وفي سنة ١٥٣٥ ظهرت في أوروبا جمعيات سرية كثيرة غير الجمعيات الماسونية، فزادت الكهنة كرهًا للماسونية واضطهادًا، فكانوا يشكون منها سرًّا وجهرًا لما رأوا من انتشار تعاليم لوثير، بدعوى أن هذا الرجل كان من جماعة البنَّائين؛ لأنهم رأوا عددًا من الماسون بين دعاته، فشدَّد الكهنة النكير على الماسونية، وأشاعوا أنها ساعية في الكنيسة فسادًا وفي الدولة تقويضًا، وأنها إذا لم توقف عند حدها لا تنفك عن الدين حتى تلحقه بالأرض، ولا عن الملوك حتى تسلب ما في أيديهم.
وما زال أولئك الكهنة في مثل ذلك، حتى قرروا وجوب اجتماع زعماء الماسونية اجتماعًا عموميًّا تحت رئاسة هرمن الخامس أسقف كولونيا، يبينون فيه كنه غاياتهم ويطلعوه على تعاليمهم، حتى إذا رأى فيها ما يمنع بثَّها بين ظهرانيهم، يحملهم على نقلها وتعليمها في أماكن أخرى من العالم. فاجتمع ذلك المجمع في ٢٤ يونيو (حزيران) سنة ١٥٣٥، وأقر على لائحة عمومية تُدعَى لائحة كولونيا.
وفي سنة ١٥٣٩ انحلت جمعيات الماسون الأحرار في فرنسا لداعي قلة الأعمال، فحاولوا إعادة تنظيمها على أسلوب علمي لبث العلم والفضيلة. ولما كانت اجتماعاتهم في سبيل ذلك سرية، أوجس الكهنة خيفةً منها، فأغروا فرنسيس الأول ملك فرنسا على إيقافها، فأصدر أمره بإبطال كل جمعيات الصناعة.
وفي سنة ١٥٤٠ قُتِل توماس كرومويل «كونت ديسكس»، وكان أستاذًا أعظم للماسون فانتُخِب اللورد أندلي مكانه.
وفي أثناء ذلك انتشرت تعاليم لوثير حتى اهتزت لها دعائم الكثلكة، فنتج توقيف البنايات الدينية، فانحطت الماسونية في ذلك القرن كثيرًا في سائر الممالك، إلا في إنكلترا.
وفي سنة ١٥٦١ ارتابت اليصابات ملكة إنكلترا في مجتمعات البنائين، فأنفذت في ٢٧ ديسمبر (كانون الأول) فرقة من الجنود لحل عقد الاجتماعات الماسونية في مدينة يورك، فلما بلغوا المدينة واستطلعوا حقيقة الأمر رفعوا إلى الملكة تقريرًا يبرِّئ الماسون مما نُسِب إليهم، وأطنبوا بحسن مقاصد تلكم الاجتماعات، الأمر الذي حمل الملكة على إلغاء تلك الأوامر، وأصبحت بعد ذلك أكبر نصيرة لهم.
وفي سنة ١٥٦٣ اتخذ الماسون محفل ستراسبورج مركزًا لأحكامهم الماسونية بدلًا من كولونيا، فكانت تقدم فيه التقارير العمومية وهو ينظر فيها ويحكم بما يتراءى له، ولا استئناف لحكمه.
وفي غرة القرن السابع عشر أزهرت الماسونية في إنكلترا تحت حماية الملك جاك الأول، فانتظم في سلكها عدد غفير من سراة البلاد ورجال الدولة. ومما زادها رونقًا انتخاب المهندس الشهير إينيغوجونس أستاذًا أعظم لمحافلها، ونشطت فيها على الخصوص التعاليم العلمية والأدبية والروحية، حتى أصبحت كإحدى المجامع العلمية الإيطالية، فزاد عدد الأعضاء غير البنَّائين العمليين إلى حدٍّ لم يَعُدْ ممكنًا معه البقاء على ذلك الاختلاط.
وفي سنة ١٦٣٠ أقر ماسونيو اسكوتلاندا لأعقاب بارون دي روسلين حقَّ الإرث في الرئاسة العظمى الماسونية للمحافل الاسكوتلاندية، بمقتضى لائحة ممضيَّة من نوَّابهم،٤ وهو الحق الذي خوِّل لهذا الرجل العظيم من الملك جاك الأول مكافأةً لخداماته العظيمة.
