عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

الروح والجسد

الروح والجسد

توجد طائفة من الآيات تبين أن الروح تظهر من نشأة الطبيعة والبدن وتنهض أي أن هذا الموجود المادي الذي عبر مراحل وأطواراً يصل إلى مرحلة الروح ، وهذه الطائفة من الآيات تؤيد كون الروح جمسانية الحدوث وروحانية البقاء . في سورة المؤمنون يقول تعالى :
( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم * أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (1) .
أي ان الله تعالى بدل ذلك الموجود إلى شيء آخر ، فقوله ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) أي ليس من سنخ السابقين ، ليس من سنخ التحولات المادية وتطورات المادة وإلا لما قال : ( خلقاً آخر ) لو كان أمراً مادياً ولو كان قابلاً للشرح والتبيين ، ولو كان في متناول العلوم التجريبية لما قال ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) أي أوجدنا شيئاً آخر ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) (2) .
في التفسير الترتيبي أشير ضمن البحث إلى ان الآية المباركة ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) هي من الآيات القرآنية المليئة بالمضمون ؛ لأن الإنسان هو ( أحسن المخلوقين ) ، فالله تعالى هو ( أحسن الخالقين ) . بعد خلق هذه المجموعة قال الله سبحانه : إنه أحسن الخالقين . عندما نحلل نرى أن الإنسان له بدن مرّ بمراحل تطور مرت بها حيوانات أخرى ، إي إذا كان الكلام هو عن النطفة والعلقة والمضغة والعظام و ( فكسونا العظام لحماً ) وتكون الجنين ، فهذه المراحل موجودة لدى الحيوانات الأخرى أيضاً ، في حين أن الله تعالى لم يقل بشأنها ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) .
وإذا فالكلام هو عن الروح ، فالملائكة لديهم الروح في كمال العصمة والطهارة ، ولكن لم يقل بعد خلق الملائكة ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ، إذن كون الله تعالى أحسن الخالقين الذي يستلزم كون عمل الله لأحسن المخلوقين لا يتعلق ببدن الإنسان ولا يتعلق بروحه ، لأن هذه التطورات البدنية في الإنسان لدى الحيوانات الأخرى أيضاً ، والروح المجردة في الإنسان تتمتع الملائكة بها أيضاً . ما هو مهم هو أن يهبط ذلك الموجود المجرد بدون تجافي وينسجم معه هذا الموجود المادي ويصبح الاثنان معجوناً واحداً باسم ( الإنسان ) .
وهذا الإنسان بتمتعه بالعقل والعلم وتعرضه لهذه العقبات وقطاع الطريق الكثيرين التي تنشأ من نشأة ( التراب ) و ( الطين ) و ( حمأ مسنون ) و ( طين لازب ) و ( صلصال كالفخار ) يعبر هذه العقبات الصعاب ويصبح معلم الملائكة ، هذا الإنسان هو أحسن المخلوقين ويعمل عملاً لا يستطيعه أي مخلوق ، لذا يقول الله تعالى بعد خلق مثل هذا المخلوق : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) .
طبعاً الناس الذين لديهم إخلاد إلى الأرض مع امتلاك هذه الثروات الثمينة ، أولئك ( كالأنعام بل هم أضل ) (3) .
والله تعالى لم يمدح نفسه بوصفه ( أحسن الخالقين ) من أجل خلق أولئك ، كما ان الذين لهم قلوب ( كالحجارة أو أشد قسوة ) (4) ، لم يقل بشأن خلقهم ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) بل أولئك الذي هم مصداق ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) (5) يتمتعون بهذه المزايا .
ان الآية المباركة من سورة المؤمنون تبين ان الروح نهضت من نشأة الطبيعة ، لأن الله تعالى قال إنه أخرج هذا الإنسان وهذا الجنين إلى خلق آخر ، وأعطاه صورة أخرى ، وطبعاً كل تطور يتطلب محركاً ، وكل حركة لها محرك ، وليس ممكناً أن يكمل الشيء الناقص بشكل تلقائي ، نفس الحركة هي كمال أول والهدف كمال ثانٍ ، فلو أراد موجود ناقص أن يتحرك فانه يتطلب محركاً ، وإذا أراد ان ينال هدفاً يتطلب مبدأ غائياً خاصاً يعطيه هذا الكمال .
حدوث الروح بعد خلق الجسم :
في سورة آل عمران المباركة ورد شبيه لهذا التعبير ، أي أن التعبير الموجود في سورة المؤمنون يتعلق حسب الظاهر بنسل آدم ، ولكن في سورة آل عمران ورد شبيه هذا التعبير في مسألة آدم نفسه ، أي ان آدم وابناءه متساوون في هذه الناحية ، حيث تتكامل في البداية مراحل بناء أبدانهم ، ثم تتبدل تلك المرحلة إلى مرحلة الروحانية . قال تعالى :
( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كم فيكون ) (6) .
الافراطيون والتفريطيون لديهم رأيان متضادان بشأن المسيح عليه السلام ، وهذه الآية يمكن ان تكون جواباً عليهما رغم ان شأن نزولها هو الرد على الإفراطيين ، الذي قالوا بالألوهية أو التثليث أو أنه ابن الله ، وقد أجاب الله بالجدال الأحسن حيث ذكر تعالى ان العمل الذي قام به بشأن آدم لم يقم به في شأن عيسى لأن عيسى كانت له أم ، ولكن آدم عليه السلام لم تكن له أم ولا أب . فلماذا لم يقولوا كلاماً فارغاً بشأن آدم عليه السلام ، ولم يقولوا انه ابن الله ، وقالوه بشأن المسيح ؟
( ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) .
أي أن خلق آدم كان في مرحلتين ، مرحلة تعود إلى التراب ، ومرحلة إلى ( كن فيكون ) ، المرحلة التي تعود إلى التراب يمكن ان تكون ذات زمان ـ طويل المدة أو قصير المدة ـ أما بعد التحول والتطور إلى مقام الروحانية التي هي مرحلة التجرد ، عند ذلك ليس للزمان دور في ذلك فليست ذات زمان ، وتسمى هذه المرحلة بـ ( كن فيكون ) . قال تعالى : إنه خلق آدم من تراب ، أي أن بناء بدنه شرع من التراب ، ثم قال لأدم ( كن فيكون ) أي ان التعبير ( كن فيكون ) هو حين إفاضة الروح ، هذا التعبير يفسره ما ورد في نهج البلاغة من ان كلام الله ليس حروفاً :
( يقول لمن أراد كونه ، كن ، فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله ) (7) كلام الله فعل ، لذا جميع العالم الذي هو عمل الله ، هو كلمات إلهية ، عندما يريد الله تعالى أن يأمر السحاب بالمطر يمطرها ، لا ان يقول : أمطري ، كلمة ( كن فيكون ) ، هي عبارة عن ( الايجاد والوجود ) .
على أساس هذا الكلام ، فان الروح رغم انها حسب ظاهر الآيات من القسم الثاني ، وأن لها سابقة مادية ، ولكن في الدهليز الانتقالي من نشأة المادة إلى التجرد تبعد عنها العلامات المادية ، وعندما لا تكون معها علامات مادية ، عند ذلك لا مجال للكلام عن الذكورة والأنوثة ، يمكن ان يكون البدن مذكراً أو مؤنثاً ، من أجل الوصول إلى نصابه ، ولكن عندما يصل في ظل الحركة الجوهرية إلى مقام الدخول إلى مرحلة الوجود الرفيعة ـ طبعاً بنحو التجلي وليس بنحو التجافي ـ عند ذلك ليس الكلام عن الذكورة والأنوثة ، رغم ان إدراك انخفاض الروح إلى عالم الطبيعة والانسجام مع الموجود الطبيعي من جهة وارتقاء هذه المجموعة إلى مقام ( النفس ) ليس أمراً سهلاً .
الحركة الجوهرية وعلاقة الروح بالبدن :
إن مسألة الوجود وارتباط هذه الدرجات والحركة الجوهرية وان جوهر الذات يتحرك في مسير هذه الوجودات . يمكن أن يبيّن إلى حد ما مسألة جسمانية حدوث الروح وروحانية بقائها ، حيث ورد في قسم من روايات المعاد أنه بنزول المطر يذهب البدن إلى الروح ، وقد كان لدى بعض علماء الحكمة قاعدة خاصة في طرح مسألة المعاد الجسماني استناداً لذلك الحديث .
على أي حال بالنظر لأن للوجود درجات ، وهذه الدرجات تكون بلا طفرة وبعض الدرجات مادية ، وبعضها برزخية ، وبعضها مجردة تامة ، والحركة هي في متن هذا الوجود ، أي في متن الوجود وليس الماهية ، على هذا فالشيء الذي يريد الوصلول من مرحلة المادة إلى مرحلة الروحانية والتجرد ، يجب أن يسير في مسير الوجود بالتدقيق في هذا المعنى قد يمكن تعقل مسألة ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) بمقدار أسهل .
في هذه الآية لم يقل تعالى إنه أعطاه شيئاً آخر ، قال : إنه أبدله إلى شيء آخر . هذا التعبير في شأن آدم وكذلك في شأن نسل آدم في هذا التبديل الجديد ، ليس الكلام على الذكورة والانوثة ، لأنه إذا كان هذا الانتقال بنحو التجافي أو شبيهاً بالتبدلات الفسادية والمادية ، لكان يمكن القول : بالنظر لأن هذا البدن خلق هكذا ثم أصبح بصورة مجردة ، فان روح المرأة والرجل تختلف قطعاً ، ولكن ليس الأمر هكذا ، الكلام ليس عن حركة مادية وزمانية ، كما أن الكلام ليس عن حركة كمية وكيفية ، وأن بدن ( المرأة ) يتحرك ويصل إلى مقام الروح . وبدن ( الرجل ) يتحرك ويصل إلى مقام الروح .
( الذكورة والأنوثة ) في حركة ، بل إن جوهر وجود هذا الشيء الذي لديه طريق فيث متن هذه الحركة ، وجوهر الوجود ليس مذكراً ولا مؤنثاً ، متحرك وجود هذا الشيء ليس مادته ولا صورته ولا أوصافه ولا مسائله الماهوية وأوصافه وعوارضه ، وجوهر الشيء لا مذكر ولا مؤنث بناء على هذا لا يكون هناك فرق بين المرأة والرجل في مرحلة ( ثم انشأناه خلقاً آخر ) .
الروح ، كل حقيقة الإنسان :
إذا كانت مسألة الذكورة والأنوثة ذكرت جزء من الصنف في الكتب العقلية ـ وليس فصلاً ـ وربطوها بحريم المادة ـ لا بحدود الصورة ـ يمكن أيضاً ذكر شواهد قرآنية لذلك ، حيث ان الروح اعتبرت مجردة في القرآن الكريم ، وان الله تعالى يتوفى كل الروح عندما يموت الإنسان (8)
وإذا فقد الإنسان البدن فإن كل حقيقته تبقى محفوظة ، ونتيجة هذا الكلام هي أن البدن ليس عين الذات ولا جزء من الذات ولا من لوازم الذات ، بل هو أداة الذات ، ورغم ان الإنسان لديه بدن سواء في الدنيا أو في البرزخ أو في القيامة ، ولكن البدن في كل هذه المراحل الثلاث هو أداة عمل . دليل هذا الكلام هو تحليل آيات الشهادة ، قال تعالى في آيات الشهادة :
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ) (9) .
هذا الحي هو الشهيد الذي وقع بدنه في ميدان القتال ، وقوله تعالى بانه حي هل يعني أنه حي مع البدن ؟ هل البدن هو كل الحقيقة أم جزء من الحقيقة أو من لوازم الحقيقة ؟ إنه حي بدون البدن والبدن لم يكن أكثر من أداة عملية ، فإذا لم يصبح مفيداً ، يختار بدناً آخر ، وعلى أي حال هو حي . وقال تعالى في آية أخرى :
( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ) (10) .
لأنهم أحياء بدون بدن ، وفي الجواب على أولئك الذين قالوا :
( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ) (11) .
قال تعالى : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ) (12) .
إن روح الإنسان تشكل كل حقيقته بدلالة آيات الشهادة وأمثالها ـ ولهذا السبب يقول إن الشهيد كالحي . أو بدلالة أمثال هذه الآية الشريفة :
( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) (13) .
وهنا الإنسان حيّ مع أنه فقد بدنه الطبيعي .
المصادر :
1- سورة المؤمنون ، الآيات : 12 ـ 14 .
2- سورة المؤمنون ، الآية : 14 .
3- سورة الأعراف ، الآية : 179 .
4- سورة البقرة ، الآية : 74 .
5- سورة ق ، الآية : 37 .
6- سورة آل عمران ، الآية : 59 .
7- نهج البلاغة ، الخطبة 186 .
8- ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) سورة الزمر ، الآية : 42 .
9- سورة آل عمران ، الآية : 169 .
10- سورة البقرة ، الآية : 154 .
11- سورة السجدة ، الآية : 10 .
12- سورة السجدة ، الآية : 11 .
13- سورة المؤمنون ، الآية : 100 .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الاسس الاسلامية في خطب الوداع
الحثّ على الجهاد
الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي
الآيات الدالّة على الشفاعة التكوينية
بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...
الله سبحانه وتعالى احيا الموتى لعزير
کيف نشأة القاديانية و ماهي عقيدتها
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد

 
user comment