على الرغم من مُضی أکثر من ألف وأربعمائة عام على ولادة النبی الأکرم صلى الله علیه وآله و حرمان البشر من التشرّف بالنظر إلى صورته الحسّیة المبارکة ، إلا أن ذکراه بقیت وستبقى ما دامت السماوات والأرض ، وأن نور وجهه الشریف لا زال یتلألأ إشراقاً وکمالاً أمام أنظار المسلمین الیوم وغدٍ ، وإلى أن یرث الله الأرض ومن علیها .
وذلک لأن الرسول صلى الله علیه وآله قمة الکمال الإنسانی ، ورمز کل الفضائل ، وآیة کل الحسنات ، وتجلی لکل الخیرات ... إنه حقاً هدیة الرب للبشریة جمعاء .
ومن هنا صارت کل حرکاته وسکناته حجة على البشر ، لأنها تعبیر صریح عن تفاصیل الشریعة الربانیة ، وتبیان واضح لسنن الدین ، ومرآة صافیة للحکمة البالغة .
وقد اختاره الله جل جلاله قدوة وأسوة للبشریة لما امتاز به صلى الله علیه وآله من صفات وطبائع فقال ( لقد کان لکُم فی رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ لمن کان یرجو الله والیوم الآخر وذکر الله کثیراً )(1)
ولأجل أن نستضیء بنور النبوة أکثر ، ولکی نحذو حذو الرسول صلى الله علیه وآله ، وأن نخطو خطوات نحوه یتطلب منّا أن نتعرف ولو على بعض جوانب حیاته الشریفة ، وأن نستوعب ولو بعض مواقفه ، وأن نهتدی بهداه .
قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الشریف : بسم الله الرحمن الرحیم
(عَبَسَ وَتَوَلّى * أَن جَآءهُ الأَعمَى * وَمَا یُدریکَ لَعَلَّهُ یَزَّکَّى * أَو یَذَّکَّر فَتَنفَعَهُ الذِّکرَى * أَمَّا مَنِ استَغنَى * فَأَنت لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَیکَ أَلاّ یَزَّکَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَکَ یَسعَى * وَهُوَ یَخشَى * فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى ) .
سبب نزول السورة
فی روایة عن الخاصة أن هذه الآیة نزلت فی عثمان بن عفان وابن أم مکتوم من کثرة إکرامه له .
قال علی بن ابراهیم : کان ابن أم مکتوم مؤذناً لرسول الله صلى الله علیه وآله وکان أعمى ، فجاء إلى رسول الله صلى الله علیه وآله وعنده أصحابه ، وعثمان عنده ، فقدّمه رسول الله صلى الله علیه وآله على عثمان ، فعبس عثمان فی وجهه وتولى عنه ، فأنزل الله ( عبس وتولى ) یعنی عثمان ( أن جاءه الأعمى * وما یدریک لعله یزکى ) أی یکون طاهراً زکیاً ( أو یذکر ) قال : یُذکّره رسول الله صلى الله علیه وآله ( فتنفعه الذکرى ) ثم خاطب عثمان فقال ( أما من استغنى * فأنت له تصدى ) قال : أنت إذا جاءک غنی تتصدى له وترفعه ( وما علیک ألا یزّکى ) أی لا تبالی زکیاً کان أو غیر زکی ،إذا کان غنیاً ( وأما من جاءک یسعى ) یعنی ابن أم مکتوم ( وهو یخشى * فأنت عنه تلهى ) أی تلهو ولا تلتفت إلیه(2)
وتحقیق الحال فی مقامین :
المقام الأول : البحث القرآنی
السورة المبارکة جاءت مستنکرة الموقف والحالة التی حدثت مع الأعمى الذی عُبِسَ فی وجهه وأُعرض عنه ، فوصفت ذلک المُعَاتَب الذی تولى عن الأعمى وتشاغل عنه بأمور : العبس ، والتولی ، والتصدی للأغنیاء ، والتلهی عن الفقراء والمؤمنین ، فقوله تعالى ( عبس وتولى ) إشارة إلى الأولین ، وقوله ( فأنت له تصدى ... فأنت عنه تلهى ) إشارة إلى الثالث والرابع ، فلیس المتصدی لفئة معینة والمتلهی عن فئة أخرى شخص آخر غیر العابس ، فظاهر سیاق الآیات صریح فی اتحاد العابس مع المتصدی والمتلهی .
