فی صدر هذا العنوان لا بد من سؤال عن معنى مضمون العروبة الذی یمیزها عما عداها وأول ما یتبادر للذهن أن العربی هو الذی یولد من أبوین عربیین وبعبارة أخرى هو المتحدر من دم عربی ، وهذا الفرض غیر متحقق لأننا لا یمکننا الحصول على دم خالص مائة بالمائة من الشوائب والاختلاط ولأن الدماء إنسانیة الانتماء کلها تعود لمصدر واحد وهی مختلطة اختلاطا یصعب معه فرزها عن غیرها ، ثم بعد ذلک لأنه لیس من المتصور أن الدماء تتأثر بالعقیدة والفکر والمشاعر ، فأی معنى للعروبة مع هذه الفرض ، وانطلاقا من هذا فإن کل رأی یقو على فرض وجود دم عربی خالص هو فرض غیر علمی ولا یمکن الرکون إلیه .
ومع التنزل والتسلیم بصحة هذه المقولة وهذا الفرض فقد ذکرنا فیما مر أن الشیعة الذین بدأ بهم التشیع وقام على أیدیهم هم من القبائل العربیة وذکرنا الطبقة الأولى منهم ولا نرید أن نثقل على القارئ فنذکر له الطبقتین الثانیة والثالثة فبوسع کل قارئ الرجوع إلى کتب التراجم لیرى أنهم فی جمهورهم من العرب .
وإذا کان افتراض أن هناک دما خالصا غیر متأثر بغیره یعتبر أمرا خیالیا نعود إلى السؤال عن معنى العروبة ، وسنجد الجواب إن العروبة هی المزیج المتکون من الفکر والمشاعر واللغة والتربة ، وانتزاع العروبة من هذه المصادر هو المسلک الصحیح فهی التی تحدد الهویة ومعظم من کتب فی تحدید هویة الإنسان أکدوا على هذه العوامل فقط وهی اللغة والتاریخ والبیئة والمصالح المشترکة هذه هی الترکیبة المزجیة التی تکون وتحدد معالم الانتماء لأمة ما ( 1 ) .
وانطلاقا من ذلک لنرى أین مظان الشیعة من هذه العوامل ولنبدأ من ذلک بالعامل الأول .
مقومات الهویة العرقیة
1 - البیئة الجغرافیة : إن مهد التشیع الأول هو الجزیرة العربیة لأن شیعة علی ( علیه السلام ) الأوائل هم من الصحابة ومن جزیرة العرب کما ذکرنا ذلک من قبل ، ومع افتراض وجود شخص أو شخصین مثل سلمان الفارسی وأبی رافع القبطی فإن نشأة هؤلاء وإقامتهم لفترة طویلة بالحجاز ومن الحجاز انتشر التشیع إلى الأقطار الأخرى کالعراق وسوریا ومصر والشام وإفریقیا والهند والخلیج وأوروبا وأمریکا والصین وروسیا وغیرها من سائر أقطار العالم على امتداد السنین .
وسنرى فی آخر هذا الفصل أقوال الباحثین فی ذلک ونصوصهم على أن مهد الشیعة الأول هو الجزیرة العربیة .
2 - اللغة : یعتبر العلماء أن اللغة هی العامل الأساسی فی تحدید انتماء کل شخص إلى قومیة من القومیات لأن اللغة قسم من المشاعر بل تذهب البحوث الحدیثة إلى أنها الجزء المهموس من الفکر وذلک لتقسیمهم للفکر إلى قسمین صامت ومهموس ( 2 ) .
وبحکم کون الشیعة من أهل الحجاز فلغتهم کانت عربیة وشیعة علی علیه السلام کما هو واضح من الشریحة التی قدمناها من فصحاء العرب وأبطال البیان .
وکان تفوق رواد الشیعة بالبیان والخطابة أدبا أخذوه من إمامهم علی ( علیه السلام ) أمیر البیان حتى نبغوا فی ذلک وعدهم المؤرخون قادة بیان ونوابغ فصاحة ومن هؤلاء : عدی بن حاتم الطائی وهاشم المرقال وخالد بن سعید العبشمی الأموی ، والولید بن جابر بن ظالم الطائی وغیرهم ( 3) .
وبحکم کون اللغة العربیة هی لغة القرآن الکریم فقد کان الشیعة یقعون عند التصنیف من قسم المتشددین فی اعتبار اللغة العربیة لغة العبادة ولغة العقود ولا یتساهلون فی ذلک أبدا ولا یقوم عندهم مقام اللغة العربیة ، فی ذلک أی لغة أخرى ، ونلمح من تشددهم فی ذلک أن اللغة عندهم لیست مجرد قالب للمعنى ولو کانت کذلک لقام مقامها قالب آخر ، لکنها عندهم تستبطن مشاعر وخواص أصیلة فی مضمون الرسالة ولهذا نزل القرآن بها لذلک نرى جمهور فقهاء الشیعة یذهبون إلى عدم جواز القراءة فی الصلاة والأذان وافتتاح الصلاة بغیر اللغة العربیة ، فی حین یذهب کل من أبی حنیفة بصورة مطلقة والشافعیة والمالکیة بجواز إیقاع الأذان بغیر العربیة إذا کان المؤذن أعجمیا ویرید أن یؤذن لنفسه أو لجماعة أعاجم مثله ( 4 ) ویذهب الشافعیة والأحناف والمالکیة إلى جواز إیقاع تکبیرة الإحرام بغیر اللغة العربیة إذا کان غیر قادر على اللغة العربیة ذکر ذلک عنهم صاحب الفقه على المذاهب الأربعة فی باب شروط تکبیرة الإحرام من الجزء الأول .
ولم أجد فی حدود ما عندی من مصادر : لهم اشتراطا صریحا فی إیقاع العقود باللغة العربیة فی حین یذهب الشیعة إلى لزوم إیقاع العقد بالعربیة اختیارا ( 5 ) وفیما یخص عقد النکاح یجوز الحنفیة والمالکیة والحنابلة إیقاعه بغیر اللغة العربیة مع القدرة علیها ویذهبون إلى صحة هذا العقد ( 6) .
3 - عروبة الخلیفة : ومما یتصل بموضوع اللغة إنه بالنظر لأهمیة اللغة العربیة فی موقعها من الشریعة الذی یتضح من اختیار السماء لها لتکون الظرف الحامل للفکر الإسلامی ولما کرم الله تعالى به هذه اللغة فی کتابه إذ یقول فی الآیة الثانیة من سورة یوسف : * ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِیًّا لَّعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ ) * ویقول فی الآیة السابعة والثلاثین من سورة الرعد * ( وَکَذَلِکَ أَنزَلْنَاهُ حُکْمًا عَرَبِیًّا ) * الأمر الذی أجمع معه مفسروا القرآن الکریم على أن القرآن حکمة عربیة ومحاوراته على نسق محاورات العرب وأسالیبهم ، وإذا شئت قلت إنه أخذ مشاعر العرب وخواصهم الحضاریة عندما اختار لغتهم ولم یختص أو یتأطر بهم لأن رسالة الإسلام عالمیة ولکن الله تعالى جعل اللغة العربیة هی القناة التی ینقل الدین القویم عن طریقها للناس ولأجل ضمان حفظ خواص الرسالة ذهب کثیر من الفرق الإسلامیة إلى ضرورة کون الخلیفة عربیا .
لا لسبب آخر قد یفهم منه معنى عنصری فرسالات السماء منزهة عن ذلک وقد انشطرت الفرق الإسلامیة فی اشتراط عروبة الخلیفة إلى شطرین : وکان الشیعة من الشطر الذی یؤکد على عروبة الخلیفة لقول النبی ( صلی الله علیه وآله وسلم ) : " الأئمة من قریش " ( 7) فی حین ذهب کثیر من المسلمین غیر الشیعة إلى عدم اشتراط هذا الشرط .
ویبدو أن هذا المعنى یبتدئ من الخلیفة الثانی نفسه حیث قال : لو أدرکنی أحد رجلین فجعلت هذا الأمر إلیه لوثقت به : سالم مولى أبی حذیفة وأبو عبیدة الجراح ولو کان سالم حیا ما جعلتها شورى ( 8 ) .
