إن من الأمور التي أصبحت مألوفة لنا : أن نجد كثيرين من الناس حين يواجهون الأزمات ، ويجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع الأحداث الكبيرة ، والخطيرة ـ نجدهم ـ يظهرون اهتماماً متزايداً بقضية الإمام المهدي ( عجل الله فرجه ) وبعلائم الظهور ، ويبحثون عن المزيد مما يمنحهم بصيص أمل ، ويلقي لهم بعض الضوء على ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد.
ومن هنا .. فإننا نجد عدداً من الكتاب والمؤلفين يحاولون الاستجابة لهذه الرغبة الظاهرة ، ويبذلون جهوداً كبيرة لترسيم مستقبل الأحداث وفق ما يتيسر لهم فهمه من النصوص الحاضرة لديهم. تلك النصوص التي جاء أكثرها غامضاً وغائماً ، اختلط غثها بسمينها ، وصحيحها بسقيمها ، وتعرض كثير منها للتحريف ، وزِيدَ فيه أو نُقِّصَ منه ، هذا عدا عن الكثير مما اختلقته يد الأطماع والأهواء ..
وستأتي الإشارة إلى بعض منه في ثنايا هذه البحث إن شاء الله ( تعالى ).
الانحراف الخطير :
وإننا وإن كنا نعتبر لجوء الناس إلى الدين وإلى النصوص الدينية ، وشعورهم بأنه هو الذي يملك الإجابات الصحيحة على كثير من تساؤلاتهم ، ولديه الحلول الجذرية لما يعانون منه ، من مشكلات ، وبلايا. إلا أن تعاملهم في خصوص الاخبارات الغيبية ، وبالأخص مع قضية الإمام المهدي ( عجل الله فرجه ) ، قد جاء لينذر بانحراف خطير في المجال العقائدي ، فضلاً عن المجال العلمي ، وذلك حينما اقتصر على زاوية واحدة منه ، وهي تلك التي تشغل بال الناس ، وتستأثر باهتمامات الكثرة الكاثرة منهم ، ألا وهي علامات ظهوره عجل الله فرجه الشريف وما رافق ذلك من إخبارات غيبية بما سيحدث في آخر الزمان. أو في طول الزمان الممتد من عصرهم صلوات الله وسلامه عليهم إلى حين ظهور الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه ..
وقد استبطن ذلك إهمال سائر مفردات ومجالات التعامل مع هذه القضية حتى أصبحت في عالم النسيان ، لا تكاد تخطر لأحد منهم على بال ، ولا تمّر له في خاطر ، رغم أنها هي الأهم والأكثر مساساً بحياتهم وبوجودهم ، وعلى رأسها التعامل معه كقائد للمسيرة ، ومهيمن على السلوك ، والموقف ، وموجّه لها ..
وهكذا .. لم يعد الإمام المهدي بالنسبة إلى الكثيرين منا هو ذلك الإمام الحاضر والناظر ، الذي يعيش من أجل قضية ، ويعمل ويضحّي ، ويدعونا إلى العمل والجهاد والتضحية من أجلها وفي سبيلها.
كما أننا لم نعد نحمل هُمومه كما يحمل هو هُمومنا ، ولا نشعر معه كما يشعر هو معنا ، ولا نرقب حركتنا معه كما يرقب هو حركتنا ، ولا نتوقع منه ، ولا نريد أن يتوقع منا أي عمل إيجابي تجاه القضية الكبرى التي يعيشها ، ويجاهد ويعاني في سبيلها وفي قضيتنا قضية الإسلام والإنسان ، وهي القضية الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة لنا ، لأنها تمس وجودنا ومستقبلنا ومصيرنا في الصميم.
وطبيعي أن يترك هذا التعامل منا مع موضوع الإمام المهدي ( عجل الله فرجه ) آثاره السلبية ، والخطيرة على مجمل الحياة التي نعيشها لأنه يمثل انفصالاً حقيقياً عن القيادة ، وعن القائد من جهة ، ولأنه يضع المزيد من العقبات والمصاعب في طريق القائد نفسه.
هذا ... بالإضافة إلى أنه يسلب منه عنصر المبادأة والمبادرة في معالجة الأحداث ، ومواجهة التحديات ، من جهة أخرى.
الانحراف يتضاعف :
وحتى فيما يختص بذلك الجانب الخاص ويرتبط بتلك الزاوية المحدودة التي آثرناها على كل ما هو سواها وهي الاخبارات المستقبلية وعلامات الظهور فإن تعاملنا معها قد جاء بصورة خاطئة بدرجة كبيرة ، وذلك حينما نجد أنفسنا في موقع المستسلم الخاضع لأمور يراها حتمية ولا مناص منها ، فهي القضاء المبرم ، والقدر اللازم. الأمر الذي من شأنه أن يرسخ فينا الشعور بالإحباط والانهزام ، والعجز ، ما دمنا نجد أنفسنا في مواجهة أمر خارج عن اختيارنا ، لا نملك دفعه ، ولا التأثير فيه.
ومن جهة ثانية : فإن ذلك يبعث فينا الشعور بالرضى ، وببراءة الذمة حيث لم نعد نتحمل أية مسؤولية ، ولا يطلب منا ، أو فقل ليس من الصحيح أن يطلب منا تسجيل أي موقف تجاه الأحداث ، والمستجدات مهما كانت.
وإذن .. فلا مكان بعد هذا للشعور بالذنب ، ولا بالتقصير ، إذا تركنا الفساد يستشري والظلم يسود ويهيمن. بل يكون التصدي لذلك حتى في أدنى درجاته ، وأسلم عواقبه هو الذنب وهو الجريمة حيث إنه يمثل اعتراضاً على إرادة الله سبحانه ، وهو من ثم إلقاء للنفس في التهلكة ، أو إهدار للطاقات بلا مبرر ظاهر ، ولا سبب وجيه.
وقد نشعر أن من مسؤولياتنا بث هذا النوع من الفهم وتعميمه حرصاً منا على مصلحة المسلمين ، وعملاً بالتكليف الشرعي الموهوم !!.
ولا نجد حرجاً بعد هذا في أن نتتبع الروايات لنستخلص منها بعض ما يفيد في معرفة بعض ما سيحدث عن قريب ، ونوزع الاخبارات الغيبية والتنبؤات هنا وهناك ونبثها بين الناس ، لتثير بعضاً من فضولهم ، وتستأثر بشيء من عجبهم أو إعجابهم ..
الأئمة واقفون على سلبيات الأمر :
وفي اعتقادنا : أن أئمتنا ( صلوات الله عليهم ) كانوا يدركون : أن هذا النوع من الأخبار التي تصدر عنهم ، وإن كانت له إيجابياته الكبرى إلا أن له أيضاً سلبيات من نوع آخر ، لابد من التصدي لها ومعالجتها ، والحد من تأثيراتها قدر الامكان.
وذلك لأن هذا الموضوع جذاب ، يستهوي أصحاب الأهواء والطموحات ، خصوصاً أصحاب الدعوات الباطلة والزائفة منهم ، ممن يريدون تكريس دعواتهم تلك بالأساليب الملتوية وبالادعاءات المثيرة لفضول الناس العاديين ، وتستأثر باهتماماتهم. شريطة أن لا يجرؤ أحد على تكذيبها بصورة صريحة ولا حتى التشكيك فيها ، وذلك بسبب ما تثيره فيهم من شعور مبهم بالخوف والوجل تجاهها. فإن أصحاب الطموحات والدعوات الباطلة يدركون جيداً أن الإنسان العادي لا يملك إلا الاستسلام للغيب ، والانهزام أمام المجهول ، ومحاولة التحرز منه ومن أخطاره المحتملة ..
وهذا بالذات هو ما يضعف مقاومة الناس العاديين أمام تلك الدعوات مهما كانت غائمه ، وغير واضحة المعالم ، أو غير منسجمة مع أحكام العقل ، ومقتضيات الفطرة. كما أن ذلك من شأنه أن يبعدهم ويصرفهم عن التفكير في ماهيتها الحقيقية ، وفي صلاحها وفسادها ..
وبعد ما تقدم .. فإنه يصبح من الطبيعي أن يكثر الاختلاق والوضع في مجال الاخبارات الغيبية المستقبلية ، وفي علامات آخر الزمان ، التي يرصد الناس فيها مستقبلهم ومصيرهم.
ولسوف تصاغ بقوالب خادعة ومطاطة وغامضة ليمكن الاستفادة منها في الموقع المناسب.
ما هو الحل ؟! :
وكل ما تقدم يحتّم ويُلزم بوضع حلّ لهذا المشكل ، تُتَلافى معه تلك السلبيات مع الحرص على أن تؤدي تلك الاخبارات الغيبية الصادرة عن المعصومين : دورها الذي كانت من أجله ..
وقد بادروا: إلى وضع حل يضمن ذلك بصورة تامة ودقيقة وقد جاء منسجماً تماماً مع الهدف الذي ترمي إليه الاخبارات الصادرة عنهم:.
وقبل التعرض لهذا الحل نشير إلى حقيقة هامة ، إذا أدركناها فإنه يسهل علينا معرفة صوابية ذلك الحل الذي قدموه ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ).
الفرق بين ما وقع وبين ما سيقع :
وهذه الحقيقة هي : أن المعصومين ( عليهم الصلاة والسلام ) ما كانوا باخباراتهم تلك يريدون ربط الناس بما سيقع ، من أجل أن يستغرقوا فيه. أو ليكون ذلك عذراً أو مبرراً للوقوف على هامش الساحة في موقع المتفرج.
إن لم يصبح عبئاً يثقل كاهل العمل المخلص والجاد ، ويثقل خطب العاملين كذلك.
هذا كله .. عدا عما يمارسه الكثيرون ممن لديهم هذا الفهم من دور سلبي في مجال التثبيط ، وإيجاد حالة من الفشل والإحباط. وقد يتعدى ذلك إلى إيجاد الانقسامات والاختلافات التي تستهلك الطاقات ، وتستنفد الهمم والعزائم ، ليصبح العدو ـ من ثم ـ أقدر على توجيه الضربات الساحقة ، والماحقة ، لكل جهد مخلص ، أساسي وبنّاء.
نعم .. إنهم : ما كانوا يريدون ربط الناس بما سيقع ، وإنما بما وقع. أي أنهم يريدون للناس أن يستفيدوا مما وقع ومضى لينعش بهم الأمل ، ويشحذ الهمم والعزائم ليمنحهم اليقين ، ويهب لهم حالة السكون والركون إلى الحق ، والارتباط العاطفي والشعوري بقائد المسيرة ورائدها ، بعد الانتهاء من مرحلة الارتكاز العقائدي المستند إلى القناعات الناشئة عن وسائل الإثبات للأصول والمنطلقات الأوليّة في مسائل الإمامة على صعيد مفاهيمها الأساسية من جهة ، وعلى صعيد التجسيد الحي في المثل الحي للإمامة الحاضرة ، من جهة أخرى.
ولا شك في أن وجود هذا الارتباط العاطفي والشعوري ، وذلك السكون والركون يصبح ضرورة ملحة ، حينما يبدو أن الناس قد بدأوا يتعاملون مع قضية الإمام المهدي كمرتكز عقائدي ، لا يملك من الروافد الشعورية والعاطفيّة إلا القليل القليل ، الذي لا أثر له في موقع الحركة ، وتسجيل الموقف.
فالمطلوب إذن ، هو أن يسهم ما وقع في بعث الأمل ورفع درجة الإحساس ، والشعور والارتباط بالقائد وبالقيادة إلى مستوى أعلى وأكثر حيوية وفاعلية فيه الكثير من الجدّية ، والمزيد من العطاء. ويعمق في الإنسان المسلم المزيد من الشعور بالمسؤولية ، والإحساس بالرقابة ، ليعيش في رحاب الإمامة بكل ما فيها من معان ، وكل ما تمثله من عطاء ، في مجال الحركة والعمل والسلوك والموقف ، وفي جميع مفردات حياته التي يعيشها.
وبعد هذا التوضيح الذي ذكرناه نقول :
أن هذا الحل يتلخص في إعطاء ضابطة عامة للأحاديث التي تتحدث عن المستقبل ، وعن علامات الظهور للإمام الحجة ( عجل الله فرجه ) ، تشير إلى أنها جميعاً حتى ما صح سنده منها إنما تتحدث عن أمور ليست بأجمعها حتمية الوقوع ، فمن الجائز أن لا يقع بعض منها ، ولكن هذا البعض لا يمكن لنا تحديده بالدقة.
والسبب في ذلك هو : أن الإمام عليه السلام أو النبي صلی الله عليه وآله وسلم ، إنما يتحدث ويخبر عن تحقق المقتضي لوجود ظاهرة ، أو حدث مّا وفق ما هو مخزون في علم الغيب. بحيث لو سارت الأحداث على طبيعتها لتحقق ذلك المقتضي.
ولكنه عليه السلام لم يخبر عن شرائط تأثير تلك المقتضيات هل سوف توجد أم لا ؟ كما أنه لم يخبر عن الموانع التي قد تعرض للمقتضي ، وتمنعه من التأثير.
وإذن .. فإذا تحقق شيء مما أخبر عنه عليه السلام ، فإن ذلك يكشف عن تحقق شرائطه ، وفقد موانعه ، وتمامية عناصر علته ، وإذا لم يتحقق ، فإن ذلك يكشف عن عروض مانع ، أو فقد شرط تأثير ذلك المقتضي.
فهو عليه السلام إذن إنما يخبر عن أمور قد تختلف في المآل والنتيجة ، ولكنها متحدة ، وذات طبيعة واحدة ، وفي نسق واحد من حيث تحقق مقتضياتها.
وهذا بالذات هو ما تعنيه الروايات التي نصت على حتمية بعض علامات الظهور ، وأوضحت أن سائر ما يُذكَر في الروايات مما عدا ذلك قد لا يقع بعض منه إما لاحتمال أن لا يوجد شرط تأثير مقتضيه ، أو لوجود المانع من التأثير.
وذلك يعني : أن يصبح ضعيف السند ، وصحيحه من تلك الروايات بمنزلةٍ واحدة ، من حيث عدم إمكانية التنبوء بحتمية حصوله في المستقبل ، فإن كل ما أخبرت عنه تلك الروايات يصبح في معرض أن لا يتحقق ولا يكون. وإن كان احتمال الحصول في الروايات الصحيحة أقوى منه في غيرها.
فلا مجال بعد لرسم خريطة للأحداث المستقبلية ، ولا يصح صرف الجهد في التعرف على ما سيحدث ، ومحاولات من هذا القبيل لن يكون لها الأثر المطلوب في ترغيب الناس ، أو ترهيبهم ، ما دام أنه لم يعد ثمة مجال للاستفادة من الأخبار صحيحها وسقيمها إلا بعد وقوع الحدث. فيأتي حينئذ دور المقارنة بين ما هو مذكور في الرواية ، وبين ما وقع فعلاً ويكون الإيمان به ، أو عدمه على هذا الأساس.
العلامات التي هي من المحتوم :
ولأجل تتميم البحث ، فإننا نذكر فيما يلي طائفة من الروايات التي بيّنت العلامات التي هي من المحتوم.
وسوف يلاحظ القارئ : إذا راجع ـ كتب الرجال ـ أن من بين هذه الروايات ما هو معتبر من حيث السند ، مع عدم وجود ما يقتضي التشكيك في متنه.
وقد جاء ما اخترناه على قسمين :
أحدهما :
قد قسّم العلامات إلى قسمين : محتوم وغير محتوم ، مع ذكره لبعض الخصوصيات.
الثاني :
اكتفى بتعداد العلامات التي هي من المحتوم كما سيظهر من الصفحات التالية :
ألف : الطائفة الأولى من الروايات :
ونذكر من القسم الذي فَصلَ بين المحتوم وغيره وذكر بعض الخصوصيات لهما الرويات التالية :
1 ـ أحمد بن محمد بن سعيد ، عن محمد بن سالم بن عبد الرحمن الأزدي ، عن عثمان بن سعيد الطويل ، عن أحمد بن سليم ، عن موسى بن بكر ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إن من الأمور أموراً موقوفة ، وأموراً محتومة ، وأن السفياني من المحتوم الذي لابد منه » (1).
2 ـ أحمد بن محمد بن سعيد ، عن القاسم بن الحسن بن حازم من كتابه عن عيسى بن هشام ، عن محمد بن بشر الأحول ، عن عبد الله بن جبلة ، عن عيسى بن أعين ، عن معلى بن خنيس ، قال :
« سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : من الأمر محتوم ، ومنه ما ليس محتوم ومن المحتوم خروج السفياني في رجب » (2).
3 ـ أحمد بن محمد بن سعيد ، عن علي بن الحسن ، عن محمد بن خالد الأصم ، عن عبد الله بن بكير ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن زرارة ، عن حمران بن أعين ، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام في قوله تعالى : « ( ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) (3) فقال :
« إنهما أجلان : أجل محتوم ، وأجل موقوف.
فقال له حمران : ما المحتوم ؟
قال : الذي لله فيه مشيئة.
قال حمران : إني لأرجو أن يكون أجل السفياني من الموقوف.
فقال أبو جعفر : لا والله ، إنه لمن المحتوم » (4).
4 ـ محمد بن همام ، عن محمد بن أحمد بن عبد الله الخالنجي ، عن داود بن القاسم :
« كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام ، فجرى ذكر السفياني ، وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم ، فقلت لأبي جعفر : هل يبدو لله في المحتوم ؟.
قال : نعم.
قلنا له : فنخاف أن يبدو لله في القائم.
قال : إن القائم من الميعاد ، والله لا يخلف الميعاد » (5).
المجلسي : والبداء في المحتوم :
قال المجلسي ; : يُحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم : البداء في خصوصياته ، لا في أصل وجوده ، كخروج السفياني قبل ذهاب بني العباس ونحو ذلك (6).
ولكننا لا نوافق العلامة المجلسي على جوابه هذا ، فإن سياق الرواية التي تتحدث عن حتمية نفس الحدث ، وعروض البداء فيه نفسه ، يأبى عن صرف البداء إلى الخصوصيات. ولا أقل من أنه خلاف الظاهر ... فلابد من البحث عن إجابة أخرى تكون أوضح ، وأتم.
ونحن نجمل رأينا في هذه الرواية فيما يلي :
رأينا : البداء في المحتوم !! :
إن أساس الإشكال الذي أثار تعجب السائل ، وحاول العلامة المجلسي الإجابة عليه هو :
أن البداء في المحتوم ينافي حتميته ، لأن معنى البداء في شيء هو العدول عنه ، فحتمي الوجود يصبح ـ بواسطة البداء ـ غير حتمي ، وكذلك العكس.
وعلى هذا ... فلا يبقى ثمة فرق بين المحتوم وغيره ، فلا معنى لهذا التقسيم.
ولعل الجواب الأتم والأوفى هو :
أن هناك أمور ثلاثة يمكن استفادتها من الروايات :
الأول :
ما قدمناه ، من أن الإخبار يكون عن تحقّق المقتضيات للأحداث والوقائع من دون تعرض لشرائطها وموانعها. فقد تتحقق تلك ، وتفقد هذه ، فيوجد الحدث وقد لا فلا.
وقد قدمنا الحديث عن هذا القسم ونعزّزه هنا بالمثال التقريبي.
فنقول :
أما بالنسبة للمانع ، فهو نظير بيت بُنِيَ على ساحل البحر ، وكان البناء من القوة بحيث يستطيع البقاء مئة سنة.
ولكن إذا ضربته مياه البحر ، أو تعّرض لعاصفة عاتية ، أو لزلزال ، فلسوف ينتهي عمره في أقل من نصف هذه المدة فيصحّ الإخبار عن المدة الأولى من دون تعرض لذلك المانع المعارض ، أو الذي يعرض له.
وكذلك الحال لو كان للإنسان حقل زرعه قمحاً ، وقد استحصد ، فإنه يصح له أن يقول : إن لدي مقدار ألف كيلو من القمح ، ولكنه لا يدري : أن طفلاً سيلقي فيه عود ثقاب فيحرق ، أو سوف يأتي سيل فيقضي عليه.
وأما بالنسبة إلى الشرط ، فهو نظير شجرة خضراء غرست في الموقع وفي المكان المناسب ، ولكنّ شرْطَ نموّها وحياتها هو إيصال الماء إليها ، فإذا لم يتحقق هذا الشرط ، امتنعت عليها الحياة. فيخبر عن حياة الشجرة ، وعن عمرها ، من دون الأخذ بنظر الاعتبار عدم تحقق ذلك الشرط كما قلنا.
ومن الأمثلة التي وردت في القرآن وفي السنة ، على لسان الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم ، والأئمة الأطهار : نذكر :
1 ـ أن بعض الروايات قد صرحت بأن الرجل ليصل رحمه ، وقد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيصيّرها الله عز وجل ثلاثين سنة ، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثين سنة ، فيصيّرها الله ثلاث سنين. ثم تلا : ( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (7).
2 ـ ما روي من أن إذاعة الناس ، وعدم كتمانهم قد أوجب تأخُّر ظهور ذلك الرجل الذي سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، إلى وقت آخر (8).
3 ـ لقد استشهدت بعض الروايات على حصول البداء في وقت ظهور القائم ( عجل الله فرجه ) بأن موسى قد واعد قومه ثلاثين يوماً ، وكان في علم الله عز وجل زيادة عشرة أيام ، لم يخبر موسى قومه بها فكفروا بعد مرور الثّلاثين ، وعبدوا العجلَ.
4 ـ واستشهدت على ذلك أيضاً بأن يونس قد أوعد قومه بالعذاب ، « وكان في علم الله أن يعفو عنهم ، وكان من أمر الله ما قد علمت » (9).
وقد عبرت الروايات عن هذا القسم تارة ب « الموقوف » وأخرى ب « ما ليس بمحتوم » كما سبق ..
الثاني :
ما يكون الإخبار فيه عن تحقق العلة التامة ، بجميع أجزائها وشرائطها ، وفقد الموانع ، بحيث يصبح وجود المعلول ـ الحدث ـ أمراً حتمياً ، لا يغيّره سوى تدخّل الإرادة الإلهية.
وذلك .. لأن تمامية العلة ، لا يلغي قدرة الله سبحانه ، وحاكميته المطلقة ولا حقه في التدخل ، حينما لا يصطدم ذلك التدخل بأي مانع آخر سوى ذلك ، فهو لا ينافي عدله سبحانه ، ولا حكمته ، ولا رحمته ، ولا غير ذلك من صفاته الربوبية جل وعلا ...
ولا ينافي هذا : أنه قد جرت عادته تعالى ، فيما نشاهده ونعيشه على عدم التدخل للحيلولة بين العلل ومعلوماتها ، وعلى تسيير أمور الكون والحياة وِفْقَ طريقة معينة ، وقانون عام ، ونظام تام.
فمثلاً قد اعتدنا : أن يسير توالد الناس ، والموت ، والحياة ، على وتيرة واحدة ، ويتم بالأسباب المعروفة.
كما أن ثبات الأرض والجبال ، وتماسكها ، وثقلها ، واستقرارها هو السنّة التي ألفناها وعرفناها في جميع مقاطع حياتنا.
ولكن مشيئة الله سبحانه ، قد تلغي ذلك كما في قضية ولادة عيسى ـ بل هي سوف تلغي حتماً ـ هذه الحالة عند انتهاء أمد الدنيا ـ وبذلك تكون نفس مشيئته ، وليس فقد الشرط ، ولا وجود الموانع سبباً في وقف التوالد ، وفي صيرورة الجبال كالعهن المنفوش. كما أنها لسوف تمّر مرّ السحاب ، ولسوف يموت الناس بنفخ الصور. ثم تكون نفخة أخرى ، فإذا هم قيام ينظرون.
نعم ، إن ذلك كله سيكون ، من دون أن يحدث أي خلل أو نقص في العلة التامة.
وقد سمّي هذا القسم ب « المحتوم » وعبّر عن تدخل المشيئة الإلهية فيه ب « البداء » كما تقدم في الرواية.
وقد صرحت الرواية الثالثة المتقدمة بهذا حيث قالت :
« فقال له حمران : ما المحتوم ؟
قال : الذي لله فيه المشيئة ».
أما الرواية الرابعة التي هي موضع البحث فقد أشارت إلى هذا القسم وإلى القسم الثالث الآتي بيانه وهي تفسر المراد من الرواية الثالثة.
الثالث : ما يكون الإخبار فيه عن أمور حتمية الوقوع ، ولا يتدخل الله سبحانه للتغيير فيها ، مع قدرته على ذلك ، إذ إن ذلك يتنافى مع صفاته الربوبية.
فمثلاً : الله قادر على فعل القبيح ، وعلى الظلم ، ولكن يستحيل صدورها منه :
( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) (10) ، لأن ذلك يتنافى مع عدل الله سبحانه ، ومع كونه لا يفعل القبيح.
وكذا الحال بالنسبة إلى كل ما يتنافى مع حكمته ورحمته.
وخلف الوعد أيضاً من هذا القبيل ، فيستحيل منه تعالى ، وقد صرحت الرواية السابقة بأن قيام القائم ( عجل الله فرجه ) من هذا القبيل ، أي من الميعاد ، والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
ومما تقدم نعرف :
1 ـ أن البداء في علامات الظهور إنما هو من القسم الأول.
2 ـ أن البداء في العلامات التي هي من المحتوم ، إنما هو من القسم الثاني.
وأما البداء في قيام القائم ( عجل الله فرجه ) فهو من القسم الثالث.
ب : الطائفة الثانية من الروايات :
من الروايات التي اكتفت بالإشارة إلى حتمية بعض العلامات ، نذكر ما يلي :
1 ـ محمد بن موسى بن المتوكل ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إن أبا جعفر عليه السلام كان يقول :
« إن خروج السفياني من الأمر المحتوم ؟
قال : نعم ، واختلاف ولد العباس من المحتوم ، وقتل النفس الزكية من المحتوم ، وخروج القائم من المحتوم الخ .. » (11).
2 ـ عن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان بن يحيى ، عن عيسى بن أعين ، عن المعلِّى بن خنيس ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
[ إن أمر السفياني من المحتوم ، وخروجه في رجب ].
وذكره النعماني بسند آخر فراجع (12).
3 ـ عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، عن الحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن حنظلة قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :
« قبل قيام القائم خمس علامات محتومات : اليماني ، السفياني ، والصيحة ، وقتل النفس الزكية ، والخسف بالبيداء » (13).
4 ـ أحمد بن إدريس ، عن علي بن محمد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه السلام :
« إن أبا جعفر كان يقول : خروج السفياني من المحتوم ، والنداء من المحتوم ، وطلوع الشمس من المغرب من المحتوم ، وأشياء كان يقولها من المحتوم. فقال أبو عبد الله عليه السلام : واختلاف بني فلان ( في الإرشاد : بني العباس في الدولة ) من المحتوم ، وقتل النفس الزكية من المحتوم ، وخروج القائم من المحتوم الخ .. » (14).
5 ـ عن ابن فضال ، عن حماد بن الحسين بن المختار ، عن أبي نصر ، عن عامر بن واثلة ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم :
« عشر قبل الساعة لابد منها : السفياني ، والدجال ، والدخان ، والدابة ، وخروج القائم ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من مقر عدن تسوق الناس إلى المحشر » (15).
6 ـ عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :
« إن السفياني يملك بعد ظهوره على الكور الخمس. حمل امرأة ، ثم قال : أستغفر الله ، حمل جمل وهو الأمر المحتوم ، وهو من الأمر المحتوم الذي لابد منه » (16).
7 ـ ابن عيسى ، عن ابن أسباط ، قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : جعلت فداك ، إن ثعلبة ابن ميمونة حدثني عن علي بن المغيرة ، عن زيد العمي ، عن علي بن الحسين قال :
« يقوم قائمنا لموافاة الناس سنة.
قال : يقوم القائم بلا سفياني ! إن أمر القائم حتم من الله ، وأمر السفياني حتم من الله ، ولا يكون قائم إلا بسفياني » (17).
8 ـ محمد بن همام ، عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري ، عن الحسن بن علي بن يسار ، عن الخليل بن راشد ، عن البطائني ، قال : رافقت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام من مكة إلى المدينة فقال لي يوماً :
« لو أن أهل السماوات والأرض خرجوا على بني العباس لسقيت الأرض دماءهم ، حتى يخرج السفياني.
قلت له : يا سيدي ، أمره من المحتوم.
قال : من المحتوم الخ .. » (18).
ولكن هذا الحديث محل نظر وتأمل ، فإن ملك بني العباس لم يدم إلى حين خروج السفياني ، كما هو ظاهر.
إلا أن يقال إنهم ستعود دولتهم في آخر الزمان ، ثم يزيلها السفياني آنئذٍ.
9 ـ أحمد بن محمد بن سعيد عن علي بن الحسن ، عن العباس بن عامر ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة بن أعين ، عن عبد الملك بن أعين ، قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام ، فجرى ذكر القائم ، فقلت له :
« أرجو أن يكون عاجلاً ، ولا يكون سفياني.
فقال : لا والله ، إنه من المحتوم ، الذي لابد منه » (19).
10 ـ علي بن أحمد البندنيجي ، عن عبد الله بن موسى العلوي ، عن يعقوب بن يزيد ، عن زياد بن مروان ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال :
« النداء من المحتوم والسفياني من المحتوم ، واليماني من المحتوم ، وقتل النفس الزكية من المحتوم ، وكف يطلع من السماء من المحتوم.
قال : وفزعة في شهر رمضان ، توقظ النائم ، وتفزع اليقظان ، وتخرج الفتاة من خدرها » (20).
11 ـ وقد ذكرت بعض الروايات :
« أنه لابد من صوتين قبل خروج القائم ، صوت من السماء وهو صوت جبرائيل باسم صاحب هذا الأمر ، وصوت آخر من الأرض ، وهو صوت إبليس اللعين الخ .. » (21).
12 ـ أحمد بن محمد بن سعيد بن علي بن الحسين ، عن يعقوب بن يزيد ، عن زياد القندي ، عن غير واحدٍ من أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال :
« قلنا له : السفياني من المحتوم !.
فقال : نعم ، وقتل النفس الزكية من المحتوم ، والقائم من المحتوم ، وخسف البيداء من المحتوم ، وكف تطلع من السماء من المحتوم.
فقلنا له : وأي شيء يكون النداء.
فقال : منادٍ ينادي باسم القائم واسم أبيه » (22).
13 ـ أحمد بن محمد بن سعيد ، بإسناده عن هارون بن مسلم ، عن أبي خالد القماط ، عن حمران بن أعين ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال :
« من المحتوم الذي لابد أن يكون قبل قيام القائم ، خروج السفياني ، وخسف البيداء ، وقتل النفس الزكية ، والمنادي من السماء » (23).
14 ـ محمد بن همام ، عن جعفر بن محمد بن مالك ، عن عباد بن يعقوب ، عن خلاد الصائغ ( الصفار صح ) عن أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال :
« السفياني لابد منه ، ولا يخرج إلا في رجب » (24).
15 ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن أبي جميلة ، عن محمد بن علي الحلبي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :
« اختلاف بني العباس من المحتوم ، وخروج القائم من المحتوم.
قلت : وكيف النداء.
قال : ينادي منادٍ من السماء أول النهار الخ .. » (25).
16 ـ الفضل بن شاذان عمن رواه عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام :
« خروج السفياني من المحتوم.
قال : نعم والنداء من المحتوم ، وطلوع الشمس من مغربها من المحتوم ، واختلاف بني العباس في الدولة من المحتوم ، وقتل النفس الزكية محتوم.
وخروج القائم من آل محمد صلی الله عليه وآله وسلم محتوم.
قلت وكيف يكون النداء الخ .. » (26).
المصادر :
1- الغيبة للنعماني ص 301 وراجع ص 282.
2- الغيبة للنعماني ص 300.
3- الآية 2 من سورة الأنعام.
4- الغيبة للنعماني ص 301.
5- الغيبة للنعماني ص 303 والبحار ج 52 ص 250 / 251.
6- البحار ج 52 ص 251.
7- الرعد : 39 /(1) ميزان الحكمة ج 4 ص 80 .
8- الغيبة للشيخ الطوسي ص 263 و 265 والغيبة للنعماني ص 288 و 292 و 293 والكافي ج 1 ص 300 وبشارة الإسلام ص 283و 285 .
9- الغيبة للنعماني ص 292 و 294 وبشارة الإسلام ص 286 و 284 عنه وعن الكافي.
10- الآية 49 من سورة الكهف.
11- إكمال الدين ـ ج 2 ـ ص 652 والغيبة للشيخ الطوسي ـ ص 282 والبحار ـ ج 52 ـ ص 206 /منتخب الأثر ـ ص 457.
12- إكمال الدين ج 2 ص 652 و 650 والبحار ج 52 ص 204 والغيبة للنعماني ص 300 ومنتخب الأثر ص 457.
13- إكمال الدين ج 2 ص 650 والبحار ج 52 ص 204 وإلزام الناصب ص 181 .
14- الغيبة للشيخ الطوسي ـ ص 266 وراجع : إلزام الناصب ـ ص 184 .
15- الغيبة للشيخ الطوسي ص 267 والبحار ج 52 ص 209.
16- الغيبة للشيخ الطوسي ص 273 والبحار ج 52 ص 215.
17- البحار ج 52 ص 182 .
18- الغيبة للنعماني ص 301 وإلزام الناصب ص 180.
19- الغيبة للنعماني ص 252.
20- الغيبة للنعماني ص 264 ومنتخب الأثر ص 455.
21- الغيبة للنعماني ص 203.
22- البحار ج 52 ص 305 ومنتخب الأثر ص 458 عن الكافي.
23- الإرشاد للمفيد ص 358 وأعلام الورى ص 455 ومنتخب الأثر ص 457.
24- الغيبة للنعماني ص 203.
25- البحار ج 52 ص 305 ومنتخب الأثر ص 458 عن الكافي.
26- الإرشاد للمفيد ص 358 وأعلام الورى ص 455 ومنتخب الأثر ص 457.