بل منشأ العبس والتولی لیس إلا بسبب الاتصاف بالتصدی والتلهی ، وکأن هاتین الصفتین عادة متبعة وملکة راسخة لدى العابس ، لا أنها موقف وانتهى ، والشاهد على ذلک الاتیان بصیغة الفعل المضارع « تصدى » أی تتصدى « تلهى » أی تتلهى (3) ، الصریح على الاستمراریة والتکرار ، ففرق بین قولنا « عثمان عبس فی وجوه المؤمنین » وقولنا « عثمان یعبس فی وجوه المؤمنین » ، إذ الجملة الأولى لا تفید إلأ تحقق ذلک فی الماضی ، ولا تدل على أن ذلک عادة متبعة أم لا ، بخلاف الجملة الثانیة فإنها تدل بصراحة على استمراریة العبس فی الوجوه وأن ذلک عادة متبعة وملکة راسخة فی عثمان ، فتدبر .
فغرض السورة کما أفاد العلامة الطباطبائی عتاب على مَن یقدم الأغنیاء والمترفین على الضعفاء والمساکین من المؤمنین فیرفع أهل الدنیا ویضع أهل الآخرة (4)
تفسیر الآیة
(عبس ) قطّب وکلح ، من العَبس وهو قطوب الوجه وتقبَضه بسبب ضیق الصدر ، ورجل عابس ای کریه الملقى الجهم المحیا ، ومنه اشتق عبّاس ، أی المقطب وجهه أمام أعدائه لکی یرهبهم ویخوفهم (5)
قال الأصمعی : إذا زَوى (6) ما بین عینیه فهو قاطب وعابس ، فإذا کشر عن أنیابه مع العبوس فهو کالح ، فإذا زاد عبوسه ، فهو باسر ومُکفَهِرٌّ ، وإذا کان عبوسه من الهم فهو ساهم ، فإذا کان عبوسه من الغیظ وکان مع ذلک منتفخاً فهو مُبرطم (7)
فکلما تحقق العبس لا بد وأن یتحقق الضیق الصدری وعدم الاشتهاء النفسی أولاً ثم یظهر أثر ذلک على قسمات الوجه ، وهو فی بعض موارده ملازم للتکبر والتعالی ولذا قال الله تعالى فی حق الولید بن المغیرة ( ثم عبس وبسر ثم أدبر واستکبر ) وهو صفة ذمیمة ولو وقع من الإنسان مرة واحدة ، لاستلزامه الاستهانة والاستخفاف بالآخرین .
العبس وعدم التأذی
وعدم التأذی والتأثّر من العابس لا یستلزم عدم قبح التعبیس فی وجوه المؤمنین ، إذ لعل ذلک بسبب الروحیة العالیة التی یمتلکها المعبوس فی وجهه ، فکثیر من المؤمنین لا یتأذون من غیبتهم واتهامهم وتکفیرهم ، وهذا لا یعنی أن من اغتابهم واتهمهم لم یرتکب الذنب والمعصیة ، فالأذیة النفسیة شیء والحرمة والإباحة والقبح شیء آخر ولا ملازمة ذاتیة بینهما ، حتى یجزم بعدم القبح والحرمة عند عدم الأذیة .هذا مع ما تکشفه عملیة العبس من ضیق نفسی منشأه الخلق السیء والصدر الضیق ، فالعتاب فی الآیة أولا وبالذات على تلک النفسیة التی تَتَنَفّر من الفقراء والمؤمنین وتَتَحَبّب إلى الأغنیاء مهما کانوا .
