هناک أختلاف رئيسية بين اتّجاهين أساسيين في التفسير : أحدهما الاتّجاه الموضوعي في التفسير ، والآخر الاتّجاه التجزيئي في التفسير . يمكن أن يستخلص ممّا ذكرناه بالأمس من التوضيحات أ نّه يوجد هناك فارقان بارزان رئيسيان بين هذين الاتّجاهين ، وتنبع من هذين الفارقين فوارق اُخرىََ ثانوية .
1 - السلبيّة في الاتجاه التجزيئي والإيجابيّة في الاتجاه الموضوعي :
الفارق الرئيسي الأوّل : هو أنّ التفسير الموضوعي - كما شرحنا بالأمس - يبدأ بالواقع ، بالواقع الخارجي ، بحصيلة التجربة البشرية ، يتزوّد بكلّ ما وصلت إلىََ يده من حصيلة هذه التجربة ومن أفكارها ومن مضامينها ، ثم يعود إلىََ القرآن الكريم ليحكّم القرآن الكريم ، ويستنطق القرآن الكريم علىََ حدّ تعبير الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، ويكون دوره دور المستنطق ، دور الحوار ، يكون دور المفسّر دوراً ايجابياً أيضاً ، دور المحاور ، دور من يطرح المشاكل ، من يطرح الأسئلة ، من يطرح الاستفهامات علىََ ضوء تلك الحصيلة البشرية ، علىََ ضوء تلك التجربة الثقافية التي استطاع الحصول عليها ، ثم يتلقّى من خلال عملية الاستنطاق ، من خلال عملية الحوار مع أشرف كتاب ، يتلقّى الأجوبة من ثنايا الآيات المتفرّقة .
فهنا الابتداء بالتفسير الموضوعي يكون من الواقع ويعود إلىََ القرآن الكريم ، بينما التفسير التجزيئي يبدأ من القرآن وينتهي إلىََ القرآن ، ليس فيه حركة من الواقع إلىََ القرآن ومن القرآن إلىََ الواقع ، وإنّما يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن .
دور المفسّر هنا دور سلبي كما شرحنا بالأمس : يخلي ذهنه من أيّ سوابق ، من أيّ اُطروحات ، يجلس جلوس المستمع لا جلوس المحاور ، لا جلوس المستفهم ، بل جلوس من يستمع ويسجّل ما ينطبع في ذهنه نتيجة هذا الاستماع . هذا الأمر الأوّل الذي شرحناه بالأمس .
2 - الاتجاه التجزيئي يقدّم المدلولات التفصيليّة والاتجاه الموضوعي يحاول الحصول على النظريّات :
والأمر الثاني في المقام : هو أنّ التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة ؛ لأنّ التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة ، بينما التفسير الموضوعي يطمح إلىََ أكثر من ذلك ، يتطلّع إلىََ ما هو أوسع من ذلك ، يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية ، يحاول أن يصل إلى مركّب نظري قرآني ، وهذا المركّب النظري القرآني يحتلّ في إطاره كلّ واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب ، وهذا ما نسمّيه بلغة اليوم بالنظرية . يصل إلى نظرية قرآنية عن النبوّة ، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي ، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ ، وهكذا عن السماوات والأرض .
فهنا التفسير الموضوعي يتقدّم خطوة على التفسير التجزيئي بقصد الحصول على هذا المركّب النظري الذي لا بدّ أن يكون معبّراً عن موقف قرآني تجاه موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية .
هذان فارقان رئيسيان بين التفسير الموضوعي في القرآن ، الاتّجاه الموضوعي في التفسير والاتّجاه التجزيئي في التفسير .
ونحن ذكرنا بأنّ البحث الفقهي اتّجه اتّجاهاً موضوعياً ، بينما التفسير لم يتّجه على الأكثر اتّجاهاً موضوعياً ، بل كان اتّجاهاً تجزيئياً .
