توجد طائفة من الآيات تبين أن الروح تظهر من نشأة الطبيعة والبدن وتنهض أي أن هذا الموجود المادي الذي عبر مراحل وأطواراً يصل إلى مرحلة الروح ، وهذه الطائفة من الآيات تؤيد كون الروح جمسانية الحدوث وروحانية البقاء . في سورة المؤمنون يقول تعالى :
( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم * أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (1) .
أي ان الله تعالى بدل ذلك الموجود إلى شيء آخر ، فقوله ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) أي ليس من سنخ السابقين ، ليس من سنخ التحولات المادية وتطورات المادة وإلا لما قال : ( خلقاً آخر ) لو كان أمراً مادياً ولو كان قابلاً للشرح والتبيين ، ولو كان في متناول العلوم التجريبية لما قال ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) أي أوجدنا شيئاً آخر ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) (2) .
في التفسير الترتيبي أشير ضمن البحث إلى ان الآية المباركة ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) هي من الآيات القرآنية المليئة بالمضمون ؛ لأن الإنسان هو ( أحسن المخلوقين ) ، فالله تعالى هو ( أحسن الخالقين ) . بعد خلق هذه المجموعة قال الله سبحانه : إنه أحسن الخالقين . عندما نحلل نرى أن الإنسان له بدن مرّ بمراحل تطور مرت بها حيوانات أخرى ، إي إذا كان الكلام هو عن النطفة والعلقة والمضغة والعظام و ( فكسونا العظام لحماً ) وتكون الجنين ، فهذه المراحل موجودة لدى الحيوانات الأخرى أيضاً ، في حين أن الله تعالى لم يقل بشأنها ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) .
وإذا فالكلام هو عن الروح ، فالملائكة لديهم الروح في كمال العصمة والطهارة ، ولكن لم يقل بعد خلق الملائكة ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ، إذن كون الله تعالى أحسن الخالقين الذي يستلزم كون عمل الله لأحسن المخلوقين لا يتعلق ببدن الإنسان ولا يتعلق بروحه ، لأن هذه التطورات البدنية في الإنسان لدى الحيوانات الأخرى أيضاً ، والروح المجردة في الإنسان تتمتع الملائكة بها أيضاً . ما هو مهم هو أن يهبط ذلك الموجود المجرد بدون تجافي وينسجم معه هذا الموجود المادي ويصبح الاثنان معجوناً واحداً باسم ( الإنسان ) .
وهذا الإنسان بتمتعه بالعقل والعلم وتعرضه لهذه العقبات وقطاع الطريق الكثيرين التي تنشأ من نشأة ( التراب ) و ( الطين ) و ( حمأ مسنون ) و ( طين لازب ) و ( صلصال كالفخار ) يعبر هذه العقبات الصعاب ويصبح معلم الملائكة ، هذا الإنسان هو أحسن المخلوقين ويعمل عملاً لا يستطيعه أي مخلوق ، لذا يقول الله تعالى بعد خلق مثل هذا المخلوق : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) .
طبعاً الناس الذين لديهم إخلاد إلى الأرض مع امتلاك هذه الثروات الثمينة ، أولئك ( كالأنعام بل هم أضل ) (3) .
والله تعالى لم يمدح نفسه بوصفه ( أحسن الخالقين ) من أجل خلق أولئك ، كما ان الذين لهم قلوب ( كالحجارة أو أشد قسوة ) (4) ، لم يقل بشأن خلقهم ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) بل أولئك الذي هم مصداق ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) (5) يتمتعون بهذه المزايا .
ان الآية المباركة من سورة المؤمنون تبين ان الروح نهضت من نشأة الطبيعة ، لأن الله تعالى قال إنه أخرج هذا الإنسان وهذا الجنين إلى خلق آخر ، وأعطاه صورة أخرى ، وطبعاً كل تطور يتطلب محركاً ، وكل حركة لها محرك ، وليس ممكناً أن يكمل الشيء الناقص بشكل تلقائي ، نفس الحركة هي كمال أول والهدف كمال ثانٍ ، فلو أراد موجود ناقص أن يتحرك فانه يتطلب محركاً ، وإذا أراد ان ينال هدفاً يتطلب مبدأ غائياً خاصاً يعطيه هذا الكمال .