عبس المضایقة لا الاحتقار
والقول : بأن هذا العبس لیس عبس احتقار ، بل هو أقرب إلى عبس المضایقة النفسیة التی توجد تقلصاً فی الوجه عندما یقطع أحد على الانسان حدیث (8)
لا یستلزم : رفع القبح من هذه العملیة ، ولو کان هذا التفصی والهروب من الإشکال صحیحاً لکانت الغیبة وبقیة الصفات المذمومة أیضاً کذلک ، فَنُقسّم الغیبة إلى غیبة منشؤها الحقد والحسد ، وغیبة منشؤها الضیق النفسی بأفعال الآخرین ، فنلتزم بحرمة الأولى دون الثانیة ، مضافاً إلى أن العابس لم یکتف بالعبس بل أعرض وتولى وکان ممن یتصدى للأغنیاء ویتلهى عن الفقراء الخاشعین المؤمنین.
التصدی = المحاولة الرسالیة
وما فی : تفسیر « من وحی القرآن » من کون التصدی بمعنى المحاولة الرسالیة وبذل الجهد فی سبیل تغییر أولئک المترفین والمستکبرین ، والسعی لإصلاحهم وتزکیتهم حیث یقول ( فأنت له تصدى ) لتحاول بجهدک الرسالی أن تمنحه زکاة الروح وطهارة الفکر ، فیما تحسبه من النتائج الکبیرة لذلک على مستوى امتداد الإسلام فی قریش (9)
عتابٌ وتوبیخ
قال العلامة الطباطبائی : وفی الآیات الأربع عتاب شدید ویزید شدة باتیان الآیتین الأولیین فی سیاق الغیبة ـ ضمیر الغائب ـ لما فیه من الإعراض عن المشافهة والدلالة على تشدید الإنکار وإتیان الآیتین الأخیرتین فی سیاق الخطاب لما فیه من تشدید التوبیخ وإلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض والتقریع من غیر واسطة .
قال : وفی التعبیر عن الجائی بالأعمى مزید توبیخ لما أن المحتاج الساعی فی حاجته إذا کان اعمى فاقدا للبصر وکانت حاجته فی دینه دعته إلى السعی فیها خشیة الله کان من الحری أن یُرحم ویخص بمزید الإقبال والعطف لا أن ینقبض ویعرض عنه (10)
سیاق الآیات وتحدید العابس
هذا فیما یرتبط بصفات العابس ، أما من هو العابس ، فسیاق الآیات لا یدل على أن العابس هو الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله ، إذ قوله « عبس وتولى » فعلان ماضیان والضمیر « هو » لغائب ،
إن قلت : إنما لم یأت بضمیر المخاطب إجلالاً للرسول الأکرم صلى الله علیه وآله ، إذ العبوس مما لا ینبغی أن یصدر عنه .
قلت : قوله تعالى (أما من استغنى فأنت له تصدى ... فأنت عنه تلهى ) أشد تقریعاً وعتاباً وتوبیخاً فَلِمَ جیئ فیها بضمیر المخاطب ، فمن باب إجلال النبی صلى الله علیه وآله کان ینبغی أن یأتی بها بضمیر الغائب کعبس وتولى .
قال الرضا علیه السلام : هذا مما نزل بإیاک أعنی واسمعی یا جارة ؛ خاطب الله عز وجل بذلک نبیه صلى الله علیه وآله وأراد به أمته ، وکذلک قوله تعالى ( لن أشرکت لیحبطن عملک ولتکونن من الخاسرین ) وقوله تعالى ( ولولا أن ثبتناک لقد کدت ترکن إلیهم شیئاً قلیلاً ) قال : صدقت یا بن رسول الله (11)
وعن محمد بن سعید الأذخری وکان ممن یصحب موسى بن محمد بن علی الرضا أن موسى أخبره أن یحیى بن أکثم کتب إلیه یسأله عن مسائل فیها ، وأخبرنی عن قول الله عز وجل ( فإن کنت فی شک مما نزلنا إلیک فاسأل الذین یقرؤن الکتاب من قبلک ) من المخاطب بالآیة فإنک أن المخاطب النبی صلى الله علیه وآله ألیس قد شک فیما أنزل الله عز وجل إلیه ، فإن کان المخاطب به غیره فعلى غیره إذا أنزل الکتاب .
