قال الله تعالى فی محکم کتابه المجید، بسم الله الرحمن الرحیم (وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِیهِ لَعَلَّکُمْ تَغْلِبُونَ)(1)
تستعرض هذه الآیة المبارکة واحدة من الوسائل، والأسالیب التی اعتمدها المشرکون فی صدر الإسلام؛ للتشویه، وللتشویش على القرآن الکریم، وعلى مضامینه، وعلى المبادئ التی أصَّل لها، والقیم التی دعى من أجل التمثُّل بها. حیث أدرکوا أنهم عاجزون عن مقارعة حجج القرآن بالحجة، فهم غیر قادرین على أن یبرهنوا على خطأ ما اشتمل علیه القرآن من مضامین، ومن أصول إعتقادیة، ومن تشریعات، لذلک عمدوا إلى مجموعة من الوسائل؛ من أجل أن یحولوا دون تأثُّر الناس بالقرآن الکریم، وهذه وسیلة من الوسائل التی اعتمدوها، وهی منع الناس عن أن یستمعوا للقرآن، وذلک بواسطة إحداث اللَّغط والفوضى حینما یُتلى القرآن.
کان الرسول الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم) فی صدر الدعوة یجأر بآیات الله فی المسجد الحرام، وفی المحافل، والمنتدیات التی یحضرها الناس فی الموسم، وفی غیر الموسم، وکان أصحابه یفعلون ذلک أیضا. وقد ترک ذلک أثراً بالغاً على نفوس الناس، ولذلک دخل الکثیر من الناس فی الدین الذی دعى إلیه الرسول الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم). وحین أعیت الحیلةُ أعداء الدین، ولم یجدوا طریقاً لمعارضة القرآن، ومقارعة حججه وبراهینه، توسَّلوا بهذه الوسیلة المعبِّرة عن العجز، فقیَّضوا جماعاتٍ جماعات؛ لیصدروا الضجیج والفوضى، فیصفقون ویصفرون، وینشدون الشعر، ویتضاحکون، حینما یُتلى القرآن؛ حتى لا یستمع إلیه الناس والوافدون من البلاد الأخرى لحج بیت الله الحرام.
ما هو منشأ الاعتناء لهذه الوسیلة؟
أفاد القرآن بأنَّ غایتهم من ذلک هو الغلبة، (لَعَلَّکُمْ تَغْلِبُونَ)، فأنتم لم تتمکنوا من أن تغلبوا القرآن بواسطة المقارعة لحجته بالحجة، ولن تتمکنوا من أن تمنعوا الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) من أن یجأر بدعوته، ومن أن یترک الأثر الکبیر على نفوس الناس، لذلک فإنَّ مثل هذه الوسیلة قد تمکنکم من غلبة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ودعوته وقرآنه.. لا تسمعوا لهذا القرآن، وادعوا الناس إلى أن لا یستمعوا لهذا القرآن؛ حتى لا یتعرَّفوا على مضامینه، وعلى ما یشتمل علیه من معانٍ سامیة، وإذا ما تلى النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) وأصحابه القرآن فأثیروا اللغط والفوضى بالتصفیق، والصفیر، وإنشاد الشعر، والتضاحک؛ حتى لا یستمع الناس إلى القرآن.
تجدُّد الحیلة، وتطوُّر الوسیلة:
تلک وسیلة کانت بدائیة اعتمدها المشرکون فی صدر الدعوة، لکنها هی الوسیلة التی یتوسَّل بها کلُّ عاجز -وإن تقدم به العلم-.
تختلف مظاهر هذه الوسیلة، ولکنها تتَّحد من حیث الغایة والتعبیر عن العجز، فالإساءة التی تصدر من قساوسة المسیح، ورجالات الغرب، ورجال الدین من الیهود والنصارى، لا تعدوا هذه الوسیلة، ولکن فی مظاهر مختلفة..
تشویش البابا..
یخرج الباب بولس الثالث قبل وفاته فی جمعٍ غفیر من الناس ممن یؤمنون به ویقدِّسونه؛ لیثیر هذا التشویش، وهذا اللغط، ولکن بأسلوب آخر غیر الذی کان قد اعتمده المشرکون فی صدر الدعوة، فیدَّعی أنَّ النبی محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) لم یأت بشیء، وأنه ما جاء إلَّا بما یُنتج العنف والإرهاب. هکذا قال!
وتصفیق الإعلام..
ویتصدَّى آخرون ممن یدعون لأنفسهم الثقافة والعلم والموضوعیة والإنصاف، من مؤسسات إعلامیة واسعة فی الانتشار؛ تدعی لنفسها المصداقیة، لتدعوا المتنافسین من الرسامین؛ لیرسموا صورةً تعبِّر عن واقع النبی الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فتخرج تلک الصور المسیئة لمقام النبی الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم) ! وآخرها ما فعله ذلک الأحمق الذی یرى نفسه أنه من رجال الدین من النصارى، حیث أعلن عن عزمه إحراق القرآن الکریم، أو نسخة من المصحف الشریف!
الأغراض الکامنة وراء إساءة الغربیین للقرآن الکریم:
کل هذه الوسائل، وکل هذه الأسالیب، اختلفت فی المظهر، واتَّحدت فی الغایة، کما اتَّحدت فی التعبیر عن العجز عن مقارعة القرآن.
وهم إنما یفعلون ذلک لهذا الغرض -کما ذکرنا-، فهم إنما یفعلون ذلک لیحولوا بین القرآن، وبین أن یتأثر أتباعهم به على خلفیة أنه إذا کان ثمَّة کتاب قد تمَّ التشویش على مضامینه، والتشویه لها، ووسمها بأسوأ السمات والصفات، فحینئذٍ سیکون الناس أمام هذا الکتاب على فریقین:
الفریق الأول: سوف یُحجِم عن مطالعته وقراءته، ویقول لا حاجة لی فی أن أضیع وقتی فی قراءة کتاب یحمل مثل هذه الصفات: یدعو للإرهاب، ویدعو للعنف، ویصادر الحریات، ویشتم ویسب، وهو ذات الوقت فارغ لا مضمون له، ولا یؤمن به إلا الحمقى من الناس، ولا یتبعه إلا الساقطون، وأصحاب العقول المتبلِّدة والمتخلِّفون الذین یؤمنون بما یؤمن به أبناء القرون الوسطى.. کل هذه الصفات ینشأ عنها الإحجام عن مطالعة هذا الکتاب. وحینئذٍ سیکونون قد نجحوا - کما یتوهمون- فی تحقیق الغایة من هذه الوسیلة.
وأما الفریق الآخر: فقد یقرأ القرآن -حتى مع کل هذا التشویش-، ولکن سیقرأه على خلفیة أنه قرآن یحمل هذه الصفات، وبذلک یضعف تأثیره.
تصوَّروا لو أن إنسانا سیأتی لیلقی علیکم محاضرة، فیأتی شخصٌ قبله یمتلک قدرة على التضلیل، ویقدِّم مقدَّمة قبل مجیء ذلک المحاضر، فیقول لکم بأن هذا الذی سیلقی علیکم المحاضرة هو إنسان متکبر، خاوی العقل، لا یحمل فکراً، ولا ثقافة، ولا فهماً، ولا علماً، ولا منطقاً، ویؤمن بأفکارٍ بالیة ضعیفة، وهو سفیه فی تفکیره، وما إلى ذلک من هذه النعوت.. طبعاً، ذلک المحاضر حینما یأتی ویقف على المنصة، أو یجلس على المنبر، فأیّ تأثیر یکون له؟ فمهما کان طرحه راقیاً، فإن التأثیر الذی سیحدثه سوف یکون ضعیفا. هم من هذا المنطلق یتحرکون.
التضلیل الإعلامی وتأثیره فی المجتمع الغربی:
المجتمع الغربی مجتمع مُضلَّل، وقد ثبت بعد المتابعات المستقصیة من قبل المراقبین والمهتمین أنَّ الإعلام الغربی یعمد -وبکل صلافة- إلى تضلیل الرأی العام الغربی على تمام المستویات، بما فیه المستوى السیاسی، والمستوى الثقافی، والعقائدی.. لا مصداقیة للإعلام الغربی، ولا مصداقیة لکثیر من رجالاتهم الدینیة، والسیاسیة، والثقافیة، إذا ما اتصل الأمر بشیء ینافی المبادئ التی یعتمدونها.. وقضیة فلسطین شاهد صریح وواضح، فکما ینقل المتابعون فإن المجتمع الغربی یخفى علیه الکثیر من الجرائم التی ترتکبها إسرائیل فی حق الشعب الفلسطینی والشعب اللبنانی، والشعوب العربیة. بل أنه وبمجرّد أن تقوم قناة، أو صحیفة، أو مثقف بالکشف عن بعض ما یمارسه الإسرائیلیون فی حق الفلسطینین، فإن هذه القناة، أو تلک الصحیفة، أو ذلک الرجل، یوصم بسمةٍ یخاف منها کلُّ أحد فی أوربا أو فی الغرب، وهی أن هذا یدعوا لمعاداة السامیة، فلذلک یعاقب ویُجرّم!
