عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

افول نجم البرامكة

افول نجم البرامكة


أن الخلفاء العباسيين قربوا الموالي وولوهم المناصب الكبرى، فاتخذوا منهم الوزراء والعمال، فاعتز منهم البرامكة وتاقت نفوسهم إلى الاستبداد بالدولة والرجوع إلى ما كانوا فيه على عهد الأكاسرة.
وهم يعلمون أن ذلك لا يتيسر لهم في إسلام إلا بصبغة دينية تحت راية الخلافة الإسلامية ، فلما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين وبويع هؤلاء بالخلافة، ثم جعلها المنصور محصورة فيهم دون العلويين، وقاتل آل الحسن وقتلهم بعد أن قتل أبا مسلم وغيره من شيعته، لم يروا بدًّا من الرضوخ لسلطانه خوفًا من بأسه. وتربصوا يتوقعون فرصة يثبون فيها على الدولة أو ينشؤون لأنفسهم دولة .
وكان الخلفاء يلاحظون ذلك ويحاذرون الوقوع فيه، فيستخدمون الفرس في أكبر مصالح الدولة على حذر. والخلفاء يبثون عليهم العيون في منازلهم، كما فعل المهدي بوزيره يعقوب بن داود، وأصله من موالي العرب، وكان في بادئ أمره كاتبًا عند إبراهيم بن عبد الله العلوي الحسني أخي محمد بن عبد الله الذي قام في المدينة وقتله المنصور.
وكان يعقوب قد خرج مع محمد هذا على المنصور، ثم رجع في جملة الراجعين، وكتم ميله واتصل بالمهدي فاستخدمه وأحبه كثرًا ووثق به، حتى آخاه وأعلن ذلك في الدواوين، فقال سلم الخاسر في ذلك:
قل للإمام الذي جاءت خلافته / تهدي إليه بحق غير مردود
نعم القرين على التقوى أعنت به / أخوك في الله يعقوب بن داود
وأحرز يعقوب المذكور نفوذًا عظيمًا، حتى غلب على أمور المهدي وسهل له الإسراف والاشتغال عن مصالح الدولة، وتفرغ هو للعمل، والعرب لا يعجبهم ذلك، فجعلوا يعرضون به بالأشعار ونحوها، والمهدي يسمع أقوالهم ولا يبالي بها روي أن المهدي حج مرة فمر بمكان عليه كتابة قرأها فإذا هي:
لله درك يا مهدي من رجل / لولا اتخاذك يعقوب بن داود
فقال المهدي لمن معه اكتبوا تحته: «على رغم أنف الكاتب لهذا وتعسًا لجده».
فلما لم يجد أعداؤه حيلة في تغيير قلب المهدي عليه تحولوا إلى الوشاية من جهة لا بد للخليفة أن يتنبه لها، فقالوا له:
«إن يعقوب يميل إلى العلوية، وأنه كان معهم عند قيامهم على أبيه» فاشتغل خاطره، وكان يعقوب يكتم ذلك عنه، فأراد أن يمتحنه.
فدعا به يومًا وهو في مجلس فرشه موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية جميلة، ثم أظهر المهدي أنه مسرور منه فأهداه المجلس بما فيه والجارية أيضًا، ثم تقدم إليه بمهمة طلب قضاءها وهي أن رجلًا من العلوية يريد المهدي أن يتخلص منه، فأوصى يعقوب أن يقتله، فوعده بذلك بعد أن أقسم الإيمان.
وذهب إلى منزله واستقدم ذلك العلوي وكلمه فرآه لبيبا، وتوسل الرجل إليه أن يحقن دمه، فحن له يعقوب وعفا عنه وأوصاه بالفرار وساعده بالمال.
وكانت الجارية في بعض جوانب البيت تسمع ما جرى، فنقلت الحكاية كما جرت.
فبعث المهدي حتى قبض على الرجل وخبأه، وأتى بيعقوب فاعترف له بما فعله فحبسه بالمطبق عدة سنين، ولم يخرج إلا في السنة السادسة من خلافة الرشيد، شفع له يحيي بن خالد البرمكي؛ لأنهما من طينة واحدة ومذهب واحد، وكان يعقوب قد عجز فخيره الرشيد في الإقامة حيث يشاء، فاختار مكة فسيروه إليها وتوفي فيها سنة ١٨٧ﻫ وهي السنة التي نكب فيها البرامكة.

