عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

دولة الموعود

مدخل:
تقدم دولة المهدي الموعود من خلال ما توصلنا به من نبوءات ومظاهر دولته المنتظرة شريطا يكاد يكون متكاملا عن أحوال دولته وسياسته ومشاريعه، تزخر بدلالات التزامية كبرى ، وتتمحور حول حقيقة طالما تشوق إليها البشر وشكلت حلمهم الدفين، بل والمعلن أحيانا. إنها دولة تلخص حلم البشر في القضاء على كل ألوان الظلم والجور وتؤسس لدولة العدالة بمعناها الفريد. ذلك لأن مسيرة البشرية الممتدة عبر آلاف السنين أكدت بأن خياراتها السياسية العادلة لم تعد تقوى على مواجهة أشكال المقاومات السلبية التي تعيق سير البشرية لتحقيق العدالة. حتى أن الأمر أصبح يتجه اليوم إلى نوع من ارتضاء النماذج القاصرة التي لا تبلغ بالاجتماع إلى حاق العدالة ، بقدر ما تسعى إلى الإقناع والاقتناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأن العدالة الاجتماعية والإنسانية غاية لا تدرك ، وبأن المطلوب هو الرضى بالقدر المتيسر والإغضاء عن كل الحلول الحالمة والمشاريع الطوباوية التي يتعذر تحقيقها في دنيا البشر. فالظلم والجور غدا معضلة بنيوية ، ودورته باتت مأزقا نسقيا. وإن أي حل لا يكون ثوريا سوف لن يحل معضلة الإنسان، وليس أي ثورة تقصد هاهنا في المقام ، بل المقصود قيام ثورة كونية. بهذا المعنى تحديدا نفهم لماذا عبر الخبير الأمريكي ذات مرة عن الخيار الليبرالي بأنه نهاية التاريخ وعن الرجل الليبرالي بأنه خاتمة النوع . وبينما ساد الانطباع كذلك بأن دنيا البشر هي ساحة لتزاحم المصالح والصراع بحيث بتنا نسلم منذ ابن خلدون حتى اليوم بأن الأمر حتى لو تعلق بأرقى مستويات الديمقراطية لا يعدو مجرد نمط من التغلب السياسي أكثر نعومة من ذي قبل . وبأن العصبية والتغلب هما أساس التسلط في الدولة الحديثة أيضا. إلا أن البعض لا يكاد يدرك من نموذج دولة الموعود سوى أنها ارتقاء بفكرة المستبد العادل إلى منتهاها.

وعليه تعين وضع ما به امتياز دولة الموعود وتحريرها من سلطة الإسقاطات المنهجية والأيديولوجية التي تتيحها النماذج السياسية الراهنة والتاريخية، باعتبار أن دولة المهدي هي في نهاية الأمر ليست نموذجا تاريخيا مستعادا ، بل هي نموذج مستقبلي لم يطبق ولم يكن في مكنة الشروط التاريخية ما يسند هذا الحلم الذي يعبر عن رشد البشرية وقوة إمكاناتها. إنها بهذا المعنى تلخص كل آمال الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، إنها لحظة التطبيق الأولى لكبرى القيم الإلهية والإنسانية على الأرض، لذلك كانت وعدا ، ليس للمسلمين فقط ، بل هي وعد للبشرية جمعاء منذ آدم حتى يومنا هذا.

ما سنبحثه في هذه الورقة يتعلق بما هو محل تميز دولة الموعود وخصائصها لا سيما إزاء ذلك الشكل الذي توحي به عند النظرة الأولى، نعني المستبد العادل. وأيضا إبراز ملامح الجدة والمستقبلية والتاريخانية في هذا النموذج الرسالي المشرق. وأيضا توضيح جانب الخاتمية كأساس تغدو فيه دولة المهدي ضرورة أكثر من كونها ضرورة سياسية، بل ضرورة حضارية كونية؛ ضرورة يفرضها الاجتماع الإنساني. ليس من حيث أنها خاتمية الرسالة بل من حيث هي تمامها الذي لا يتقوم إلا بوجود إمام مخلص يحقق ما لم ينجز بعد. لذا كانت تمام النعمة.