معنى الآیات وتحدید العابس
هذا کله من حیث سیاق الآیات وقد عرفت أنها لا تدل على أن المقصود هو الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله ، أما من حیث المعنى فلا شک فی کون العابس والمتولی والمتصدی والمتلهی غیره صلى الله علیه وآله لأمور :
الأول : أن العبس وهو التقطیب فی الوجه صفة ذمیمة وُصف بها فی القرآن الکریم العتل الزنیم المشرک الکافرالولید بن المغیرة فی قوله ( ثم عبس وبسر ) فلا یمکن أن یتلبس بها الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله ولو لمرة واحدة ، کیف !! وهو الذی قال عنه القرآن (وإنک لعلى خلق عظیم ) وقوله ( ولو کنت فظاً غلیظ القلب لانفضوا من حولک) .
وسُئلت عائشة عن خلقه فقالت : کان خلقه القرآن ، فمن یکون خلقه عظیماً لا یمکن أن یتلبس بالضیق القلبی والعبس والتقطیب فی وجوه المؤمنین ، وهو بالمؤمنین رؤوف رحیم ( لقد جاءکم رسول من أنفسکم عزیز علیه ما عنتم حریص علیکم بالمؤمنین رؤوف رحیم ) (12) والرحمة والتعبیس والتقطیب لا یجتمعان دوماً وأبداً .
کما یتنافى مع قوله صلى الله علیه وآله فی الحدیث المعروف عند الخاصة والعامة « أدبنی ربی فأحسن تأدیبی » وقول الصادق علیه السلام « إن الله عز وجل أدب نبیه فأحسن أدبه فقال ( وإنک لعلى خلق عظیم ) (13)
هذا وقد عُرف من أخلاقه صلى الله علیه وآله أنه ما کان لیومئ على کافر قد استحل قتله وأُهدر دمه ، فکیف یعبس فی وجه المؤمن والخاشع .
الثانی : أن العابس کما تقدم هو المتصف بکونه متصدیاً للأغنیاء ولاهیاً عن الفقراء والمؤمنین ، والرسول الأکرم یجلّ أن کون خلقه کذلک ، فلا فرق عنده بین العبد والسید والعربی والأعجمی ، بل عمدة المسلمین آنذاک کانوا من العبید والمستضعفین ، فکونه یَتصدى للأغنیاء ویَتلهى عن الفقراء لیس من أخلاقه الکریمة العظیمة وعصمته المطلقة تأبى ذلک .
ولو تنزلنا وجارینا من یقول بأن العبس لا یتنافى مع أخلاقه الکریمة ولا یقدح فی عصمته ، مع ذلک لا یمکن أن نقول بأنه هو المقصود بالعبس فی هذه الآیات الکریمة ،لکون منشأ العبس والتولی لیس إلا حب التصدی للأغنیاء ـ بعد أن بیّنا أن العابس هو المتصدی والمتلهی لا شخص آخر ـ وهذا الحب یلازمه التنفّر عن الفقراء والمستضعفین .
الثالث : أن الرسول مأمور بخفض الجناح للمؤمنین ( واخفض جناحک للمؤمنین ) ، ومأمور بالإعراض عن المشرکین ( فاصدع بما تأمر وأعرض عن المشرکین ) وکلا الآیتین من سورة الحجر وقد نزلت قبل سورة عبس ، فالالتزام بکون الآیة نازلة فی الرسول معناه أن الرسول صلى الله علیه وآله أعرض عن المؤمنین وخفض الجناح للمشرکین .
الرابع : کان بإمکان الرسول صلى الله علیه وآله أن یلفت انتباه ابن أم مکتوم أنه مشغول مع القوم وأن یأتی له فی وقت آخر حتى یکون بخدمته ، لا أن یعبس فی وجهه ویعرض عنه ، ولو کان هکذا لما توانى ابن أبی مکتوم فی تلبیة طلب الرسول صلى الله علیه وآله ، لأنه یرجو من کل قلبه أن یُسلم صنادید قریش کما أن کل من له حظاً من الأخلاق الحسنة إذا کان مشغولاً مع قوم فی حدیث مهم ودخل علیه من یقطع کلامه مع القوم یلتفت إلى المعترض ویقول له بأدب ولطف : لو سمحت دعنی والقوم ، وأجل حدیثک إلى وقت آخر ، فکیف بالموصوف فی القرآن بانه خلقه عظیم وأنه شفوق وعطوف ورؤوف بالمؤمنین .