ما هو المراد بالموضوعيّة :
اصطلاح الموضوعية هنا علىََ ضوء الأمر الأوّل ، كون التفسير موضوعياً علىََ ضوء الأمر الأوّل ، بمعنىََ أ نّه يبدأ من الموضوع ، من الواقع الخارجي ، من الشيء الخارجي ، ويعود إلىََ القرآن الكريم ، فنعبّر عن التفسير بأ نّه موضوعيٌّ علىََ ضوء الأمر الأوّل باعتبار أ نّه يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي إلىََ القرآن الكريم ، وتوحيديٌّ باعتبار أ نّه يوحّد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم ، لا بمعنىََ أ نّه يحمل التجربة البشرية علىََ القرآن ، لا بمعنىََ أ نّه يُخضع القرآن للتجربة البشرية ، بل بمعنىََ أ نّه يوحّد بينهما في سياق بحث واحد ؛ لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحّد من البحث ، يستخرج المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكرية التي أدخلها في سياق بحثه .
إذن التفسير موضوعي وتوحيدي علىََ أساس الأمر الأوّل ، [ و ] علىََ أساس الأمر الثاني أيضاً كون التفسير موضوعياً باعتبار أ نّه يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد . وهو توحيدي باعتبار أ نّه يوحّد بين هذه الآيات ، يوحّد بين مدلولات هذه الآيات ضمن مركّب نظري واحد . إذن اصطلاح الموضوعية واصطلاح التوحيدية في التفسير ينسجم مع كلّ من هذين الفارقين بما بيّناه .
ولا نقصد بالموضوعية هنا الموضوعية في مقابل التحيّز ، مثلاً : ما يقال عادة من أنّ هذا البحث موضوعي في مقابل أن يكون بحثاً متحيّزاً أو منحازاً . طبعاً الموضوعية بذلك المعنىََ مفروضة في التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي معاً . ليست الموضوعية بذلك المعنىََ من مزايا التفسير الموضوعي في مقابل التفسير التجزيئي ، الموضوعية بذلك المعنىََ عبارة عن الأمانة في البحث ، عبارة عن الاستقامة علىََ جادّة البحث ، تلك الموضوعية مفترضة في كلا الاتّجاهين ، وإنّما الموضوعية التي نجعلها في مقابل التجزيئية غير تلك الموضوعية التي تقابل الذاتية والتحيّز ، الموضوعية هنا بمعنىََ أن يبدأ من الموضوع وينتهي إلىََ القرآن ، هذا الأمر الأوّل . الأمر الثاني أن يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها ، من أجل أن يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة إلى ذلك الموضوع .
الاتجاه الموضوعي في الأبحاث الفقهية
ذكرنا أنّ الأبحاث الفقهية سارت في الاتّجاه الموضوعي بينما الأبحاث التفسيرية سارت في الاتّجاه التجزيئي ، طبعاً لم نكن نعني من ذلك أيضاً أنّ البحث الفقهي استنفد طاقة الاتّجاه الموضوعي ، البحث الفقهي سار في الاتّجاه الموضوعي ولكنه لم يستنفد أيضاً طاقة الاتّجاه الموضوعي ، والبحث الفقهي اليوم مدعوّ أيضاً إلىََ أن يستنفد طاقة هذا الاتّجاه الموضوعي اُفقياً وعمودياً ، لابدّ وأن يستنفد طاقة الاتّجاه الموضوعي .
أمّا اُفقياً فلابدّ وأن يستنفد طاقة الاتّجاه الموضوعي باعتبار أنّ الاتّجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن أن يبدأ الإنسان من الواقع وينتهي إلىََ النظرية ، ينتهي إلىََ الشريعة . هذا كان ديدن العلماء ، ديدن الفقهاء يبدأون بالواقع ، وقائع الحياة كانت تنعكس عليهم علىََ شكل جعالة ، مضاربة ، مزارعة ، مساقاة ، رهن ، نكاح ، كانت هذه الحوادث وهذه الوقائع تنعكس عليهم ثم يأخذون هذا الواقع ويأتون إلىََ مصادر الشريعة لكي يستنبطوا الحكم من مصادر الشريعة . هذا اتجاه موضوعي ؛ لأنّه يبدأ بالواقع وينتهي إلىََ الشريعة في مقام التعرّف علىََ حكم هذا الواقع .