حدوث الروح بعد خلق الجسم :
في سورة آل عمران المباركة ورد شبيه لهذا التعبير ، أي أن التعبير الموجود في سورة المؤمنون يتعلق حسب الظاهر بنسل آدم ، ولكن في سورة آل عمران ورد شبيه هذا التعبير في مسألة آدم نفسه ، أي ان آدم وابناءه متساوون في هذه الناحية ، حيث تتكامل في البداية مراحل بناء أبدانهم ، ثم تتبدل تلك المرحلة إلى مرحلة الروحانية . قال تعالى :
( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كم فيكون ) (6) .
الافراطيون والتفريطيون لديهم رأيان متضادان بشأن المسيح عليه السلام ، وهذه الآية يمكن ان تكون جواباً عليهما رغم ان شأن نزولها هو الرد على الإفراطيين ، الذي قالوا بالألوهية أو التثليث أو أنه ابن الله ، وقد أجاب الله بالجدال الأحسن حيث ذكر تعالى ان العمل الذي قام به بشأن آدم لم يقم به في شأن عيسى لأن عيسى كانت له أم ، ولكن آدم عليه السلام لم تكن له أم ولا أب . فلماذا لم يقولوا كلاماً فارغاً بشأن آدم عليه السلام ، ولم يقولوا انه ابن الله ، وقالوه بشأن المسيح ؟
( ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) .
أي أن خلق آدم كان في مرحلتين ، مرحلة تعود إلى التراب ، ومرحلة إلى ( كن فيكون ) ، المرحلة التي تعود إلى التراب يمكن ان تكون ذات زمان ـ طويل المدة أو قصير المدة ـ أما بعد التحول والتطور إلى مقام الروحانية التي هي مرحلة التجرد ، عند ذلك ليس للزمان دور في ذلك فليست ذات زمان ، وتسمى هذه المرحلة بـ ( كن فيكون ) . قال تعالى : إنه خلق آدم من تراب ، أي أن بناء بدنه شرع من التراب ، ثم قال لأدم ( كن فيكون ) أي ان التعبير ( كن فيكون ) هو حين إفاضة الروح ، هذا التعبير يفسره ما ورد في نهج البلاغة من ان كلام الله ليس حروفاً :
( يقول لمن أراد كونه ، كن ، فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله ) (7) كلام الله فعل ، لذا جميع العالم الذي هو عمل الله ، هو كلمات إلهية ، عندما يريد الله تعالى أن يأمر السحاب بالمطر يمطرها ، لا ان يقول : أمطري ، كلمة ( كن فيكون ) ، هي عبارة عن ( الايجاد والوجود ) .
على أساس هذا الكلام ، فان الروح رغم انها حسب ظاهر الآيات من القسم الثاني ، وأن لها سابقة مادية ، ولكن في الدهليز الانتقالي من نشأة المادة إلى التجرد تبعد عنها العلامات المادية ، وعندما لا تكون معها علامات مادية ، عند ذلك لا مجال للكلام عن الذكورة والأنوثة ، يمكن ان يكون البدن مذكراً أو مؤنثاً ، من أجل الوصول إلى نصابه ، ولكن عندما يصل في ظل الحركة الجوهرية إلى مقام الدخول إلى مرحلة الوجود الرفيعة ـ طبعاً بنحو التجلي وليس بنحو التجافي ـ عند ذلك ليس الكلام عن الذكورة والأنوثة ، رغم ان إدراك انخفاض الروح إلى عالم الطبيعة والانسجام مع الموجود الطبيعي من جهة وارتقاء هذه المجموعة إلى مقام ( النفس ) ليس أمراً سهلاً .
الحركة الجوهرية وعلاقة الروح بالبدن :
إن مسألة الوجود وارتباط هذه الدرجات والحركة الجوهرية وان جوهر الذات يتحرك في مسير هذه الوجودات . يمكن أن يبيّن إلى حد ما مسألة جسمانية حدوث الروح وروحانية بقائها ، حيث ورد في قسم من روايات المعاد أنه بنزول المطر يذهب البدن إلى الروح ، وقد كان لدى بعض علماء الحكمة قاعدة خاصة في طرح مسألة المعاد الجسماني استناداً لذلك الحديث .
على أي حال بالنظر لأن للوجود درجات ، وهذه الدرجات تكون بلا طفرة وبعض الدرجات مادية ، وبعضها برزخية ، وبعضها مجردة تامة ، والحركة هي في متن هذا الوجود ، أي في متن الوجود وليس الماهية ، على هذا فالشيء الذي يريد الوصلول من مرحلة المادة إلى مرحلة الروحانية والتجرد ، يجب أن يسير في مسير الوجود بالتدقيق في هذا المعنى قد يمكن تعقل مسألة ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) بمقدار أسهل .
