منذ فترةٍ ليست ببعيدةٍ كان التشاؤم يُخيِّم على علماء الاقتصاد بشأن المستقبل، غير أن الاقتصاديَّ البريطانيَّ الكبير ألفريد مارشال كان استثناءً؛ ففي بداية الحرب العالمية الأولى، كان في أَوْجِ التفاؤل بالجيل القادم من الاقتصاديين الذين تنبَّأ بأنهم سيُغيِّرون العالم للأفضل. وكتب إلى صديق له يقول: «بعد انقضاء الفترة من ١٩٢٠ إلى ١٩٧٠، سوف تبدأ فترة جديدة تمتد إلى ألف عامٍ تُمثِّل، في توقُّعي، فترةَ ازدهارٍ للمؤرخين. إن التفكير في ذلك الأمر يثير اهتمامي بشدة.»
بعد ذلك، وفي عام ١٩٣٠؛ أي في بداية فترة الكساد العظيم، كتب الاقتصادي المعروف جون مينارد كينز - أبرز مَن تتلمذ على يد ألفريد مارشال - مقالًا صغيرًا يُعنِّف فيه زملاءه لسلبيتهم المفرطة بشأن الاقتصاد الراكد؛ ففي مقاله «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا»، انتقد كينز أصدقاءه لتشاؤمهم، مُعلنًا أنهم كانوا «مخطئين أيَّما خطأٍ» بشأن المستقبل؛ فقد كان الكساد العظيم - بحسب كينز - «خللًا مؤقتًا» و«على المدى البعيد سيحلُّ البشر مشكلتَهم الاقتصادية.» (ظننتَ أنني سأستشهد بمقولة كينز الشهيرة: «على المدى البعيد سنكون جميعًا في عداد الموتى.» أليس كذلك؟) لقد توقَّع «تقدمًا أعظم كثيرًا» مما تخيَّلناه على الإطلاق؛ إذ توقَّع أنه في غضون مائة عامٍ سيكون البشر على قدرٍ هائلٍ من التقدُّم على المستوى الاقتصادي، حتى إن المشكلة الحقيقية ستكون ببساطةٍ هي: «كيفية استغلال تحرُّر الإنسان من المسئوليات والهموم الاقتصادية الضاغطة، وكيفية شَغل أوقات الفراغ، وأيُّ علمٍ وأيُّ فائدةٍ مركبةٍ حقَّقَا له مآربه، من أجل العيش بحكمةٍ وباستمتاعٍ وبشكلٍ جيد.»
وقد ثبتت صحةُ التنبؤات الإيجابية لكلٍّ من ألفريد مارشال وجون مينارد كينز، والفضل في ذلك يرجع - إلى حدٍّ كبير - إلى الجيل التالي من الاقتصاديين الذين ساعدوا في تغيير الطريقة التي يتبعها العالم من خلال سياساتٍ معدَّلةٍ ودراساتٍ تجريبيةٍ عمليةٍ جديدةٍ ومثيرة؛ فمنذ الحرب العالمية الثانية والاقتصادُ العالمي في ازدهارٍ وصعود، وتحرَّرتْ ريادة الأعمال من قيودها عن طريق وابلٍ من الاختراعات والتطوُّرات التكنولوجية الجديدة، وبرغم بعض فترات الركود والأزمات هنا وهناك، تَجنَّبنا كسادًا عظيمًا آخر وحربًا عالميةً أخرى.
لقد قام مارك سكاوزن بعملٍ رائعٍ في هذا الكتاب، من خلال توضيح الدور المهم الذي لعبه الاقتصاديون في هذا الازدهار الاقتصادي الذي تلا الحربَ، وكيف أن جيلًا جديدًا من هؤلاء الأشخاص المؤثِّرين يصنع فارقًا. حتى إني أقف مذهولًا أمام ما يقوم به الاقتصاديون اليوم من تيسير الادِّخار، وتجنُّب الاستدانة، والاستثمار بحكمةٍ وحصافةٍ، وإخراج ملايين الفقراء من دائرة الفقر من خلال ائتمانات البنوك الخاصة البالغة الصغر، والحد من الجريمة، وتحسين التعليم الحكومي، وتوفير الكثير من الأموال على الحكومات، وطرح الشركات للاكتتاب العام من خلال مزايدات أكثر فعالية وكفاءة، وتخفيف الاختناق المروري من خلال تقنيات تسعيرٍ خاصةٍ بفترات الذروة، وزيادة أرباح الشركات مع مكافأة العاملين والمساهمين في الوقت نفسه، ومساعدة الدول على تحقيق معجزاتها الاقتصادية، وتجنُّب الصراعات الدولية في المستقبل.
