لما علم المختار بخروج مصعب بن الزبير والمهلب ، جمع جنده وأنصاره ، وولی عليهم أحمر بن شميط قائدا عاما للجيش ، وولي أبا عمرة قائدا لفرقة الموالي.
استمرّ مصعب وجيشه في التقدّم نحو الكوفة ، وحتى دخلوها من جهة السبخة وحاصروا المختار. ولأجل منع وصول التجهيزات للأخير وأتباعه أرسل مصعب ، عبيد اللّه بن الجعفي إلى جبانة الصائديين ، وعباد ابن الحصين الحبطي إلى جبانة كندة ، كما أمر المهلب بحراس الطرق من والي الكوفة وهجم جيش مصعب على مشاة ابن شميط ، فألحقوا بهم خسارة كبيرة ، وأقبل أشراف الكوفة ، الذي كانوا قد لجأوا إلى البصرة ، بقيادة محمد ابن الأشعث ، يهاجمون جند المختار الموالي ، وابن الأشعث يصيح في فرسانه : دونكم ثأركم.(1)
ودبّت الحماسة في قلوب الموالي ـ جند المختار ـ فأوقعوا الهزيمة بجند البصرة فكانوا (لا يدركون منهزما إلاّ قتلوه ، ولا يأخذون أسيرا فيعفون عنه ، فلم ينجُ من ذلك الجيش إلاّ طائفة من أصحاب الخيل ، وأما الرجّالة فأبيدوا إلاّ قليلاً).
ولكن سرعان ما دارت الدائرة على جيش المختار ، ولم يظهر جند مصعب أية رحمة ، وكان أشدّهم قسوة الكوفيين الهاربين إلى البصرة الذين أباد المختار معظمهم ونجا القليل منهم ، وخلال ذلك كتب المختار ، إلى إبراهيم ، يطلب مساعدته ، ولكنّه رفض (2).
كانت هذه النتيجة صدمة عنيفة أصابت المختار ، فرأى أن يقاتل حتى يُقْتَل ، فقال : « ما من الموت بد ، وما من ميتة أحبّ من أن أموت ميتة ابن شميط ».
أي أن يموت في ساحة القتال.
وزحف جيش مصعب إلى الكوفة ، وخرج المختار لقتالهم فنزل (حروراء) بعد أن حصن القصر ومسجد الكوفة.
وكان في القصر مع المختار عدد كبير من الموالي ، وقليل من العرب.
وخلال الحصار الذي استمرّ تبعا لما يذكره الواقدي (3) أربعة أشهر أو أربعين يوما على ما يذكر الدينوري (4) ، ترك العرب المخبأ ولجأوا إلى قبائلهم ، بينما بقي الموالي مع المختار حتى استشهاده رحمهالله.
وبعد أن أدرك المختار أن هذا الحصار سوف يضعف مقاومتهم حثّ أصحابه على الخروج معه ليقاتلوا حتى يموتوا أو ينتصروا ، إلاّ أنّهم رفضوا ذلك ، وقرّروا الاستسلام والنزول على حكم مصعب بن الزبير دون قيد أو شرط.
لذلك خرج المختار وتسعة عشر شخصا من أتباعه فقط للقتال ، وقد قُتل المختار بعد أن أبدى شجاعة نادرة.
وقد ذكر أنّه قال حتى معركته الأخيرة هذه قبل وفاته للسائب بن مالك الأشعري :
« إنّما أنا رجل من العرب ، رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز ، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة ، ومروان على الشام ، فلم أكن دون أحد من رجال العرب فأخذت هذه البلاد فكنت كأحدهم ، إلاّ أني قد طلبت بثأر أهل بيت النبي عليهم الصلاة والسلام ، إذ نامت عنه العرب » (5).
قتله رحمهالله أخوان من بني حنيفة قبيلة سجاح التي ادّعت النبوة. وكان استشهاده رضياللهعنه ، في الرابع عشر من شهر رمضان سنة ٦٧ هـ (الثالث من نيسان سنة ٦٨٧م) ، وكان له من العمر سبع وستون سنة (6).