في هذه الآية لم يقل تعالى إنه أعطاه شيئاً آخر ، قال : إنه أبدله إلى شيء آخر . هذا التعبير في شأن آدم وكذلك في شأن نسل آدم في هذا التبديل الجديد ، ليس الكلام على الذكورة والانوثة ، لأنه إذا كان هذا الانتقال بنحو التجافي أو شبيهاً بالتبدلات الفسادية والمادية ، لكان يمكن القول : بالنظر لأن هذا البدن خلق هكذا ثم أصبح بصورة مجردة ، فان روح المرأة والرجل تختلف قطعاً ، ولكن ليس الأمر هكذا ، الكلام ليس عن حركة مادية وزمانية ، كما أن الكلام ليس عن حركة كمية وكيفية ، وأن بدن ( المرأة ) يتحرك ويصل إلى مقام الروح . وبدن ( الرجل ) يتحرك ويصل إلى مقام الروح .
( الذكورة والأنوثة ) في حركة ، بل إن جوهر وجود هذا الشيء الذي لديه طريق فيث متن هذه الحركة ، وجوهر الوجود ليس مذكراً ولا مؤنثاً ، متحرك وجود هذا الشيء ليس مادته ولا صورته ولا أوصافه ولا مسائله الماهوية وأوصافه وعوارضه ، وجوهر الشيء لا مذكر ولا مؤنث بناء على هذا لا يكون هناك فرق بين المرأة والرجل في مرحلة ( ثم انشأناه خلقاً آخر ) .
الروح ، كل حقيقة الإنسان :
إذا كانت مسألة الذكورة والأنوثة ذكرت جزء من الصنف في الكتب العقلية ـ وليس فصلاً ـ وربطوها بحريم المادة ـ لا بحدود الصورة ـ يمكن أيضاً ذكر شواهد قرآنية لذلك ، حيث ان الروح اعتبرت مجردة في القرآن الكريم ، وان الله تعالى يتوفى كل الروح عندما يموت الإنسان (8)
وإذا فقد الإنسان البدن فإن كل حقيقته تبقى محفوظة ، ونتيجة هذا الكلام هي أن البدن ليس عين الذات ولا جزء من الذات ولا من لوازم الذات ، بل هو أداة الذات ، ورغم ان الإنسان لديه بدن سواء في الدنيا أو في البرزخ أو في القيامة ، ولكن البدن في كل هذه المراحل الثلاث هو أداة عمل . دليل هذا الكلام هو تحليل آيات الشهادة ، قال تعالى في آيات الشهادة :
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ) (9) .
هذا الحي هو الشهيد الذي وقع بدنه في ميدان القتال ، وقوله تعالى بانه حي هل يعني أنه حي مع البدن ؟ هل البدن هو كل الحقيقة أم جزء من الحقيقة أو من لوازم الحقيقة ؟ إنه حي بدون البدن والبدن لم يكن أكثر من أداة عملية ، فإذا لم يصبح مفيداً ، يختار بدناً آخر ، وعلى أي حال هو حي . وقال تعالى في آية أخرى :
( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ) (10) .
لأنهم أحياء بدون بدن ، وفي الجواب على أولئك الذين قالوا :
( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ) (11) .
قال تعالى : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ) (12) .
إن روح الإنسان تشكل كل حقيقته بدلالة آيات الشهادة وأمثالها ـ ولهذا السبب يقول إن الشهيد كالحي . أو بدلالة أمثال هذه الآية الشريفة :
( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) (13) .
وهنا الإنسان حيّ مع أنه فقد بدنه الطبيعي .
المصادر :
1- سورة المؤمنون ، الآيات : 12 ـ 14 .
2- سورة المؤمنون ، الآية : 14 .
3- سورة الأعراف ، الآية : 179 .
4- سورة البقرة ، الآية : 74 .
5- سورة ق ، الآية : 37 .
6- سورة آل عمران ، الآية : 59 .
7- نهج البلاغة ، الخطبة 186 .
8- ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) سورة الزمر ، الآية : 42 .
9- سورة آل عمران ، الآية : 169 .
10- سورة البقرة ، الآية : 154 .
11- سورة السجدة ، الآية : 10 .
12- سورة السجدة ، الآية : 11 .
13- سورة المؤمنون ، الآية : 100 .