلامي الأعمق، وأبطل كل ادعاءاتها، وحقق نصراً ساحقاً للإسلام الأصيل، وحصل على موضع رضا الجميع، بل حتى الخصوم، فنجد المنصور العباسي يثني على الإمام، وثناؤه كان بمنطلق سياسي كما هي منطلقات الحاكمين، وهذا ممّا يكشف أن الإمام أعاد الكفة لصالح الاسلام وان حصل المنصور على مكسب آني باعتباره رئيساً للبلاد.
قال المنصور: إن جعفر بن محمد كان ممّن قال الله فيه: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، وكان ممّن اصطفى الله وكان من السباقين بالخيرات لكنه من جهة قال لأبي حنيفة حين أقدم بجعفر الصادق، فقال: يا أباحنيفة! إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من مسائلك الشداد.
نعم، سعى الإمام لتخريب البنى الثقافية، وقد مهد لتحقيق الهدف الثاني الذي يريده الإمام وهو توحيد الاُمة تحت مظلّة الإسلام أرضاً وفكراً، وليس بمهم أن تختلف الاُمة في الجزئيات فيما بعد، ولذا فالخلافات الإسلامية التي نلاحظها بين المذاهب لم تهزّ خطوطه الحمراء، ولم تؤد الى ضياع الاُمة كما حدث عند الديانات الاُخرى فأحال مسؤولية ذلك الى الاُمة الاسلامية نفسها لتفادي خلافاتها، ولا يعني أن الإمام ابتعد عن الدخول في هذا المعترك، وهذا بالدقة ما أراد أن يحققه الإمام والذي يدل على أنّ الإمام قد عمل بهذا الخيار هو نشاطه التالي.