هکذا یصوِّرون الإسلام والمسلمین!
هذا مظهر من مظاهر التضلیل الإعلامی فی الغرب، وهذه الحالة یمکن سحبها - وبشکل أوضح وأجلى- إلى ما یتصل بالقضایا الدینیة والثقافیة. فهم عندما یعرضون الإسلام یعرضونه على أساس أن أتباعه مجموعة من البدو الذین لا همّ لهم سوى رعی الجمال والأغنام، ویُصوِّرون بیوتات المسلمین بأنها ملیئة بالذباب والقاذورات، ویعرضون رجالاتهم بین اثنین: بین رجلٍ أبله أحمق، وسیماه سیماء الحمقى، وسلوکه سلوک السفهاء من الناس.. أو أنهم من رجالات العنف، والإرهاب، والقسوة، أو من رجالات الجنس. هکذا یعرضون الإسلام، ویعرضون رجالات الإسلام، ویعرضون بیئة المسلمین، وظروفهم الاجتماعیة! هذا تضلیل واضح للرأی العام الغربی، وهذه الوسائل أیضا تقع فی نفس السیاق.
وهکذا یبرِّرون إساءتهم لمقدسات المسلمین!
لماذا یحرق القرآن؟ القرآن کتاب، والقرآن یُقرأ ولا یحرق.. وقد تتفق مع ما اشتمل علیه من أفکار، أو تختلف.. فلیس هذا من الأمور التی تحرق. هذا التساؤل قد یتسائل به المجتمع الغربی، وأنه لماذا یُحرق القرآن؟ عندئذٍ یأتی الجواب جاهزاً من آلة الإعلام الغربی، وهو أن هذا القرآن هو السبب الذی نشأ عنه الإرهاب الذی عانت منه أمریکا فی (11 سبتمبر)، وعانت منه بریطانیا، وعانت منه إیطالیا، وعانى منه المجتمع الغربی.. وأن هذا الکتاب هو الذی فرَّخ طالبان والقاعدة، وهو الذی نشأت عنه معاداة السَّامیَّة، وهو الذی نشأ عنه قتل الأبریاء من الشعب الإسرائیلی، وهو الذی نشأت عنه الأفکار التی ترتَّب علیها ذبح النصارى فی القرون الوسطى؛ فالأفکار التی اشتمل علیها هذا القرآن صادرت الکثیر من الحقوق، ولا زالت تصادر الحقوق فی المجتمع العربی، والمجتمع الإسلامی؛ لأنهم یؤمنون بهذا الکتاب. فنحن نحرق القرآن لنرمز إلى أمر، وهو أنَّ هذا القرآن یجب أن لا یکون له وجود فی فکر الناس، وفی ثقافتهم، ویجب أن یُنبذ. إذن، هم یریدون أن یفعلوا ذلک، وأن یوحوا إلى هذا الأمر، وهذا هو أحد المناشئ وراء الإساءة للقرآن، والسعی إلى حرقه.
وبنفس هذا الأسلوب ولذات الغایة المذکورة تجد الکثیر منهم یُسیء إلى مقام النبی الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فتراهم یصفون النبی الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم) بأنه شخصیة صَنَعت الإرهاب، وصَنَعت التخلُّف! وعندئذ فإن هذه الشخصیة لا ینبغی أن نقرأ عنها، ولا نعبأ بما کانت تقول، وبما کانت تفعل، وماهی السیرة التی کانت تنتهجها، وماهو السلوک الذی کانت علیه. وهکذا ینعدم تأثیر هذه الشخصیة التی لم یسبق لها نظیر ومثیل فی القدرة على التأثیر والإجتذاب -هذه الشخصیة التی کانت موجودة منذ أکثر من قرنٍ من الزمن، إلا أنَّها لا زالت تحظى بجاذبیة منقطعة النظیر ولا زال تأثیرها الهائل یستهوی الملایین من الناس-. فغرضهم إذن، هو حجب هذه الشخصیة، والتقلیل من تأثیرها، بمثل هذه الأسالیب.
خلاصة..
إذن الهدف الأساسی من حرق القرآن الکریم أو تمزیقه هو التشویش على مضامین القرآن، والتشویش على القیم والمبادئ التی أصَّل لها القرآن، کما أنَّ غرضهم هو التغطیة على الضعف والعجز الذی مُنیت به کلُّ الدیانات، وکلُّ الثقافات، وکلُّ الحضارات، فحتَّى أُعمِّی على العجز، لابدَّ أن أُظهِر، أو أُوهم الآخرین بعجز المنافس. هذا هو الغرض الأساسیّ من تحرکهم المستمیت عبر أسلوب الإساءات المتلاحقة للإسلام، ورموزه، ومقدساته. طبعا ثمَّة منطلقات عدیدة، ولکن هذا هو المنطلق الأساس.
طبعا هم یدرکون -کما قلنا- أنهم لو وقفوا على المضامین التی اشتمل علیها القرآن؛ من أجل مناقشتها، والسعی إلى تفنیدها، فإن الفشل هو ما سئول إلیه مسعاهم، بل إنَّ الأثر الذی سینتج عن هذا النحو من السعی لن یکون فی صالحهم، ولذلک فإنهم یلجئون إلى وصف القرآن الکریم بنعوت یتقزَّز منها کل الناس، ولا یرتضیها أحد. وهذه النعوت هی مثل دعوى أنه یشرِّع الإرهاب ویحرِّض علیه.
إبتزاز المسلمین
طبعا، ثمَّة منطلقات أخرى نشأت عنها الإساءات المتلاحقة للقرآن نشیر إلیها إشارةً سریعة: منها العمل على ابتزاز المسلمین؛ لکی یتنازلوا عن شیء من حقوقهم، ولکی یتنازلوا عن شیء من مبادئهم، والمفاهیم التی یعتقدون بها. فالمسلمون حتى یتبرؤوا من مثل نعتهم بالإرهاب وحتى لا یوصفوا بالإرهابیین، وبرجال العنف، لابدَّ أن یتنازلوا عن مجموعة من الحقوق:
نماذج من صور الإبتزاز:
مثلاً: عندما أقاوم المستعمر، أوصم بالإرهابی.. إذن، لابد أن أتخلى عن المقاومة؛ حتى لا أوصم بهذه الوصمة التی لا یقبلها أحد لنفسه.
مثلاً: عندما أُطالب بحقوقی، فإنَّ هذه المطالبة ینشأ عنها إدراج المطالبین بالحقوق فی قائمة الإرهابیین، ویوصف المسلم والمؤمن وقرآنه ورسوله بالإرهابیّ.. وحتى لا یقع ذلک، إذن، نتخلى عن المطالبة بالحقوق..
مثلاً: هناک مجموعة من المفاهیم التی اشتمل علیها القرآن الکریم، وهذه المفاهیم تفرِّخ الإرهاب -بحسب دعواهم-.. إذن، هذه المفاهیم علینا أن نصرفها عن کلِّ ما یوجب الإشعار -ولو ضعیفاً- بالإیمان بالإرهاب. فیکون التحلیل، والتفسیر لآیات القرآن، ولنصوص الدین، قائم على أساس التحرُّز الشدید؛ خشیة أن نُوصف بالإرهاب. إذن، فعلینا أن لا ننطلق من منطلق واعٍ وموضوعیّ، قائمٍ على أساس المنطق والتعقل والبرهان، وإنما على أساس ملاحظة ما یشتهون! یعنی هم یریدون احداث مراقبة ذاتیة عند الناس، وعند العلماء، فی تفسیراتهم. للنصوص الدینیة بل قد ینشأ عن ذلک التحفُّظ عن الجأر بالآیات التی یقولون أنها تفرِّخ الإرهاب، وهذا ما حصل لبعض الناس، حیث بادروا لحذف کثیر من الآیات -کآیات الجهاد-، وإزالتها من المناهج الدراسیة!
هذا هو الابتزاز: أن أتنازل عن قرآنی، وعن تاریخی، وعن مبادئی، وأمارس دور المراقب المتشدِّد على الأفکار - وإن کانت لها منطلقات عقلائیة منطقیة-، هذا هو الابتزاز الذی یرمی الغرب إلیه - من خلال هذه الإساءات- لإیقاع المسلمین فیه.
کسر هیبة الإسلام
هناک منشأ آخر أیضا - ولعله یقع فی سیاق المنشأ الأول-، وهو کسر هیبة الإسلام.
تصوروا أنتم: رجل محترم کبیر مهیب عاقل، ثم یأتی الأطفال فیقذفونه بالحجارة، ویشتمونه، ویصفقون خلفه، ویرمون علیه القاذورات.. هذا الرجل سیضعف تأثیره فی نفوس الناس؛ فالناس یهتمون بالمظاهر، تترک المظاهر أثرا بالغا علیهم. فإذا توالت علیه هذه الإهانات، والإساءات، فإنه یسقط فی المجتمع، حتى لو لم یکن ثمَّة مبرِّر عقلائی صحیح لسقوطه، ولکن لأنَّ الأطفال والمجانین والصبیة والحمقى یسخرون منه، ویقذفونه بالقاذورات، والحجارة، فإن ذلک الرجل یقلُّ تأثیره ویضعف.. بل إنَّ الناس العقلاء، والوجهاء المحترمین، یحاولون أن یتجنَّبونه؛ حتى لا یصیبهم ما أصابه. وهذا ما کان یفعله المشرکون مع النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) ... فذلک الرجل الوجیه المحترم یقول: أنا أذهب لواحد من الناس، تجری وراءه الصبیة، وتقذفه بالحجارة، وترمی علیه القاذورات، وبقایا الذبائح؟ أنا أترکه، ولا أقرب منه. وهکذا یترکه الناس، وتحدث عزلة لهذه الشخصیة. هکذا کان یفعل المشرکون.
کذلک، عندما تتوالى وتتلاحق الإساءات تلوَ الإساءات على دینٍ من الأدیان، فیخرج المثقفون یتفکَّهون بنصوصه، ویسخرون منها، ویأتی آخرون ویحرقونه، وآخرون یصنعون رسوماً وصوراً توجب السخریة والتفکُّه به فی المجالس.. هذا طبعا فی النهایة سینتج عنه انکسار الهیبة التی لهذا الدین، والقداسة التی لهذا الرمز، أو ذلک المقدّس.. وعندئذ یتجنَّب المثقفون، والباحثون عن الحقیقة –مثلا-، والعقلاء، وعموم الناس، عن مثل هذا الدین، أو هذا المقدس.. فلا یعتبره الباحثون وعموم الناس واحداً من الأدیان التی ینبغی الدراسة والبحث عن حقَّانیتها، أو عدم حقانیتها. هذا ما یرمی إلیه الغرب من خلال الإساءات المتلاحقة.
تصوَّروا أنَّ: أکثر من مائة صورة تُسیء الى مقام النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وتُظهره فی مظهرٍ مشینن.. فهل بعد ذلک یُنتظر من المجتمع الدنیمارکی بأن یدرس هذه الشخصیة دراسة موضوعیة، ومنصفة، وحقیقة؟ طبعا لا.
وکذلک حینما یُساء للقرآن الکریم، فیُلقى فی المراحیض، ویحرق، ویُمزَّق، ویبصق علیه.. فإن ذلک سیوحى فی أذهان البسطاء فی المجتمع الغربی أنَّ هذا کتاب مهین فلا یستحق الوقت الذی یضیع عند قراءته وبذلک یکونون قد نجحوا فی صرف الناس عن القرآن الکریم. وهکذا فعل الذین من قبلهم، حیث کانوا تارةً یدعون إلى نبذ القرآن بشکل صریح ومباشر (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ)، وتارة یُمارسون أسلوب التعمیة لیحولوا دون الإستماع لمضامین القرآن (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِیهِ) أی أحدثوا التشویش علیه؛ (لَعَلَّکُمْ تَغْلِبُونَ).
تبریر الغرب، والعذر القبیح!
فی نهایة الحدیث -أیها الأخوة الأعزاء- نودُّ الإشارة إلى ما یتذرع به ساسة الغرب دائما عندما تصدر مثل هذه الإساءات على الإسلام، حیث یقولون: نحن لا نستطیع أن نقف فی وجه مثل هذه الممارسات؛ لأن ذلک مناف لمبدأ من المبادئ التی قامت علیها دیمقراطیات هذه المجتمعات، وهو حریة التعبیر عن الرأی!
حریة التعبیر لا تُبَرِّر الإساءة للآخرین..
وهذا عجیب! إنه لا یحترم نفسه من یتذرع بمثل هذه السنفونیة،.. من قال أن حریة التعبیر تُصحِّح الإساءة للآخرین؟ هل یقبل أحدٌ من الناس فی المجتمع الغربی بهذا العذر فیما لو شتمه أحد فی الطریق، وسبَّه، وبصق فی وجهه، أو رمى علیه بعض القاذورات، أو رماها بجانبه؛ لیرمز بذلک إلى الاستهانة به،.. هل من أحدٍ یقبل من مثل هذا الفاعل هذا العذر الذی اعتذروا به؟
تأریخ الحریات فی الغرب..
