المرجئة ثلاثة أصناف (1): صنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان ، وبالقدر على مذاهب القدرية ، فهم معدودون في القدرية والمرجئة ، كأبي شمر المرجئ ، ومحمد بن شبيب البصري ، والخالدي .
وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان ، ومالوا إلى قول جهم في الأعمال والأكساب ، فهم من جملة الجهمية والمرجئة .
وصنف منهم خالصة في الإرجاء من غير قدر ، وهم خمس فرق : يونسية وغسانية وثوبانية وتومنية ومريسية ، وهذا الصنف خارجون عن الجبرية والقدرية . ذم المرجئة : وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيا ، قيل : من المرجئة يا رسول الله ؟ قال : الذين يقولون الإيمان كلام ، يعني الذين زعموا أن الإيمان هو الإقرار وحده دون غيره . وروى الكليني (2) : محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن النضر ابن شعيب ، عن أبان بن عثمان ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : لا تجالسوهم - يعني المرجئة - لعنهم الله ولعن مللهم المشركة الذين لا يعبدون الله على شيء من الأشياء . فرق المرجئة :
ألف - اليونسية (3) : هؤلاء أتباع يونس بن عون الذي زعم أن الإيمان في القلب واللسان ، وأنه هو المعرفة بالله تعالى ، والمحبة والخضوع له بالقلب ، والإقرار باللسان أنه واحد ليس كمثله شيء ، ما لم تقم حجة الرسل (عليهم السلام) ، فإن قامت عليهم حجتهم لزمهم التصديق بهم ، وزعم هؤلاء أن كل خصلة من خصال الإيمان ولا بعض إيمان ، ومجموعها إيمان .
والمؤمن (4) إنما يدخل الجنة بإخلاصه ومحبته لا بعمله وطاعته .
ب - الغسانية (5) : هؤلاءأتباع غسان المرجئ الذي زعم أن الإيمان هو الإقرار أو المحبة لله تعالى وتعظيمه وترك الاستكبار عليه ، وقال إنه يزيد ولا ينقص ، وفارق اليونسية بأن سمى كل خصلة من الإيمان بعض الإيمان .
وقال الشهرستاني (6) : زعم غسان أن قائلا لو قال : أعلم أن الله تعالى قد حرم أكل الخنزير ، ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هذه الشاة ، أم غيرها ؟ كان مؤمنا .
ج - التومنية (7) : هؤلاء أتباع أبي معاذ التومني الذي زعم أن الإيمان ما عصم من الكفر ، وهو اسم لخصال من تركها أو ترك خصلة منها كفر ، ومجموع تلك الخصال إيمان ، ولا يقال للخصلة منها إيمان ولا بعض إيمان ، وزعم أن تارك الفريضة التي ليست بإيمان يقال له : فسق ، ولا يقال له فاسق على الإطلاق إذا لم يتركها جاهدا . وقال : ومن ترك الصلاة والصيام مستحلا كفر ، ومن قتل نبيا أو لطمه كفر ، وإلى هذا المذهب ميل ابن الراوندي وبشر المريسي .
الثوباني- (8) : هؤلاء أتباع أبي ثوبان المرجئ الذي زعم أن الإيمان هو الإقرار والمعرفة بالله وبرسله وبكل ما يجب في العقل فعله ، وما جاز في العقل أن لا يفعل فليست المعرفة به من الإيمان . وفارقوا اليونسية والغسانية بإيجابهم في العقل شيئا قبل ورود الشرع بوجوبه . وقال الشهرستاني (9) : ومن القائلين بمقالة أبي ثوبان هذا : أبو مروان غيلان ابن مروان الدمشقي ، وأبو شمر ، ومويس بن عمران ، والفضل الرقاشي ، ومحمد ابن شبيب ، والعتابي ، وصالح قبة .