لما توفي المهدي والهادي وأفضت الخلافة إلى الرشيد استوزر البرامكة؛ لأن خالدًا جدهم من قواد أبي مسلم، وقد جاهد في نصرة العباسيين جهادًا حسنًا، فأستوزره أبو العباس واستعمله المنصور في الحروب كما تقدم.
وكان خالد كبير العقل واسع الصدر، لم يبلغ أحد من ولده مبلغه في الجود والرأي والبأس والعلم، واشتهر ابنه يحيى بموفور العقل وسداد الرأي، وكان مقربًا من المهدي يعول على رأيه.
وولد ليحيى سنة ١٤٨ﻫ غلامه الفضل، قبل ولادة الخيزران للرشيد بسبعة أيام، وربى الطفلان معًا فأرضعت الخيزران الفضل من لبن ابنها، فكان الفضل بن يحيي أخا الرشيد من الرضاعة، وفي ذلك يقول سلم الخاسر(1)
أصبح الفضل والخليفة هرو ن رضيعي لبان خير النساء
ولما ترعرع هرون عهد المهدي إلى يحيى بتربيته، فشب الرشيد في حجره وكان يدعوه: «يا أبت»، فلما مات المهدي سنة ١٦٩ﻫ في جرجان كان أكبر رجال الدولة المقربين يومئذ يحيى بن خالد والربيع بن يونس.
وخاف الرشيد اختلال الأمر إذا علم الناس بموت أبيه وهم في تلك الحال، فاستشار يحيى فأشار عليه برأي كان فيه الصواب، حتى رجعوا إلى بغداد وقد هاج الناس، وفيها الخيزران أم الهادي والرشيد، فبعثت إلى الربيع ويحيى لتشاورهما، فأجابها الربيع ولم يجبها يحيى، وأوصاه أن يقوم بأمر الرشيد كما كان في أيام أبيه ووبخ الربيع.
وأول شيء خطر للهادي بعد قبضه على أزمة الخلافة أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد، ويحول الإرث إلى ابنه لتبقى الخلافة في نسله، كما كان يفعل معظم الخلفاء في مثل هذه الحال.
فأعلن الهادي عزمه لبعض خاصته فوافقوه، وخلعوا هرون وبايعوا جعفر بن الهادي، وتنقصوا من الرشيد في مجلس الجماعة. فأمر الهادي ألا يسار بين يديه بالحربة، على جاري العادة في المسير بين يدي ولي العهد، فاجتنبه الناس وتركوا السلام عليه، ورضي هو بذلك.
ولكن يحيى لم يرض، بل حرضه على التمسك بحقه في ذلك، فوشى بعضهم إلى الهادي أن يحيى يفسد الرشيد عليه، فبعث الهادي إلى يحيى فقال له:
«يا يحيى، ما لي ولك؟».
قال: «ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته».
فقال: «لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده عليّ؟»
فقال: «من أنا حتى أدخل بينكما؟ إنما صيرني المهدي معه، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره فانتهيت إلى أمرك».
فطابت نفس الهادي بهذا القول. فاغتنم يحيى رضاءه وقال: «يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الإيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة»، قال: «صدقت» وصرفه.
فلما لقي الهادي القواد الذين خلعوا الرشيد حملوه على معاودة الخلع، فبعث إلى يحيى فحبسه، فكتب إليه يحيى وهو في الحبس: «إن عندي نصيحة»، فأحضره وسأله عما عنده فقال يحيى: «يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر الذي لا نبلغه ونسأل الله أن يعدمنا قبله؟ (يعني موت الهادي) أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الرشد، أو يرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟».
وقال: «ما أظن ذلك». قال: «يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أكابر أهلك مثل فلان، ويطمع فيها غيرهم فتخرج من ولد أبيك؟ والله إن هذا الأمر لو لم يعقده المهدي لأخيك لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي؟ ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك، فإذا بلغ (جعفر) أشده أتيت بالرشيد فخلع نفسه له وبايعه». فقبل الهادي قوله وعمل به.(2)
وتوفي الهادي ولم يملك إلا سنة، وأفضت الخلافة إلى الرشيد، ويحيى أول من بشره بها وأتاه بالخاتم وهو نائم، فعرف الرشيد فضله في ذلك وقال له: «يا أبت أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك الأمر».