وقد وصف المسعودي (7) ، ساعات المختار الأخيرة ، فقال : « ودخل المختار قصر الإمارة وتحصّن فيه ، وكان يخرج كل يوم لمحاربة مصعب وأصحابه وأهل الكوفة وغيرهم ، فخرج إليهم ذات يوم وهو على بغلة شهباء فحمل عليه رجل من بني حنيفة ، يقال له عبد الرحمن بن أسد ، فقتله واحتزّ رأسه ، وتنادوا بقتله ، فقطعه أهل الكوفة ، وأصحاب مصعب. وأبى مصعب أن يعطي الأمان لمن بقي في القصر من أصحابه ، فحاربوا إلى أن أضرّ بهم الجهد ، ثم أمّنهم وقتلهم بعد ذلك ». وهكذا خصلة كل مجرم غادر.
وفي اليوم التالي لاستشهاد المختار ، تقدّم جند مصعب إلى القصر ، وحاول أحد أنصار المختار أن يجمع المختارية ليحارب بهم مصعب ، وهو بحير بن عبد اللّه المسكي ، ولكن رجال المختار أبوا إلاّ الاستسلام لمصعب «فأبوا عليه وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم ونزلوا على حكمه فأخرجوهم مكتفين ، فأراد إطلاق العرب وقتل الموالي فأبى أصحابه عليه ، فعرضوا عليه فأمر بقتلهم جميعا» (8).
وأمر مصعب بقطع كفّ المختار ، فقُطّعت وسمّرت بمسمار إلى جانب المسجد ، وظلّت هناك حتى قدم الحجّاج بن يوسف الثقفي واليا لعبد الملك بن مروان على الكوفة ، فأمر بنزعها وربّما كان هذا راجعا إلى انتساب كل منهما إلى قبيلة ثقيف (9).
قتل مصعب بن الزبير جميع من استسلم من رجال المختار ، وكانوا بين ستة وثمانية آلاف ، وأطلق مصعب العنان لانتقام مجرمي الكوفة الذين أرادوا الثأر لدماء آبائهم وأقربائهم من الموالي فاستحقّ من أجل ذلك ، أن يلقّب بلقب (الجزّار) ، وتتبّع شيعة بالقتل كما فعل عبيد اللّه بن زياد من قبل.
وقد وصف اليعقوبي ، المأساة بأنّها :
« أحد الغدرات المذكورة المشهورة في الإسلام » (10).
وبمصرع المختار رحمهالله ، شعر المسلمون وبنوهاشم بشكل خاص بخسارة فادحة. فيذكرابن الأثير ، « أنّه لما قُتل المختار تضعضعت الأُمّة الإسلامية ، واحتاجت إليه » (11).
رحم اللّه المختار فقد أدّى مهمته. وصدق إذ قال : حين قدم إلى العراق إنّه : « إذا أدرك بثأر النبيّين وشفى صدور المؤمنين لم يحفل بالموت إذا أتى». فمات كريما ، بطلاً ، شجاعا رحمهالله (12).
والآن تبقى بعض الأسئلة المهمّة التي قد تخطر على البال والتي نرى أنّها كانت سببا مساعدا عجّل في سقوط دولة المختار :
أولاً : كان الواجب يقتضي على المختار أن لا يفرّق بين قتلة الإمام الحسين عليهالسلام وأعدائه ومناوئيه من أنصار الشجرة الملعونة ، بل يجعل الكلّ في خندق واحد ، ولكنّا نراه قتل قتلة الإمام الحسين عليهالسلام ، وترك المتحزّبين للدولة الأموية أحرارا في تصرّفهم وغير منصاعين لقوانين دولته ، وهؤلاء شكّلوا قوى وأحزاب معارضة كانت سببا في سقوط دولته.