ه- المريسية (10) : هؤلاء مرجئة بغداد من أتباع بشر المريسي ، وكان في الفقه على رأي أبييوسف القاضي ، غير أنه لما أظهر قوله بخلق القرآن هجره أبو يوسف وضللته الصفاتية في ذلك ، ولما وافق الصفاتية في القول بأن الله تعالى خالق أكساب العباد ، وفي أن الاستطاعة مع الفعل ، أكفرته المعتزلة في ذلك ، فصار مهجور الصفاتية والمعتزلة معا . وكان يقول في الإيمان : إنه هو التصديق بالقلب واللسان جميعا ، كما قال ابن الراوندي في أن الكفر هو الجحد والإنكار ، وزعما أن السجود للصنم ليس بكفر ، ولكنه دلالة على الكفر . وقال الشهرستاني (11) : ونقل عن بشر المريسي أنه قال : إذا دخل أصحاب الكبائر النار ، فإنهم سيخرجون عنها بعد أن يعذبوا بذنوبهم ، وأما التخليد فيها فمحال .
و- العبيدية (12) : هؤلاء أصحاب عبيد المكتئب . حكي عنه أنه قال : ما دون الشرك مغفور لا محالة ، وإن العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات . وحكىاليمان عن عبيد المكتئب وأصحابه أنهم قالوا : إن علم الله تعالى لم يزل شيئا غيره ، وإن كلامه لم يزل شيئا غيره .
ز - الصالحية: هؤلاء أصحاب صالح بن عمر الصالحي ، وقد جمع بين القدر والإرجاء فقال : الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق ، وهو أن للعالم صانعا فقط ، والكفر هو الجهل به على الإطلاق ، وزعم أن معرفة الله تعالى هي المحبة والخضوع له . وزعم : أن الصلاة ليست بعبادة لله تعالى ، وأنه لا عبادة له إلا الإيمان به ، وهو معرفته وهو خصلة واحدة ، لا يزيد ولا ينقص ، وكذلك الكفر خصلة واحدة ، لا يزيد ولا ينقص .
أعلام المرجئة :
ونقل الشهرستاني : أن رجال المرجئة هم : الحسن بن محمد بن علي بن أبيطالب ، وسعيد بن جبير ، وطلق بن حبيب ، وعمرو بن مرة ، ومحارب بن زياد ، ومقاتل بن سليمان ، وذر ، وعمرو بن ذر ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وقديد بن جعفر ، وهؤلاء كلهم أئمة الحديث .
المرجئة وفرقهم نشأة المرجئة ومعنى الإرجاء :
وهم الذين يبالغون في إثبات الوعد ، وهم عكس المعتزلة المبالغين في إثبات الوعيد ، فهم يرجون المغفرة والثواب لأهل المعاصي ، ويرجئون حكم أصحاب الكبائر إلى الآخرة ، فلا يحكمون عليهم بكفر ولا فسق ويقولون : إن الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان فحسب ، وإنه لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، فالإيمان عندهم منفصل عن العمل ، ومنهم من زعم أن الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه وعبد الأوثان ، أو لزم اليهودية والنصرانية وعبد الصليب ، وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك ، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله ، وهو ولي الله ، ومن أهل الجنة ، ذكر ذلك ابن حزم . وكلمة الإرجاء على معنيين : أحدهما : التأخير ، يقال : أرجيته وأرجأته ، إذا أخرته ، ومنه قوله تعالى : *(قالوا أرجه وأخاه)* أي أمهله وأخره ، وسموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان . ثانيهما : إعطاء الإرجاء ، أما إطلاق اسم - المرجئة - على الجماعة بالمعنى الثاني فظاهر ، لأنهم كانوا يقولون : لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة .
ولقد اضطربت الأقوال حول نشأة هذه الفرقة وبدء تكوينها ، ولم نستطع بهذه العجالة تحديد ذلك على وجه التحقيق . يقول النوبختي : لما قتل علي (عليه السلام) اتفقت بقية الناكثين والقاسطين وتبعة الدنيا ، فقد التقت الفرقة التي كانت مع علي (عليه السلام) والفرقة التي كانت مع طلحة والزبير وعائشة ، فصاروا فرقة واحدة مع معاوية بن أبي سفيان إلا القليل منهم من شيعة علي ومن قال بإمامته بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهم السواد الأعظم وأهل الحشو وأتباع الملوك وأعوان كل من غلب ، أعني الذين التقوا مع معاوية فسموا جميعا (المرجئة) لأنهم توالوا المختلفين جميعا وزعموا أن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان ورجوا لهم جميعا المغفرة
وافترقت (المرجئة) بعد ذلك فصارت إلى أربع فرق : فرقة منهم غلوا في القول وهم (الجهمية) أصحاب (جهم بن صفوان) وهم مرجئة أهل خراسان . وفرقة الغيلانية : وهم أصحاب (غيلان بن مروان) وهم مرجئة أهل الشام . وفرقة الماصرية : وهم أصحاب (عمرو بن قيس الماصر) ، وهم مرجئة أهل العراق ، منهم (أبو حنيفة) ونظراؤه .
وفرقة منهم يسمون (النساك) و(البترية) أصحاب الحديث ، منهم : (سفيان بن سعيد الثوري) و(شريك بن عبد الله) و(ابن أبي ليلى) و(محمد ابن إدريس الشافعي) و(مالك بن أنس) ونظراؤهم من أهل الحشو والجمهور العظيم وقد سموا (الحشوية) (قالت الحشوية إن عليا وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حروبهم ، وإن المصيبين هم الذين قعدوا عنهم ، وإنهم يتولونهم جميعا ، ويتبرأون من حربهم) . فقالت أوائلهم في الإمامة :
خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدنيا ولم يستخلف على دينه من يقوم مقامه ، وجوزوا فعل هذا الفعل لكل إمام أقيم بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : على الناس أن يجتهدوا آراءهم في نصب الإمام وجميع حوادث الدين والدنيا إلى اجتهاد الرأي ، وقال بعضهم : الرأي باطل ، ولكن الله عز وجل أمر الخلق أن يختاروا بعقولهم . وقال من المرجئة أبو حنيفة وأبو يوسف وبشر المريسي ومن قال بقولهم ، في حرب علي (عليه السلام) ومحاربة من حاربه : إن عليا (عليه السلام) كان مصيبا في حربه طلحة والزبير وغيرهما ، وإن جميع من قاتل عليا (عليه السلام) وحاربه كان على خطأ ، وجب على الناس محاربتهم مع علي (عليه السلام) ، والدليل على ذلك قول الله عز وجل : *(فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله)* .
وفي الواقع أن هذه الفرقة سياسية ، ولكنها أخذت تخلط بالسياسة أصول الدين ، فهم أعوان الأمراء والمنضوون تحت لوائهم ، يؤيدون دولتهم مع ارتكابهم المحارم ، وانغماسهم بالجرائم . وقد فسح هذا المبدأ الهدام للمفسدين والمستهترين طريق الوصول إلى غاياتهم بما يرضي نهمهم ، وقد اتخذوه ذريعة لمآثمهم ، ومبررا لأعمالهم القبيحة ، وساترا لأغراضهم الفاسدة .
وقد أيدوا برأيهم هذا خلفاء الدولة الأموية تأييدا عمليا ، فهم في الواقع قد فتحوا باب الجرأة على ارتكاب المحارم ، وأيدوا المجرمين ، وآزروا الظلمة ، وهونوا الخطب في العقاب والمؤاخذة .
وافترقت المرجئة إلى عدة فرق - كل فرقة تضلل أختها - ، ولكل فرقة أقوال وآراء ، ذكرها المؤلفون في الفرق ، سنأتي على ذكر نبذة منها عند تعداد فرق المرجئة بإذن الله . وذكر أصحاب المقالات أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان من المرجئة ، وحكى عنه غسان الكوفي الذي تنسب إليه الفرقة الغسانية : أنه كان على مذهبه ، ويعده من المرجئة ، لأن أبا حنيفة كان يذهب إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان ، وإن الإيمان لا يزيد ولا ينقص .
ا لمصادر:
1- الفرق بين الفرق للاسفرائيني : 44 و211 .
2- الكافي 2 : 401 ، الحديث 6 .
3- الفرق بين الفرق : 212 .
4- الملل والنحل للشهرستاني 1 : 136 .
5- الفرق بين الفرق : 212 .
6- الملل والنحل 1 : 126 .
7- الفرق بين الفرق : 212 .
8- الفرق بين الفرق : 213 .
9- الملل والنحل 1 : 127 .
10- الفرق بين الفرق : 213 .
11- الملل والنحل 1 : 128 .
12- الملل والنحل 1 : 126 .