دولة المهدي باعتبارها نهاية التاريخ والمهدي باعتباره الرجل الأخير

ليس جزافا أن سمى فوكوياما محاولته الكلاسيكية : نهاية التاريخ والرجل الأخير قبل أن يخفف من غلوائها ويتراجع عن مضمونها الجزافي نحو من التراجع. إنها صياغة تحمل شحنة تحيل على أكثر أشكال الإيمان رسوخا في وجدان الإنسان الحديث. لقد قدمت اللبرالية نفسها تعبيرا عن التجسيد المقدس عن حلم البشر بالعدالة والحرية. واستمرت كذلك مع نجيبتها النيوليبرالية بوصفها نهاية تجسد هذا الحلم. هكذا استندت الليبرالية على تقديم نموذجها باعتبارها وعد الله على الأرض ، ومظاهر عدن متحققة بقوة العمران وجاذبية هذا النمط الأبيقوري الذي جعلها تستقوي بمظاهر الاستهلاك والرفاهية والعيش الكرنفالي، مما يحجب كل أشكال العذابات والتدمير الممنهج للإجتماع والبيئة وسلطة التهميش لأغلبية البشر من أن يكونوا شركاء في الحد الأدنى من الثروة والموارد والخيرات. وهي بالتأكيد ضريبة هذه الكرنفالية الدائمة لعدد محصور من النوع يبني رفاهيته فوق عذابات أغلبية المعمورة. العنوان الأخير هو نوع من الشماتة والسخرية المقنعة بهذه الملايين المعذبة والمهمشة في المراكز والأطراف، حيث راهنوا طيلة الحرب الباردة على نموذج أكثر عدالة لينقلهم إلى بعض من تلك الرفاهية التي يحتكرها الأقلون في عالم النيوليبرالية المشحون بكل قيم التغلب والسيطرة والقمع والتحرش بالسياسات الاجتماعية الضامنة لحرية وكرامة هذه الشريحة الأغلبية من المجتمعات. إن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار سور برلين كانا نقطة الانطلاقة لهذا النوع من الطرحات التي تسعى إلى انتزاع الاعتقاد من وجدان البشر بإمكان انبعاث دولة العدالة الاجتماعية من نموذج ما هو بالتأكيد خارج تحكم الفكر السياسي النيوليبرالي. كذلك سعى فوكوياما للقول بأن النموذج اليوم هو هاهنا ، وبأن الغلبة للمعسكر الشرقي هي الحجة البالغة على انتصار الليبرالية . بل هي نفسها ذلك الحلم الذي تنتظرونه. لذا كانت برسم تاريخانيته المغالطة نهاية تاريخ النماذج وكان الرجل الليبرالي والأمريكي هو الرجل الأخير.

لعله من المفارقة أن تسعى اللبرالية عبر الخطاب الفوكويامي إلى فرض نموذجها الحالم بغلب الأيديولوجيا وتداعيات الهيمنة الآحادية عشية نهاية الحرب الباردة. وقد كان هذا منتهى الشطط في إرادة الهيمنة على الوجدان والعقول والضمائر ، مع أن لحظة هذا الاستئثار الأيديولوجي كانت هي أسوء لحظة وآلمها على المجتمع الدولي. هذا دون أن نتحدث عن تداعياتها المدمرة التي اتجهت بالعالم نحو مزيد من التفقير والتدمير حتى لتلك المكتسبات التي حققتها البشرية عبر نضالاتها الحقوقية والتحررية. لم يصاغ هذا النموذج الخلاصي الفوكويامي في وجدان البشرية، بل لقد أريد له أن يصاغ في دوائر الهيمنة والشطط في الاستكبار.

لم يعد اليوم وبعد مرور سنوات على إطلاق هذا الخطاب الحالم ما من شأنه أن يدعم كل المسوغات المحشدة التي ساقها فوكوياما للدفاع عن صواب أطروحته. فلقد لجأ ككل ناسج أيديولوجي على أفكار منتزعة من سياقاتها ومقاصدها لدعم خيار لا يزال وراء كل أشكال التفقير والتدمير الممنهج للاجتماع الانساني. فحتى قبل بزوغ الرأسمالية ، لم يكن الفقر يوما عاملا لتخريب الاجتماع الانساني وقيمه. لقد جاء التخريب مع شكل مزيف من أيديولوجيا الوفرة. تلك التي تعني بالملموس تقسيم العالم إلى فسطاطين: أحدهما ينعم بأقصى فرص الوفرة والآخر و هو القسم الأكبر يتأرجح بين الفقر وما تحت الفقر. لقد أظهرت الأحداث بؤس هذا الوعد الكاذب لايديولوجيا بقدر ما تنحت أيقونتها الايديولوجية بعناية، ترسم كاريكاتورا لنهاية دراماتيكية لكل أشكال الايديولوجيات. حقا إنها أيديولوجيا محتالة: أيديولوجيا نهاية الايديولوجيات!

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مناظرة الشيخ المفيد مع رجل من المعتزلة في علة ...
في رحاب بقية الله: المهدوية عقيدة النجاة
المهدوية في الكتب والشرائع السماوية
الأدیان الثلاثة والبشائر بالمهدی علیه السّلام
قصة بناء مسجد جمكران
علل الغيبة
الانحراف العقائدي عن القضية المهدوية
مشاهدة الإمام الغائب عليه السلام عند شهادة والده ...
نظرة في احاديث المهدي
بعض الاعمال في عصر الانتظار

 
user comment