إلياس أشمول
وفي سنة ١٦٤٦ أصبحت الماسونية في إنكلترا على نوعٍ ما رمزيةً؛ لكثرة مَن انتظم في سلكها من العلماء وذوي المناصب الذين ليسوا من البناية العملية على شيء، فأُهمِلت الاجتماعات العملية، وظهر في تلك الأثناء إلياس أشمول عالِم الآثار القديمة المشهور، وهو الذي أسَّس متحف أوكسفورد. وبعد أن انتظم في سلك الجمعية الماسونية اعتنى بتصحيح قوانين جمعية الصليب الوردي، التي أُسِّست في لندرا، وكانت تجتمع في قاعة البنَّائين الأحرار، وتفصيل ذلك أن هذه الجمعية كانت عاملة في قبول الطالبين على طرق مبنيَّة على أساس تاريخي، وكانت إشارات التعارف فيها تشبه الإشارات الماسونية، فأدخل فيها إلياس أشمول شيئًا من التغيير.
ولما تأتَّى له ذلك لاحَ له أن يُدخِل مثل هذا التحوير في الماسونية، فغيَّر في طقوسها، وجعلها من الجهة الواحدة على مثال ما كان متَّبَعًا في جمعيات الأنجلوسكسونيين والسوريين، ومن الجهة الأخرى على مثال الجمعيات السرية المصرية، وهي الطقوس التي لا تزال متَّبَعة في سائر محافل إنكلترا إلى هذا العهد.
انتصار شارلس الثاني للماسونية
وفي سنة ١٦٥٠ اتخذت الماسونية في إنكلترا منزعًا سياسيًّا، وذلك أن ماسونيي إنكلترا — ولا سيما الاسكوتلانديين متشيعي ستبورت — أخذوا بعد قتل شارلس الأول يسعون سرًّا إلى إعادة السلطة التي كان نزعها كرومويل، وكانوا يجعلون حول مجتمعاتهم ما يجعلهم في مأمن من استطلاع أخبارهم، إلا أنهم نظرًا لعلمهم بضعف الطبيعة البشرية، لم يكونوا يُطلِعون كل ماسوني على مقاصدهم هذه، فجعلوا فوق الدرجات الماسونية التي كانت عندهم درجات أخرى، لم يكونوا يضمُّون إليها إلا الذين يتأكدون إخلاصهم وميلهم لما هم ساعون إليه.
فتمكَّنوا بذلك مع تعداد ذوي السيادة والنفوذ بين أعضائهم من تنصيب الملك شارلس الثاني سنة ١٦٦٠، بعد أن انضم إلى جمعيتهم، وهو الذي دعا الماسونية «الصناعة الملوكية».
وفي سنة ١٦٦٣ التأم ماسونيُّو إنكلترا التئامًا عامًّا في مدينة يورك تحت رئاسة شارلس الثاني، وفي تلك الجلسة أقرَّ الملك شارلس الأخ هنري جرمن «كونت سانت البان» على الرئاسة العظمى، وخلع عليه نيشانًا من الباث،٥ وأقرَّ أيضًا بالمشاركة مع سائر الإخوة على أمور كثيرة تختص بالعشيرة، فوضعوا تنظيمات اقتضتها الحال من الزمان والمكان.
حريق لندرا
وفي سنة ١٦٦٦ حصل في لندرا حريقٌ هائل دمَّرَ نحوًا من أربعين ألف بيت، و٨٦ كنيسة، ففُتِحَ للبنَّائين العمليين بابٌ كبير للاشتغال، إلا أن بنَّائي إنكلترا لم يكونوا بأنفسهم كُفْئًا للعمل، فاضطروا إلى استجلاب البنَّائين من البلاد الأخرى، فجاء عدة من أولئك وافتتحوا محافلهم في إنكلترا، وكانوا جميعًا تحت رعاية المحفل الرئيسي الذي كان تحت رئاسة كريستوف رين مهندس كنيسة القديس بولس الشهيرة، وهو الذي هَنْدَسَ بناء لندرا هذه المرة.
على أن الماسونية العملية كانت في إنكلترا عمومًا في منحدر من السقوط على إثر الحروب الأهلية التي كادت تذهب بتلك البلاد، إلا أن ذلك الحريق الهائل كان داعيًا لتنشيطها ونهوضها.
بَذَا قَضَتِ الْأَيَّامُ بَيْنَ أَهْلِهَا
مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ
وقد ساعدتها أيضًا حماية الملك شارلس الثاني كما تقدَّمَ.
جاك الثاني والماسون
وفي سنة ١٦٨٥ أدخل الملك جاك الثاني إلى الماسونيَّة درجة «شفاليه القديس أندريا»، وكان إذ ذاك أستاذًا أعظم لطريقة هيرودوم كِلوينينغ التي جعلها روبرت بروس — ملك اسكوتلاندا — سنة ١٣١٤ مكافأةً للماسونيين الذين جاهدوا من أجله.