لقد لاحظتُ، وكلِّي فخر، أن الكثيرين من الاقتصاديين الذين يذكرهم مارك في هذا الكتاب كانوا أعضاءً في هيئة التدريس أو طلابًا في جامعة شيكاجو، وفيهم نجوم هذا المجال أمثال ميلتون فريدمان الذي عرَّفنا، أكثر من أي شخصٍ آخر، كيفيةَ خلق البيئة الملائمة لاقتصادِ نموٍّ مستقرٍّ غيرِ تَضخُّمي (عن طريق الرقابة على العملة المتداولة، وخفض الضرائب، وتحجيم ازدياد حجم الحكومة)، وجيمس بوشنان، رائد مدرسة الاختيار العام، الذي حوَّل التركيزَ من «إخفاق السوق» إلى «إخفاق الحكومة»، وقدَّم طُرقًا للحدِّ من نفوذ الدولة وسُلطتها، وجاري بيكر الذي كان أولَ من طبَّق المبادئ الاقتصادية على علم الاجتماع والفروع المعرفية الأخرى، وروبرت ماندل، أحد مؤسسي اقتصاد جانب العرض، الذي استعرض مزايا وفوائد التجارة الحرة، وخفَّض الضرائب، ونزع القيود واللوائح.
في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته، كان هؤلاء الأكاديميون القادمون من شيكاجو يعامَلون كاقتصاديين على الهامش، على الرغم من أنهم كانوا يعتبرون أنفسَهم السلالةَ الفكريةَ الحقيقيةَ لِألفريد مارشال. كانت هذه المجموعة الصغيرة تؤيد الحكومة المحدودة، والعملة المستقرة، وتخفيف القيود واللوائح، والاستثمار في صناديق مؤشرات الأسهم، وخفض الضرائب. وكان الكثير من أهل المهنة يُسمُّونهم الحمقى. أما الآن فيوصفون بأنهم الحائزون على جوائز نوبل.
وقد كان الحظ حليفي بأن كنت جزءًا من مجموعة شيكاجو تلك في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ إذ شاركتُ بشكلٍ مباشرٍ في ميلاد اقتصاد جانب العرض. في ذلك الوقت كانت بلادنا تقف عند مفترق طرقٍ بشأن الاختيار ما بين الاستمرار في سياسةٍ تعتمد على ارتفاع الضرائب وتزايُد التضخُّم وبطء النمو، أو تغيير المسار والاتجاه لخفض الضرائب والقيود لتعزيز نموٍّ أكبرَ وتضخُّمٍ أقلَّ ومدخراتٍ أكثر. كانت تلك هي الفترة التي ظهر فيها منحنى لافر (الموضَّح في الفصل السادس والعشرون)، الذي يقوم على فكرة أن خفضًا حادًّا في معدلات الضريبة الهامشية المرتفعة من شأنه تشجيع الادخار والإنتاجية والنمو الاقتصادي إلى الحد الذي يُمكِّن الحكومة من التمتُّع بإيراداتٍ أكثر، وليس أقل. كذلك يقل معدل الإنفاق على الخدمات الاجتماعية وبرامج دعم الدخل بشكلٍ تناسبيٍّ مع انتعاش الاقتصاد. والشكل الأفضل للرفاهية والرعاية الاجتماعية سيكون دومًا متمثلًا في وظيفةٍ جيدةٍ ذات دخلٍ مرتفع. باختصار، لا يُكلِّف خفضُ الضرائب أقلَّ بكثيرٍ مما يعتقد أيُّ شخصٍ في الوقت الحالي فحسب، ولكنه غالبًا ما يكون الوسيلةَ المثلى لمساعدة الفقراء كذلك. إن خفض الضرائب يُمكِنه معالجة كل أشكال العِلل!
وهكذا كانت ثورة اقتصاد جانب العرض هي نقطةَ انطلاق ثورة تاتشر-ريجان وعقيدةً جديدةً في علم الاقتصاد. فلم يُحفِّز خفضُ الضرائب في عصر ريجان نموًّا اقتصاديًّا ممتازًا فحسب، ولكنه حفَّز أيضًا مدخراتٍ هائلة. يكفي أن تنظر إلى الاقتصاد الذي أوجدَتْه اقتصاديات جانب العرض؛ فلم يسبق لي مطلقًا أن رأيت اقتصادًا يقترب حتى من الاقتصاد الأمريكي الحالي. ولم أقرأ عن أي اقتصاد، حديثٍ أو قديم، قريبٍ أو بعيد، كبيرٍ أو صغير، يُمكِنه أن يضاهيَ الولايات المتحدة في العصر الحالي؛ فعلى الرغم من أن البلاد ليست على أفضل ما يرام، فإنها تُعَدُّ أفضل اقتصادٍ أنتجه هذا الكوكب العجوز إلى الآن.