الخامس : لو کان المقصود من الآیات هو النبی صلى الله علیه وآله فکیف نلائم بین قوله تعالى مدحاً للرسول ( هو الذی بعث فی الأمیین رسولاً منهم یتلو علیهم آیاته ویزکیهم ویعلمهم الکتاب والحکمة ) وبین قوله ( وما علیک ألا یزّکى ) ، إذ هو صلى الله علیه وآله مخاطب ومقصود بتزکیة الناس جمیعاً فکیف یخاطب فی هذه السورة بأنه لیس مسؤولاً عن تزکیة قومه ، فیتعین ما ذهب إلیه القمی قدس سره من کون معنى الآیة : لا تبالی أزکی کان الغنی أم لم یکن ، واذا تعیّن هذا التفسیر ـ وهو کذلک ـ فالقول بأن المقصو منه هو الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله جرأة وإنکار لما هو ضروری .
المقام الثانی : البحث الروائی
وفی هذا المقام لا توجد إلا روایتان مرسلتان الأولى : صرحت أن العابس هو عثمان بن عفان .والثانیة : ربّما یستفاد منها أن العابس هو الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله ذکرهما الطبرسی فی مجمع البیان .
قال : روی عن الصادق علیه السلام أنها نزلت فی رجل من بنی أمیة کان عند النبی صلى الله علیه وآله فجاء ابن أم مکتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحکى الله سبحانه ذلک وأنکره علیه .
* وقال : وروی عن الصادق علیه السلام أنه قال : کان رسول الله صلى الله علیه وآله إذا رأى عبد الله بن أم مکتوم ، قال : مرحباً ، والله لا یعاتبنی الله فیک أبداً ، وکان یصنع به من اللطف حتى کان یکف عن النبی صلى الله علیه وآله مما یفعل به (14) . وبما أن الروایتین مرسلتان فلا یمکن الاعتماد علیهما وترجیح أحدهما على الأخرى ، إذ الترجیح فرع الحجیة ، ولا حجیة لهما للإرسال ، والفاصلة بین الطبرسی والإمام الصادق علیه السلام کبیرة جداً ، فلو کان المرسل هو الکلینی فی الکافی ، أو الصدوق فی کل کتبه وبالخصوص فی کتابه « من لا یحضره الفقیه » أو علی بن ابراهیم فی کتابه التفسیر لأمکن اعتبار هذا الإرسال .
أضف إلى أن الطبرسی رحمه الله لم یلتزم فی تفسیره بنقل أحادیث الخاصة فقط ، إذ قد أکثر وأسرف فی نقل روایات العامة إلا فی موارد قلیلة ، بل من یتصفح تفسیره إن لم یکون له علم بعقیدته لا یشک فی أنه من أبناء العامة المعتدلین المحبین لاهل بیت النبوة موضع الرسالة ، فلعل هاتین المرسلتین من روایات العامة وأحادیثهم سیما الروایة الثانیة التی استفید منها أن العابس هو الرسول صلى الله علیه وآله ، وایعازهما للإمام الصادق علیه السلام لا یصحح أنها من روایات الخاصة ،إذ العامة تروی عنه کثیراً ولم یمتنع عن الروایة عنه إلا البخاری فی صحیحة الحاوی على عدة من الروایات الصریحة والناصة على تحریف القرآن الکریم أحادیث تحریف القرآن ، مع أن صحیح البخاری ومسلم فیهما أحادیث تفوق مما فی هذا التفسیر المبارک مع صراحتها ، بخلاف ما فی هذا التفسیر فأنهما ظاهرة فی التحریف فتحمل على بعض المحامل التی تتلاءم مع قوله تعالى ( إنا نزلنا الذکر وإنا له لحافظون ) .
البحث التنزّلی
وإذا غضضنا الطرف عن السند والإرسال فإن الصناعة الدرائیة والروائیة والأصولیة تقتضی ترجیح الروایة الأولى لاعتضادها بما فی تفسیر علی بن ابراهیم وقد تقدم تفسیره للآیة ، والاشکال بأنه لم یصرح بکون ذلک روایة ، فی غایة الضعف ، إذ لیس المقام فی تفسیر الآیة حتى یقال لعله اجتهاد منه بل فی سبب النزول وفیمن نزلت الذی لا سبیل لمعرفته إلا بالروایة .
