على الإنسان أن يسعى جاهداً للحفاظ علی التقوی لانها تحفظ الانسان من الضعف والتلاشي و التقوى تصون الإنسان وتحفظه من الانزلاق في متاهات الشهوة والغريزة، ، ولا بدّ من التعرف على آثارها ، فإنّ لها آثاراً دنيويّة، فضلاً عن آثارها الأخرويّة المتمثِّلة في أنّها الطريق الوحيد للنجاة من الشقاء الأبديّ في الآخرة، فما هي آثار التقوى الدنيويّة؟
أ- شفاء من كلّ داء
يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ـ وهو الّذي تحدّث عن التقوى ورغّب فيها كما لم يفعل أحد غيره ـ ذاكراً آثار التقوى ومبيّناً فوائدها:
1- "فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ مِفْتَاحُ سَدَاد، وَذَخِيرَةُ مَعَاد، وَعِتْق منْ كلّ مَلَكَة، وَنَجَاة مِنْ كلّ هَلَكَة، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُوا الْهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِبُ"(1) .
2- "فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ، وَشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ، وَصَلاَحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ، وَطُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ"(2) .
فكلّ آلام البشر وابتلاءاتهم بنظر عليّ عليه السلام، يمكن أن تجد لها حلّاً من خلال التقوى، فالتقوى واحدة من أركان حياة الإنسان، فرداً كان أم في المجتمع، ولولاها لتزلزلت أركان الحياة.
ب- ضبط حركة الفرد والمجتمع
فما من شيء يقوم مقام التقوى في ضبط حركة الفرد الشخصيّة والاجتماعيّة، فكم وضعوا من القوانين والقرارات، وكم بدّلوها وغيّروها، لتتناسب مع التطوّر والتقدّم الحاصلَيْن في المجتمعات البشريّة؟!
ولكنّ ذلك كلّه لم يؤتِ الثمار المرجوّة منه، وذلك لأنّ مجرّد وضع قانون ما أمر غير مثمر، فإنّ من وظيفةلقانون أن يضع الحدود، ولكنّ ثمرة وضع تلك الحدود لا تظهر إلّا حينما يملك الناس الإرادة والقدرة على احترام تلك الحدود؛ وتلك هي التقوى.
ولا احترام للقانون ما لم تُحترم مبادئ التقوى، فالكثير من المشاكل الموجودة اليوم في المجتمع سببها الأوّل والأخير انعدام التقوى، أو ضعفها في نفوس الناس أثناء تعاطيهم للأمور الحياتيّة والاجتماعيّة.
والمؤسف أنّ بعض الباحثين في الشؤون الاجتماعيّة يردّون هذه المشاكل إلى أسباب وعوامل مختلفة لا علاقة لها بالأسباب الحقيقيّة لهذه المشاكل ألا وهي انعدام التقوى بكافّة أنواعها أو ضعفها في نفوس الناس.
سؤال وجواب
ولعلّ بعضاً يسأل: كيف يقول أمير المؤمنين عليه السلام عن التقوى أنّها:
"شِفَاءُ مَرَض أَجْسَادِكُمْ"؟
وما الرابط بين التقوى وسلامة الجسم؟
والجواب: إنّ افتقاد التقوى يعني افتقاد المستشفى الجيّد والطبيب الجيّد والدواء الجيّد، كما أنّ من يعيش روحيّة التقوى لا تشغله الأطماع، ولا يندفع وراء الملذّات ولو كانت مضرّة بسلامته وصحّته، وهذا ما يعني أنّ التقيّ سيحيا صحيح الجسم، سليم الروح، وفي سلامة اجتماعيّة مع نظرائه وأقرانه.
أثران آخران
ويبقى للتقوى أثران مهمّان، وهما:
1- تنوير القلب والبصيرة: حيث جاء في الآية الكريمة:
﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾(3) .
وهذا هو المدخل إلى السلوك العرفاني.
2- إزالة الخوف والضيق وجلب الرزق: حيث يقول الله:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾(4).
أثر التقوى في تنوير العقل والبصيرة
هذا الأثر للتقوى من المسلَّمات الإسلاميّة، فقد دلّت عليه، بالإضافة إلى الآيات القرآنيّة، جملة من الأخبار الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام.
أ- فمن الآيات القرآنيّة قوله عزّ وجلّ:
﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾(5) .
ومنها قوله عزّ وجلّ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ...﴾(6) .
وقد تمسّك العرفاء بهذه الآية الثانية للاستدلال على أنّ مَن يتّقي الله يصبح موضع إفاضة علم الله.
ب- ومن الأخبار الواردة عن النبيّ والأئمّة، ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
"جاهدوا أنفسكم على أهوائكم تحلّ قلوبَكم الحكمةُ"(7) .
وما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:
"ما أخلص العبد الإيمان بالله عزّ وجلّ أربعين يوماً أو قال: ما أجلّ عبد ذكر الله عزّ وجلّ أربعين يوماً إلّا زهّده الله عزّ وجلّ في الدنيا وبصّره داءها ودواءها فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه"(8) .
ومنها ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال:
"لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات"(9) .
وهذه الأخبار تشير بصراحة إلى أنّ التقوى والتطهّر من الآثام سبب رئيسي من أسباب التبصّر.
وهناك بعض الأحاديث تشير إلى ذلك تلميحاً، إذ تشير إلى تأثير اتباع الهوى والابتعاد عن التقوى في إظلام الروح واسوداد القلب وانطفاء نور العقل.
ومن هذه الأحاديث قول أمير المؤمنين عليه السلام:
"مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ"(10) .
ومنها قوله عليه السلام:
"عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ"(11) .
ومنها قوله عليه السلام:
"أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ"(12) .
والخلاصة أنّ تأثير التقوى في العقل والبصيرة أمر مسلّم به في الدين الإسلاميّ والثقافة الإسلاميّة، ولكن يبقى علينا أن نفسّر ذلك بالمنطق العلميّ والفلسفيّ، لنرى ما الّذي يربط بين التقوى والبصيرة؟ وكيف يمكن أن يكون للتقوى، وهي فضيلة أخلاقيّة تتعلّق بسلوك الإنسان، أثر في جهاز عقل الإنسان وفكره وقدرته على الفصل والقضاء، وتهيئته لينال من الحكمة ما لا يناله بدون التقوى؟
التقوى والحكمة العمليّة
إنّ الحكمة الّتي هي وليدة التقوى، وتلك البصيرة المميّزة الّتي يختصّ بها المتّقون إنّما هي الحكمة والبصيرة العمليّتان.
ولتفسير ذلك لا بدّ من ذكر هذه المقدّمة وهي:
يقسّم الحكماء العقل إلى قسمين: العقل النظريّ، والعقل العمليّ،
1- العقل النظريّ: هو الّذي تُبنى عليه العلوم الطبيعيّة والرياضيّة والفلسفة الإلهيّة، والعقل في هذه العلوم يقوم بإصدار الحكم والقضاء في واقعيّاتها، من قبيل: هل أنّ الشيء الفلاني هو هكذا أم هكذا؟
وهل له هذا الأثر أم لا؟ وهل لهذا المعنى حقيقة أم لا حقيقة له؟
2- العقل العمليّ: فهو الّذي تُبنى عليه العلوم الحياتيّة والعلوم الأخلاقيّة، وعلى حدّ قول القدماء، هو أساس علم الأخلاق وتدبير المنزل وسياسة المدن، فمجال عمل العقل العمليّ هو الحكم فيما إذا كان عليَّ أن أعمل هذا العمل أو أن أعمل ذاك العمل؟ وهل أعمله هكذا أم هكذا؟ وبعبارة أخرى: العقل العمليّ هو الّذي يُظهر لنا الصالح والطالح، الحسن والقبيح، ما ينبغي وما لا ينبغي، والأمر والنهي، وما إلى ذلك.
والمسير الّذي يختاره الإنسان في حياته يرتبط بكيفيّة اشتغال العقل العمليّ وحكمه، ولا يتعلّق بالعقل النظريّ مباشرة.
ومن هنا يتّضح أنّ ما جاء من الآيات والروايات عن أنّ التقوى تنوّر العقل وتفتح باب الحكمة على الإنسان، إنّما يتعلّق بالعقل العمليّ دون النظريّ، فإنّ التقوى تجعل الإنسان أقدر على معرفة دائه ودوائه في سلوكه، وأبصر في اختيار سبيله في الحياة، ولكنّها حتماً لا تجعله أقدر على فهم الدروس الرياضيّة والطبيعيّة وحلّ مشاكلها.
وخلاصة القول: إنّ للتقوى والطهارة وترويض النفس الأمّارة أثراً في البصيرة ومساعدة العقل، ولكنّ ذلك في العقل العمليّ دون النظريّ، وليس بمعنى أنّ العقل هو المصباح وأنّ التقوى هي زينة، أو أنّ جهاز العقل يكون أشبه بمولّد كهربائيّ ذي طاقة معيّنة وتأتي التقوى لتزيد تلك الطاقة من حيث كميّتها، بل إنّ ذلك شيء آخر، فما هو ذلك الشيء؟
كيف تؤثّر التقوى في العقل؟
إنّ التفكير العمليّ للإنسان والّذي يدلّه على الخير والشرّ، الحسن والسيّئ، الصحيح والغلط، وأمثالها من المعاني، يتأثّر بطغيان الهوى والأطماع ومشاعر الحقد والتعصّب وأمثالها، وذلك لأنّ ميدان عمل العقل العمليّ عند الإنسان هو ميدان المشاعر والأهواء والشهوات نفسه، وبما أنّ العداء مستحكم بين الأهواء والعقل، كما جاء في جملة من الأحاديث الشريفة.
نذكر منها قول الإمام عليّ عليه السلام:
"الهوى عدوّ العقل"(13) .
تتقابل أوامر الأهواء والأطماع مع أوامر العقل، بل قد تطغى عليها، وذلك فيما لو خرجت هذه الأهواء عن حدّ الاعتدال، وهذا ما يؤدّي إلى ضعف تأثير العقل في الأحكام والمواقف الصادرة من الإنسان.
العقل صديق والنفس عدوّ
وبما أنّه من المسلّم أنّ عقل الإنسان هو صديق له، إذ جاء عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
"صديق كلّ امرئ عقله"(14) .
كانت الأهواء والمطامع الكامنة في النفس الأمّارة بالسوء أعدى أعداء الإنسان، لأنّ عدوّ الصديق عدوّه، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يحدّد الأصدقاء والأعداء:
"أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك، وصديق صديقك، وعدوّ عدوّك، وأعداؤك: عدوّك، وعدوّ صديقك، وصديق عدوّك"(15) .
وإلى هذا أشار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
"أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك"(16) .
فالنفس أعدى أعداء الإنسان، لأنّها عدوّة العقل الّذي هو خير صديق للإنسان، ومن هنا كان كلّ ما يكبح جماح النفس ويمنع من تأثير الأهواء والأطماع في اختيار الخطّ والنهج والمسار الّذي ينبغي للإنسان أن يسير وفقه في هذه الحياة مقوّياً للعقل، بمعنى أنّه يقف في وجه عدوّ العقل، فيجعل يد العقل حرّة طليقة في اختيار النهج الواجب اتّباعه، وفي اتخاذ الحكم الصحيح للوصول إلى الهدف المنشود، وهذا هو دور التقوى، فإنّها تكبح جماح الهوى الّذي هو عدوّ العقل، ومن هنا كان للتقوى ذلك الأثر المهمّ في تقوية العقل والبصيرة عند الإنسان.
هل الذكاء غير العقل؟
نرى في واقع الحياة أنّ بعض الناس ناجحون فيما يتعلّق بالمسائل العلميّة، ولكنّهم فاشلون في انتخاب طريقة حياة إنسانيّة متوافقة مع القيم الإنسانيّة الرفيعة، بينما نرى أناساً آخرين فاشلين فيما يتعلّق بالمسائل العلميّة، ولكنّهم في الوقت نفسه يعرفون كيف يختارون الطريقة المناسبة للحياة، هذا الأمر دفع بعضاً إلى القول بأنّ في الإنسان ذكاء وعقلاً، ولكنّ الحقيقة أنّه ليس في الإنسان إلّا العقل، ولكن في بعض الأحيان يطغى أعداء العقل، فيمنعوا تأثيره ويحولوا دون إصداره الأحكام الصحيحة.
أمّا حين يسيطر العقل وتُكبح الأهواء فإنّ أحكام العقل تكون صحيحة ومناسبة، ولا يكون ذلك إلّا من خلال التقوى والطهارة والجهاد الأخلاقيّ ومجالدة أهواء النفس، الّتي تربّي وتنمّي إحساساً غامضاً في الإنسان، قابلاً للتربية والنموّ، كما يقول العلم الحديث، فقد التفت العرفاء إلى هذا الإحساس قديماً، حيث قالوا: إنّ في الإنسان، بالإضافة إلى قواه العقليّة المدركة، إحساسا ًآخر غامضاً، ويمكن أن نطلق عليه اسم "الإلهام"، وقد أيّد العلم الحديث هذا القول، إلّا أنّه قال: "إنّ هذا الإحساس موجود في الإنسان على درجات متفاوتة من الضعف والقوّة، وهو قابل للتربية والنموّ".
وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة إلى تربية وتنمية التقوى لهذا الإحساس فقال:
"قد أحيا عقله، وأمات نفسَه، حتّى دقّ جليله، ولطف غليظه، وبَرَقَ له لامعٌ كثير البرق فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، فتدافعته الأبواب إلى باب السلامة، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم"(17) .
التقوى وتلطيف العواطف
في ختام الكلام عن أثر التقوى في تقوية العقل والبصيرة لا بدّ من الإشارة إلى أنّ للتقوى وطهارة النفس تأثيراً في مجالات أخرى، منها العواطف والأحاسيس، إذ التقوى تزيد من رقّتها ولطافتها، فإنّ عواطف امرئ تقيّ قد أزال عن نفسه كلّ شرّ وابتعد عن كلّ عمل قبيح لا يمكن أن تتشابه مع عواطف شخص غارق في الفواحش والمنكرات، ولا ريب أنّ مشاعر التقيّ أرقّ وألطف، وتأثّره بالجمال المعنويّ أشدّ وأقوى.
أثر التقوى في إزالة الشدائد
يقول الله سبحانه:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾(18) .
ويقول أيضاً:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾(19) .
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام:
"فَمَنْ أخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا، وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الأمور بَعْدَ مَرَارَتِهَا، وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الأمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا، وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا، وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا، وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا، وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا، وَوَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا"(20) .
وهنا يرد إلى الذهن السؤال التالي: ما هو الرابط بين التقوى وهي خصيصة روحيّة أخلاقيّة وبين قهر المشاكل والشدائد الفعليّة؟
أنواع الصعاب
وللجواب عن هذا التساؤل لا بدّ من بيان أنّ الشدائد والصعاب في هذه الحياة على نوعين:
الأوّل: هو ما لا دخل لإرادة الإنسان في حدوثه، كالزلازل والبراكين وما شابه ذلك.
الثاني: هو الّذي تتدخّل فيه إرادة الإنسان، وأمثلته كثيرة، وهي المشاكل الأخلاقيّة والاجتماعيّة الّتي يواجهها الإنسان في حياته.
وهنا نقول: إنّه ليس ما يمنع من وجود قانون طبيعيّ يكون ضماناً إلهيّاً للخلاص من المشاكل من النوع الأوّل، كاستجابة الدعاء مثلاً، ولكن لا ندري هل أنّ بيان القرآن يشمل النجاة من هذه الشدائد أو لا يشملها؟ وعلى كلّ حال فإنّ مثل هذه الشدائد نادر الحدوث في حياة الإنسان.
وأمّا النوع الثاني من المشاكل فهو المقصود في القرآن ونهج البلاغة، أي إنّ التقوى لها أثر كبير في تخليص الإنسان من المشاكل الاجتماعيّة والأخلاقيّة الّتي هي من صنعه وخاضعة لإرادته.
وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك بقوله:
"وَاعْلَمُوا أَنَّهُ من يتّق الله يجعل له مخرجاً مِنَ الْفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ"(21) .
فالتقوى تقف حائلاً بين الإنسان والانحراف عن الخطّ الّذي رسمه الله عزَّ وجلَّ له، ليحقّق من خلاله السعادة والهناء في هذه الحياة الدنيا، وبهذا يتخلّص الإنسان التقيّ من خطر الوقوع في المشاكل والشدائد الناشئة، على نحو الدوام، من الابتعاد عن النهج الّذي وضعه الله، ليسير عليه الناس في حياتهم. ولو سقط التقيّ في مشكلة ما نتيجة الغفلة عن أوامر الله ونواهيه، الّتي قد تصيبه في أيّ وقت، فإنّه يستطيع الرجوع من خلال التقوى إلى الصراط المستقيم، فيتخلّص من مشكلته، وإلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة:
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾(22) .
وبهذا يكون الأثر الأوّل للتقوى هو التبصّر والرؤية الواضحة، والأثر الثاني لها هو النجاة من المهالك والشدائد.
القدرات لوقت الشدّة
ولو غضضنا النظر عن كلّ ما تقدّم يمكن القول: إنّ الإنسان التقيّ لا يهدر قواه وطاقاته في مجالات اللغو واللهو والعبث والمحرّمات، فتبقى له هذه الطاقة لوقت الشدّة، فتراه أقدر على حلّ المشكلات الّتي تعترض طريقه في الحياة، وعلى اتخاذ القرارات الصائبة الّتي تمكّنه من الخلاص من كلّ ما يقع فيه من الشدائد والصعاب.
ولعلّ في قصّة يوسف عليه السلام ما يشير إلى ذلك، فإنّه قد اتقى الله، ولم يخضع للإغراء على عِظمه وشدّته فأوصله الله إلى أن يكون "عزيز مصر"، فتقواه بالأمس جعلته أقدر على مقارعة الصعاب، وأبصر في الأمور، حتّى قال لحاكم مصر:
﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(23) .
وهكذا بيّن لإخوته هذه القاعدة فقال:
﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾(24).
وهكذا نجد الإمام الحسين عليه السلام يؤمن بهذه القاعدة، حيث يلتفت إلى أهل بيته يودّعهم ويقول:
"استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم الله عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم".
وهذا ما كرّرته الحوراء زينب عليها السلام بجمل جديدة، وهي تؤكّد تلك القاعدة، فوقفت تخاطب يزيد بن معاوية قائلة:
"فكدْ كيدَك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها...".
خلاصة
1- التقوى تخلِّص الناس من كلّ الآلام والابتلاءات الّتي يعانون منها، إذ إنّها تجعل الناس يلتزمون بالقوانين والمقرّرات الّتي تحفظ للناس سعادتهم وراحتهم، وأمّا إذا غابت التقوى من حياة الناس فلن تُجدي كلّ قوانين العالم ودساتيره لتنظيم الحياة واستقرارها.
2- وكذلك تنفع التقوى في المحافظة على صحّة الجسم وسلامته، فإنّ التقوى إذا سادت في المجتمع توفّرت الطبابة الجيّدة والأدوية الجيّدة، كما أنّ التقيّ المقتنع بحدوده، الراضي بحقوقه، أهدأ أعصاباً، وأسلم قلباً وروحاً من غيره، فيطول عمره.
3- وللتقوى أثران آخران، وهما: تنوير البصيرة وتقوية العقل، وإزالة الشدائد والصعاب من طريق الإنسان.
أمّا الأوّل، فهو بمعنى أنّ التقوى تكبح جماح أهواء وأطماع النفس الّتي هي أعدى أعداء الإنسان، لعداوتها مع العقل الّذي هو خير صديق للإنسان، والتقوى بفعلها هذا تقضي على عدو العقل، الأمر الّذي يجعل يد العقل حرّة طليقة في اختيار الخطّ والنهج الّذي ينبغي للإنسان أن يسير وفقه في هذه الحياة، وبهذا تكون التقوى سبباً في تقوية العقل، أو قل ممارسة العقل لقوّته المودعة فيه، لاختيار المسار الّذي يجب على المرء أن يسير وفقه في هذه الحياة.
وأمّا الثاني، فهو بمعنى أنّ التقوى تجعل الإنسان ملتزماً بالخطّ الّذي أراد الله له أن يسلكه في هذه الدنيا، وهو الخطّ الّذي يكفل للمرء السعادة والهناء في الحياة، وبالتالي لن تعترضه المشاكل والصعاب.
وإن اعترضه بعضها لغفلة أو ما شابه ذلك، فسرعان ما سيرجع التقيّ إلى الصراط المستقيم، فتُحلُّ مشاكله كلّها، مع الإشارة إلى أنّ التقيّ سيكون أقدر من غيره على مواجهة المشاكل وحلّها، لما قد اختزنه في نفسه من الطاقات والقوى، الّتي لم يجعلها تضيع في السعي وراء اللهو والعبث والمحرّمات.
المصادر :
1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 229.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 198.
3- سورة الأنفال، الآية: 29.
4- سورة الطلاق، الآيتان: 2ـ 3.
5- سورة الأنفال، الآية: 29.
6- سورة البقرة، الآية: 282.
7- الريشهري، محمدي، ميزان الحكمة، ج 1، ص 455.
8- الكافي، ج 2، ص 16.
9- المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 161.
10- نهج البلاغة، الخطبة رقم 108.
11- نهج البلاغة، الحكمة رقم 202.
12- نهج البلاغة، الحكمة رقم 209.
13- الليثي، عيون الحكم والمواعظ، ص 61.
14- وسائل الشيعة، باب 8، من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح 4.
15- نهج البلاغة، الحكمة 295.
16- تنبيه الخواطر، ج 1، ص 59.
17- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغةـ ج 11، ص 127.
18- سورة الطلاق، الآية: 2.
19- سورة الطلاق، الآية: 4.
20- نهج البلاغة، الخطبة رقم 198.
21- نهج البلاغة، الخطبة رقم 183.
22- سورة الأعراف، الآية: 201.
23- سورة يوسف، الآية: 55.
24- سورة يوسف، الآية: 90.