إن الاقتصاد الأمريكي اليوم هو الاقتصاد المتطوِّر الوحيد الذي يُعتبر أيضًا اقتصادَ نموٍّ. وأعتقد أن هذا صحيح؛ نظرًا للسياسات الرائعة المتَّبعة على مدار الخمسة والعشرين عامًا الماضية؛ فعلى مدار تلك الفترة تحسَّنَتِ السياسة المالية بشكلٍ هائل؛ إذ شجَّع انخفاضُ معدلات الضريبة الهامشية العملَ والاستثمارَ. كذلك تحسَّنَتِ السياسة النقدية إلى حدٍّ كبير، حتى إن معدل التضخُّم لدينا الآن ثابت ومنخفض، وهو ما تُرجِم إلى معدلاتِ فائدةٍ أقلَّ كثيرًا بالنسبة إلى المقترضين.
وأصبحَتِ التجارة أكثر حرية؛ مما خلق مزيدًا من الثروة للولايات المتحدة وشركائها التجاريين. وأخيرًا نجد أن القيود الاقتصادية والعضوية النقابية أقلُّ؛ وهذا ما يسمح للأسواق بالعمل بمزيدٍ من الحرية.
وإذا أردتَ أن ترى تأثير تلك التغييرات، يكفي فقط أن تنظر إلى سوق الأوراق المالية؛ فمنذ يناير من عام ١٩٦٦ حتى يوليو من عام ١٩٨٢، كان معدلُ العائد السنوي المركَّب لمؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ سالبَ ٦٫١ بالمائة. فكِّر في ذلك جيدًا! بسبب سياساتٍ اقتصاديةٍ رديئة، جاء تقييم سوق الأوراق المالية بالكاد في إطارٍ اسمي، وكانت العوائد سلبيةً حقًّا بفضل الزيادة الضخمة في مستويات الأسعار. وعلى الرغم من أن السياسات المؤيدة للنمو قد وُضعت في فترة حكم الرئيس رونالد ريجان، فقد وصل مؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ إلى معدل عائدٍ سنويٍّ مركَّبٍ قيمتُه ٨٫١ بالمائة من يوليو ١٩٨٢ حتى اليوم. باختصار، لقد أدَّتِ اقتصاديات جانب العرض إلى تحسُّنٍ ضخمٍ في المصير الاقتصادي لبلادنا، وهي آخذة في اجتياح العالم بقوةٍ أيضًا.
علاوةً على ذلك، وعلى الرغم من العمل الرائد لمدرسة شيكاجو وأماكنَ أخرى، فإن جيلًا جديدًا من الاقتصاديين بصدد دخول عصرٍ ذهبيٍّ للاكتشاف؛ في مجالاتٍ متنوعةٍ مثل القانون وعلم الجريمة، والتمويل السلوكي وسوق البورصة، حتى اقتصاديات الدين، والسعادة، والرياضة. بل إن الاقتصاديين حسَّنوا أيضًا من قدرتهم على التنبؤ! وأنا سعيد أن أرى مارك سكاوزن يعتمد على نجاحات الاقتصاديين من شتَّى أنحاء الأطياف السياسية. يجب أن نُشجِّع الاقتصاد الجيد مهما كان من يدعمه، سواءٌ أكان من أتباع المدرسة الكينزية أم النمساوية، وأن ننتقد الاقتصاد الرديء، سواءٌ أكان مصدره الجمهوريين أم الديمقراطيين.
وحتى يومنا هذا لا يزال المعترضون يتكهَّنون بالويلات والظلمات، ولكنني لست منهم؛ فمن المسلَّم به أن هناك أخطاءً تُرتكب، مثلما يحدث في كاليفورنيا، حيث تعمل الضريبة التصاعدية والقيود واللوائح المفرطة على خنق ولايةٍ كانت يومًا ما ولايةً عظيمة. (إخلاء مسئولية: لقد قررت أن أنقل أسرتي وعملي من كاليفورنيا إلى تينيسي؛ حيث لا توجد ضرائب على الدخل.)