ثانيا : كان على المختار رحمهالله أن يُخرج عن الكوفة وحواضرها أصحاب الضمائر الميتة كالشعبي الخبيث وأمثاله من أنصار الشجرة الملعونة ، وأصحاب القلوب المريضة من الكوفيين وغير الكوفيين الذين انغمسوا في حبّ الدنيا والسلطان والذين شكّلوا طابورا معاديا في إشاعة الفتن وفي تفرّق الناس عن نصرته في أزماته السياسية والحربية ، وكانوا سببا رئيسيا في دخول قوات مصعب إلى الكوفة دون مقاومة.
ثالثا : إنّه لم يرسل بعيونه إلى الحجاز لتأتيه بكل صغيرة وكبيرة عن آل الزبير ، حيث أن عبد اللّه بن الزبير كان يعتقد أن الكوفة بما فيها هي تبع له ولسلطانه ، وقد روى الطبري أن عبد اللّه بن الزبير أرسل (عمر بن عبد الرحمن بن هشام المخزومي) واليا على الكوفة بدلاً من المختار ، لكن المختار طرده. ومنه يتبيّن أن المجابهة العسكرية حاصلة بين الطرفين شاء المختار أم أبى ، لذلك كان الواجب على المختار أن يبدأ بقتال عبد اللّه بن الزبير قبل أن تدور الدائرة عليه.
رابعا : إنّه رحمهالله لم يضع رقابة شديدة من أجل مراقبة الأوضاع داخل وخارج الكوفة بشكل دقيق ، كما وإنّه لم يُعيّن لجان أمنية لملاحقة الغرباء والمشبوهين الوافدين من الأمصار المجاورة لدولته ، فقد ذكر الطبري أن عبد اللّه بن الزبير وعبد الملك بن مروان وهما من ألدّ أعداء المختار أرسلا مئات الجواسيس للتجسّس ونقل الأخبار عن كل ما يجري في الكوفة.(13)
خامسا : إنّه لم يبثّ خبرا ، مفاده أن إبراهيم بن مالك الأشتر مقبل بقوات لا قبل لقوات مصعب بن الزبير ، ولا لغيرها وذلك ليشدّ من عزم قواته التي راحت تتفرّق عنه سرّا وتسلّم نفسها كأسرى حرب لقوات مصعب.
سادسا : إنّه لم يعطِ إشارة لإبراهيم بن مالك الأشتر قائده العظيم بالعودة إلى الكوفة بعد انتصاره على عبيد اللّه بن زياد في الموصل ليكون له عونا في حال تعرّض عاصمته إلى أيّ خطر خارجي.
المصادر :
1- أنساب الأشراف / البلاذري ٦ : ٤٣٩.
2- الفتوح / ابن أعثم الكوفي ٦ : ٢٨٧.
3- تاريخ الطبري ٢ : ١٢٠.
4- الأخبار الطوال / الدينوري : ٤٤٧.
5- أنساب الأشراف ٦ : ٤٤٠ ، تاريخ الطبري ٦ : ١٠٧ ، الأخبار الطوال / الدينوري : ٤٤٧.
6- تاريخ الطبري ٦ : ١٠٨ و ١١٦ ، وذكر البلاذري ، بأن مقتل المختار كان سنة ٦٩ هـ.
7- مروج الذهب ٣ : ٧٢ ويقصد المسعودي بـ (أهل الكوفة) ، الذين هربوا من الكوفة وانضموا إلى قوات مصعب في البصرة ، وأغلبهم ممن اشترك بقتل الإمام الحسين عليهالسلام.
8- ابن الأثير ٤ : ٦٨.
9- المختار الثقفي / الخربوطلي : ٣٠٩.
10- تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٤.
11- الكامل ٤ : ١٠٦.
12- عبد الملك بن مروان / دكتور ضياء الدين الريس : ١٧٤.
13- تاريخ الطبري ١ : ١٣٥ غير محقق.
source : راسخون