لكن هنا لابدّ من أن يمتدّ الفقه اُفقياً علىََ هذه الساحة أكثر ؛ لأنّ العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتّجاه الموضوعي عبر قرون متعدّدة كانوا حريصين علىََ أن يأخذوا هذه الوقائع ويحوّلوها دائماً إلىََ الشريعة لكي يستنبطوا أحكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع ، ولكن وقائع الحياة تتجدّد ، تتكاثر باستمرار ، تتولّد ميادين جديدة من وقائع الحياة ، لابدّ لهذه العملية باستمرار من أن تنمو ، من أن تحوّل كلّ ما يستجدّ من وقائع الحياة ، من أن تبدأ من الواقع ، لكن ذاك الواقع الساكن المحدود الذي كان يعيشه الشيخ الطوسي أو الذي كان يعيشه المحقق الحلّي ، ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصر الشيخ الطوسي ، كان يفي بحاجات عصر المحقق الحلّي ، لكن كم من باب وباب من أبواب الحياة فتحت بالتدريج .
لابدّ من عرض هذه الأبواب علىََ الشريعة ، إذا أردنا أن يستمرّ الاتّجاه الموضوعي في البحث الفقهي لابدّ وأن نمدّده اُفقياً علىََ مستوىََ ما استجدّ من أبواب الحياة ، كم من باب ومن أبواب الحياة استجدّ لم يكن معروفاً سابقاً ، التجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة كانت تمثّل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمئة سنة ، ولكن اليوم السوق ، المعاملات ، العلاقات الاقتصادية ، أوسع من هذا النطاق ، أكثر تشابكاً من هذا النطاق ، إذن لابدّ للفقه من أن يكون كما كان علىََ يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين علىََ أن يعكسوا كلّ ما يستجدّ من وقائع الحياة علىََ الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة ، لابدّ أيضاً من أنّ هذه العملية تسير اُفقياً كما سارت اُفقياً في البداية . هذا من الناحية الاُفقية .
من الناحية العمودية أيضاً لابدّ من أن يتوغّل هذا الاتّجاه الموضوعي في الفقه ، لابدّ وأن يتوغّل ، لابدّ وأن ينفذ عمودياً ، لابدّ وأن يصل إلىََ النظريات الأساسية ، لابدّ وأن لا يكتفي بالبناءات العلوية بالتشريعات التفصيلية ، لابدّ وأن ينفذ من خلال هذه التشريعات التفصيلية ، من خلال هذه البناءات العلوية إلىََ النظريات الأساسية التي تمثّل وجهة نظر الإسلام ؛ لأنّنا نعلم أنّ كلّ مجموعة من التشريعات في كلّ باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريات أساسية ، ترتبط بتصوّرات رئيسية ، أحكام الإسلام ، تشريعات الإسلام ، في مجال الحياة الاقتصادية ترتبط بنظرية الإسلام ، بالمذهب الاقتصادي في الإسلام . أحكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ، ترتبط بنظرياته الأساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل . هذه النظريات الأساسية التي تشكّل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلوية ، لابدّ أيضاً من التوغّل إليها ، لا ينبغي أن ينظر إلىََ ذلك بوصفه عملاً منفصلاً عن الفقه ، بوصفه ترفاً ، بوصفه نوع تفنن ، بوصفه نوع أدب ، ليس كذلك ، بل هذا ضرورة من ضرورات الفقه ، لابدّ من النفاذ ، لابدّ من التوغّل عمودياً أيضاً إلىََ تلك النظريات ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشرية .
تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير
الآن نعود إلىََ التفسير بما ذكرناه من أوجه الاختلاف بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي . تبينت عدّة أفضليات تدعو إلىََ تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير علىََ المنهج التجزيئي في التفسير ، فإنّ المنهج الموضوعي في التفسير علىََ ضوء ما ذكرناه يكون أوسع اُفقاً وأرحب وأكثر عطاءً ، باعتبار أ نّه يتقدّم خطوة علىََ التفسير التجزيئي كما أ نّه قادر علىََ التجدّد باستمرار ، علىََ التطوّر والإبداع باستمرار ، باعتبار أنّ التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدّمه من مواد ، ثمّ هذه المواد تطرح بين يدي القرآن الكريم لكي يستطيع هذا المفسّر أن يحصّل الأجوبة من القرآن الكريم . هذا هو الطريق الوحيد للحصول علىََ النظريات الأساسية للإسلام وللقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة .
وقد يقال بأ نّه ما الضرورة إلىََ تحصيل هذه النظريات الأساسية ؟ ما الضرورة إلىََ أن نفهم نظرية الإسلام في النبوّة مثلاً بشكل عام ؟ أن نفهم نظرية الإسلام في سنن التاريخ وفي التغيّر الإجتماعي بشكل عام ؟ أن نفهم سنن الإسلام في الاقتصاد الإسلامي بشكل عام ؟ أن نفهم مفهوم الإسلام عن السماوات والأرض ؟
ما الضرورة إلىََ أن ندرس ونحدّد هذه النظريات ، فإنّنا نجد بأنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يعطِ هذه النظريات علىََ شكل نظريات محدّدة وبصيغ عامة ، وإنّما أعطىََ القرآن بهذا الترتيب للمسلمين ؟ ما الضرورة إلىََ أن نتعب أنفسنا في سبيل تحصيل هذه النظريات وتحديدها بعد أن لاحظنا أنّ النبي صلى الله عليه و آله اكتفىََ باعطاء هذا المجموع هذا الكلّ المتراكم بهذا الشكل ؟ ما الضرورة إلىََ أن نستحصل هذه النظريات ؟
الحقيقة أنّ هناك اليوم ضرورة أساسية لتحديد هذه النظريات ولتحصيل هذه النظريات ، ولا يمكن أن يفترض الاستغناء عن ذلك . النبيّ صلى الله عليه و آله كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق ، من خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبنيه في الحياة الإسلامية ، فكان كلّ فرد مسلم في إطار هذا المناخ ، كان يفهم هذه النظرية ولو فهماً إجمالياً ارتكازياً ؛ لأنّ المناخ والإطار الروحي والإجتماعي والفكري والتربوي الذي وضعه النبي صلى الله عليه و آله كان قادراً علىََ أن يعطي النظرة السليمة ، والقدرة السليمة علىََ تقويم المواقف والمواقع والأحداث .
إذا أردنا أن نقرّب هذه الفكرة نقول : قايسوا بين حالتين : حالة إنسان يعيش في داخل عرف لغة من اللغات ، وإنسان يريد أن يفهم بأنّ أبناء هذه اللغة ، أبناء هذا العرف كيف تنتقل أذهانهم إلىََ المعاني من الألفاظ ؟ وكيف يحدّدون المعاني من الألفاظ ؟
هنا توجد حالتان : إحداهما أن نأتي بهذا الإنسان ونجعله يعيش في أعماق هذا العرف ، في أعماق هذه اللغة . إذا جعلته يعيش في أعماق هذا العرف وفي أعماق هذه اللغة ، واستمرّت به الحياة في أطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة من الزمن ، سوف يتكوّن لديه الإطار اللغوي ، الإطار العرفي الذي يستطيع من خلاله أن يتحرّك ذهنه وفقاً لما يريده العرف واللغة منه ؛ لأنّ مدلولات اللغة وقواعد اللغة تكون موجودة وجوداً إجمالياً ارتكازياً في ذهنه .
