قال تعالى ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (1) ) فالإنسان : قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ، قبضة من طين الأرض تتمثل في حقيقة الجسد : عضلاته ووشائجه وأحشائه ... ، ونفخة من روح الله تتمثل في الجانب الروحي للإنسان ، تتمثل في الوعي والإدراك والإرادة ، تتمثل في كل القيم والمعنويات التي يمارسها (2) وقد أبدعه البارئ المصور على غير مثال سابق وخلقه على صورته ، قال تعالى : الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك (3) وقال تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4) فجعله في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سوي الأعضاء وحسنها . ويقول الرفاعي : ولو شاء تعالى لكان في صورة قرد أو خنزير أو كلب أو حمار ، والله عز وجل قادر على ذلك (5) فتلك كانت البداية وهذه هي الخلقة كما صورها القرآن الكريم ، ولنر كيف يشطح الفكر بعيدا إذا لم يكن له منج رباني يسير على نوره ويهتدي بهديه . لقد زعم بعضهم أن الإنسان سليل القرود وأنه تطور عبر الأزمان والعصور حتى وصل إلى هذه الصورة التي نراها اليوم . وقد افتريت هذه الفرية من أجل أن يقال : إن هذا الإنسان مثله مثل سائر الأنواع التي لابد أنها قد انحدرت من نوع مختلف سابق في الوجود ... ، ومن ثم فلابد أن الإنسان قد ظهر على الأرض نتيجة تطور سلسلة مجاورة من سلاسل مملكة الحيوان (6) لا شك أن هذه النظرة المنحرفة تجعل كل متمسك بدين يقف حائرا أمام معتقداته ، ويتردد في الاحتفاظ بها والدفاع عنها ، بل يشجعه ذلك على التخلي عنها ، وقد حصل هذا فعلا حينما أعلن دارون نظريته الملحدة في أوروبا وقرر حيوانية الإنسان فزادت الفجوة بين الشعوب البائسة والكنيسة المتسلطة على رقابهم ، ومن ثم تركوا الدين أو بقايا الدين الذي كانوا يعرفونه . يقول الشيخ محمد قطب : ولعل أكبر زلزلة أصابت الكنيسة كانت على يد دارون حين نادى بنظريته أصل الأنواع ، وتتالت الضربات بعد ذلك على أيدي العلماء والباحثين فترنحت هيبة الكنيسة وأخذت تتهاوى ... ، ولكن أوروبا حين نزعت عنها سلطان الكنيسة لم تكتف بذلك بل نزعت عنها سلطان الدين أيضا ، إذ كان الدين لديها ممثلا في الكنيسة مجسما فيها ، وأغراهم بهذا أن في العقيدة المسيحية كما صورتها الكنيسة لا كما أنزلتها السماء كثيرا مما يناقض العقل ويثقل الأفهام (7) إن أي إنسان يشغل ذهنه ويعمل فكره فيما ليس من قدرات عقله من أمور الغيب فإنه حتما سينقلب خاسئا وهو حسير أو على الأقل سيأتي بالعجائب والترهات كما حصل من دارون وفرويد ودوركايم وغيرهم . لنرجع ونتدبر كتاب ربنا ونتأمل كيف ينشأ الإنسان ، وما هي الأطوار التي يمر بها في بطن أمه فيخرج سوي الأعضاء كاملها ، يقول تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (8). ونحن لا نملك إلا أن نقول : سبحان الخالق المبدع المصور الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . يقول سيد قطب : لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين ، فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل فتستقر في رحم امرأة ، لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة من تلك النقطة ، تستقر في قرار مكين ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض المحمية من التأثر باهتزازات الجسم ... ، ومن النطفة إلى العلقة حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر تتغذى بدم الأم ، ومن العلقة إلى المضغة حينما تكبر تلك النقطة العالقة وتتحول إلى دم غليظ مختلط ، وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الذي لا ينحرف ولا يتحول ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة ... ، حتى تجيء مرحلة العظام ... ، فمرحلة كسوة العظام باللحم ... ، ثم يتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للارتقاء . (9) لقد مر خلق الإنسان بمراحل متعددة ، فهو أصلا من طين ، وبالتقاء الذكر والأنثى تكون النطفة ، ومن النطفة تخلق العلقة فالمضغة فالعظام ، ثم تكسى العظام باللحم ويتكون الجنين ، كل ذلك يتم بتقدير العليم الحكيم ، وهذه الحقائق أخبر بها القرآن منذ خمسة عشر قرنا وكفانا مؤونة البحث عنها والتفكير فيها ، ومما يزيد الفرد المؤمن يقينا وثباتا واعتزازا بدينه أن العلم لم يكتشف هذه الحقائق إلا في العصر الحاضر . يقول الدكتور بوكاي : وكل هذه الآيات تتفق وحقائق اليوم الثابتة . ولكن كيف تسنى للرجال الذين عاشوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون لديهم هذه التفاصيل الكثيرة والدقيقة في علم الأجنة ؟! إن هذه الحقائق لم تكتشف إلا بعد مرور ألف عام تقريبا على نزول القرآن ، ويقودنا تاريخ العلوم إلى أن نجزم بعدم وجود أي تعليل أو تبرير بشري لوجود هذه الآيات في القرآن . (10) لم يخلق الله عز وجل الإنسان عبثا ولم يتركه هملا ، فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه أسجد له ملائكته المقربين ، ثم أهبطه إلى الأرض مع الجان ليكون الابتلاء والامتحان ، واستخلف في الأرض ليعمرها بطاعته . يقول الدوسري رحمه الله : والخليفة لله في أرضه هو المكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غيره . (11) وقد أخذ ربنا العهد على الإنسان أن يعبده ولا يشرك به شيئا ، قال تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } (12) ويقول الرفاعي : وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم . (13) عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به . قال : فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . (14) وفي مسند أحمد أيضا عن ابن عباس – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (15) ولما كان الأمر كذلك فإن الخلق كلهم مكلفون بالاتباع ، وكل فرد بذاته قد أودع في فطرته الإسلام وإفراد العبادة لله رب العالمين ، ولهذا خلق آدم عليه السلام وذريته لكي يكون كل منهم عابدا لله متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه . وقد استمر آدم وذريته على ذلك عشرة قرون كلهم على شريعة الحق حتى عهد نوح عليه السلام (16) فلما اختلفوا وحادوا عن الصراط بعث الله الرسل والأنبياء يوجهون الناس ويرشدونهم لكي يردوهم إلى جادة الصواب قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }(17). وقد أرسل الله سبحانه وتعالى المرسلين عليهم السلام لتجديد العهد وتوضيح هذه الغاية ، فقال نوح عليه السلام لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } (18)، وكذلك قال هود عليه السلام لقومه عاد : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } (19)وقالها شعيب عليه السلام لأصحاب الأيكة : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } (20) كما قالها غيرهم لأقوامهم ، وقد حقق بعض تلك الأمم غاية وجوده ونكل عن ذلك آخرون كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } (21) وجاء القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مقررا ومؤكدا على ذلك الهدف العظيم من وجودك أيها الإنسان وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (22) فمقام العبودية هو المقام الذي اختاره تعالى للخلق أجمعين . وقد وصف ملائكته المقربين بوصف العبودية فقال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } (23)وقال أيضا : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون }(24). وفي حادثة الإسراء ارتقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أشرف مقام وأعظم منزلة ، قال تعالى : { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } (25) وتلك مكانة لم يصل إليها نبي مرسل ولا ملك مقرب ، ومع ذلك فقد ارتبط لفظ العبودية به عليه السلام ، قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا } (26)فدل ذلك على أن أرفع منزلة هي منزلة العبودية ، وكذلك قال عز وجل عن عيسى عليه السلام : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } (27)ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله . (28) والعبودية وصف ملازم لكل إنسان ما دام له قلب ينبض وعين تطرف ، قال تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } (29) قال ابن حجر رحمه الله : قال سالم : اليقين : الموت (30) وفي هذه الآية والآيات التي قبلها رد على مزاعم الصوفية التي تقول إنه يمكن للعبد أن ترفع عنه التكاليف الشرعية متى وصل إلى حالة أو مرحلة معينة ، ونحن نعلم من سيرة المصطفى عليه السلام أنه كان عابدا لله حتى آخر لحظة من حياته ، فهل يمكن لعبد أن يسعه ما لم يسع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! وفي الآيات أيضا دلالة على تكريم الإنسان الذي شرفه ربه بأن جعله وهو المخلوق الضعيف منتسبا بالعبودية لرب الكونين رب السماوات السبع والأرضين ومن فيهن . وفي المقابل نجد أفرادا من المسلمين يتجردون من عبوديتهم للخالق منصرفين إلى عبادة غيره ، وقد دعا الرسول عليه السلام على أولئك دعوة تصل إليهم وهم في عقر منازلهم فقال : تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع . (31) المصادر: 1- ص : 71 ، 72 2- دراسات في النفس الإنسانية : محمد قطب . دار الشروق ، بيروت ، الطبعة السادسة 1403 هـ 3- الانفطار 7 ، 8 4- التين : 4 5- تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير : محمد نسيب الرفاعي . 4/489 6- ما أصل الإنسان ؟ إجابات العلم والكتب المقدسة : موريس بو كاي 1406هـ ، ص : 15 7- الإنسان بين المادية والإسلام : محمد قطب . دار الشروق ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 140هـ ، ص 16 8- المؤمنون : 12-14 9- في ظلال القرآن : سيد قطب . دار الشروق ، بيروت ، الطبعة التاسعة ، 1400 هـ ، 4/2458- 2459 10- ما أصل الإنسان ؟ : مرجع سابق ص : 207 11- صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم : عبد الرحمن بن محمد الدوسري ، 1406 هـ . 2/72 12- الأعراف : 172 13- تيسير العلي القدير : مرجع سابق 2/252 14- مسند أحمد : 3/127 15- مسند أحمد 1/272 16- تفسير القرآن العظيم : مرجع سابق 1/250 17- البقرة : 213 18- الأعراف : 59 19- الأعراف : 73 20- الأعراف : 85 21- النحل : 36 22- الذاريات : 56 23- الأنبياء : 19 24- الأعراف : 206 25- النجم : 8 ، 9 26- الإسراء : 1 27- الزخرف : 59 28- البخاري 2/490 29- الحجر : 99 30- فتح الباري في شرح صحيح البخاري : أحمد بن حجر العسقلاني . ، 1379 هـ ، 8/383 31- البخاري : 2/328