قاعدة الأهم والمهم
فما هی : کثیرٍ من الکلمات من تبریر عَبس الرسول صلى الله علیه وآله وتلهیه وانشغاله عن ابن أم مکتوم لقاعدة أن الأهم مقدم على المهم ، بتقریب أن إسلام صنادید قریش والأغنیاء منهم اسلام لجمع عظیم فاعتراض ابن أم مکتوم بین الرسول صلى الله علیه وآله وأشراف قریش قطع للخیر الکثیر لغرض قلیل وخیر ضئیل (15)
خاطئ : إذ ذلک لا یقل قبحاً من عملیة التعبیس والتلهی عن المؤمنین والخاشعین ، لما ذکرناه آنفاً من رفض الله تعالى ورسوله صلى الله علیه وآله اسلامَ الطمع والعصبیة القبلیة ، إذا اسلام کهذا لا یسمن ولا یغنی من جوع ، وضره على رسول الله صلى الله علیه وآله وعلى المؤمنین أکثر من نفعه ، وهو الذی أوجد أکبر مشکلة واجهها الرسول صلى الله علیه وآله وهی مشکلة النفاق ، إذ لیس المنافقون إلا مِن فئة مَن کان اسلامه للطمع والعصبیة ، وفئة قلیلة أظهرت الإسلام خوفاً ، فعمدة المنافقین من کان اسلامه للطمع والعصبیة .
ولو أن الرسول الاکرم صلى الله علیه وآله یرغب فی إسلام أصحاب الأمول أکثر من رغبته فی إسلام الفقراء والمستضعفین لکانت سیرته تختلف عما کانت علیه ، وذلک لأن الله تعالى ورسوله صلى الله علیه وآله وأولیائه علیهم السلام لا نظر لهم إلى تلک الامتیازات الاعتباریة التی یتفاخر بها الناس ویتباهون ( إعلموا أنما الحیاة الدنیا لعب ولهو وزینة تفاخر بینکم وتکاثر فی الأموال والأولاد کمثل غیث أعجب الکفار نباته ثم یهیج فتراه مصفراً ثم یکون حطاماً وفی الآخرة عذاب شدید ومغفرة من الله ورضوان ) فکثرة الأموال والأولاد لا یعجب الله ورسوله وإنما یعجب الکفار .فهذه القاعدة کبرویاً صحیحة ، ولکنها لا تنطبق على المقام .
عصمنا الله وإیاکم من الزلل والاشتباه وأخذ بأیدینا لما فی الصلاح والفلاح وحشرنا مع زمرة الأنبیاء والمرسلین والشهداء والصدیقین ، وصلى الله على محمدٍ وآله الطیبین الطاهرین واللعنة الدائمة على أعدائهم من الأولین والآخرین إلى قیام یوم الدین .
المصادر :
1- الأحزاب : 21
2- تفسیر القمی : 430 .
3- تصدى فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر وحذفت منه إحدى التاءین تخفیفاً وکذا تلهى .
4- تفسیر المیزان : ج 20/219 .
5- وباب العبوس : عبس وکلح وکشر وقطّب وبسل وبسر وکره وتجهّم واقمطر واکفهر ، راجع الألفاظ المؤتلفة : ج 1/206
6- أی تقبض وتکلّح .
7- فقه اللغة وسر العربیة : 139 .
8- من وحی القرآن : ج 24/66 .
9- من وحی القرآن : ج 24/74 .
10- تفسیر المیزان : 20/219 .
11- عیون أخبار الرضا علیه السلام : ج 1/408 ، باب 37 حدیث 1 .
12- التوبة : 128 ، فهو صلى الله علیه وآله حریص على الناس جمیعاً المشرک وغیره ، ولکنه بالمؤمنین رؤوف رحیم ، وعبسه فی وجوه المؤمنین خلاف مقتضى الرأفة والرحمة .
13- الکافی : ج 1/باب 108 .
14- مجمع البیان : 0/664 .
15- تفسیر الفخر الرازی : ج 31/54 .