حریة التعبیر عن الرأی مُسلَّمة، وأول من أصَّل لها هو الإسلام، وذلک فی عصرٍ کانت فیه أوربا لا تعرف لهذه الکلمة أیّ معنى، فقد کانت الحضارة البیزنطیة تستعبد الناس، وکان الإمبراطور الرومانی هو الإله بعد الإله، وأما الجنود والجیوش التی کانت تحت إمرته فلم یکن لها حول ولا طول، یفعلون ما یأمر دون تفکیر، وکان النساء بمثابة الحیوانات، لا حقّ لهنَّ حتى فی التکسُّب، فضلاً عن التمتع بسائر حقوق الإنسان فکما أنَّ العبید والحیوانات لا یملکون، فالنساء أیضا لا التملُّک والتکسب، بل یُصرف علیهن، ویُعلف علیهن کما یُعلف على الحیوان، ولیس لأحد حقٌّ فی أن یتحدث أو یتکلم!
أما المسلمون، فقد کان (أَمْرُهُمْ شُورَى بَیْنَهُمْ)(2)، (وَشَاوِرْهُمْ فِی الأَمْرِ)(3)، ونطق رمز الإسلام الأکبر -علی ابن أبی طالب (علیه السلام)- لیقول: "لا تکن عبد غیرک، وقد خلقک الله حراًّ"(4)، فکل إنسان مخلوق على وجه الأرض یُخلق حُراًّ. الإسلام هو من أصَّل للحرّیة، ثم تأتون لتُزایدوا علینا، وتدعون التأصیل لمثل هذه المفاهیم؟
بین الحریة المنضبطة والحریة المنفلتة:
لا إشکال فی أنَّ الحریة هی أصلٌ من الأصول العقلائیة، بل والدینیة، ولکن على أن لا تکون هذه الحرّیة منتجة لأحد شیئین:
الأول: أن لا تکون هذه الحریة منتجة للفوضى، والثانی: أن لا تکون منتجة للظلم.
أمَّا لو أن تکون حریة التعبیر عن الرأی مطلقة، وغیر منضبطة بهذین الأمرین، فماذا سیحصل؟ سیأتی شخص ویشتم الآخر، ویقذفه، ویرمیه بالعظائم.. ونحن سنقول: إنها حرّیتک -حریة التعبیر عن الرأی-، فقل ما تشاء، وانشر فی الصحف، وشهِّر بمن شئت فی النشریات والفضائیات.. فقام هذا الشخص وشهَّر بصاحبه، ورماه بالعظائم، ثم نحن نعتذر بأنه له الحق فی کل ما فعل -تحت شعار حریة التعبیر عن الرأی-! ثم إنَّ هذا الآخر -الذی اعتُدی علیه لو قلنا له: لک الحق أیضا. فإما أن یکون قویاً أو ضعیفاً.. إن کان قویا فسیفعل مثل ما فعل هذا، فیقابل التشهیر بالتشهیر، والشتیمة بالشتیمة، والسبّ بالسبّ.. تصوَّروا حیاةً من هذا النوع، ألا تذیع فیها الفوضى، کلٌّ یشتم الآخر، ویُشهِّر به، ویسبَّه وکلٌّ یملک الحق فی ذلک! وإما أن یکون هذا الذی اعتُدی علیه ضعیفاً، فیکون مظلوما.
فالنتیجة: إما أن ینشأ عن حریة التعبیر المطلقة الظلم، أو الفوضى. ومن یقبل بشعار ینشأ عنه، وینتج عنه، الفوضى أو الظلم للضعفاء؟ لا أحد یقبل بذلک.
ضابطة حریة التعبیر:
فالحریة - حریة التعبیر عن الرأی- کمبدأ، هی مورد قبول لجمیع العقلاء، وکذا الدیانات السماویة الحقَّة التی لم تُحرَّف، ولکن بضوابط، فهی لیست بلا حدود، بل ینتهی حقک فی التعبیر عن رأیک عندما یصطدم هذا الحق بحقوق أخرى لآخرین.
المصادر :
الشیخ محمد صنقور
1- سورة فصلت/26.
2- سورة الشورى/38.
3- سورة آل عمران/159.