وكان الملك جاك الثاني على دعوة المذهب الكاثوليكي، لكنه أعطى الحرية التامة لسائر الأديان والمذاهب، وصرَّح لكلٍّ من دُعَاتها أن يتبع ما يدعوه إليه ضميره ولا يبالي، فنتج من ذلك التظاهر انشقاق بين الطوائف المسيحية ومن ضمنها الماسونية، فكانت إنكلترا إذ ذاك على حزبين عظيمين.
وكل منهما كان يحاول التداخل في الأعمال السياسية؛ فالحزب الواحد وهم الماسون الاسكوتلانديون تشيَّعوا للملك جاك الثاني، وبعبارة أخرى للجزويت، والحزب الآخَر كان من الماسون الإنكليز ومن غرضهم خلع ذلك الملك، وكان كلٌّ من الطرفين يحاول الفوز لنفسه، وأخيرًا فاز الماسون الإنكليزيون وفرَّ جاك الثاني وكثير من الجزويت والأعيان.
غيليوم الثالث والماسونية
وفي سنة ١٦٩٥ ذبلت الماسونية نوعًا لما طرأ عليها من الحوادث السياسية الداخلية، لكنها في أيام غيليوم الثالث كانت تحت رعايته، فعادت إلى رونقها؛ لأنه انتظم في سلكها وترأَّس عليها مرات كثيرة في محفل همتون كورت.
والماسونية في الجيل السابع عشر لم تَبْنِ بناية تستحق الذكر، وقد رأيت كيف أن موضوعها كاد ينقلب من العملي إلى الرمزي لكثرة مَن انتظم في سلكها من ذوي المناصب العالية، ورجال العلم. على أنها كانت تعمل أفضل الأعمال وأسمى الغايات، أَلَا وهو تهذيب العقول وبث روح الفضيلة.
وإذا تأمَّلْنا قليلًا يتبيَّن لنا أن الفضل في كل ذلك للإخوة الذين اشتهروا بالمزايا الشخصية من العلم والفضيلة والهمة، وبعضهم ترأَّس على أعمال هذه الأخوية في إنكلترا على الخصوص، وسنأتي في آخِر هذا الكتاب على ذِكْر أسماء بعض أولئك الأفاضل، بحسب زمن ظهورهم في العالم الماسوني.
خطوة نحو الماسونية الرمزية
وفي أوائل الجيل الثامن عشر نحو سنة ١٧٠٣، أخذ عدد الماسون بالتناقص رغمًا عن اجتهاد الأستاذ الأعظم كريستوف رين؛ فأهملوا الاحتفالات السنوية، وكان في لندرا أربعة محافل قد قاربت السقوط، فارتأى محفل القديس بوليس — ويُدعَى الآن محفل الآثار القديمة — أن يتخذ أسلوبًا جديدًا يسترجع به ما خسرته الماسونية بسيرها على الأساليب الأخرى، فأصدر منشورًا مآله:
«إن الامتيازات الماسونية لن تكون من الآن وصاعدًا محصورة في البنَّائين العمليين، لكنها ستكون مشتركة بينهم وبين مَن ينتظم في سلك هذه الجمعية من أي مهنة كانت، بشرط أن يكون مصادَقًا على قبوله بطريقة رسمية قانونية.»
وبالحقيقة إن هذا الأسلوب الجديد أكثر أهمية مما كان يظن واضعه؛ لأن الماسونية انتقلت على أجنحته من نحت الحجارة إلى نحت العقول، ومن بناء البيوت إلى بناء الهيئة الاجتماعية.
إلا أنه لم يمكن تنفيذه حالًا؛ لأن الماسونية لم تكن مستعدة لقبوله قبولًا تامًّا، لما كان يحول دون ذلك من الانشقاق بين جماعاتهم وشيخوخة الأستاذ الأعظم، ثم الثورة التي حصلت بسبب جاك ستيورت. وما زال الحال كذلك حتى سنة ١٧١٧، عندما كُتِبت لائحة لندرا .
يوجد في مكتبة أكسفورد في إنكلترا النسخة اللاتينية الأصلية لتلك الحجة.
وصورة الأمر بمنح هذه العائلة هذه الحقوق، هي الآن في مكتبة المحامين في أيدنبرج.
المحافل العظمى إذ ذاك خمسة، وهي محافل كولون وستراسبورج وبرن وفينا وماجدبورج.
يُوجَد نسخة من هذه اللائحة الآن في مكتبة المحامين في أيدنيرج.
رتبة إنكليزية رفيعة.
المصدر : من کتاب / تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان