في حياة مؤسّس أيّ دين وبسبب التفاف الأتباع حوله وإيمانهم به ، وممارسته دور القائد الذي يرجع إليه في مختلف الشؤون ، فإنّ حصول الانشقاق وتعدّد المذاهب ضمن ذلك الدين يكون مستبعداً ونادر الوقوع ، ولكن إذا فارق القائد المؤسّس الحياة فإنّ المجال يصبح مفتوحاً لتعدّد الآراء واختلاف الإرادات بين أتباعه حيث تتأطّر وتتبلور على شكل مذاهب وطوائف وفِرَق بمرور الزّمن.
ولكن لماذا يحصل الانشقاق بين أتباع الدين الواحد؟ ولماذا تتعدّد المذاهب والطوائف فيه؟ وما هي العوامل والأسباب التي تنبثق منها هذه الظاهرة بشكل عام؟
يمكننا تسليط الضّوء على العوامل والأسباب التالية والتي هي مشتركة غالباً في جميع حالات تعدّد مذاهب الأديان :
أوّلاً : العامل الفكري : فبسبب تفاوت العقول والأفكار واختلاف مستويات الإدراك والمعرفة يحصل تباين في فهم معتقدات الدين وتفسير تعاليمه ، وإذا كان القائد المؤسّس مرجعاً للحسم والفصل يخضع له الجميع في حياته ، فليس هناك ما يدعو هذا الطّرف أو ذاك للتنازل عن فهمه ورأيه بعد وفاة المؤسس ، بل يعتقد كلّ طرف أنّ فهمه ورأيه هو الأصحّ والأصوب ، من هنا تبدأ بذور الانشقاق والتعدّد ، وعلى أساس ذلك الاختلاف الفكري قد يحصل تعارض في المواقف السياسية أيضاً.
وكنموذج لتأثير الاختلاف الفكري في إنشاء المذاهب وتعدّديتها :
الانقسام الذي حصل بين علماء المسلمين أواخر القرن الأوّل الهجري إلى أهل الحديث وأهل الرأي فقد كان الفقهاء في الحجاز يعتمدون النصوص والأحاديث كمصدر أساسي لاستنباط الأحكام الشرعية ولا يعطون اعتباراً كبيراً للقياس والرأي بعكس فقهاء العراق القائلين بالقياس والرأي.
وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنّهم يتركون الأحاديث لأقيستهم ، والدين لا يقاس بالرّأي ، وإنّما سمّوا أهل الرّأي لأنّ عنايتهم بتحصيل وجوه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها ، وربّما يقدّمون القياس الجلي على آحاد الأخبار ، وطريقتهم أنّ للشريعة مصالح مقصودة التحصيل من أجلها شرعت ، فجعلوا هذه المصالح أصلاً من أصول الأدلّة إذا لم يجدوا نصّاً في الكتاب والسنّة الصحيحة عندهم ، وقد كانت قليلة العدد لبعد العراق عن موطن الحديث.
وأمّا أهل الحديث فلم يجعلوا للرأي والقياس في استنباط الأحكام هذا المحل ، واتسعت شقة الخلاف واحتدم النزاع وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين (١).
ولم يقتصر الخلاف بين المنهجين على الجانب الفقهي بالطبع بل انعكست آثاره على المجالات العقيدية ، فكان أهل الحديث يتعبّدون بظواهر الآيات والرّوايات ويبنون عليها عقائدهم دون التعميق في مفاهيمها أو قبول التأويل لمتشابهاتها ، بينما كان أهل الرأي والذين أطلق عليهم المعتزلة فيما بعد يتمسّكون بالعقل أكثر من النقل ويؤولون النّقل إذا وجدوه مخالفاً لفكرتهم وكان التشاجر قائماً على ساقيه بين الفرقتين طوال قرون (2).
ويقسّم السيّد محمّد تقي الحكيم مناشئ الاختلاف الفقهي بين علماء المسلمين إلى قسمين :
١ ـ الخلاف في الأصول والمباني العامة التي يعتمدونها في استنباطهم ، كالخلاف في حجّية أصالة الظهور الكتابي ، أو الإجماع ، أو القياس ، أو الاستصحاب ، أو غيرها من المباني مما يقع موقع الكبرى من قياس الاستنباط.
٢ ـ اختلافهم في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى سواء كان منشأ الخلاف اختلافاً في الضوابط التي تعطى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة أم ادّعاء وجود قرائن خاصّة لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين كأن يستفيد أحدهم من آية الوضوء ، مثلاً ـ بعد اتفاقهم على حجّية الكتاب ـ أنّ التحديد فيها إنّما هو تحديد لطبيعة الغسل وبيان لكيفيته فيفتي تبعاً لذلك بالوضوء المنكوس بينما يستفيد الآخرون أنّه تحديد للمغسول وليس فيه أية دلالة على بيان كيفية الغسل ؛ أي أنّه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة فلابدّ من التماس بيان الكيفية من الرجوع إلى الأدلّة الأُخرى كالوضوءات البيانية وغيرها (3).
ولسنا الآن بصدد استعراض واستقصاء موارد الخلاف العقيدي والفقهي بين المذاهب الإسلامية ولكنّنا أشرنا فقط إلى نموذج لدور العامل الفكري العلمي في حصول المذاهب والفِرَق.
ثانياً : العامل السياسي والمصلحي : فالفراغ القيادي الذي يتركه المؤسّس يخلق حالة من التنافس على السلطة ، وباستمرار فان التطلّع للحكم وجاذبية السلطة ، والرغبة في المصالح كلّ ذلك يشجّع على حدوث الانشقاقات والخلافات ، وقد يستعار لها غطاء عقيدي لتبريرها وكسب المؤيدين وكما أنّ الخلاف الفكري قد ينتج عنه خلاف سياسي ، فإنّ الصراع السياسي والخلافات المصلحية قد تتحوّل إلى قناعات فكرية مذهبية.
وفي تاريخ المسلمين فإنّ العامل السياسي والمصلحي لعب دوراً أساسياً في تمزيق الأُمّة وتعدّد طوائفها ومذاهبها حتّى قيل ما سلّ سيف في الإسلام على شيء مثلما سلّ على الإمامة والخلافة (4).
ففي نفس اليوم الذي التحق فيه الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى وحتّى قبل أن يُوارى جثمانه الثرى تفجّرت مشكلة الخلافة والإمامة بين المسلمين ، ويومها كانت بذور انشطار الأُمّة إلى طائفتين أساسيتين : طائفة السنّة والذين يرون عدم وجود نصّ ديني على تعيين خليفة لرسول الله وأنّ الأمر متروك لاختيار المسلمين ، وطائفة الشيعة الذين يعتقدون بالنصّ على علي بن أبي طالب كخليفة وإمام مفترض الطاعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما وقد رافق بيعة المسلمين الخليفة الأوّل ملابسات وظروف كانت تهدّد وحدة الأُمّة بالخطر لكن حنكة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ومبدأيته ساعدت على إنقاذ الموقف.
وإليك بعض المقتطفات التي يذكرها التاريخ للتدليل على دور العامل السياسي في إيجاد حالة التعدّد المذهبي والطائفي.
جاء في تاريخ ابن الأثير ( الكامل في التاريخ ) تحت عنوان : ( حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه ما يلي :
لما توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عُبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عُبَيدْة ابن الجرّاح ، فقال : ما هذا؟
فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير.
فقال أبو بكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء ، ثمّ قال أبو بكر : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأُمّة.
فقال عمر : أيّكم يطيب نفساً أن يخلُف قَدَمَين قدّمهما النبي صلّى الله عليه وسلّم؟
فبايعه عمر وبايعه الناس.
فقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلّا عليّاً : قال : وتخلّف عليّ وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة.
وقال الزبير : لا أغمد سيفاً حتّى يبايع عليّ.
فقال عمر : خذوا سيفه واضربوا به الحجر ، ثمّ أتاهم عمر فأخذهم للبيعة.
وقيل : لما سمع عليّ ببيعة أبي بكر خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً حتّى بايعه ، ثمّ استدعى إزاره ورداءه فتجلّله.
والصحيح : أنّ أمير المؤمنين ما بايع إلّا بعد ستة أشهر ، والله أعلم.
وقيل : لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلّا دمٌ ، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟
أين المستضعفان؟ أين الأذلّان عليّ والعبّاس؟ ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟ ثمّ قال لعليّ : ابسط يدك أبايعك ، فوالله لئن شئتَ لأملأنّها عليه خيلاً ورجلاً ، فأبى عليّ عليه السلام عليه ، فتمثّل بشعر المتلمّس :
ولن يقيم على خسفٍ يُرادُ / به إلّا الأذلّان عَيْر الحي والوَتَدُ
هذا على الخَسْفِ معكوسٌ برُمّته / وذا يُشّجّ فلا يبكي له أَحَدُ
فزجره عليّ وقال : والله إنّك ما أردتَ بهذا إلّا الفتنة ، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً! لا حاجة لنا في نصيحتك (5).
واستطرد ابن الأثير في ذكر الحوادث والملابسات حول هذا الموضوع بما لا مجال لنقل جميعه هنا.
وجاء تمرّد الخوارج على الإمام عليّ أواخر معركة صفين لتنشأ على أساسه طائفة جديدة في تاريخ المسلمين وهم الخوارج والذين تعدّدت مذاهبهم فيما بعد كما عمّقت أحداث كربلاء الدامية ومقتل السبط الشهيد الحسين بن علي خطّ التشيع والموالاة لأهل البيت عليهم السلام.
هذا عن العامل السياسي أمّا العامل المصلحي المحض فيمكننا الاستشهاد بفرقة الواقفة في أوساط الشيعة.
فالشيعة الإمامية يعتقدون باثني عشر إماماً ، والإمام موسى الكاظم هو السابع منهم وحيث إنّه قضى فترة طويلة من حياته في السجون ، فقد نصب له وكلاء لاستلام الحقوق الشرعية فاجتمعت أموال ضخمة عند بعضهم ، فكان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار ، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار.
وهكذا عند غيرهما (6) ، فلما توفّي الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، صعب على هؤلاء أن يتخلّوا عن تلك المبالغ ويضعونها تحت تصرّف الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، وهو الإمام المُطاع بعد أبيه الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، ولكي يبرّروا احتفاظهم بالأموال وتصرّفهم فيها ابتدعوا فكرة خلود الإمام الكاظم وأنّه القائِم المُنتظَر وأنكروا موته. وتبعهم على ذلك نفر من الناس وأصبحوا فرقة ضمن الشيعة لكنّهم انقرضوا بعد مدّة من الزمن (7).
ثالثاً : العامل الخارجي : يسعى أعداء كلّ دين أو تجمّع لتشجيع حالة الاختلاف والانشقاق في ذلك الدين أو المجتمع لإضعاف وحدته وشلّ فاعليته ، ومن ثمّ فهم يعملون على تسريب وترويج الأفكار التي من شأنها تفريق المجتمع الواحد ، كما يجتهدون في تأليب بعض القوى ضد البعض الآخر. ومن ناحية ثانية فإنّ اتساع رقعة الدين وتفاعل مجتمعات جديدة معه يُسبِّب دخول بعض العادات والأفكار والتقاليد غير المألوفة عند الأتباع السابقين فيحصل تعدّد في الفهم والأساليب.
وفي هذا المجال يرصد الباحثون الدور الذي قام به اليهودي شاؤل اتّجاه المسيحية فقد كان يهودياً متعصّباً ضد المسيحيين حسب اعترافه وكما يقول عنه تلميذه المناصر له لوقا لأنّه كان راضياً بقتل المسيحيين ، وكان يسطو على الكنيسة ويدخل البيوت ، ويجرّ رجالاً ونساء ويسلّمهم إلى السّجن ولم يزل ينفث تهديداً وقتلاً على تلاميذ الرّبّ. هذا العدو الحاقد على المسيحية والمسيحيين تحوّل فيما بعد إلى رسول مجدّد ومؤسّس في الدّيانة المسيحية وأصبح اسمه بولس الرّسول وعلى يده دخلت في المسيحية تغييرات وتحريفات واسعة أثارت الخلاف والتمزّق في أوساط المسيحيين ، فكيف حصل التحوّل والتغيّر في شخصية ( شاؤل بولس )؟
يقول تلميذه ( لوقا ) : وعندما كان بولس قريباً من دمشق ، فبغته برق حوله نور من السّماء فسقط على الأرض ، وسمع صوتاً قائلاً له : شاؤل لماذا تضطهدني؟
فقال : من أنت يا سيّد؟
فقال : الرّبُّ : أنا يسوع الذي تضطهده ، فقال وهو مرتعد ومتحيّر : يا ربّ ماذا تريد أن أفعل؟
فقال له : قم وكرز بالمسيحية.