وواضح من ذکره لسالم أن الخلیفة لا یشترط عروبة الخلیفة وإلا لنص على العرب فقط وقد ذهب لذلک أیضا مشاهیر المعتزلة مثل ضرار بن عمر وثمامة بن أشرس والجاحظ وکثیر غیر هؤلاء ( 9) .
کما یذهب إلى عدم عروبة الخلیفة الخوارج بجملتهم ونصوصهم صریحة بذلک ( 10 ) وإلى عدم اشتراط عروبة الخلیفة یذهب الأحناف أیضا ولذا صححوا خلافة آل عثمان ( 11 ) إن اشتراط عروبة الخلیفة فی واقع الأمر لا یمکن أن یصدر عن بواعث عنصریة أو عن تعصب فإن ذلک غیر متصور فی رسالة سماویة هی خاتمة الرسالات الإنسانیة ضرورة أن الإسلام دین المساواة ولکن بهذا الشرط یضمن الإسلام توفر حاکم یعی دقائق الشریعة والخلفیات الحضاریة التی ترتبط بها اللغة التی نزلت بها .
لهذا فقط یشترط الإسلام عروبة الخلیفة من دون انتقاص للآخرین أو بخس لمکانتهم أو قدح بإخلاصهم .
4 - التاریخ والمصالح المشترکة : إن تاریخ الشیعة الذین عددنا أسماءهم جزء من تاریخ الجزیرة العربیة بکل أبعاد هذا التاریخ ومقوماته .
وکذلک المصالح المشترکة المادی منها والمعنوی وکذلک النهج الشعبی فی التفکیر والعادات والسلوک .
ولذلک لما جاء الإسلام أخذ یجاهد لتخلیص المسلمین من بعض عاداتهم وأنماط سلوکهم التی کانت تؤلف قدرا مشترکا بین سکان الجزیرة العربیة وبالنظر لکون هذا المعنى مما لا ینبغی الإطالة فیه لأنه بحکم البدیهیات نکتفی بما ذکرناه ومن هذه الحقائق التی قدمناها تتضح الهویة العرقیة للتشیع فهو عربی بانتمائه ومهده ولغته وآرائه ولأجل هذا ذکر الباحثون الموضوعیون أن التشیع عربی بکل خواصه وأقصد بالباحثین هنا المتأخرین منهم وذلک لأن هذه المسألة لم تکن تشغل بال خصوم الشیعة فی العصور الأولى وإنما نشأت مؤخرا لأسباب کثیرة أهمها تحول الفرس إلى شیعة ابتداءا من القرن العاشر أما التاریخ الذی یسبق القرن العاشر فالشیعة من الفرس کانوا فیه فئة قلیلة .
والآن دعنی أقدم لک نماذج من أقوال بعض الباحثین الذین تناولوا هذه المسألة فلم یسعهم من ناحیة : إنکار عروبة التشیع ، فی الوقت الذی أرادوا فیه شتم الشیعة عن طریق شتم الفرس وشرح مثالبهم فلنستمع لما یقولون .
1 - الدکتور أحمد أمین : یقول أحمد أمین فی نص نذکره هنا لارتباطه بالموضوع : والذی أرى کما یدلنا التاریخ أن التشیع لعلی بدأ قبل دخول الفرس فی الإسلام ولکن بمعنى ساذج وهو أن علیا أولى من غیره من وجهتین کفایته الشخصیة وقرابته للنبی ( ص ) ولکن هذا التشیع أخذ صبغة جدیدة بدخول العناصر الأخرى فی الإسلام من یهودیة ونصرانیة ومجوسیة وحیث أن أکبر عنصر دخل فی الإسلام الفرس فلهم أکبر الأثر بالتشیع ، ورأیه هنا واضح أن أوائل الشیعة لیسوا بفرس وإن ناقض نفسه بمکان آخر ( 12 ) .
2 - الدکتور علی حسین الخربوطلی قال : وهناک فریق من العرب تشیع لعلی بعد أن آلت الخلافة إلى أبی بکر ویرى جولد تسیهر أن الحرکة الشیعیة نشأت فی أرض عربیة بحتة فقد مال لاعتناق التشیع قبائل عربیة تشبعت بالآراء الثیوقراطیة وبشرعیة حق علی بالخلافة فأقبلت على تعالیمه فی لهفة وحماسة أهل العراق من الفرس ، ورأوا أن الإمامة لیست من المصالح التی تفوض إلى نظر الأمة ویعین القائم بها تعیینا باختیار جماعة المسلمین وانتخابهم بل هی رکن الدین وقاعدة الإسلام فیجب تعیین الإمام ویکون معصوما وأن علیا هو الذی عینه الرسول ( 13 ) .
3 - المستشرق فلهوزن قال : أما أن آراء الشیعة تلائم الإیرانیین فهذا مما لا شک فیه ، وأما کون هذه الآراء انبعثت من الإیرانیین فلیست تلک الملائمة دلیلا علیه ، بل الروایات التاریخیة تقول عکس ذلک إذ تقول إن التشیع الواضح الصریح کان قائلا أولا فی الدوائر العربیة ثم انتقل منها إلى الموالی ( 14 ) .
4 - المستشرق آدم متز قال : إن مذهب الشیعة لا کما یعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإیرانیة تخالف الإسلام فقد کانت جزیرة العرب شیعیة کلها عدى المدن الکبرى کمکة وتهامة وصنعاء .
5 - المستشرق جولد تسیهر قال : إن من الخطأ القول إن التشیع فی منشئه ومراحل نموه یمثل الأثر التعدیلی الذی أحدثته أفکار الأمم الإیرانیة فی الإسلام بعد أن اعتنقه وخضعت لسلطانه عن طریق الفتح والدعایة وهذا الوهم الشائع مبنی على سوء فهم الحوادث التاریخیة فالحرکة العلویة نشأت فی أرض عربیة بحتة ( 15 ) .
6 - المستشرق نولدکه قال : ظلت بلاد فارس فی أجزاء کبیرة منها تدین بالمذهب السنی واستمر ذلک حتى سنة 1500 م عندما أعلن التشیع مذهبا رسمیا فیها بقیام الدولة الصفویة ( 16 ) .
بعد استعراض هذه المقتطفات من أقوال الباحثین التی تؤکد عروبة التشیع فی طابعه العام فی نفس الوقت الذی لا تنفی امتداده إلى جنسیات أخرى فإن باقی الجنسیات هی موضع احترامنا وتقدیرنا فما کنا إلا مسلمین شعارنا قوله تعالى : * ( یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُم مِّن ذَکَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ ) (17)، ولکننا نقابل بذلک الأصوات التی تشهر بالمذهب الشیعی .
المصادر من کتاب هویة التشیع للدکتور الشیخ أحمد الوائلی (بتصرف)
1- القومیة العربیة للدکتور حازم زکی نسیبة ص 101 . وانظر نحو الوحدة العربیة لیوسف هیکل فصل اللغة ، وانظر آراء وأحادیث فی الوطنیة والقومیة لساطع الحصری ص 20 .
2- مجلة عالم الفکر الکویتیة مجلد 6 العدد الخاص باللغة .
3- أنظر أسد الغابة ج 1 ص 35 ، وأعیان الشیعة للأمین ج1 ص 61 .
4- الفقه على المذاهب الأربعة ج1 ص 314 ، وفجر الإسلام ص 250 ، وکنز العرفان للمقداد السیوری ج 1 ص 117 .
5- کنز العرفان ج2 ص 72 .
6- الأحوال الشخصیة لمحمد أبو زهرة ص 27 ط مصر الأولى .
7- الفصل بین الملل والنحل ج4 ص 89 .
8- طبقات ابن سعد ج3 ص 343 .
9- ضحى الإسلام ج1 ص 62 .
10- الفرق بین الفرق للبغدادی باب الخوارج .
11- الإمام الصادق لأسد حیدر ج1 ص 157 .
12- فجر الإسلام ص 276 .
13- الدولة العربیة ص 127 .
14- الشیعة والخوارج ص 241 .
15- العقیدة والشریعة ص 204 .
16- دراسات فی الفرق والعقائد