ودفع إليه خاتمه وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه. وكان يعظمه، فإذا ذكره قال: «أبي» وفي هذه الوزارة يقول الشاعر:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة / فلما ولي هرون أشرق نورها؟
بيمن أمين الله هرون ذي الندى / فهرون واليها ويحيى وزيرها
وخلف يحيى أولادًا أحسنهم الفضل في جوده ونزاهته، وجعفر في كتابته وفصاحة لسانه، ومحمد في بعد همته، وموسى في شجاعته وبأسه. وقد تولوا أرفع المناصب وتصرفوا في الدولة، وخصوصًا جعفر والفضل، فضلًا عما اشتهروا به من الجود والسخاء، وكان أبوهم يحيى جوادًا مثلهم، فاشتق الناس من اسمهم فعلًا للسخاء فقالوا: «تبرمك الرجل» أي: جاد وسخا.
وأراد الرشيد إكرام يحيى، فولى ابنيه الفضل وجعفر أعظم الأعمال، فقسم المملكة بينهما، فجعل جعفر عاملًا على الغرب كله من الأنبار إلى إفريقية، وقلد الفضل الشرق كله من شيروان إلى أقصى بلاد الترك. فشخص الفضل إلى خراسان سنة ١٧٦ﻫ فجعلها مركز عمله، وأزال سيرة الجور منها وبنى المساجد والحياض والربط وأحرق دفاتر البقايا، وزاد الجند ووصل الزوار والقواد والكتاب، لكنه لم يقم فيها إلا قليلًا، فاستخلف على عمله وشخص إلى العراق سنة ١٧٩ﻫ، فأكرمه الرشيد ثم ولاه الوزارة، ورأى بعد قليل أن ينقلها إلى جعفر فخاطب أباهما قائلًا:
«قد أحببت أن أنقل ديوان الخاتم من الفضل إلى جعفر، وقد استحييت من مكاتبته في هذا المعنى فاكتب أنت إليه». فكتب يحيى إلى الفضل: «قد أمر أمير المؤمنين — أعلى الله أمره — أن تحول الخاتم من يمينك إلى شمالك»،
فأجابه الفضل: «قد سمعت ما أمر به أمير المؤمنين في أخي، وما انتقلت عني نعمة صارت إليه، ولا غربت عني رتبة طلعت عليه».(3)
وتمكن جعفر عند الرشيد وغلب على أمره، وبلغ من علو المرتبة عنده ما لم يبلغه سواه، حتى اتخذ الرشيد ثوبًا له زيقان، فكان يلبسه هو وجعفر جملة.
وتصرف جعفر في المملكة تصرفًا مطلقًا، لم يكن يمضي أمرًا إلا أمضاه الرشيد، ولو كان فيه هبة نصف مملكته أو تزويج بعض بناته. وفي حكايته مع عبد الملك بن صالح الهاشمي ما يمثل ذلك الإطلاق أحسن تمثيل: كان الرشيد متغيرًا على عبد الملك؛ لأنه من بني عمه وله طمع في الخلافة، فاتفق أن عبد الملك المذكور كان مرة في مجلس شراب بمنزل جعفر، فلما أراد الانصراف قال له جعفر: «اذكر حوائجك» فشكا إليه أن الرشيد متغير عليه
فقال له: «قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك»
فقال: «وعلي ٤٠٠٠٠٠٠ درهم دينا»
قال: «تقضى عنك وإنها لحاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك وأدل على حسن ما عنده لك».
قال: «وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة».
قال: «قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته».
قال: «وأوثر التنبيه على موضع برفع لواء على رأسه».
قال: «قد ولاه أمير المؤمنين مصر».
وخرج عبد الملك والحضور يعجبون من إقدام جعفر على ذلك من عند نفسه، وخافوا أن يغضب الرشيد من هذه الجسارة، فما عتم أن علموا بإمضاء الرشيد كل ذلك وهو يقول: «أحسن أحسن».(4)
ناهيك بما كان من إطلاق يده في خزائن الدولة وفي رقاب الناس. ومع ذلك فإن الرشيد حالما أوجس منه على سلطانه نكبه ونكب سائر أهله نكبتهم المشهورة، واختلف المؤرخون في سببها .

المصادر :
1- ابن الأثير ٢٧٧ ج٥.
2- ابن الأثير ٢٩ ج٦.
3- الفخري ١٨٦.
4- ابن خلكان ١٦ ج١.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

إحتجاج عقائدي
ذكرى استشهاد السيدة أم البنين (عليها السلام)
مناقب أهل البيت كما يرويها العارفون‏
عبد الله بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ( عليهم ...
قصة استشهاد الامام جعفر بن محمد الصادق عليه ...
كلمات الأئمة (ع) في علي الاكبر
جريمة اغتيال امير المؤمنين (ع) بداية للانعكاسات ...
دخول جيش السفياني الى العراق
شبهات وردود
باقة من رسائل تهنئة عيدالغدير

 
user comment