ويقول لوقا في خاتم هذه القصّة جملة ذات بال غيّرت وجه التاريخ هي : وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح إنّ هذا هو ابن الله ولم تكن هذه الفكرة قد عرفت من قبل فأصبحت نقطة التحوّل في الدّراسات المسيحية وقد حدث هذا التطوّر لشاؤل وهو في الطريق من أورشليم إلى دمشق.
وهكذا أخذ شاؤل ـ بولس الزمام في يده ، فهو لم يرَ المسيح قط ولا سمعه يتكلّم ولكنّه قال بصلة مباشرة بينه وبين المسيح. وبهذه الدّعوى لم يعد لأحدٍ حقّ في أن يناضله فيما ينشره من تعاليم ما دام يقول إنّه تلقّاها مباشرة من السيّد المسيح.
وفي وسط المحنة التي كان يمرُّ بها المسيحيون استخفّ الطرب المسيحيين عندما رأوا بولس أكبر أعدائهم ينضمُّ إليهم ، وقد تشكّك بعضهم في أمره ولكن ( برنابا ) دافع عنه وأحسن تقديمه إلى هؤلاء ، وبعد أن أعلن بولس فكره الذي يتنافى مع المسيحية الحقيقية نفر منه زملاؤه وتلاميذه ولم يبق معه إلّا تلميذه لوقا (8).
وبولس هو الذي ابتدع عقيدة التثليث ، وكوّن عيسى ابن الله أنزله ليضحّي بنفسه تكفيراً عن خطيئة البشر ، وأمثالها من المعتقدات الجديدة (9).
ويرى كثير من الباحثين أنّ عداوة بولس للمسيحية هي التي دفعته ليتظاهر بالدخول فيها ليستمرّ في حربها بسلاح جديد ، سلاح التهديم من الداخل (10).
أمّا في تاريخ الإسلام فيبدوا أنّ خططاً ومؤامرات كثيرة قد وضعت لتصنع بالإسلام ما صنعه بولس ـ شاؤل في المسيحية ، وقد نجد بعضها إلى حدٍّ ما ، في إثارة الخلافات بين المسلمين ، وتشويه بعض معالم الفكر الإسلامي.
فعندما قويت شوكة الرّسالة واشتدّ ساعدها ، وتحطّمتْ أمامها كلّ قوّةٌ تنازعها ، لم يرَ من كانوا يقفون أمامها ويصدّون عن سبيلها ، إلّا أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع. ولمّا كان أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود (11) ، لأنّهم بزعمهم شعب الله المختار ، فلا يعترفون لأحدٍ غيرهم بفضل ، ولا يقرّون لنبيّ بعد موسى برسالة ، فإنّ رهبانهم وأحبارهم لم يجدوا بُدّاً من أن يستعينوا بالمكر ، ويتوسّلوا بالدهاء ، لكي يصلوا إلى ما يبتغون فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهر بعضهم بالإسلام حتّى يخفى كيدهم ، ويجوز على المسلمين مكرهم ، وقد كان أقوى هؤلاء الكهّان دهاءً وأشدّهم مكراً : كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام ، ولما وجدوا أنّ حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى ، وأنّ المسلمين قد سكنوا إليهم ، وذلك بأن يدسّوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخلافات وأوهام وترهات (12).
وكعب الأحبار هو كعب بن ماتع الحميري من كبار أحبار اليهود ، قدم من اليمن ، وأسلم في خلافة عمر بن الخطاب ، وسكن المدينة ، ثمّ تحوّل إلى الشّام في زمن الخليفة عثمان فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه ، ومات بحمص سنة ٣٤ هـ بعدما ملأ الشّام وغيرها من البلاد الإسلامية برواياته وقصصه اليهوديّة (13).
ويؤكّد العلّامة الشيخ جعفر السبحاني أنّ بعض الأفكار التي أصبحت مجالاً للاختلاف العقيدي بني المسلمين هي من صنع وبثّ كعب الأحبار هذا ، فالمطالِع في مروياته يقف على أنّه يركّز على القول بأمرين : التجسيم والرؤية رؤية الله (14).
أما وهب بن منبه فقد ذكر المؤرّخون أنّه فارسي الأصل جاء جده إلى اليمن في جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة وكان يهودياً بعد أن كان مجوسياً ولد سنة ٣٤ هـ وتوفّي بصنعاء سنة ١١٤ هـ ويظهر من تاريخ حياته ومروياته أنّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان (15)
هذه النظرية التي حدث حولها صراع عقيدي شديد بين المسلمين.
وإلى جانب العناصر اليهوديّة المندسّة كانت هناك عناصر مسيحية تظاهرت بالإسلام ولعبت دوراً فكريّاً في أوساط المسلمين ببثّ بعض المفاهيم واختلاق الأحاديث والروايات ، ومن أبرز تلك العناصر المشبوهة : تميم بن أوس الداري وهو من نصارى اليمن أسلم سنة ٩ هـ وسكن المدينة ، والتحق بمعاوية في الشّام بعد مقتل عثمان ومات سنة ٤٠ هـ وهو أوّل من استخدم أسلوب القصص بين المسلمين لعرض أخبار الأُمم السّالفة وروّج عبرها الأساطير والأفكار المسيحية.
ومنهم عبد الملك بن جريح الرومي وكان نصرانياً ولد سنة ٨٠ هـ وتوفّي سنة ١٥٠ هـ وعنه صدرت أحاديث كاذبة موضوعة كثيرة.
كما ويشير الأُستاذ محمّد أبو زهرة إلى أنّ مسألة خلق القرآن أو قدمه هي من المسائل التي أثارها المندسّون في المسلمين ، وكم عانى المسلمون من صراع حول هذه المسألة؟
يقول أبو زهرة : كثر القول حول القرآن الكريم في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، وقد عمل على إثارة هذه المسألة النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي الذي كان يبثّ بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكّك المسلمين في دينهم ، وينشر بين المسلمين الأكاذيب عن نبيهم (16).
ويرى الدكتور مصطفى الرّافعي أنّ مذهب القدريّة كانت بدايته في البصرة وأوّل من دعا إليه رجل يهودي وأخذه عنه غيلان الدمشقي ومعبد الجهمي ، فهذا كان يدعو إلى القدرية في البصرة وقد قتله الحجاج ، وغيلان كان يدعو إليها في الشام وقد قتله هشام بن عبد الملك (17).
تلك كانت النماذج التي تكشف عن وجود عامل خارجي لعب دوراً مؤثّراً في حصول الانقسامات المذهبية في الأُمّة.
العلاقة بين المذاهب
وإذا كانت تعدّدية المذاهب والفِرَق ظاهرة طبيعية في جميع الأديان والمبادئ ، فكيف كان يتمّ التّعامل والعلاقة بين المذاهب المختلفة ضمن الدين الواحد؟
بالطبع إنّ مستوى وعي الإنسان بالقيم ومدى التزامه بالأخلاق الفاضلة هو الذي يحدّد طريقة تعامله مع من يخالفه في الدين أو المذهب. ذلك أنّ الإيمان بقيمة الإنسان كإنسان وحقّه في أن يعيش حرّاً كريماً حسبما يشاء ويختار ، هذا الإيمان يفرض على صاحبه احترام إرادة الآخرين والاعتراف بحرّيتهم في اختيار أديانهم ومذاهبهم ومعتقداتهم. وللتربيّة الأخلاقية دورها الفعّال والحاسم في تنظيم علاقة الإنسان بالآخرين وخاصّة من يختلف معهم.
ومؤلم حقّاً ما يحتفظ به التاريخ من سجلّات داميّة لحالات الصّراع والاضطهاد المتبادل بين أبناء الدين الواحد عند اختلاف مذاهبهم في فترات انحطاط الوعي وتدنّي المستوى الأخلاقي.
وإذا كانت هناك أعذار تلتمس ومبرّرات تفتعل للصراع والعداء بين أتباع الأديان المختلفة المتناقضة فما هي مبرّرات الصّراع بين أبناء الدين الواحد مع انتمائهم لعقيدة واحدة تجمعهم وإيمانهم بزعيم روحي واحد ، ومع وجود القواسم المشتركة ومجالات الاتفاق التي هي أوسع وأكبر من مساحة الاختلاف فيما بين مذاهبهم؟
بالتأكيد لا سبب ولا مبرّر إلّا تفشّي الجهل وتدنّي الأخلاق وتحريك المغرضين المصلحين من الخارج أو الداخل.
ولقد عانت المجتمعات المسيحية في سالف الزّمان الأهوال والويلات من جرّاء الصّراعات والنزاعات الطائفية بين الاتجاهات المسيحية المختلفة ، فالمسيحية التي ظهرت وأصبحت ذات سلطان بتبنّي الإمبراطور قسطنطين لها في مطلع القرن الرابع كانت مسيحية بولس والتي ابتدعت أشياء لا يرضى بها المسيحيون الأصليّون كإلوهية المسيح والتثليث وغيرهما ، فبدأ صراع جديد اعتبر فيه المسيحيون الأصليّون متمرّدين ، وأوقعت بهم المسيحية الإغريقية أو مسيحية بولس ألواناً من العنت والاضطهاد.
أمّا في تاريخنا الإسلامي ورغم إقرار الإسلام لحرّيّة العقيدة والفكر حيث يهتف قرآنه العظيم ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (18)
ورغم تأكيد التعاليم والتوجيهات الإسلامية على حسن الأخلاق والتعامل حتّى مع المخالفين في الدين (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (19)
ورغم كلّ النّداءات القرآنية والمحمّديّة التي تدعوا المسلمين للاتّحاد والتعاون والتآلف ونبذ حالة التنازع والتقاطع ، رغم كلّ ذلك فقد شوّهت تاريخنا الإسلامي صفحات سوداء قاتمة من الخلافات والصّراعات الطائفية بين أتباع المذاهب الإسلامية وذوي الاتجاهات الفكريّة المختلفة في الأُمّة ، ولا تزال تلقي بظلالها السلبية المقيتة على واقع الأُمّة المعاصر.
بيد أنّ من الملاحظ حصول تلك الأوضاع الشّاذة في فترات التخلّف وانحطاط الوعي وسيطرة الجهل وتغلّب القوى الانتهازية والفاسدة على مقدّرات الأُمّة ، وأمّا في أوساط الواعين المخلصين وعندما كانت أمّتنا الإسلامية في أوج عزّتها وتقدّمها الحضاري فقد كانت روح التسامح وحرّيّة الفكر ومنطق الحوار والتعامل الإيجابي هي اللغة السّائدة بين المذاهب والتيّارات المختلفة في الأُمّة.
وسنحاول فيما يلي من البحوث تسليط الأضواء ورصد مسيرة هذه الخطّين المتقابلين في الأُمّة : خطّ التسامح وحرّيّة الرّأي والفكر بين المذاهب والفِرَق والاتّجاهات ، وخطّ العصبيّة الطّائفية والتّصادم والإرهاب الفكري.
المصادر:
1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ١٥١.
2- بحوث في الملل والنحل ٢ : ٧ ( بتصرّف ).
3- الأصول العامة للفقه المقارن : ١٨.
4- الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٤ .
5- الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.
6- الإمامة والتبصرة لابن بابويه القمي : ٧٥.
7- حياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ٢ : ٢٠٤.
8- المسيحيّة للدكتور أحمد شلبي : ٩٨ ـ ١٠٠.
9- المصدر السابق : ١٠٤.
10- المسيحية للدكتور أحمد شلبي : ١١٣.
11- إشارة لقوله تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ) المائدة (٥) : ٨٢.
12- أضواء على السنّة المحمّدية لمحمود أبو رية : ١٤٥.
13- المصدر السابق : ١٤٨ ، / تاريخ ابن معين ١ : ١٨ و ٣٥ ، العلل لابن حنبل ٢ : ٥٢١ ، الجرح والتعديل للرازي ٧ : ١٦١ ، الثقات لابن حبّان ٥ : ٣٣٣ ، مشاهير علماء الأمصار : ١٩٠.
14- بحوث في الملل والنحل ١ : ٨٣ ـ ٨٤.
15- المصدر السابق ١ : ٩٠ ـ ٩١ ، /الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ٥٤٣ ، العلل لابن حنبل ٢ : ٥٢٢ ، التاريخ الصغير للبخاري ١ : ٣٠٩.
16- بحوث في الملل والنحل ٢ : ٢٥٣ نقلاً عن تاريخ المذاهب الإسلامية.
17- إسلامنا في التوفيق بين السنة والشيعة : ٥٩.
18- البقرة : ٢٥٦.
19- لقمان : ١٥.