ولكن هناك الكثير من التقدُّم ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين. وإذا تمكَّنَتِ الولايات المتحدة من التحوُّل إلى السياسات المؤيدة للنمو، مثل الضريبة الثابتة المنخفضة، وخصخصة الضمان الاجتماعي، ومدرسة الاختيار العام، وزيادة حجم التجارة مع الدول الأجنبية، والحد من سياسة التدخُّل العسكري، فمن الممكن أن تكون رؤية مارك أكثر إشراقًا وتفاؤلًا. لا يزال هناك الكثير للقيام به واكتشافه، ولكن القوى السوقية العملاقة منخرطة في نشاطٍ سيكون من الصعب تغييره.
يستحق مارك سكاوزن التهنئة لما قام به من تجميعٍ لبرنامج عملٍ تفصيليٍّ لكادرٍ متقدمٍ من الخبراء الاقتصاديين ينشرون رسالتهم لعوالمَ أوسعَ وأوسع. وكما يشير مارك، لم يَعُدْ علمُ الاقتصاد ذلك العلمَ الكئيب، ولكن علمًا مبهجًا عالميًّا يفي باحتياجاتٍ دائمة التزايد، وأنا سعيد لكوني جزءًا منه.
عصر ذهبي للاكتشاف
يشهد علم الاقتصاد حاليًّا عصرًا ذهبيًّا للاكتشاف. هذه ليست مبالغة؛ فالاقتصاديون التجريبيون يُقدِّمون كمًّا وفيرًا من النتائج التطبيقية المفصَّلة عن الاقتصاد والمجتمع تُشبِه النتائج العظيمة التي شهدتْها حقبٌ أخرى في علومٍ أخرى.
في عام ٢٠٠٦، ذهبت جائزة نوبل للسلام لأول مرةٍ لعالِم اقتصاد؛ فمنذ ستينيات القرن العشرين، منحت لجنةُ نوبل عشراتٍ من جوائز نوبل في الاقتصاد، ولكن جائزة واحدة فقط من جوائز نوبل «للسلام» ذهبت لعالِمٍ في الاقتصاد؛ وهو حادث فريد من نوعه يرمز إلى البراعة الجديدة التي اكتسبتْها المهنة. لقد تم تكريم محمد يونس، وهو رئيس سابق لقسم الاقتصاد بجامعة شيتاجونج ببنجلاديش، لشروعه في تأسيس بنكٍ تجاريٍّ خاصٍّ (بنك جرامين) ساعد ما يزيد على مليونَيْ شخصٍ على الخروج من هوة الفقر في بنجلاديش. إن إرساء السلام من خلال التجارة والائتمان البالغ الصغر يُعَدُّ حلًّا جديدًا للقضاء على الفقر الحاد؛ أحد أكثر التحديات التي تواجه العالمَ إلحاحًا، وقد أدركتْ لجنة نوبل الصلة بين التجارة والسلام. (انظر الفصل الحادي والعشرون للتعرُّف على قصة محمد يونس الرائعة ودوره في الحدِّ من الفقر المدقع في العالم.)
حين كتب الاقتصاديُّ البريطانيُّ جون مينارد كينز مقاله المتفائل «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا» في عام ١٩٣٠، في بداية فترة الكساد العظيم، كان يتمنى لو نزل علماء الاقتصاد من أبراجهم العاجية وأصبحوا أشخاصًا نافعين وأكفَاءً «على قَدم المساواة مع أطباء الأسنان». لقد أصبح العديد من الاقتصاديين ممارسين نافعين بالفعل، ولكن كينز لم يدرك مدى ما سيصل إليه رواد الاقتصاد الجدد من تأثيرٍ ونفوذ؛ فلم يكن لديه أدنى فكرة، على سبيل المثال، عن أن الاقتصاديين، بعد انقضاء زمانه، سيُخبرون المستثمرين بأن يعملوا على تقليل مخاطرتهم وتعظيم عائداتهم عن طريق تنويع استثماراتهم في مجموعةٍ متنوعةٍ من صناديقِ مؤشراتِ الأسهم، أو أن المسئولين الحكوميين يستطيعون توفير الملايين بتغيير طريقة بيع الديون في المزايدات، أو أن التعصُّب الدينيَّ والصراعَ يمكن الحد منهما من خلال المنافسة الحرة بين عددٍ كبيرٍ من المعتقدات المتصارعة، أو أن المشرِّعين يستطيعون الحدَّ من الجريمة عن طريقِ تفويضِ سلطةِ إصدارِ تراخيصِ حملِ السلاح، أو أن بإمكانهم تطهيرَ البيئة من خلال طرح تراخيص التلوث في المزاد العلني، أو أن مؤلِّفي الروايات البوليسية يمكنهم حلُّ ألغاز جرائمهم باستخدام مبادئَ اقتصاديةٍ أولية.