النظرة السليمة ، التقييم السليم للكلمة الصحيحة وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة ، يكون موجود عنده باعتبار أ نّه عاش عرف اللغة ، عاش وجدانها ، عاش إطارها ، عاش تطبيقها ، بينما إذا كان الإنسان خارج مناخ تلك اللغة ، خارج عرف تلك اللغة وأردت أن تنشئ في ذهنه القدرة علىََ التمييز اللغوي الصحيح ، كيف تستطيع أن تنشئ في ذهنه القدرة علىََ التمييز اللغوي الصحيح ؟ يكون ذلك عن طريق الرجوع إلىََ قواعد تلك اللغة ، حينئذٍ لابدّ وأن ترجع إلىََ ذلك العرف الذي تربّىََ فيه ذلك الإنسان ، ترجع إلىََ ذلك العرف لكي تستنتج منه القواعد العامّة ، النظريات العامّة .
نفس ما وقع بالنسبة إلىََ علوم العربية ، كيف أنّ ابن اللغة لم يكن بحاجة إلىََ أن يُعلّم علوم العربية في البداية ؛ لأنّه كان يعيش في أعماق عرف اللغة ، لكن بعد أن ابتعد عن تلك الأعماق ، بعد أن اختلفت الأجواء ، بعد أن ضعفت اللغة ، بعد أن تراكمت لغات اُخرىََ إندسّت إلىََ داخل حياة هؤلاء ، بدأ هؤلاء [ يحسّون ] بحاجة إلىََ علم للّغة ، بدأوا [ يحسّون ] بحاجة إلىََ نظريات للّغة ؛ لأنّ الواقع لا يسعفهم بنظرة سليمة ، فلابدّ إذن من علم ، لابدّ من نظريات لكي يفكّروا ، ولكي يناقشوا ، ولكي يتصرّفوا لغوياً وفقاً لتلك القواعد والنظريات . هذا المثال مثال تقريبي لأجل توضيح الفكرة .
إذن الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الإعظم صلى الله عليه و آله إذا كانوا لم يتلقّوا النظريات بصيغ عامّة ، فقد تلقّوها تلقّياً إجمالياً ارتكازياً ، انتقشت في أذهانهم ، سرت في أفكارهم . كان المناخ العام ، الإطار الإجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه كلّه كان إطاراً مساعداً علىََ تفهّم هذه النظريات ولو تفهّماً إجمالياً ، وعلىََ توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم .
أمّا حيث لا يوجد ذلك المناخ ، أمّا حيث لا يوجد ذلك الإطار فإذن تكون الحاجة إلىََ النظريات - يعني الحاجة إلىََ دراسة لنظريات القرآن والإسلام - تكون حاجة حقيقية ملحّة خصوصاً مع بروز نظريّات عديدة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكلّ ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوّعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية .
حينما وقع هذا التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريّات كثيرة في مختلف مجالات الحياة ، فكان لابدّ لكي يحدّد موقف الإسلام من هذه النظريات ، كان لابدّ وأن يستنطق نصوص الإسلام ، لابدّ وأن يتوغّل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلىََ مواقف الإسلام الحقيقية سلباً وإيجاباً ، لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشريّة الذكيّة في مختلف مجالات الحياة .
إذن فالتفسير الموضوعي في المقام هو أفضل الاتّجاهين في التفسير ، إلّا أنّ هذا لا ينبغي أن يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الأفضلية لا تعني استبدال اتّجاه باتّجاه ، طرح التفسير التجزيئي رأساً والأخذ بالتفسير الموضوعي ، وإنّما إضافة اتّجاه إلىََ اتّجاه ؛ لأنّ التفسير الموضوعي ليس إلّا خطوة إلىََ الأمام بالنسبة إلىََ التفسير التجزيئي ، ولا معنىََ للاستغناء عن التفسير التجزيئي بالاتّجاه الموضوعي .
إذن فالمسألة هنا ليست مسألة استبدال وإنّما هي مسألة ضمّ ، ضمّ الاتّجاه الموضوعي في التفسير إلىََ الاتّجاه التجزيئي في التفسير ، يعني افتراض خطوتين : خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة اُخرىََ هي التفسير الموضوعي .
المصدر:
من کتاب التفسير الموضوعي للقرآن / السيد الشهيد محمد باقر الصدر