من علمٍ كئيب …
مرحبًا بكم في عالم الإمبريالية الاقتصادية الجديد. خلال القرن العشرين شاع وَصْفُ عِلم الاقتصاد ﺑ «العلم الكئيب»، وهو مصطلح ساخر صاغه الناقد الإنجليزي توماس كارلايل في خمسينيات القرن التاسع عشر. كان كارلايل يهاجم بعنفٍ علماءَ الاقتصاد التقليديين الذين تنبَّئُوا بالفقر والأزمات وقانون الأجور الحديدي. وكذلك بعد مرور قرنٍ كامل، في سبعينيات القرن العشرين، حين عانت الاقتصادات العالمية من موجةٍ مزدوجةٍ من ارتفاع التضخُّم وارتفاع معدل البطالة، تعرَّض علماء الاقتصاد للنقد لما يملكونه من سجلٍّ بشعٍ في التنبؤ بمعدلات الفائدة، أو التضخُّم، أو موجة الركود التالية. وعند حصول فردريك هايك على جائزة نوبل في الاقتصاد في عام ١٩٧٤، أظهر لنا المزاجَ الكئيبَ لدى أغلب الاقتصاديين حين اعترف قائلًا: «في الواقع ليس لدينا في الوقت الحالي ما يدعو إلى الفخر كثيرًا؛ فنحن كأبناءِ مهنةٍ أفسدنا الأمور.»
خلال مطلع تسعينيات القرن العشرين، مرَّ علماء الاقتصاد بفترةٍ من تجريم الذات النرجسي. على سبيل المثال، خلال ركود ١٩٩١-١٩٩٢، أدلى البروفيسور روبرت جيه بارو، الأستاذ بجامعة هارفارد، بما يلي عن الاقتصاد: «ما السبب وراء ضعف الاقتصاد عن المتوقَّع؟ كيف سيكون أداء الاقتصاد خلال العام القادم؟ ما الذي ينبغي على الحكومة القيام به للمساعدة؟ إن الإجابات الصحيحة لمثل هذه الأسئلة، كمقاربةٍ أولى، هي: «لا أعرف»، و«لا أعرف»، و«لا شيء».
ورغبةً من هربرت شتاين، رئيس مجلس الإدارة الأسبق لمجلس المستشارين الاقتصاديين، في عدم تفوُّق أحدٍ عليه، اعترف قائلًا: «إنني أزداد انبهارًا أكثر وأكثر بجهلي … فلا أعرف إن كانت زيادة عجز الموازنة تُحفز الدخل القومي أم تُضعفه. ولا أعرف إن كان مؤشر M1 أم M2 للإصدار النقدي هو الذي يتحكم في مستوى الإنفاق. ولا أعرف كمَّ الزيادة في العائد التي ستنتج عن زيادة قيمتها ١٠ بالمائة في المعدل الأعلى لضريبة الدخل الفردي … ولا أعرف كيف أتخير الأسهم الرابحة!»
وبعد عام، جاء الأستاذ بجامعة برينستون، بول كروجمان، الفائزُ بوسام جون بيتس كلارك الذي يسعى وراءه الجميع (وهي جائزة تُمنح مرتين سنويًّا لأبرز الاقتصاديين وأبرعهم تحت سن الأربعين)، ليؤكد أن الاقتصاديين «لا يعرفون كيف يُحوِّلون دولةً فقيرةً إلى دولةٍ غنية، أو يعيدون سحر النمو الاقتصادي حين يبدو أنه قد ذهب بلا عودة … لا أحد يعرف حقًّا لماذا استطاع الاقتصاد الأمريكي أن يحقق ٣ بالمائة نموًّا سنويًّا في الإنتاجية قبل عام ١٩٧٣ و١ بالمائة فقط بعد ذلك. لا أحد يعرف حقًّا لماذا انطلقت اليابان من الهزيمة لتصبح قوةً اقتصاديةً عالميةً بعد الحرب العالمية الثانية، بينما انزلقت بريطانيا ببطءٍ لتصبح اقتصادًا من الدرجة الثالثة!»5 وهذه المقولة قادمة من رجلٍ أطلقتْ عليه «الإيكونوميست» «أشهر اقتصاديِّي جيله».
ا